إِثْبَاتُ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ Sirat 17

(الْبِدْعَةُ)

     (الْبِدْعَةُ لُغَةً مَا أُحْدِثَ) أَىْ مَا عُمِلَ (عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ) أَىْ لَمْ يَسْبِقْ إِلَى ذَلِكَ أَحَدٌ (وَشَرْعًا) الشَّىْءُ (الْمُحْدَثُ) أَىِ الْمُسْتَحْدَثُ (الَّذِى لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ وَلا الْحَدِيثُ). (وَ)الْبِدْعَةُ (تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ) بِدْعَةٍ حَسَنَةٍ وَبِدْعَةٍ سَيِّئَةٍ (كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ) الْبُخَارِىِّ عَنْ (عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا) أَنَّهَا (قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ أَىْ) مَنْ أَحْدَثَ شَيْئًا يُخَالِفُ دِينَنَا فَهُوَ (مَرْدُودٌ) أَىْ غَيْرُ مَقْبُولٍ أَمَّا مَنْ أَحْدَثَ مَا هُوَ مِنْهُ أَىْ مَا هُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فَلَيْسَ مَرْدُودًا. وَ(الْقِسْمُ الأَوَّلُ) هُوَ (الْبِدْعَةُ الْحَسَنَةُ وَتُسَمَّى السُّنَّةَ الْحَسَنَةَ وَهِىَ الْمُحْدَثُ الَّذِى يُوَافِقُ الْقُرْءَانَ وَالسُّنَّةَ) أَىِ الْحَدِيثَ كَإِحْدَاثِ الْمَآذِنِ وَالْمَحَارِيبِ الْمُجَوَّفَةِ فِى الْمَسَاجِدِ وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهَا هُوَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَقَرَّهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ. وَ(الْقِسْمُ الثَّانِى) هُوَ (الْبِدْعَةُ السَّيِّئَةُ وَتُسَمَّى السُّنَّةَ السَّيِّئَةَ وَهِىَ الْمُحْدَثُ الَّذِى يُخَالِفُ الْقُرْءَانَ وَالْحَدِيثَ) كَتَحْرِيمِ الصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ جَهْرًا بَعْدَ الأَذَانِ وَالِاحْتِفَالِ بِمَوْلِدِ النَّبِىِّ ﷺ (وَهَذَا التَّقْسِيمُ مَفْهُومٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ) أَنَّهُ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ). أَمَّا حَدِيثُ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ فَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ النَّوَوِىُّ فِى شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ إِنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ وَالْمُرَادُ بِهِ غَالِبُ الْبِدَعِ، أَىْ أَنَّ لَفْظَهُ عَامٌّ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرِيعَةِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الرِّيحِ ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ وَلَمْ تُدَمِّرْ هَذِهِ الرِّيحُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ إِنَّمَا دَمَّرَتْ كُلَّ شَىْءٍ مَرَّتْ عَلَيْهِ مِنْ رِجَالِ عَادٍ الْكَافِرِينَ وَأَمْوَالِهمْ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ وَكُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ بِلا اسْتِثْنَاءٍ حَتَّى الأَنْبِيَاء وَالأَعْمَى يَقَعُونَ فِى مَعْصِيَةِ زِنَى الْعَيْنِ وَهُوَ النَّظَرُ الْمُحَرَّمُ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ أَغْلَبَ النَّاسِ يَقَعُونَ فِى هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ.

     (فَمِنَ الْقِسْمِ الأَوَّلِ) أَىِ الْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ (الِاحْتِفَالُ بِمَوْلِدِ النَّبِىِّ ﷺ فِى شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ مَلِكُ إِرْبِل) أَبُو سَعِيدٍ كُوكَبْرِى (فِى الْقَرْنِ السَّابِعِ الْهِجْرِىِّ) وَكَانَ عَالِمًا تَقِيًّا فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ فِى مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مِنْهُمُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِىُّ وَتِلْمِيذُهُ الْحَافِظُ السَّخَاوِىُّ وَكَذَلِكَ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ وَلَهُ رِسَالَةٌ سَمَّاهَا حُسْنَ الْمَقْصِدِ فِى عَمَلِ الْمَوْلِدِ. (وَ)مِنَ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ (تَنْقِيطُ التَّابِعِىِّ الْجَلِيلِ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ الْمُصْحَفَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى) تُوُفِّىَ سَنَةَ مِائَةٍ وَتِسْعٍ وَعِشْرِينَ (وَأَقَرَّ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ مِنْ مُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ وَاسْتَحْسَنُوهُ وَلَمْ يَكُنِ) الْمُصْحَفُ (مُنَقَّطًا عِنْدَمَا أَمْلَى الرَّسُولُ عَلَى كَتَبَةِ الْوَحْىِ) بَلْ كَانُوا يَكْتُبُونَ الْبَاءَ وَالتَّاءَ وَنَحْوَهُمَا بِلا نَقْطٍ (وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ لَمَّا كَتَبَ الْمَصَاحِفَ الْخَمْسَةَ أَوِ السِّتَّةَ) وَأَرْسَلَهَا إِلَى الأَمْصَارِ (لَمْ تَكُنْ مُنَقَّطَةً. وَمُنْذُ ذَلِكَ التَّنْقِيطِ لَمْ يَزَلِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ فَهَلْ يُقَالُ فِى هَذَا إِنَّهُ بِدْعَةُ ضَلالَةٍ) وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعَهُمْ ضَلُّوا فِى هَذَا الأَمْرِ (لِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنْ كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ) عِنْدَ الْمُشَبِّهَةِ الْوَهَّابِيَّةِ (فَلْيَتْرُكُوا هَذِهِ الْمَصَاحِفَ الْمُنَقَّطَةَ أَوْ لِيَكْشِطُوا هَذَا التَّنْقِيطَ مِنَ الْمَصَاحِفِ حَتَّى تَعُودَ مُجَرَّدَةً كَمَا) كَانَتْ (فِى أَيَّامِ) سَيِّدِنَا (عُثْمَانَ) بنِ عَفَّانَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ. (قَالَ أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِى دَاوُدَ صَاحِبِ السُّنَنِ فِى كِتَابِهِ) الْمُسَمَّى (الْمَصَاحِفِ أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمَصَاحِفَ يَحْيَى بنُ يَعْمَرَ وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ) فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ خَالَفَ فِى ذَلِكَ فَهُوَ شَاذٌّ مُكَابِرٌ لِأَنَّ مُؤَدَّى كَلامِهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ بَشَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ بِالْجَنَّةِ كَعُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ كَانُوا عَلَى ضَلالٍ فَعُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ فِى قِيَامِ رَمَضَانَ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ وَقَالَ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ.

     (وَمِنْ) أَمْثِلَةِ (الْقِسْمِ الثَّانِى) أَىِ الْبِدْعَةِ السَّيِّئَةِ (الْمُحْدَثَاتُ فِى الِاعْتِقَادِ كَبِدْعَةِ الْمُعْتَزِلَةِ) الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ (وَالْخَوَارِجِ) الْقَائِلِينَ بِكُفْرِ مَنْ سِوَاهُمْ وَالْوَهَّابِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ (وَغَيْرِهِمْ مِنْ) نَحْوِ هَذِهِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ (الَّذِينَ خَرَجُوا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِى الْمُعْتَقَدِ وَ)أَمَّا الْبِدَعُ الْعَمَلِيَّةُ فَمِنْهَا (كِتَابَةُ ص أَوْ صَلْعَمْ بَعْدَ اسْمِ النَّبِىِّ بَدَلَ ﷺ وَقَدْ نَصَّ الْمُحَدِّثُونَ) كَالْحَافِظِ الْعِرَاقِىِّ وَالْحَافِظِ السُّيُوطِىِّ (فِى كُتُبِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ كِتَابَةَ الصَّادِ مُجَرَّدَةً) بَعْدَ اسْمِ النَّبِىِّ (مَكْرُوهٌ وَمَعَ هَذَا لَمْ يُحَرِّمُوهَا فَمِنْ أَيْنَ لِهَؤُلاءِ) الْوَهَّابِيَّةِ (الْمُتَنَطِّعِينَ) أَىِ الْغُلاةِ (الْمُشَوِّشِينَ) عَلَى النَّاسِ (أَنْ يَقُولُوا عَنْ عَمَلِ الْمَوْلِدِ) أَىِ الِاحْتِفَالِ بِمَوْلِدِ النَّبِىِّ ﷺ إِنَّهُ (بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ) مُدَّعِينَ أَنَّ هَذَا فِيهِ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ كَمَا فِى كِتَابِهِمُ الْمُسَمَّى التَّحْذِيرَ مِنَ الْبِدَعِ لِابْنِ بَازٍ مَعَ أَنَّ الْوَهَّابِيَّةَ يَحْتَفِلُونَ بِمَوْلِدِ شَيْخِهِمْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ أُسْبُوعًا كَامِلًا (وَ)يَقُولُونَ (عَنِ الصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ جَهْرًا عَقِبَ الأَذَانِ إِنَّهُ بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ بِدَعْوَى أَنَّ الرَّسُولَ مَا فَعَلَهُ وَ)أَنَّ (الصَّحَابَةَ لَمْ يَفْعَلُوهُ). وَتَحْرِيمُ الْوَهَّابِيَّةِ لِلصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ جَهْرًا عَقِبَ الأَذَانِ مِنْ جُمْلَةِ بِدَعِهِمُ الَّتِى سَنَّهَا لَهُمْ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ مَع أَنَّهُ ثَبَتَ حَدِيثَانِ فِى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ ﷺ عَقِبَ الأَذَانِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَمَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَىَّ وَحَدِيثُ مَنْ ذَكَرَنِى فَلْيُصَلِّ عَلَىَّ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِى مُسْنَدِهِ وَالْحَافِظُ السَّخَاوِىُّ فِى كِتَابِهِ الْقَوْلُ الْبَدِيعُ فِى الصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ الشَّفِيعِ وَقَالَ لا بَأْسَ بِإِسْنَادِهِ فَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ وَالْمُسْتَمِعَ كِلَيْهِمَا مَطْلُوبٌ مِنْهُ الصَّلاةُ عَلَى النَّبِىِّ ﷺ وَهَذَا يَحْصُلُ بِالسِّرِّ وَالْجَهْرِ فَمَاذَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ بَعْدَ هَذَا.

