(الآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ وَالْمُتَشَابِهَاتُ)
(لِفَهْمِ هَذَا الْمَوْضُوعِ كَمَا يَنْبَغِى يَجِبُ مَعْرِفَةُ أَنَّ الْقُرْءَانَ تُوجَدُ فِيهِ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ وَءَايَاتٌ مُتَشَابِهَاتٌ قَالَ تَعَالَى ﴿هُوَ الَّذِىَ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾) أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْءَانَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ يَتَّضِحُ مَعْنَاهَا بِمُجَرَّدِ قِرَاءَتِهَا هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ أَىِ الأَصْلُ وَالْمَرْجِعُ فِى الْقُرْءَانِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ يُرْجَعُ لِفَهْمِهَا عَلَى وَجْهِهَا إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ (﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾) وَضَلالٌ وَهُمُ الْمُبْتَدِعَةُ فِى الِاعْتِقَادِ كَالْمُشَبِّهَةِ وَغَيْرِهِمْ (﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾) أَىْ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْقُرْءَانِ (﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾) أَىِ ابْتِغَاءَ إِيقَاعِ الْمُؤْمِنِ فِى اعْتِقَادِهِمُ الْبَاطِلِ (﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾) أَىْ تَأْوِيلًا بَاطِلًا (﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ﴾) أَىْ وَقْتَ حُصُولِهِ (﴿إِلَّا اللَّهُ﴾) أَىْ أَنَّ الْقُرْءَانَ فِيهِ ءَايَاتٌ مُتَشَابِهَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِأُمُورٍ لَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ عَلَى وَقْتِ حُصُولِهَا كَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ عَلَى التَّحْدِيدِ (﴿وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ﴾) أَىْ بِالْقُرْءَانِ كُلِّهِ الْمُحْكَمِ مِنْهُ وَالْمُتَشَابِهِ (﴿كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾) أَىْ كُلٌّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَحْىٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا (﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الأَلْبَابِ﴾). وَيُقَالُ (الآيَاتُ الْمُحْكَمَةُ هِىَ مَا لا يَحْتَمِلُ مِنَ التَّأْوِيلِ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ إِلَّا وَجْهًا) أَىْ مَعْنًى (وَاحِدًا أَوْ مَا عُرِفَ الْمُرَادُ بِهِ بِوُضُوحٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَقَوْلِهِ ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ وَقَوْلِهِ ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾) أَىْ مِثْلًا أَىْ لَيْسَ لِلَّهِ مَثِيلٌ وَلا شَبِيهٌ (وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا لَمْ تَتَّضِحْ دِلالَتُهُ) أَىْ لَمْ يُعْرَفِ الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنْهُ بِوُضُوحٍ (أَوْ) كَانَ (يَحْتَمِلُ) بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ (أَوْجُهًا) أَىْ مَعَانِىَ (عَدِيدَةً وَاحْتَاجَ إِلَى النَّظَرِ) أَىْ نَظَرِ أَهْلِ الْفَهْمِ الَّذِينَ لَهُمْ دِرَايَةٌ بِالنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَعَانِيهَا لِمَعْرِفَةِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ (لِحَمْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ) لِلْمُحْكَمِ (كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾) أَىْ مَعَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ اسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ كَالْجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْمُحَاذَاةِ أَىْ كَوْنِ الشَّىْءٍ فِى مُقَابِلِ شَىْءٍ.