     (وَمِنْهُ) أَىْ وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْقِسْمِ الثَّانِى (تَحْرِيفُ اسْمِ اللَّهِ إِلَى ءَاه وَنَحْوِهِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الطُّرُقِ) كَالشَّاذِلِيَّةِ الْيَشْرُطِيَّةِ (فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ) وَءَاه لَفْظٌ مِنْ أَلْفَاظِ الأَنِينِ وَلَيْسَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ (قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ) فِى تَقْسِيمِهِ لِلْبِدْعَةِ (الْمُحْدَثَاتُ مِنَ الأُمُورِ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ أَثَرًا) وَالْكِتَابُ هُوَ الْقُرْءَانُ وَالسُّنَّةُ هُوَ الْحَدِيثُ وَالإِجْمَاعُ هُوَ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فِى عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ عَلَى أَمْرٍ دِينِىٍّ أَمَّا الأَثَرُ فَهُوَ مَا ثَبَتَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكَرْ عِنْدَهُمْ (فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الضَّلالَةُ وَالثَّانِيَةُ مَا أُحْدِثَ مِنَ الْخَيْرِ وَلا يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ) أَىْ بِدْعَةٌ (غَيْرُ مَذْمُومَةٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ فِى كِتَابِهِ مَنَاقِبُ الشَّافِعِىِّ).

(إِثْبَاتُ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ

وَأَنَّهُ لَيْسَ شِرْكًا كَمَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ)

     (اعْلَمْ) أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالذَّوَاتِ الْفَاضِلَةِ كَالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ وَلَيْسَ شِرْكًا يُوجِبُ الْخُلُودَ الأَبَدِىَّ فِى نَارِ جَهَنَّمَ كَمَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَمْنَعُونَ التَّوَسُّلَ بِذَوَاتِهِمْ فِى حَالِ غَيْبَتِهِمْ وَبَعْدَ وَفَاتِهِمْ وَ(أَنَّهُ لا دَلِيلَ حَقِيقِىٌّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ فِى حَالِ الْغَيْبَةِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ) لِأَنَّ التَّوَسُّلَ مَعْنَاهُ طَلَبُ حُصُولِ مَنْفَعَةٍ أَوِ انْدِفَاعِ مَضَرَّةٍ مِنَ اللَّهِ بِذِكْرِ اسْمِ نَبِىٍّ أَوْ وَلِىٍّ إِكْرَامًا لِلْمُتَوَسَّلِ بِهِ وَإِنَّمَا حَرَّمَ الْوَهَّابِيَّةُ التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ (بِدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ) وَهِىَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ (لِأَنَّهُ لَيْسَ عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ مُجَرَّدُ النِّدَاءِ لِحَىٍّ أَوْ مَيِّتٍ وَلا مُجَرَّدُ التَّعْظِيمِ وَلا مُجَرَّدُ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَلا مُجَرَّدُ قَصْدِ قَبْرِ وَلِىٍّ لِلتَّبَرُّكِ وَلا مُجَرَّدُ طَلَبِ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنِ النَّاسِ وَلا مُجَرَّدُ صِيغَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَىْ لَيْسَ ذَلِكَ شِرْكًا لِأَنَّهُ لا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْعِبَادَةِ عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ) أَىْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ (لِأَنَّ الْعِبَادَةَ عِنْدَهُمُ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ. قَالَ الأَزْهَرِىُّ الَّذِى هُوَ أَحَدُ كِبَارِ اللُّغَوِيِّينَ فِى كِتَابِ تَهْذِيبِ اللُّغَةِ نَقْلًا عَنِ الزَّجَّاجِ الَّذِى هُوَ مِنْ أَشْهَرِهِمْ الْعِبَادَةُ فِى لُغَةِ الْعَرَبِ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ وَقَالَ مِثْلَهُ) إِمَامُ اللُّغَوِيِّينَ (الْفَرَّاءُ كَمَا فِى لِسَانِ الْعَرَبِ لِابْنِ مَنْظُورٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ) أَىِ الإِمَامُ تَقِىُّ الدِّينِ السُّبْكِىُّ فِى فَتَاوِيهِ الْعِبَادَةُ (أَقْصَى غَايَةِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَقَالَ بَعْضٌ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلامِ) الرَّاغِبِ الأَصْبَهَانِىِّ فِى مُفْرَدَاتِهِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ (شَارِحُ الْقَامُوسِ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ خَاتِمَةُ اللُّغَوِيِّينَ) فِى تَاجِ الْعَرُوسِ (وَهَذَا الَّذِى يَسْتَقِيمُ لُغَةً وَعُرْفًا). وَدَلِيلُ جَوَازِ نِدَاءِ غَيْرِ اللَّهِ حَدِيثُ الطَّبَرَانِىِّ إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سِوَى الْحَفَظَةِ سَيَّاحِينَ فِى الْفَلاةِ يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ فِى فَلاةٍ فَلْيُنَادِ يَا عِبَادَ اللَّهِ أَعِينُوا حَسَّنَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ وَفِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ عَلَّمَنَا أَنْ نَقُولَ إِذَا أَصَابَ أَحَدَنَا مُشْكِلَةٌ فِى فَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ أَىْ بَرِّيَّةٍ يَا عِبَادَ اللَّهِ أَعِينُوا فَإِنَّ هَذَا يَنْفَعُهُ. أَمَّا دَلِيلُ جَوَازِ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ أَىْ هَذَا الَّذِى مِنْ شِيعَةِ مُوسَى أَىْ مِنْ أَتْبَاعِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ اسْتَغَاثَ بِمُوسَى لِيُخَلِّصَهُ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الْقِبْطِىِّ فَضَرَبَهُ مُوسَى بِجُمْعِ يَدِهِ فَقَضَى عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ لَيْسَ شِرْكًا فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾ وَقَوْلُهُ ﷺ وَاللَّهُ فِى عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِى عَوْنِ أَخِيهِ رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ طَلَبِ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ فَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ أَنَّ رَبِيعَةَ بنَ كَعْبٍ الأَسْلَمِىَّ الَّذِى خَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ بَابِ حُبِّ الْمُكَافَأَةِ سَلْنِى فَطَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقَهُ فِى الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِى الْجَنَّةِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَلْ قَالَ لَهُ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَالَ الصَّحَابِىُّ هُوَ ذَاكَ فَقَالَ لَهُ فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ وَكَذَلِكَ سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ طَلَبَتْ مِنْهُ عَجُوزٌ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ فِى الْجَنَّةِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا ذَلِكَ رَوَى ذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِىُّ.

     (وَلَيْسَ مُجَرَّدُ) أَىْ مُطْلَقُ (التَّذَلُّلِ عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِلَّا لَكَفَرَ كُلُّ مَنْ يَتَذَلَّلُ لِلْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ لَمَّا قَدِمَ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ) ﷺ (فَقَالَ) لَهُ (الرَّسُولُ مَا هَذَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى رَأَيْتُ أَهْلَ الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِبَطَارِقَتِهِمْ وَأَسَاقِفَتِهِمْ) أَىْ قَادَتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ (وَأَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ فَقَالَ لا تَفْعَلْ لَوْ كُنْتُ ءَامُرُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا وَ)مَوْضِعُ الشَّاهِدِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ (لَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَفَرْتَ وَلا قَالَ لَهُ أَشْرَكْتَ مَعَ أَنَّ سُجُودَهُ لِلنَّبِىِّ) ﷺ (مَظْهَرٌ كَبِيرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّذَلُّلِ) لَكِنَّهُ حَرَامٌ فِى شَرْعِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَلَوْ كَانَ بِقَصْدِ التَّحِيَّةِ وَالِاحْتِرَامِ وَكَانَ جَائِزًا فِى الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ السُّجُودُ لِإِنْسَانٍ عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ (فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ الشَّخْصَ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ) ﷺ (أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ لِلتَّبَرُّكِ) إِنَّمَا يُكَفِّرُونَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّ مَنْ يَقْصِدُ قَبْرَ النَّبِىِّ أَوِ الْوَلِىِّ لَمْ يُعَظِّمْهُ بِذَلِكَ غَايَةَ التَّعْظِيمِ فَلا يُلْتَفَتُ إِلَى كَلامِهِمْ (فَهُمْ جَهِلُوا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَخَالَفُوا مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا لَمْ يَزَالُوا يَزُورُونَ قَبْرَ النَّبِىِّ) ﷺ (لِلتَّبَرُّكِ وَلَيْسَ مَعْنَى الزِّيَارَةِ لِلتَّبَرُّكِ أَنَّ الرَّسُولَ يَخْلُقُ لَهُمُ الْبَرَكَةَ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لَهُمُ الْبَرَكَةَ بِزِيَارَتِهِمْ لِقَبْرِهِ) الشَّرِيفِ ﷺ فَكَيْفَ تَكُونُ زِيَارَتُهُمْ شِرْكِيَّةً.

     (وَ)أَمَّا (الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ) أَىْ عَلَى جَوَازِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِىِّ ﷺ لِلتَّبَرُّكِ فَهُوَ (مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ) فِى دَلائِلِ النُّبُوَّةِ (بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ) صَحَّحَ إِسْنَادَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِى الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ وَالْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِىُّ فِى فَتْحِ الْبَارِى (عَنْ مَالِكِ الدَّارِ وَكَانَ خَازِنَ عُمَرَ) أَىِ الَّذِى يَتَوَلَّى حِفْظَ الْمَالِ أَنَّهُ (قَالَ أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ فِى زَمَانِ عُمَرَ) أَىْ وَقَعَتْ مَجَاعَةٌ وَانْقَطَعَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فِى خِلافَةِ عُمَرَ (فَجَاءَ رَجُلٌ) أَىْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُوَ بِلالُ بنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِىُّ (إِلَى قَبْرِ النَّبِىِّ ﷺ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ) أَىِ اطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الْمَطَرَ لِأُمَّتِكَ (فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا فَأُتِىَ الرَّجُلُ فِى الْمَنَامِ) أَىْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِى الْمَنَامِ يُكَلِّمُهُ (فَقِيلَ لَهُ أَقْرِئْ عُمَرَ السَّلامَ) أَىْ سَلِّمْ لِى عَلَيْهِ (وَأَخْبِرْهُ أَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ) أَىْ سَيَأْتِيهِمُ الْمَطَرُ فَسَقَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى سُمِّىَ ذَلِكَ الْعَامُ عَامَ الْفَتْقِ لِكَثْرَةِ مَا نَبَتَ مِنَ الْعُشْبِ فَسَمِنَتِ الْمَوَاشِى بِرَعْيِهِ حَتَّى تَفَتَّقَتْ بِالشَّحْمِ وَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ (وَقُلْ لَهُ) أَىْ لِعُمَرَ (عَلَيْكَ الْكَيْسَ الْكَيْسَ) أَىْ تَفَكَّرْ فِى مَا يَنْبَغِى فِعْلُهُ مِمَّا لَمْ تَفْعَلْ لِتَزُولَ هَذِهِ النَّازِلَةُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ ابْذُلْ وُسْعَكَ فِى ذَلِكَ (فَأَتَى الرَّجُلُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ يَا رَبِّ مَا ءَالُو إِلَّا مَا عَجَزْتُ) أَىْ لا أَتْرُكُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ فَجَمَعَ النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا رَأَى بِلالُ بنُ الْحَارِثِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِالِاسْتِسْقَاءِ فَجَمَعَ النَّاسَ وَاسْتَسْقَى فَنَزَلَ الْمَطَرُ (وَقَدْ جَاءَ فِى تَفْسِيرِ هَذَا الرَّجُلِ) الَّذِى قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ ﷺ وَرَأَى الرُّؤْيَا (أَنَّهُ بِلالُ بنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِىُّ الصَّحَابِىُّ) رَوَاهُ سَيْفٌ فِى الْفُتُوحِ كَمَا فِى فَتْحِ الْبَارِى لِابْنِ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِىِّ. وَقَوْلُ بَعْضِ الْوَهَّابِيَّةِ إِنَّ مَالِكَ الدَّارِ مَجْهُولٌ يَرُدُّهُ أَنَّ عُمَرَ لا يَتَّخِذُ خَازِنًا إِلَّا خَازِنًا ثِقَةً وَمُحَاوَلَتُهُمْ لِتَضْعِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَمَا صَحَّحَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ لَغْوٌ لا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. فَمَا حَصَلَ مِنْ هَذَا الصَّحَابِىِّ هُوَ اسْتِغَاثَةٌ وَتَوَسُّلٌ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبِهَذَا الأَثَرِ يَبْطُلُ قَوْلُ الْوَهَّابِيَّةِ إِنَّ الِاسْتِغَاثَةَ بِالرَّسُولِ بَعْدَ وَفَاتِهِ شِرْكٌ (فَهَذَا الصَّحَابِىُّ قَدْ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ) ﷺ (لِلتَّبَرُّكِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ عُمَرُ وَلا غَيْرُهُ فَبَطَلَ دَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَارَةَ شِرْكِيَّةٌ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ وَلِىُّ الدِّينِ الْعِرَاقِىُّ) فِى طَرْحِ التَّثْرِيبِ (فِى حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ) الَّذِى رَوَاهُ أَحْمَدُ فِى مُسْنَدِهِ (أَنَّ) سَيِّدَنَا (مُوسَى) عَلَيْهِ السَّلامُ (قَالَ رَبِّ أَدْنِنِى مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ) أَىْ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَجَعَلَ اللَّهُ وَفَاتَهُ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْهَا (وَأَنَّ النَّبِىَّ ﷺ قَالَ وَاللَّهِ لَوْ أَنِّى عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ) الَّذِى هُوَ قُرْبَ أَرِيحَا وَ(فِيهِ اسْتِحْبَابُ مَعْرِفَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ لِزِيَارَتِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا).

     (وَقَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ) الْمَقْدِسِىُّ (حَدَّثَنِى سَالِمُ التَّلّ قَالَ مَا رَأَيْتُ اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ أَسْرَعَ مِنْهَا عِنْدَ هَذَا الْقَبْرِ) أَىْ قَبْرِ نَبِىِّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ (وَحَدَّثَنِى الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُونُسَ الْمَعْرُوفُ بِالأَرْمَنِىِّ أَنَّهُ زَارَ هَذَا الْقَبْرَ وَأَنَّهُ نَامَ فَرَأَى فِى مَنَامِهِ قُبَّةً عِنْدَهُ وَفِيهَا شَخْصٌ أَسْمَرُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ أَنْتَ مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ أَوْ قَالَ نَبِىُّ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَقُلْتُ قُلْ لِى شَيْئًا فَأَوْمَأَ) أَىْ أَشَارَ (إِلَىَّ بِأَرْبَعِ أَصَابِعَ وَوَصَفَ طُولَهُنَّ فَانْتَبَهْتُ وَلَمْ أَدْرِ مَا قَالَ فَأَخْبَرْتُ الشَّيْخَ ذَيَّالًا بِذَلِكَ فَقَالَ) فِى تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا (يُولَدُ لَكَ أَرْبَعَةُ أَوْلادٍ فَقُلْتُ أَنَا قَدْ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً لَمْ أَقْرَبْهَا فَقَالَ تَكُونُ غَيْرَ هَذِهِ فَتَزَوَّجْتُ أُخْرَى فَوَلَدَتْ لِى أَرْبَعَةَ أَوْلادٍ) وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِىُّ فِى تَارِيخِ بَغْدَادَ عَنِ الْحَافِظِ الْفَقِيهِ الْمُجْتَهِدِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِىِّ أَنَّهُ قَالَ قَبْرُ مَعْرُوفٍ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ، أَىْ أَنَّهُ كَثِيرُ النَّفْعِ كَالتِّرْيَاقِ وَالتِّرْيَاقُ دَوَاءٌ مَعْرُوفٌ. وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنِ الشَّافِعِىِّ أَنَّهُ قَالَ إِنِّى لَأَتَبَرَّكُ بِأَبِى حَنِيفَةَ وَأَجِىءُ إِلَى قَبْرِهِ فِى كُلِّ يَوْمٍ فَإِذَا عَرَضَتْ لِى حَاجَةٌ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ وَجِئْتُ إِلَى قَبْرِهِ وَسَأَلْتُ اللَّهَ تَعَالَى الْحَاجَةَ عِنْدَهُ فَمَا تَبْعُدُ عَنِّى حَتَّى تُقْضَى. (وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِى الْمُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ) فِى فَتْحِ الْبَارِى (أَنَّ الْحَارِثَ بنَ حَسَّانٍ الْبَكْرِىَّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَوَجَدَ فِى طَرِيقِهِ عَجُوزًا مِنْ بَنِى تَمِيمٍ تَقْصِدُ النَّبِىَّ ﷺ لِحَاجَةٍ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اسْتَأْذَنَ لِلْعَجُوزِ فَأَذِنَ لَهَا الرَّسُولُ ﷺ فَإِذَا بِهَا تَذْكُرُ لِلرَّسُولِ حَاجَتَهَا فَتَبَيَّنَ لِلْحَارِثِ أَنَّ حَاجَتَهَا مِثْلُ حَاجَتِهِ ثُمَّ (قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ) أَىْ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ خَائِبًا فِى أَمَلِى الَّذِى أَمَّلْتُهُ (الْحَدِيثَ بِطُولِهِ) وَهُوَ (دَلِيلٌ يُبْطِلُ قَوْلَ الْوَهَّابِيَّةِ) إِنَّ (الِاسْتِعَاذَةَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ) فَالْحَارِثُ اسْتَعَاذَ بِالرَّسُولِ ﷺ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ أَشْرَكْتَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِنِ اسْتَعَاذَ بِحَىٍّ أَوْ مَيِّتٍ فَإِنَّهُ يَرَى الْمُسْتَعَاذَ بِهِ سَبَبًا أَىْ أَنَّهُ يَنْفَعُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَمَّا الْمُسْتَعَاذُ بِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ اللَّهُ أَىْ هُوَ الْخَالِقُ لِلْعَوْنِ.

     (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً فِى الأَرْضِ سِوَى الْحَفَظَةِ) سَيَّاحِينَ فِى الْفَلاةِ (يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ) أَىْ مُشْكِلَةٌ (بِأَرْضٍ فَلاةٍ) أَىْ بَرِّيَّةٍ (فَلْيُنَادِ أَعِينُوا عِبَادَ اللَّهِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ) وَحَسَّنَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ (وَقَالَ الْحَافِظُ الْهَيْثَمِىُّ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ) وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَيَاتِى خَيْرٌ لَكُمْ تُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ وَوَفَاتِى خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَىَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ) فِى مُسْنَدِهِ (وَ)قَالَ الْهَيْثَمِىُّ فِى مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ (رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ). تُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ أَىْ يَحْصُلُ مِنْكُمْ أُمُورٌ ثُمَّ يَأْتِى الْحُكْمُ بِطَرِيقِ الْوَحْىِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَتُعْرَضُ عَلَىَّ أَعْمَالُكُمْ أَىْ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لا بِكُلِّ تَفَاصِيلِهَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ يَنْفَعُ بَعْدَ مَوْتِهِ خِلافًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْوَهَّابِيَّةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ﷺ وَوَفَاتِى خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَىَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ. أَمَّا حَدِيثُ مُسْلِمٍ إِذَا مَاتَ ابْنُ ءَادَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ، فَالْمُرَادُ بِهِ عَمَلُ الْمَيِّتِ التَّكْلِيفِىُّ الَّذِى يُجَازَى بِهِ.

     (وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِىُّ فِى مُعْجَمَيْهِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ عَنْ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ) أَىْ يَتَرَدَّدُ (إِلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَكَانَ عُثْمَانُ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلا يَنْظُرُ فِى حَاجَتِهِ) لِشِدَّةِ انْشِغَالِهِ (فَلَقِىَ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ فَشَكَا إِلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ) لَهُ عُثْمَانُ بنُ حُنَيْفٍ (ائْتِ الْمِيضَأَةَ) أَىِ الْمَوْضِعَ الَّذِى يُتَوَضَّأُ فِيهِ (فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ) أَىْ أَدْعُوكَ مُتَوَسِّلًا (بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ نَبِىِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إِنِّى أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّى فِى حَاجَتِى لِتُقْضَى لِى ثُمَّ رُحْ حَتَّى أَرُوحَ مَعَكَ) أَىْ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَذْهَبَا مَعًا إِلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ (فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَفَعَلَ مَا قَالَ) لَهُ عُثْمَانُ بنُ حُنَيْفٍ (ثُمَّ أَتَى بَابَ عُثْمَانَ) بنِ عَفَّانَ (فَجَاءَ الْبَوَّابُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ فَأَجْلَسَهُ) عُثْمَانُ (عَلَى طِنْفِسَتِهِ) أَىْ سَجَّادَتِهِ (فَقَالَ مَا حَاجَتُكَ فَذَكَرَ لَهُ حَاجَتَهُ فَقَضَى لَهُ حَاجَتَهُ وَقَالَ مَا ذَكَرْتُ حَاجَتَكَ حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ) أَىْ مَا ذَكَرْتُهَا إِلَّا الآنَ (ثُمَّ خَرَجَ) الرَّجُلُ (مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِىَ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ فَقَالَ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مَا كَانَ يَنْظُرُ فِى حَاجَتِى وَلا يَلْتَفِتُ إِلَىَّ حَتَّى كَلَّمْتَهُ فِىَّ فَقَالَ) لَهُ (عُثْمَانُ بنُ حُنَيْفٍ وَاللَّهِ مَا كَلَّمْتُهُ وَلَكِنْ شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ أَتَاهُ ضَرِيرٌ فَشَكَى إِلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ فَقَالَ) لَهُ (إِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ شَقَّ عَلَىَّ ذَهَابُ بَصَرِى وَإِنَّهُ لَيْسَ لِى قَائِدٌ) يَقُودُنِى لِقَضَاءِ حَاجَاتِى (فَقَالَ لَهُ) رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ) اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ نَبِىِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إِنِّى أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّى فِى حَاجَتِى لِتُقْضَى لِى (فَفَعَلَ الرَّجُلُ مَا قَالَ) لَهُ (فَوَاللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلا طَالَ بِنَا الْمَجْلِسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ وَقَدْ أَبْصَرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ. قَالَ الطَّبَرَانِىُّ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ. وَالطَّبَرَانِىُّ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لا يُصَحِّحُ حَدِيثًا مَعَ اتِّسَاعِ كِتَابِهِ الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ) أَىْ (مَا قَالَ عَنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ) فِيهِ (وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ إِلَّا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ) أَىْ حَدِيثِ الأَعْمَى (وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ فِى) مُعْجَمِهِ (الصَّغِيرِ وَصَحَّحَهُ فَفِيهِ دَلِيلٌ) عَلَى (أَنَّ الأَعْمَى تَوَسَّلَ بِالنَّبِىِّ) ﷺ (فِى غَيْرِ حَضْرَتِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ) وَقَدْ أَبْصَرَ.

     وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَعْمَى تَوَسَّلَ بِالرَّسُولِ فِى غَيْرِ حَضْرَتِهِ بِقَوْلِهِ يَا مُحَمَّد أَنَّهُ ثَبَتَ النَّهْىُ عَنْ نِدَاءِ الرَّسُولِ بِاسْمِهِ فِى وَجْهِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾. (وَفِيهِ) أَىْ وَفِى هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى (أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالنَّبِىِّ جَائِزٌ فِى حَالَةِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ) بِدَلِيلِ أَنَّ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ أَمَرَ صَاحِبَ الْحَاجَةِ أَنْ يَتَوَسَّلَ بِالنَّبِىِّ ﷺ (فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَةَ لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إِلَّا بِالْحَىِّ الْحَاضِرِ) فَإِنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ (وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ) وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَةَ إِنَّ التَّوَسُّلَ الْوَارِدَ فِى هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ تَوَسُّلٌ بِدُعَاءِ النَّبِىِّ وَلَيْسَ بِذَاتِهِ فَهُوَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ لا يَجُوزُ إِلَّا لِدَلِيلٍ عَقْلِىٍّ قَاطِعٍ أَوْ نَقْلِىٍّ ثَابِتٍ فَالْحَدِيثُ عِنْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ يَجِبُ فِيهِ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى مُوجَبِ دَعْوَاهُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِدُعَاءِ نَبِيِّنَا وَالتَّقْدِيرُ لا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا لِدَلِيلٍ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الأُصُولِ (وَأَمَّا تَمَسُّكُ بَعْضِ الْوَهَّابِيَّةِ لِدَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ هَذِهِ فِى رِوَايَةِ حَدِيثِ التِّرْمِذِىِّ الَّذِى فِيهِ) أَنَّ الأَعْمَى قَالَ (اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِىَّ وَشَفِّعْنِى فِى نَفْسِى فَلا يُفِيدُ أَنَّهُ لا يُتَبَرَّكُ بِذَاتِ النَّبِىِّ) وَلا يُتَوَسَّلُ بِهِ فِى غَيْبَتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ (بَلِ التَّبَرُّكُ) وَالتَّوَسُّلُ (بِذَاتِ النَّبِىِّ إِجْمَاعٌ لَمْ يُخَالِفْهُ إِلَّا ابْنُ تَيْمِيَةَ)، كَيْفَ لا يُتَوَسَّلُ بِهِ (وَالرَّسُولُ) ﷺ (هُوَ الَّذِى قَالَ فِيهِ الْقَائِلُ) وَهُوَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ شِعْرًا مِنَ (الطَّوِيلِ

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ        ثِـمَالَ الْيَتَامَى عِصْمَةً لِلأَرَامِلِ)

وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ (أَوْرَدَهُ الْبُخَارِىُّ) فِى كِتَابِ الِاسْتِسْقَاءِ وَفِى هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ يُتَوَسَّلُ بِذَاتِهِ إِلَى اللَّهِ لِطَلَبِ الْمَطَرِ. وَمَعْنَى ثِمَالَ الْيَتَامَى غِيَاثُهُمْ وَعِصْمَةً لِلأَرَامِلِ قَرِيبٌ مِنْهُ.

     (وَأَمَّا تَوَسُّلُ) سَيِّدِنَا (عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِىِّ ﷺ فَلَيْسَ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَدْ مَاتَ) وَأَنَّهُ لا يُتَوَسَّلُ إِلَّا بِالْحَىِّ الْحَاضِرِ كَمَا تَدَّعِى الْوَهَّابِيَّةُ (بَلْ كَانَ لِأَجْلِ رِعَايَةِ حَقِّ قَرَابَتِهِ مِنَ النَّبِىِّ ﷺ بِدَلِيلِ قَوْلِ الْعَبَّاسِ حِينَ قَدَّمَهُ) سَيِّدُنَا (عُمَرُ اللَّهُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ تَوَجَّهُوا بِى إِلَيْكَ لِمَكَانِى مِنْ نَبِيِّكَ) أَىْ لِمَنْزِلَتِى عِنْدَهُ (فَتَبَيَّنَ) بِذَلِكَ (بُطْلانُ رَأْىِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ مُنْكِرِى التَّوَسُّلِ) كَالْوَهَّابِيَّةِ (رَوَى هَذَا الأَثَرَ الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ) فِى فَتْحِ الْبَارِى (وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ أَنَّ) سَيِّدَنَا (عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَرَى لِلْعَبَّاسِ مَا يَرَى الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ يُعَظِّمُهُ وَيُفَخِّمُهُ وَيَبَرُّ قَسَمَهُ) أَىْ يَفْعَلُ مَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ الْعَبَّاسُ كَأَنْ يَقُولَ لَهُ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا فَإِنَّهُ يَفْعَلُ (فَاقْتَدُوا أَيُّهَا النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ) أَىْ بِتَعْظِيمِهِ وَتَفْخِيمِهِ (وَاتَّخِذُوهُ وَسِيلَةً إِلَى اللَّهِ فِيمَا نَزَلَ بِكُمْ) مِنَ الْبَلاءِ. (فَهَذَا يُوضِحُ سَبَبَ تَوَسُّلِ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ) فَقَدْ أَرَادَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بِفِعْلِهِ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ جَوَازَ التَّوَسُّلِ بِغَيْرِ النَّبِىِّ ﷺ مِنْ أَهْلِ الصَّلاحِ مِمَّنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِى فَتْحِ الْبَارِى عَقِبَ هَذِهِ الْقِصَّةِ يُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ الْعَبَّاسِ اسْتِحْبَابُ الِاسْتِشْفَاعِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلاحِ وَأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ (فَلا الْتِفَاتَ بَعْدَ هَذَا إِلَى دَعْوَى بَعْضِ هَؤُلاءِ الْمُشَوِّشِينَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ) فِى شَأْنِ الأَعْمَى فِى (إِسْنَادِهِ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُوَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا بَلْ أَبُو جَعْفَرٍ هَذَا هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْخَطْمِىُّ) كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ التِّرْمِذِىُّ وَابْنُ السُّنِّىِّ وَالْحَاكِمُ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِىُّ عِنْدَ رِوَايَتِهِم لِهَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ (ثِقَةٌ) كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ النَّسَائِىُّ وَالْحَافِظُ الطَّبَرَانِىُّ وَالْحَافِظُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ (وَكَذَلِكَ دَعْوَى بَعْضِهِمْ وَهُوَ نَاصِرُ الدِّينِ الأَلْبَانِىُّ) فِى كِتَابِهِ التَّوَسُّلُ (أَنَّ مُرَادَ الطَّبَرَانِىِّ بِقَوْلِهِ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ الْقَدْرُ الأَصْلِىُّ وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ الأَعْمَى فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ فَقَطْ وَلَيْسَ مُرَادُهُ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ أَيَّامَ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ) ﷺ (وَ)كَلامُهُ (هَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّ عُلَمَاءَ الْمُصْطَلَحِ قَالُوا الْحَدِيثُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِىِّ وَالْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابَةِ أَىْ أَنَّ كَلامَ الرَّسُولِ) ﷺ (يُسَمَّى حَدِيثًا وَقَوْلَ الصَّحَابِىِّ يُسَمَّى حَدِيثًا وَلَيْسَ لَفْظُ الْحَدِيثِ مَقْصُورًا عَلَى كَلامِ النَّبِىِّ فَقَطْ فِى اصْطِلاحِهِمْ وَهَذَا الْمُمَوِّهُ) أَعْنِى الأَلْبَانِىَّ (كَلامُهُ لا يُوَافِقُ الْمُقَرَّرَ فِى عِلْمِ الْمُصْطَلَحِ فَلْيَنْظُرْ مَنْ شَاءَ فِى كِتَابِ تَدْرِيبِ الرَّاوِى) لِلْحَافِظِ السُّيُوطِىِّ (وَالإِفْصَاحِ) بِتَكْمِيلِ النُكَتِ عَلَى ابْنِ الصَّلاحِ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ (وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْمُصْطَلَحِ) كَمُقَدِّمَةِ ابْنِ الصَّلاحِ (فَإِنَّ الأَلْبَانِىَّ لَمْ يَجُرَّهُ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا شِدَّةُ تَعَصُّبِهِ لِهَوَاهُ وَعَدَمُ مُبَالاتِهِ بِمُخَالَفَةِ) إِجْمَاعِ (الْعُلَمَاءِ) الْمُجْتَهِدِينَ (كَسَلَفِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ) الَّذِى خَرَقَ الإِجْمَاعَ فِى مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ.

     وَ(أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِى رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ) فِى سُنَنِهِ (أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ قَالَ لَهُ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ) كَمَا تَدَّعِى الْوَهَّابِيَّةُ (لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَعْنَاهُ أَنَّ الأَوْلَى بِأَنْ يُسْأَلَ وَيُسْتَعَانَ بِهِ) هُوَ (اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ مَعْنَاهُ لا تَسْأَلْ غَيْرَ اللَّهِ وَلا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ) ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ أَدَاةُ نَهْىٍ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لا تَسْأَلْ غَيْرَ اللَّهِ وَلا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ وَحَتَّى لَوْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ النَّهْىِ فَلَيْسَ كُلُّ أَدَاةِ نَهْىٍ لِلتَّحْرِيمِ (نَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ لا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِىٌّ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِى سُنَنِهِ. (فَكَمَا لا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَدَمُ جَوَازِ صُحْبَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ وَ)لا عَدَمُ جَوَازِ (إِطْعَامِ غَيْرِ التَّقِىِّ وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الأَوْلَى فِى الصُّحْبَةِ الْمُؤْمِنُ وَأَنَّ الأَوْلَى بِالإِطْعَامِ هُوَ التَّقِىُّ كَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ) إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ (لا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الأَوْلَوِيَّةُ وَأَمَّا التَّحْرِيمُ الَّذِى يَدَّعُونَهُ فَلَيْسَ فِى هَذَا الْحَدِيثِ) فَكَيْفَ تَجَرَّأَتِ الْوَهَّابِيَّةُ عَلَى الِاسْتِدْلالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِمَنْعِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ.

     (وَ)اعْلَمْ أَنَّهُ (لا فَرْقَ بَيْنَ التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِغَاثَةِ فَالتَّوَسُّلُ يُسَمَّى اسْتِغَاثَةً كَمَا جَاءَ فِى حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ قَالَ إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ) وَقَدْ وَرَدَ (الْحَدِيثُ) بِهَذَا اللَّفْظِ (فِى رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ لِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ يَأْتِى بِمَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ جَعَلَ التَّوَسُّلَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكًا (وَفِى رِوَايَةِ أَنَسٍ رُوِىَ بِلَفْظِ الِاسْتِشْفَاعِ) وَنَصُّهُ يَا ءَادَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا (وَكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ فِى الصَّحِيحِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِشْفَاعَ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَسَمَّى الرَّسُولُ ﷺ هَذَا الطَّلَبَ مِنْ ءَادَمَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ إِلَى رَبِّهِمُ اسْتِغَاثَةً) وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِىُّ تَقِىُّ الدِّينِ السُّبْكِىُّ فِى شِفَاءِ السَّقَامِ الِاسْتِشْفَاعُ وَالتَّوَسُّلُ وَالتَّوَجُّهُ وَالتَّجَوُّهُ وَالِاسْتِغَاثَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. (ثُمَّ) إِنَّ (الرَّسُولَ) ﷺ (سَمَّى الْمَطَرَ مُغِيثًا فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ) فِى سُنَنِهِ (وَغَيْرُهُ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ) كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَافِظُ الْبُوصِيرِىُّ فِى مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ (أَنَّ الرَّسُولَ) ﷺ (قَالَ اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا) أَىْ مَطَرًا مُنْقِذًا مِنَ الشِّدَّةِ (مَرِيعًا) أَىْ خَصِيبًا (نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ عَاجِلًا غَيْرَ ءَاجِلٍ. فَالرَّسُولُ) ﷺ (سَمَّى الْمَطَرَ مُغِيثًا لِأَنَّهُ يُنْقِذُ مِنَ الشِّدَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ) وَ(كَذَلِكَ النَّبِىُّ وَالْوَلِىُّ يُنْقِذَانِ مِنَ الشِّدَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى) إِذَا تَوَسَّلَ الْمُسْلِمُ بِهِمَا.

(التَّبَرُّكُ بِآثَارِ النَّبِىِّ ﷺ)

     (اعْلَمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِآثَارِ النَّبِىِّ ﷺ) كَشَعَرِهِ وَعَرَقِهِ وَقَمِيصِهِ وَجُبَّتِهِ (فِى حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ وَلا زَالَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى ذَلِكَ) وَالتَّبَرُّكُ مَعْنَاهُ طَلَبُ زِيَادَةِ الْخَيْرِ مِنَ اللَّهِ (وَجَوَازُ هَذَا الأَمْرِ يُعْرَفُ مِنْ فِعْلِ النَّبِىِّ ﷺ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَسَمَ شَعَرَهُ حِينَ حَلَقَ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بَيْنَ أَصْحَابِهِ لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ (وَ)قَسَمَ (أَظْفَارَهُ. أَمَّا اقْتِسَامُ الشَّعَرِ فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِىُّ) فِى كِتَابِ الْوُضُوءِ (وَمُسْلِمٌ) فِى كِتَابِ الْحَجِّ (مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَفِى لَفْظِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا رَمَى) رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ الْجَمْرَةَ) وَهِىَ مَوْضِعُ رَمْىِ الْحَصَى بِمِنًى (وَنَحَرَ نُسُكَهُ) أَىْ ذَبَحَ الذَّبَائِحَ (وَحَلَقَ) رَأْسَهُ (نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ) مِنْ رَأْسِهِ (فَحَلَقَ ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِىَّ فَأَعْطَاهُ) شَعْرَ شِقِّهِ الأَيْمَنِ (ثُمَّ نَاوَلَهُ) أَىْ نَاوَلَ الْحَالِقَ (الشِّقَّ الأَيْسَرَ) مِنْ رَأْسِهِ (فَقَالَ احْلِقْ فَحَلَقَ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ وَفِى رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا فَبَدَأَ بِالشِّقِّ الأَيْمَنِ فَوَزَّعَهُ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ قَالَ بِالأَيْسَرِ فَصَنَعَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ هَهُنَا أَبُو طَلْحَةَ فَدَفَعَهُ إِلَى أَبِى طَلْحَةَ. وَفِى رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ قَالَ لِلْحَلَّاقِ هَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَانِبِ الأَيْمَنِ فَقَسَمَ شَعَرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيهِ ثُمَّ أَشَارَ إِلَى الْحَلَّاقِ إِلَى الْجَانِبِ الأَيْسَرِ فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أُمَّ سُلَيْمٍ. فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ وَزَّعَ بِنَفْسِهِ بَعْضًا بَيْنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَلُونَهُ وَأَعْطَى بَعْضًا لِأَبِى طَلْحَةَ لِيُوَزِّعَهُ فِى سَائِرِهِمْ وَأَعْطَى بَعْضًا أُمَّ سُلَيْمٍ فَفِيهِ) دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ (التَّبَرُّكِ بِآثَارِ الرَّسُولِ) ﷺ (فَقَدْ قَسَمَ) رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ شَعَرَهُ لِيَتَبَرَّكُوا بِهِ وَلِيَسْتَشْفِعُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ مِنْهُ وَيَتَقَرَّبُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ) حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَغْمِسُونَهُ فِى الْمَاءِ فَيَسْقُونَ هَذَا الْمَاءَ بَعْضَ الْمَرْضَى تَبَرُّكًا بِأَثَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ. (قَسَمَ) ﷺ شَعَرَهُ (بَيْنَهُمْ لِيَكُونَ بَرَكَةً بَاقِيَةً بَيْنَهُمْ وَتَذْكِرَةً لَهُمْ ثُمَّ تَبِعَ الصَّحَابَةَ فِى خُطَّتِهِمْ) أَىْ خَصْلَتِهِمْ (فِى التَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ ﷺ مَنْ أَسْعَدَهُ اللَّهُ وَتَوَارَدَ ذَلِكَ) وَتَنَاقَلَهُ (الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ) وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِى الْحِلْيَةِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ قَالَ رَأَيْتُ أَبِى يَأْخُذُ شَعْرَةً مِنْ شَعَرِ النَّبِىِّ ﷺ فَيَضَعُهَا عَلَى فِيهِ أَىْ فَمِهِ يُقَبِّلُهَا وَأَحْسَبُ أَنِّى رَأَيْتُهُ يَضَعُهَا عَلَى عَيْنِهِ وَيَغْمِسُهَا فِى الْمَاءِ وَيَشْرَبُهُ يَسْتَشْفِى بِهِ وَرَأَيْتُهُ أَخَذَ قَصْعَةَ النَّبِىِّ ﷺ فَغَمَسَهَا فِى جُبِّ الْمَاءِ أَىْ بِئْرِهِ ثُمَّ شَرِبَ فِيهَا. (وَأَمَّا اقْتِسَامُ الأَظْفَارِ فَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِى مُسْنَدِهِ أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ وَقَسَمَهَا بَيْنَ النَّاسِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِيَأْكُلَهَا النَّاسُ بَلْ لِيَتَبَرَّكُوا بِهَا. أَمَّا جُبَّتُهُ ﷺ فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِى الصَّحِيحِ) فِى كِتَابِ اللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ (عَنْ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ) أَنَّهُ (قَالَ أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا) أَسْمَاءُ (جُبَّةً طَيَالِسَةً كِسْرَوَانِيَّةً) أَىْ مِنْ صِنَاعَةِ الْعَجَمِ (لَهَا لَبِنَةُ دِيبَاجٍ) أَىْ حَرِيرٍ وَهِىَ رُقْعَةٌ فِى جَيْبِ الْقَمِيصِ أَىْ فَتْحَتِهِ (وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ) أَىْ وَرَأَيْتُ فَرْجَيْهَا أَىْ شِقَّيْهَا شِقًّا مِنْ خَلْفٍ وَشِقًّا مِنْ قُدَّامٍ مَكْفُوفَيْنِ أَىْ مَعْطُوفَىِ الأَطْرَافِ (وَقَالَتْ هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا وَكَانَ النَّبِىُّ ﷺ يَلْبَسُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى نَسْتَشْفِى بِهَا وَفِى رِوَايَةٍ) لِأَحْمَدَ فِى مُسْنَدِهِ (نَغْسِلُهَا لِلْمَرِيضِ مِنَّا). قَالَ الْحَافِظُ النَّوَوِىُّ فِى شَرْحِهِ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّبَرُّكِ بِآثَارِ الصَّالِحِينَ وَثِيَابِهِمْ. (وَعَنْ حَنْظَلَةَ بنِ حِذْيَمٍ قَالَ وفَدْتُ مَعَ جَدِّى حِذْيَمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِى بَنِينَ) أَىْ أَوْلادًا وَأَوْلادَ أَوْلادٍ (ذَوِى لِحًى وَغَيْرَهُمْ وَهَذَا أَصْغَرُهُمْ فَأَدْنَانِى) أَىْ قَرَّبَنِى (رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَمَسَحَ رَأْسِى وَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ قَالَ الذَّيَّالُ) وَهُوَ الرَّاوِى عَنْ حَنْظَلَةَ (فَلَقَدْ رَأَيْتُ حَنْظَلَةَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْوَارِمِ وَجْهُهُ أَوِ الشَّاةِ الْوَارِمِ ضَرْعُهَا فَيَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ) وَاضِعًا يَدَهُ (عَلَى مَوْضِعِ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَيَمْسَحُهُ فَيَذْهَبُ الْوَرَمُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ فِى الأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ بِنَحْوِهِ وَ)قَالَ الْحَافِظُ الْهَيْثَمِىُّ فِى مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ رَوَاهُ الإِمَامُ (أَحْمَدُ) فِى مُسْنَدِهِ (فِى حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَرِجَالُ أَحْمَدَ ثِقَاتٌ. وَعَنْ ثَابِتٍ) الْبُنَانِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ كُنْتُ إِذَا أَتَيْتُ أَنَسًا يُخْبَرُ بِمَكَانِى فَأَدْخُلُ عَلَيْهِ فَآخُذُ بِيَدَيْهِ فَأُقَبِّلُهُمَا وَأَقُولُ بِأَبِى هَاتَانِ الْيَدَانِ اللَّتَانِ مَسَّتَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأُقَبِّلُ عَيْنَيْهِ وَأَقُولُ بِأَبِى هَاتَانِ الْعَيْنَانِ اللَّتَانِ رَأَتَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى) فِى مُسْنَدِهِ (وَ)قَالَ الْحَافِظُ الْهَيْثَمِىُّ فِى الْمَجْمَعِ (رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِى بَكْرٍ الْمُقَدَّمِىِّ وَهُوَ ثِقَةٌ).

     (وَعَنْ دَاوُدَ بنِ أَبِى صَالِحٍ قَالَ أَقْبَلَ مَرْوَانُ) بنُ الْحَكَمِ أَثْنَاءَ حُكْمِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ (يَوْمًا فَوَجَدَ رَجُلًا وَاضِعًا وَجْهَهُ عَلَى الْقَبْرِ) أَىْ قَبْرِ الرَّسُولِ ﷺ (فَقَالَ أَتَدْرِى مَا تَصْنَعُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ أَبُو أَيُّوبَ) الأَنْصَارِىُّ خَالِدُ بنُ زَيْدٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَقَالَ نَعَمْ) أَعْرِفُ مَا أَصْنَعُ (جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ ءَاتِ الْحَجَرَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ لا تَبْكُوا عَلَى الدِّينِ إِذَا وَلِيَهُ أَهْلُهُ وَلَكِنِ ابْكُوا عَلَيْهِ إِذَا وَلِيَهُ غَيْرُ أَهْلِهِ) أَىْ أَنَّكَ يَا مَرْوَانُ لَسْتَ أَهْلًا لِتَوَلِّى الإِمَارَةِ وَالْحُكْمِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) فِى مُسْنَدِهِ (وَالطَّبَرَانِىُّ فِى) الْمُعْجَمِ (الْكَبِيرِ وَالأَوْسَطِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِىُّ فِى دَلائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْحَاكِمُ فِى مُسْتَدْرَكِهِ وَغَيْرُهُمَا بِالإِسْنَادِ أَنَّ خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (فَقَدَ قَلَنْسُوَةً لَهُ يَوْمَ) مَعْرَكَةِ (الْيَرْمُوكِ فَقَالَ اطْلُبُوهَا فَلَمْ يَجِدُوهَا ثُمَّ طَلَبُوهَا فَوَجَدُوهَا فَقَالَ خَالِدٌ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَابْتَدَرَ النَّاسُ جَوَانِبَ شَعَرِهِ فَسَبَقْتُهُمْ إِلَى نَاصِيَتِهِ فَجَعَلْتُهَا فِى هَذِهِ الْقَلَنْسُوَةِ فَلَمْ أَشْهَدْ قِتَالًا وَهِىَ مَعِى إِلَّا رُزِقْتُ النَّصْرَ. وَهَذِهِ الْقِصَّةُ صَحِيحَةٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ) الْمُحَدِّثُ (الشَّيْخُ حَبِيبُ الرَّحْمٰنِ الأَعْظَمِىُّ) الْهِنْدِىُّ (فِى تَعْلِيقِهِ عَلَى الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ فَقَالَ قَالَ الْبُوصِيرِىُّ) فِى إِتْحَافِ الْخِيَرَةِ الْمَهَرَةِ (رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى) فِى مُسْنَدِهِ (بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَقَالَ الْهَيْثَمِىُّ) فِى مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ (رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ وَأَبُو يَعْلَى بِنَحْوِهِ وَرِجَالُهُمَا رِجَالُ الصَّحِيحِ. فَلا الْتِفَاتَ بَعْدَ هَذَا إِلَى دَعْوَى مُنْكِرِى التَّوَسُّلِ وَالتَّبَرُّكِ بِآثَارِهِ الشَّرِيفَةِ ﷺ) وَهُمُ الْوَهَّابِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ سَلَفِيَّةً لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّهُمْ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَلا يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهُمْ شَاذُّونَ عَنِ الأُمَّةِ. فَهَؤُلاءِ كَفَّرُوا أُمَّةَ النَّبِىِّ ﷺ وَكَفَّرُوا سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ فِعْلَهُ دَعْوَةً إِلَى الشِّرْكِ وَكَفَّرُوا سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأَنَّهُ أَرْسَلَ قَمِيصَهُ إِلَى أَبِيهِ يَعْقُوبَ لِيَتَبَرَّكَ بِهِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِى الْقُرْءَانِ أَنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِى هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا﴾ كَمَا أَنَّهُمْ كَفَّرُوا سَيِّدَنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأَنَّهُ تَبَرَّكَ بِقَمِيصِ ابْنِهِ يُوسُفَ فَحَصَلَتْ لَهُ الْبَرَكَةُ وَالشِّفَاءُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِى الْقُرْءَانِ بِقَوْلِهِ ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾.

(الِاجْتِهَادُ وَالتَّقْلِيدُ)

     (الِاجْتِهَادُ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الأَحْكَامِ الَّتِى لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ لا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا) أَمَّا مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ صَرِيحٌ مِنَ الْقُرْءَانِ أَوِ الْحَدِيثِ لا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا فَلا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَالِاجْتِهَادُ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ (فَالْمُجْتَهِدُ) هُوَ (مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ) اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الَّتِى لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَلَمْ يَسْبِقْ فِيهَا إِجْمَاعٌ مِنَ الأُمَّةِ وَلا يَكُونُ لَهُ (ذَلِكَ) إِلَّا (بِأَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِآيَاتِ الأَحْكَامِ وَأَحَادِيثِ الأَحْكَامِ) أَىِ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ الْمُتَضَمِّنَةِ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً (وَ)لا بُدَّ مِنْ (مَعْرِفَةِ أَسَانِيدِهَا) أَىْ أَسَانِيدِ أَحَادِيثِ الأَحْكَامِ (وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ رِجَالِ الإِسْنَادِ) أَىْ يَنْبَغِى أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَحْوَالِ الرُّوَاةِ قُوَّةً وَضَعْفًا لِيَحْكُمَ عَلَى الأَحَادِيثِ تَصْحِيحًا (وَ)تَضْعِيفًا مَعَ (مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ) مِنَ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ حَتَّى لا يَعْتَمِدَ عَلَى حُكْمٍ مَنْسُوخٍ وَالنَّسْخُ هُوَ رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِىٍّ سَابِقٍ بِحُكْمٍ شَرْعِىٍّ لاحِقٍ. (وَ)لا بُدَّ لِبُلُوغِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ مِنْ مَعْرِفَةِ (الْعَامِّ وَالْخَاصِّ) مِنَ الأَحْكَامِ حَتَّى إِذَا تَعَارَضَ فِى الظَّاهِرِ نَصَّانِ أَحَدُهُمَا عَامٌّ وَالآخَرُ خَاصٌّ يُقَدِّمُ الْخَاصَّ عَلَى الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ فَإِنَّهُ خُصَّ عُمُومُهُ بالأَمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ وَخُصَّ عُمُومُهُ بِالْعَبْدِ الْمَقِيسِ عَلَى الأَمَةِ (وَ)لا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ (الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ) كَالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِى النَّهْىِ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ بِالْيَمِينِ فَإِنَّهُ وَرَدَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَوَرَدَ مُقَيَّدًا بِحَالَةِ الْبَوْلِ بِلَفْظِ لا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ (وَ)يُشْتَرَطُ (مَعَ) مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشُّرُوطِ (إِتْقَانُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ) أَىْ يَنْبَغِى لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يُتْقِنَ لُغَةَ الْعَرَبِ (بِحَيْثُ إِنَّهُ يَحْفَظُ مَدْلُولاتِ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ) أَىْ يَفْهَمُ جَيِّدًا مَعَانِىَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ (عَلَى حَسَبِ اللُّغَةِ الَّتِى نَزَلَ بِهَا الْقُرْءَانُ) وَيَعْرِفُ النَّحْوَ وَالصَّرْفَ وَالْبَلاغَةَ وَهَذَا فِى غَيْرِ السَّلِيقِىِّ أَمَّا السَّلِيقِىُّ كَالصَّحَابَةِ وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ فَهُوَ غَنِىٌّ عَنْ تَعَلُّمِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ لِأَنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلَى النُّطْقِ بِالصَّوَابِ فِى اللُّغَةِ. (وَ)لا بُدَّ لِلْمُجْتَهِدِ مِنْ (مَعْرِفَةِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) أَىْ يَنْبَغِى أَنْ يَعْرِفَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ إِجْمَاعًا وَاخْتِلافًا فَلا يُخَالِفُهُمْ فِى اجْتِهَادِهِ (لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرِقَ الإِجْمَاعَ أَىْ إِجْمَاعَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ) مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ (وَيُشْتَرَطُ فَوْقَ ذَلِكَ شَرْطٌ وَهُوَ رُكْنٌ عَظِيمٌ فِى الِاجْتِهَادِ وَهُوَ فِقْهُ النَّفْسِ أَىْ قُوَّةُ الْفَهْمِ وَالإِدْرَاكِ. وَتُشْتَرَطُ) فِى الْمُجْتَهِدِ (الْعَدَالَةُ وَهِىَ السَّلامَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الصَّغَائِرِ بِحَيْثُ تَغْلِبُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ) لِأَنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ وَاقِعًا فِى ذَنْبٍ كَبِيرٍ. وَالْمُجْتَهِدُ لا يَعْمَلُ إِلَّا بِاجْتِهَادِهِ.

     (وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَهُوَ الَّذِى لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ) أَىْ مَرْتَبَةِ الْمُجْتَهِدِ فَلَهُ رُخْصَةٌ بِأَنْ يَتَّبِعَ أَىَّ إِمَامٍ مِنَ الأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَيَعْمَلَ بِمَذْهَبِهِ (وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ) مَرْتَبَةِ الْمُجْتَهِدِ وَمَرْتَبَةِ الْمُقَلِّدِ (قَوْلُهُ ﷺ نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِى فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا فَرُبَّ مُبَلِّغٍ لا فِقْهَ عِنْدَهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ وَابْنُ حِبَّانَ) فَالرَّسُولُ ﷺ دَعَا لِمَنْ حَفِظَ حَدِيثَهُ فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ بِنَضْرَةِ الْوَجْهِ أَىْ بِحُسْنِ وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبِالسَّلامَةِ مِنَ الْكَآبَةِ الَّتِى تَحْصُلُ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَ(الشَّاهِدُ فِى) هَذَا (الْحَدِيثِ قَوْلُهُ) ﷺ (فَرُبَّ مُبَلِّغٍ) أَىْ لِلْحَدِيثِ (لا فِقْهَ عِنْدَهُ) أَىْ لا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الأَحْكَامِ مِنْهُ (وَفِى رِوَايَةٍ) لِابْنِ حِبَّانَ (وَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَإِنَّهُ يُفْهِمُنَا أَنَّ مِمَّنْ يَسْمَعُونَ الْحَدِيثَ مِنَ الرَّسُولِ مَنْ حَظُّهُ أَنْ يَرْوِىَ مَا سَمِعَهُ لِغَيْرِهِ وَيَكُونُ هُوَ فَهْمُهُ أَقَلَّ مِنْ فَهْمِ مَنْ يُبَلِّغُهُ بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ يُبَلِّغُهُ هَذَا السَّامِعُ يَسْتَطِيعُ مِنْ قُوَّةِ قَرِيحَتِهِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْهُ أَحْكَامًا وَمَسَائِلَ وَيُسَمَّى هَذَا الِاسْتِنْبَاطَ وَ)أَمَّا الْمُبَلِّغُ (الَّذِى سَمِعَ) الْحَدِيثَ مُبَاشَرَةً مِنَ الرَّسُولِ ﷺ فَإِنَّهُ (لَيْسَ عِنْدَهُ هَذِهِ الْقَرِيحَةُ الْقَوِيَّةُ إِنَّمَا يَفْهَمُ الْمَعْنَى الَّذِى هُوَ قَرِيبٌ مِنَ اللَّفْظِ) وَ(مِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ يَكُونُ أَقَلَّ فَهْمًا) أَىْ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِنْبَاطُ (مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ) ﷺ مِنَ التَّابِعِينَ (وَفِى لَفْظٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ فِى) سُنَنِ (التِّرْمِذِىِّ وَ)صَحِيحِ (ابْنِ حِبَّانَ) فَأَفْهَمَنَا الرَّسُولُ ﷺ بِذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَسْمَعُ مِنْهُ الشَّخْصُ الْحَدِيثَ الْمُتَضَمِّنَ أَحْكَامًا وَلا يَكُونُ عِنْدَهُ أَهْلِيَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ وَيَحْمِلُهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ أَىْ إِلَى مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ فَيَسْتَنْبِطُ مِنْهُ أَحْكَامًا. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِى كُلِّ زَمَانٍ مُجْتَهِدًا لا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْهُ فَقَدْ رَوَى كَمِيلُ بنُ زِيَادٍ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِى الْحِلْيَةِ (وَهَذَا الْمُجْتَهِدُ هُوَ مَوْرِدُ قَوْلِهِ ﷺ إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ). وَالْمُرَادُ بِالْحَاكِمِ هُنَا الْحَاكِمُ الْعَالِمُ الَّذِى هُوَ أَهْلٌ لِلْحُكْمِ. هَذَا الْحَاكِمُ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ وَأَجْرٌ بِإِصَابَتِهِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ أَىْ بِاجْتِهَادِهِ (وَإِنَّمَا خَصَّ رَسُولُ اللَّهِ) ﷺ (فِى هَذَا الْحَدِيثِ الْحَاكِمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَحْوَجُ إِلَى الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ مَضَى مُجْتَهِدُونَ فِى السَّلَفِ مَعَ كَوْنِهِمْ حَاكِمِينَ كَالْخُلَفَاءِ السِّتَّةِ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِىٍّ وَالْحَسَنِ بنِ عَلِىٍّ وَعُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ (وَ)مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً مِثْلُ (شُرَيْحٍ الْقَاضِى. وَقَدْ عَدَّ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِى كُتُبِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ الْمُفْتِينَ) أَىِ الْمُجْتَهِدِينَ (فِى الصَّحَابَةِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ) ذَكَرَهُ السُّيُوطِىُّ فِى تَدْرِيبِ الرَّاوِى حَتَّى (قِيلَ) إِنَّهُمْ كَانُوا (نَحْوَ سِتَّةٍ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ) إِنَّ (نَحْوَ مِائَتَيْنِ مِنْهُمْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الأَصَحُّ. فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ فِى الصَّحَابَةِ هَكَذَا فَمِنْ أَيْنَ يَصِحُّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْءَانَ وَيُطَالِعَ فِى بَعْضِ الْكُتُبِ أَنْ يَقُولَ أُولَئِكَ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُقَلِّدَهُمْ) وَيَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى الِاجْتِهَادِ.

     (وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ كَانُوا غَيْرَ مُجْتَهِدِينَ بَلْ كَانُوا مُقَلِّدِينَ لِلْمُجْتَهِدِينَ فِيهِمْ فَفِى صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ أَنَّ رَجُلًا كَانَ أَجِيرًا لِرَجُلٍ فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَسَأَلَ أَبُوهُ) أُنَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ عَمَّا يَجِبُ عَلَى ابْنِهِ (فَقِيلَ لَهُ إِنَّ عَلَى ابْنِكَ مِائَةَ شَاةٍ وَأَمَةً) يَدْفَعُهَا لِزَوْجِهَا (ثُمَّ سَأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ) مِنْهُمْ (فَقَالُوا لَهُ إِنَّ عَلَى ابْنِكَ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ) أَىْ إِخْرَاجَهُ عَنْ بَلَدِهِ إِلَى مَسَافَةِ قَصْرٍ لِمُدَّةِ سَنَةٍ (فَجَاءَ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ مَعَ زَوْجِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِىَ هَذَا كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا) أَىْ كَانَ أَجِيرًا عِنْدَهُ (وَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَقَالَ لِى نَاسٌ عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ ابْنِىَ مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ) أَىْ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ فِى الْقُرْءَانِ ثُمَّ قَالَ مُخَاطِبًا لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ (أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْهِ) أَىْ تُرَدُّ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مُخَاطِبًا لِوَالِدِ الزَّانِى (وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. فَهَذَا الرَّجُلُ مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ سَأَلَ أُنَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ فَأَخْطَأُوا الصَّوَابَ ثُمَّ سَأَلَ عُلَمَاءَ مِنْهُمْ) فَأَجَابُوا بِالصَّوَابِ (ثُمَّ أَفْتَاهُ الرَّسُولُ) ﷺ (بِمَا يُوَافِقُ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ. فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ أَفْهَمَنَا أَنَّ بَعْضَ مَنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُ الْحَدِيثَ لَيْسَ لَهُمْ فِقْهٌ أَىْ مَقْدِرَةٌ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الأَحْكَامِ مِنْ حَدِيثِهِ وَإِنَّمَا حَظُّهُمْ أَنْ يَرْوُوا عَنْهُ مَا سَمِعُوهُ مَعَ كَوْنِهِمْ يَفْهَمُونَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ الْفُصْحَى فَمَا بَالُ هَؤُلاءِ الْغَوْغَاءِ الَّذِينَ) لا يَعْرِفُونَ اللُّغَةَ وَلَيْسَ فِيهِمْ شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ (يَتَجَرَّءُونَ عَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ) فَلا نَحْتَاجُ إِلَى تَقْلِيدِهِمْ وَقَوْلُهُمْ (أُولَئِكَ رِجَالٌ يَعْنُونَ) بِهِ (الْمُجْتَهِدِينَ كَالأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ) أَبِى حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِىِّ وَأَحْمَدَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

     (وَفِى هَذَا الْمَعْنَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ) فِى سُنَنِهِ (مِنْ قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِى كَانَتْ بِرَأْسِهِ شَجَّةٌ) أَىْ جُرْحٌ (فَأَجْنَبَ فِى لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَاسْتَفْتَى مَنْ مَعَهُ فَقَالُوا لَهُ اغْتَسِلْ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ قَتَلُوهُ) أَىْ تَسَبَّبُوا فِى مَوْتِهِ (قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالُ، أَىْ شِفَاءُ الْجَهْلِ السُّؤَالُ أَىْ سُؤَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيَغْسِلُ سَائِرَ جَسَدِهِ) وَهَذَا (الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) كَمَا تَقَدَّمَ (وَغَيْرُهُ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الِاجْتِهَادُ يَصِحُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمُسْلِمِينَ لَمَا ذَمَّ رَسُولُ اللَّهِ) ﷺ (هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَفْتَوْهُ وَ)هُمْ (لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى. ثُمَّ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ الَّتِى هِىَ خَاصَّةٌ لَهُ الْقِيَاسُ أَىْ أَنْ يَعْتَبِرَ مَا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ بِمَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ لِشَبَهٍ بَيْنَهُمَا) أَىْ إِلْحَاقُ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ بِالأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِعِلَّةٍ تَجْمَعُهُمَا فِى الْحُكْمِ كَتَحْرِيمِ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ فَإِنَّهُ قِيسَ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ بِالأَبَوَيْنِ الْوَارِدِ فِى الْقُرْءَانِ (فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ الَّذِينَ) يَدَّعُونَ الِاجْتِهَادَ وَ(يَحُثُّونَ أَتْبَاعَهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ كَوْنِهِمْ وَكَوْنِ مَتْبُوعِيهِمْ بَعِيدِينَ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ فَهَؤُلاءِ يُخَرِّبُونَ وَيَدْعُونَ أَتْبَاعَهُمْ إِلَى التَّخْرِيبِ فِى أُمُورِ الدِّينِ وَشَبِيهٌ بِهَؤُلاءِ أُنَاسٌ تَعَوَّدُوا فِى مَجَالِسِهِمْ أَنْ يُوَزِّعُوا عَلَى الْحَاضِرِينَ تَفْسِيرَ ءَايَةٍ أَوْ حَدِيثٍ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ تَلَقٍّ مُعْتَبَرٌ مِنْ أَفْوَاهِ الْعُلَمَاءِ فَهَؤُلاءِ الْمُدَّعُونَ) لِلِاجْتِهَادِ (شَذُّوا عَنْ عُلَمَاءِ الأُصُولِ) أَىْ أُصُولِ الْفِقْهِ (لِأَنَّ عُلَمَاءَ الأُصُولِ قَالُوا الْقِيَاسُ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ وَخَالَفُوا عُلَمَاءَ الْحَدِيثِ أَيْضًا) فَكَمْ مِنْ حُفَّاظٍ يَحْفَظُونَ الآلافَ مِنَ الْمُتُونِ وَالأَسَانِيدِ وَأَحْوَالِ الرُّوَاةِ يُقَلِّدُونَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَلا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ.

(خَاتِمَةُ) الْكِتَابِ

     (خُلاصَةُ مَا مَضَى مِنَ الأَبْحَاثِ أَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ) وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ أَنْ يُعْبَدَ إِلَّا هُوَ (وَ)أَنَّ (رَسُولَهُ) مُحَمَّدًا ﷺ صَادِقٌ فِى كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ (وَنَطَقَ بِالشَّهَادَةِ) أَىْ بِشَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (وَلَوْ مَرَّةً فِى الْعُمُرِ وَرَضِىَ بِذَلِكَ اعْتِقَادًا فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ) لا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِنْ مَاتَ عَلَى الإِيمَانِ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ، أَىْ حَرَّمَ أَنْ يَبْقَى فِيهَا إِلَى الأَبَدِ إِنْ دَخَلَهَا بِمَعَاصِيهِ (وَ)أَمَّا (مَنْ عَرَفَ وَنَطَقَ وَلَمْ يَعْتَقِدْ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَلا بِمُؤْمِنٍ عِنْدَ اللَّهِ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ لِخَفَاءِ بَاطِنِهِ عَلَيْنَا) فَإِنَّهُ (وَإِنْ كَانَ يَتَظَاهَرُ بِالإِسْلامِ وَ)يُصَلِّى صُورَةً لَكِنَّهُ (يَكْرَهُ الإِسْلامَ بَاطِنًا أَوْ يَتَرَدَّدُ فِى قَلْبِهِ هَلِ الإِسْلامُ صَحِيحٌ أَمْ لا فَهُوَ مُنَافِقٌ كَافِرٌ وَهُوَ دَاخِلٌ فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ فَهُوَ وَالْكَافِرُ الْمُعْلِنُ خَالِدَانِ فِى النَّارِ خُلُودًا أَبَدِيًّا) لا يَخْرُجَانِ مِنْهَا أَبَدًا.

     (وَقَوْلُ الْبَعْضِ يَصِحُّ إِيمَانُ الْكَافِرِ بِلا نُطْقٍ مَعَ التَّمَكُّنِ) أَىْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ (قَوْلٌ بَاطِلٌ لا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ) وَهُوَ خِلافُ عَقِيدَةِ الْجُمْهُورِ فَقَدْ نَقَلَ الإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ ابْنُ الْمُنْذِرِ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الدُّخُولَ فِى الإِسْلامِ لا يَكُونُ إِلَّا بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ بَلْ نَقَلَ الْقَاضِى عِيَاضٌ وَالنَّوَوِىُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ كَافِرٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ اللَّهِ بِالإِجْمَاعِ (وَ)أَمَّا مَنْ وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَقَدْ (قَالَ بَعْضُهُمْ) أَىْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ (مَنْ نَشَأَ) عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ (بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ) فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ (يَكْفِيهِ الْمَعْرِفَةُ وَالِاعْتِقَادُ لِصِحَّةِ إِسْلامِهِ وَإِيمَانِهِ) وَ(لَوْ لَمْ يَنْطِقْ) بِالشَّهَادَتَيْنِ (بِالْمَرَّةِ).

     (ثُمَّ مَنْ صَحَّ لَهُ أَصْلُ الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ وَلَوْ لَمْ يَقُمْ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْعَمَلِيَّةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَلَمْ يَجْتَنِبِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ فَقَدْ نَجَا مِنَ الْخُلُودِ الأَبَدِىِّ فِى النَّارِ ثُمَّ) هَؤُلاءِ (قِسْمٌ مِنْهُمْ يُسَامِحُهُمُ اللَّهُ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِلا عَذَابٍ وَقِسْمٌ مِنْهُمْ يُعَذِّبُهُمْ) فِى النَّارِ مُدَّةً (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ) مِنْهَا (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُسَامِحُهُ وَمَنْ لا يُسَامِحُهُ. وَأَمَّا مَنْ مَاتَ بَعْدَ أَنْ تَابَ فَأَدَّى) بَعْدَ التَّوْبَةِ (جَمِيعَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَاجْتَنَبَ) جَمِيعَ (الْمُحَرَّمَاتِ فَهُوَ كَأَنَّهُ لَمْ يُذْنِبْ لِقَوْلِهِ ﷺ التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ) وَهُوَ (حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) فِى سُنَنِهِ (عَنْ) عَبْدِ اللَّهِ (بنِ مَسْعُودٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا أَذْنَبَ ثُمَّ تَابَ ثُمَّ أَذْنَبَ ثُمَّ تَابَ وَلَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ (وَفِى صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ أَنَّ رَجُلًا) مُشْرِكًا (قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُسْلِمُ أَوْ أُقَاتِلُ قَالَ أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ فَأَسْلَمَ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا، أَىْ لِأَنَّهُ نَالَ الشَّهَادَةَ بَعْدَ أَنْ هَدَمَ الإِسْلامُ كُلَّ ذَنْبٍ قَدَّمَهُ فَالْفَضْلُ لِلإِسْلامِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسْلِمْ لَمْ يَنْفَعْهُ أَىُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ. وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ الْتَحَقَ بِالْمُجَاهِدِينَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ هُمْ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا) لِلْجِهَادِ فَخَرَجَ مَعَهُمْ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْلِمَ ثُمَّ أَلْهَمَهُ اللَّهُ أَنْ يَسْأَلَ الرَّسُولَ) هَذَا السُّؤَالَ (فَسَأَلَ فَأَرْشَدَهُ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى أَنْ يُسْلِمَ ثُمَّ يُقَاتِلَ) فَفَعَلَ فَمَاتَ شَهِيدًا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ.

(خَاتِمَةُ الْخَاتِمَةِ)

   (لِيُفَكِّرِ الْعَاقِلُ فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ فَإِنَّ مَنْ فكَّرَ فِى ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ فِى الْجِدِّ أَوِ الْهَزْلِ أَوْ فِى حَالِ الرِّضَى أَوِ الْغَضَبِ يُسَجِّلُهُ الْمَلَكَانِ) ثُمَّ يُمْحَى مَا سَجَّلَهُ الْمَلَكَانِ إِلَّا الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فَإِنَّهَا تَبْقَى (فَهَلْ يَسُرُّ الْعَاقِلَ أَنْ يَرَى فِى كِتَابِهِ) الَّذِى يَتَنَاوَلُهُ مِنْ أَيْدِى الْمَلائِكَةِ (حِينَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ فِى الْقِيَامَةِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَبِيثَةَ) مِنْ كُفْرٍ أَوْ مَعَاصٍ (بَلْ يَسُوؤُهُ ذَلِكَ وَيُحْزِنُهُ حِينَ لا يَنْفَعُ النَّدَمُ) فَإِنَّ مَنِ اسْتَعْمَلَ لِسَانَهُ فِيمَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَشْكُرْ رَبَّهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ (فَلْيَعْتَنِ) الإِنْسَانُ (بِحِفْظِ لِسَانِهِ مِنَ الْكَلامِ بِمَا يَسُوؤُهُ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ فِى الآخِرَةِ) فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِىُّ عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَإِنَّا مُؤَاخَذُونَ بِمَا نَنْطِقُ بِهِ فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ وَ(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَصْلَتَانِ مَا إِنْ تَجَمَّلَ الْخَلائِقُ بِمِثْلِهِمَا حُسْنُ الْخُلُقِ وَطُولُ الصَّمْتِ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدٍ أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِى الدُّنْيَا الْقُرَشِىُّ فِى كِتَابِ الصَّمْتِ) فَيَنْبَغِى لِلإِنْسَانِ أَنْ يَتَحَلَّى بِهَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ وَهِىَ حُسْنُ الْخُلُقِ وَطُولُ الصَّمْتِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ مَعْنَاهُ الإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ وَكَفُّ الأَذَى عَنِ النَّاسِ وَتَحَمُّلُ أَذَى الْغَيْرِ وَأَمَّا طُولُ الصَّمْتِ فَمَعْنَاهُ تَقْلِيلُ الْكَلامِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ كَذِكْرٍ أَوْ قِرَاءَةِ قُرْءَانٍ أَوْ تَعْلِيمِ النَّاسِ عِلْمَ الدِّينِ فَطُولُ الصَّمْتِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ مَطْلُوبٌ لِأَنَّهُ يُعِينُ الشَّخْصَ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ وَيُنْجِى صَاحِبَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَهَالِكِ فَأَكْثَرُ الْكُفْرِ يَكُونُ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْكَلامِ لِذَلِكَ الرَّسُولُ ﷺ أَمَرَنَا بِطُولِ الصَّمْتِ فَقَدْ قَالَ لِأَبِى ذَرٍّ الْغِفَارِىِّ عَلَيْكَ بِطُولِ الصَّمْتِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّهُ مَطْرَدَةٌ لِلشَّيْطَانِ عَنْكَ وَعَوْنٌ لَكَ عَلَى أَمْرِ دِينِكَ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.