(وَ)كَذَلِكَ (قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ أَىْ أَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ كَلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَصْعَدُ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَتِهِ) أَىِ الْمَكَانِ الْمُشَرَّفِ عِنْدَ اللَّهِ (وَهُوَ السَّمَاءُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أَىِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ) أَىْ أَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ هِىَ الأَصْلُ وَالأَسَاسُ لِرَفْعِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَىْ لِقَبُولِهَا (وَهَذَا) التَّفْسِيرُ (مُنْطَبِقٌ وَمُنْسَجِمٌ مَعَ الآيَةِ الْمُحْكَمَةِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ فَتَفْسِيرُ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ يَجِبُ أَنَّ يُرَدَّ إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ) أَىْ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لَهَا وَ(هَذَا فِى الْمُتَشَابِهِ الَّذِى يَجُوزُ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْلَمُوهُ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ (وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ الَّذِى أُرِيدَ بِقَوْلِهِ) تَعَالَى (﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ عَلَى قِرَاءَةِ الْوَقْفِ عَلَى لَفْظِ الْجَلالَةِ فَهُوَ مَا كَانَ مِثْلَ وَجْبَةِ الْقِيَامَةِ) أَىِ وَقْتِ وُقُوعِهَا (وَخُرُوحِ الدَّجَّالِ عَلَى التَّحْدِيدِ فَلَيْسَ) هَذَا (مِنْ قَبِيلِ) تَأْوِيلِ (ءَايَةِ الاِسْتِوَاءِ) ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فَإِنَّ هَذَا يَعْلَمُهُ بَعْضُ عِبَادِ اللَّهِ وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالْقَهْرِ لَكِنْ لا يُقْطَعُ بِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ الْقَهْرُ إِنَّمَا يُظَنُّ ظَنًّا رَاجِحًا (وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ ﷺ اعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ وَءَامِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ) أَىْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَوَهَّمُوا أَنَّ مَعَانِيَهُ مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ وَهَذَا الْحَدِيثُ (ضَعِيفٌ ضَعْفًا خَفِيفًا) رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْعُلَمَاءِ عَنِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفٍ أَىْ ءَامِنُوا بِهَا وَلا تُفَسِّرُوهَا تَفْسِيرًا فَاسِدًا بِنِسْبَةِ الْكَيْفِيَّةِ أَىْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
(وَقَدْ بَيَّنَ) الإِمَامُ (أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّنَاعَةَ الَّتِى تَلْزَمُ نُفَاةَ التَّأْوِيلِ) الَّذِينَ يَأْخُذُونَ بِظَوَاهِرِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ فَيَجْعَلُونَ الْقُرْءَانَ مُتَنَاقِضًا (وَأَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِىُّ هُوَ الَّذِى وَصَفَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الطَّبْسِىُّ) شَيْخُ الْحَافِظِ ابنِ عَسَاكِرَ (بِإِمَامِ الأَئِمَّةِ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِى كِتَابِهِ تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِى) فِيمَا نُسِبَ إِلَى الإِمَامِ أَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِى وَ(قَالَ الْمُحَدِّثُ اللُّغَوِىُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِىُّ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ فِى شَرْحِهِ الْمُسَمَّى إِتْحَافَ السَّادَةِ الْمُتَّقِينَ نَقْلًا عَنْ كِتَابِ التَّذْكِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ لِأَبِى نَصْرٍ الْقُشَيْرِىِّ مَا نَصُّهُ وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ) أَىِ الْقِيَامَةِ (فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا النَّبِىَّ ﷺ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا وَمَتَى وُقُوعُهَا) وَهَذَا لا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾ أَىْ يَسْأَلُكَ يَا مُحَمَّدُ كُفَّارُ مَكَّةَ مَتَى وُقُوعُ السَّاعَةِ وَزَمَانُهَا اسْتِهْزَاءً ﴿قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى﴾ (فَالْمُتَشَابِهُ) هُنَا (إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ) وَهُوَ مَا غَابَ عَنَّا (فَلَيْسَ يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ) أَىْ مُنْتَهَاهَا (إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلِهَذَا قَالَ) تَعَالَى (﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ﴾ أَىْ هَلْ يَنْظُرُونَ) أَىْ يَنْتَظِرُونَ (إِلَّا قِيَامَ السَّاعَةِ) وَمَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ. (وَكَيْفَ يَسُوغُ لِقَائِلٍ) أَىْ لا يَلِيقُ وَلا يَجُوزُ لِقَائِلٍ (أَنْ يَقُولَ) إِنَّهُ يُوجَدُ (فِى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى) أَىِ الْقُرْءَانِ (مَا لا سَبِيلَ لِمَخْلُوقٍ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَلا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقَدْحِ) أَىِ الطَّعْنِ (فِى النُّبُوَّاتِ وَ)يَتَضَمَّنُ هَذَا الْقَوْلُ (أَنَّ النَّبِىَّ) ﷺ (مَا عَرَفَ تَأْوِيلَ) أَىْ مَعْنَى (مَا وَرَدَ فِى صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَعَا الْخَلْقَ إِلَى عِلْمِ مَا لا يُعْلَمُ. أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ﴾) أَىْ ظَاهِرِ الْفَصَاحَةِ وَوَاضِحِ الْمَعْنَى (فَإِذًا عَلَى زَعْمِهِم يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا كَذَبَ حَيْثُ قَالَ ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ﴾ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ وَإِلَّا فَأَيْنَ هَذَا الْبَيَانُ) أَىْ لَوْ كَانَ فِى الْقُرْءَانِ مَا لا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى مَعْرِفَتِهِ لَقَالَ الْعَرَبُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ جَاءَهُمُ النَّبِىُّ ﷺ لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِيمَانِ بِالْقُرْءَانِ قَوْلُهُ ﴿مُّبِينٌ﴾ كَذِبٌ إِذْ كَيْفَ يَكُونُ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ ظَاهِرٍ ثُمَّ لا نَعْرِفُ مَعْنَاهُ (وَ)لَقَالُوا (إِذَا كَانَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَكَيْفَ يَدَّعِى) مُحَمَّدٌ (أَنَّهُ مِمَّا لا تَعْلَمُهُ الْعَرَبُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الشَّىْءُ عَرَبِيًّا فَمَا قَوْلٌ فِى مَقَالٍ مَآلُهُ إِلَى تَكْذِيبِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ) مَعْنَاهُ هَذَا يُؤَدِّى إِلَى تَكْذِيبِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. قَالَ الْقُشَيْرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ (ثُمَّ كَانَ النَّبِىُّ ﷺ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ كَانَ فِى كَلامِهِ وَفِيمَا يُلْقِيهِ إِلَى أُمَّتِهِ شَىْءٌ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) أَىْ مَعْنَاهُ (إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَكَانَ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُولُوا بَيِّنْ لَنَا أَوَّلًا مَنْ تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَمَا الَّذِى تَقُولُ فَإِنَّ الإِيمَانَ بِمَا لا يُعْلَمُ أَصْلُهُ غَيْرُ مُتَأَتٍّ) أَىْ غَيْرُ مُمْكِنٍ (وَنِسْبَةُ النَّبِىِّ ﷺ إِلَى أَنَّهُ دَعَا إِلَى رَبٍّ مَوْصُوفٍ بِصِفَاتٍ لا تُعْقَلُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لا يَتَخَيَّلُهُ مُسْلِمٌ) أَىْ لا يُعْقَلُ أَنْ يَدْعُوَ الرَّسُولُ إِلَى الإِيمَانِ بِرَبٍّ لا تُعْلَمُ صِفَاتُهُ (فَإِنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ يُؤَدِّى إِلَى الْجَهْلِ بِالْمَوْصُوفِ، وَالْغَرَضُ أَنْ يَسْتَبِينَ مَنْ مَعَهُ مُسْكَةٌ مِنَ الْعَقْلِ) أَىْ شَىْءٌ مِنْهُ (أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ اسْتِوَاؤُهُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ) أَىْ لا يُعْلَمُ (مَعْنَاهَا وَالْيَدُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا وَالْقَدَمُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا تَمْوِيهٌ) وَخِدَاعٌ (ضِمْنَهُ تَكْيِيفٌ وَتَشْبِيهٌ) لِلَّهِ بِخَلْقِهِ (وَدُعَاءٌ إِلَى الْجَهْلِ) بِمَعَانِى هَذِهِ الأَلْفَاظِ فَالْمُشَبِّهَةُ يَخْدَعُونَ النَّاسَ بِإِيرَادِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ حَتَّى يَتْرُكُوا التَّأْوِيلَ وَيَقَعُوا فِى التَّشْبِيهِ (وَقَدْ وَضَحَ الْحَقُّ لِذِى عَيْنَيْنِ) أَىْ لِذِى بَصِيرَةٍ (وَلَيْتَ شِعْرِى) أَىْ لا أَدْرِى (هَذَا الَّذِى يُنْكِرُ التَّأْوِيلَ يَطْرُدُ هَذَا الإِنْكَارَ) أَىْ يُعَمِّمُهُ (فِى كُلِّ شَىْءٍ وَفِى كُلِّ ءَايَةٍ أَمْ يَقْنَعُ بِتَرْكِ التَّأْوِيلِ فِى صِفَاتِ اللَّه تَعَالَى) أَىْ يَمْنَعُ التَّأْوِيلَ فِى صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ (فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَصْلًا) أَىْ فِى الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا (فَقَدْ أَبْطَلَ الشَّرِيعَةَ وَالْعُلُومَ إِذْ مَا مِنْ ءَايَةٍ وَخَبَرٍ إِلَّا وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَتَصَرُّفٍ فِى الْكَلامِ) إِلَّا الْمُحْكَمَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ (لِأَنَّ ثَمَّ أَشْيَاءَ لا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهَا) وَلا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى الظَّاهِرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الرِّيحِ ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ (لا خِلافَ بَيْنَ الْعُقَلاءِ فِيهِ إِلَّا الْمُلْحِدَةَ الَّذِينَ قَصْدُهُمُ التَّعْطِيلُ لِلشَّرَائِعِ، وَالِاعْتِقَادُ لِهَذَا يُؤَدِّى إِلَى إِبْطَالِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالشَّرْعِ) أَىِ اعْتِقَادُ عَدَمِ جَوَازِ التَّأْوِيلِ مُطْلَقًا يُبْطِلُ ادِّعَاءهُ بِالتَّمَسُّكِ بِالشَّرْعِ (وَإِنْ قَالَ يَجُوزُ التَّأْوِيلُ) أَىْ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهِ (عَلَى الْجُمْلَةِ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ فَلا تَأْوِيلَ فِيهِ فَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ) أَىْ كَلامُهُ يُؤَدِّى (إِلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّانِعِ) أَىِ الْخَالِقِ (وَصِفَاتِهِ يَجِبُ التَّقَاصِى) أَىِ الِابْتِعَادُ (عَنْهُ وَهَذَا لا يَرْضَى بِهِ مُسْلِمٌ) فَإِنَّ الْعِلْمَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ هُوَ أَجَلُّ الْعُلُومِ وَقَدْ خَصَّ النَّبِىُّ ﷺ نَفْسَهُ بِالتَّرَقِّى فِى هَذَا الْعِلْمِ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. (وَسِرُّ الأَمْرِ) أَىْ حَقِيقَتُهُ (أَنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنِ التَّأْوِيلِ) أَىْ تَأْوِيلِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ (مُعْتَقِدُونَ حَقِيقَةَ التَّشْبِيهِ غَيْرَ أَنَّهُمْ يُدَلِّسُونَ) أَىْ يُمَوِّهُونَ عَلَى النَّاسِ (وَيَقُولُونَ) بِأَلْسِنَتِهِمْ (لَهُ يَدٌ لا كَالأَيْدِى وَقَدَمٌ لا كَالأَقْدَامِ وَ)يَقُولُونَ بِاللَّفْظِ اسْتِوَاءُ اللَّهِ (اسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لا كَمَا نَعْقِلُ فِيمَا بَيْنَنَا) وَفِى الِاعْتِقَادِ يَعْتَقِدُونَ الْجِسْمَ الَّذِى تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ (فَلْيَقُلِ الْمُحَقِّقُ) مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ إِذَا سَمِعَ كَلامَهُمْ (هَذَا كَلامٌ) فِيهِ إِشْكَالٌ وَ(لا بُدَّ مِنِ اسْتِبْيَانٍ قَوْلُكُمْ نُجْرِى الأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ وَلا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ تَنَاقُضٌ) فَإِنَّكَ (إِنْ أَجْرَيْتَ) الأَمْرَ (عَلَى الظَّاهِرِ) أَىْ أَخَذْتَ بِظَاهِرِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ (فَظَاهِرُ السَّاقِ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ هُوَ الْعُضْوُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَالْمُخِّ) الَّذِى يَحْوِيهِ الْعَظْمُ فَتَكُونُ بِذَلِكَ أَثْبَتَّ لِلَّهِ هَذَا الْعُضْوَ الَّذِى نَعْرِفُهُ مِنْ أَنْفُسِنَا (فَإِنْ أَخَذْتَ بِهَذَا الظَّاهِرِ وَالْتَزَمْتَ بِالإِقْرَارِ بِهَذِهِ الأَعْضَاءِ) أَىْ إِنْ قُلْتَ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِى أَعْنِيهِ وَأَنَا أَعْتَقِدُ فِى اللَّهِ الْجَوَارِحَ وَالأَعْضَاءَ (فَهُوَ الْكُفْرُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْكَ الأَخْذُ بِهَا) أَىْ إِنْ كُنْتَ لا تَعْتَقِدُ فِى اللَّهِ الْجَوَارِحَ وَالأَعْضَاءَ (فَأَيْنَ الأَخْذُ بِالظَّاهِرِ أَلَسْتَ قَدْ تَرَكْتَ الظَّاهِرَ وَعَلِمْتَ تَقَدُّسَ) أَىْ تَنَزُّهَ (الرَّبِّ تَعَالَى عَمَّا يُوهِمُ الظَّاهِرُ فَكَيْفَ يَكُونُ) تَرْكُ الظَّاهِرِ (أَخْذًا بِالظَّاهِرِ) هَذَا تَنَاقُضٌ. (وَإِنْ قَالَ الْخَصْمُ) لِلتَّهَرُّبِ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ (هَذِهِ الظَّوَاهِرُ لا مَعْنَى لَهَا أَصْلًا) أَىْ إِنْ قَالَ أَرَدْتُ بِقَوْلِى نَأْخُذُ بِالظَّاهِرِ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ لَيْسَ لَهَا مَعْنًى فِى اللُّغَةِ (فَهُوَ حُكْمٌ) مُنْهُ (بِأَنَّهَا مُلْغَاةٌ وَ)بِأَنَّهُ (مَا كَانَ فِى إِبْلاغِهَا إِلَيْنَا فَائِدَةٌ وَهِىَ هَدَرٌ) أَىْ لا قِيمَةَ وَلا اعْتِبَارَ لَهَا (وَهَذَا مُحَالٌ) لِأَنَّ الْقُرْءَانَ مُنَزَّهٌ عَنِ اللَّغْوِ (وَفِى لُغَةِ الْعَرَبِ مَا شِئْتَ مِنَ التَّجَوُّزِ) أَىِ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ (وَالتَّوَسُّعِ فِى الْخِطَابِ وَكَانُوا) أَىِ الْعَرَبُ الْقُدَمَاءُ الَّذِينَ يُحْتَجُّ بِكَلامِهِمْ فِى اللُّغَةِ (يَعْرِفُونَ مَوَارِدَ الْكَلامِ وَيَفْهَمُونَ الْمَقَاصِدَ) أَىْ يَعْرِفُونَ فِى أَىِّ مَعْنًى وَرَدَ وَأَىَّ مَعْنًى قُصِدَ (فَمَنْ تَجَافَى) أَىِ ابْتَعَدَ (عَنِ التَّأْوِيلِ) حَيْثُ يَنْبَغِى (فَذَلِكَ لِقِلَّةِ فَهْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ) فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ تَأْوِيلَ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ وَأَخَذَ بِظَاهِرِهَا هَلَكَ وَخَرَجَ عَنْ عَقِيدَةِ الْمُسْلِمِينَ (وَمَنْ أَحَاطَ بِطُرُقٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ) أَىْ مَنْ وَسِعَتْ مَعْرِفَتُهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ الأَصْلِيَّةِ (هَانَ عَلَيْهِ مَدْرَكُ الْحَقَائِقِ) أَىْ إِدْرَاكُهَا. (وَقَدْ قِيلَ) أَىْ قُرِئَ قَوْلُهُ تَعَالَى (﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْم﴾) بِالْوَقْفِ عَلَى لَفْظِ الْعِلْمِ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرِىُّ فِى تَفْسِيرِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ (فَكَأَنَّهُ قَالَ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ) أَىِ الْمُتَمَكِّنُونَ فِيهِ (أَيْضًا يَعْلَمُونَهُ) أَىْ يَعْلَمُونَ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ الَّذِى يَجُوزُ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَعْلَمُوهُ (وَيَقُولُونَ ﴿ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾) أَىْ كُلٌّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ بِوَحْىٍ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا (فَإِنَّ الإِيمَانَ بِالشَّىْءِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْعِلْمِ) بِهِ (أَمَّا مَا لا يُعْلَمُ) بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (فَالإِيمَانُ بِهِ غَيْرُ مُتَأَتٍّ) أَىْ غَيْرُ مُمْكِنٍ (وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِى الْعِلْمِ) رَوَاهُ الطَّبَرِىُّ (انْتَهَى كَلامُ الْحَافِظِ الزَّبِيدِىِّ مِمَّا نَقَلَهُ عَنِ) الإِمَامِ (أَبِى نَصْرٍ الْقُشَيْرِىِّ رَحِمَهُ اللَّهُ).
(فَهُنَا مَسْلَكَانِ) فِى تَأْوِيلِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ (كُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ الأَوَّلُ مَسْلَكُ السَّلَفِ وَهُمْ أَهْلُ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى) قَرْنِ الصَّحَابَةِ وَقَرْنِ التَّابِعِينَ وَقَرْنِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ (أَىْ أَكْثَرُهُمْ فَإِنَّهُمْ يُؤَوِّلُونَهَا تَأْوِيلًا إِجْمَالِيًّا) أَىْ (بِالإِيمَانِ بِهَا وَاعْتِقَادِ أَنَّهَا لَيْسَتْ) شَيْئًا (مِنْ صِفَاتِ الْجِسْمِ بَلْ أَنَّ لَهَا مَعْنًى يَلِيقُ بِجَلالِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ بِلا تَعْيِينٍ) لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ (بَلْ رَدُّوا تِلْكَ الآيَاتِ) مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ (إِلَى الآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾) وَهَذَا هُوَ مَسْلَكُ أَكْثَرِ السَّلَفِ (وَهُوَ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ ءَامَنْتُ بِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَبِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى مُرَادِ رَسُولِ اللَّهِ، يَعْنِى رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ لا عَلَى مَا قَدْ تَذْهَبُ إِلَيْهِ الأَوْهَامُ وَالظُّنُونُ مِنَ الْمَعَانِى الْحِسِّيَّةِ الْجِسْمِيَّةِ الَّتِى لا تَجُوزُ فِى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى) أَىْ مَعَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ كُلِّ صِفَاتِ الأَجْسَامِ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ (ثُمَّ نَفْىُ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِىِّ عَنِ السَّلَفِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ) النَّاسِ (مَرْدُودٌ بِمَا فِى صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ فِى كِتَابِ تَفْسِيرِ الْقُرْءَانِ وَعِبَارَتُهُ هُنَاكَ سُورَةُ الْقَصَصِ ﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ إِلَّا مُلْكَهُ) وَمُلْكُ اللَّهِ أَىْ سُلْطَانُهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى هَذَا الْعَالَمِ وَسُلْطَانُهُ لا يَفْنَى (وَيُقَالُ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ) أَىِ الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ فَإِنَّهَا تَبْقَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ (فَمُلْكُ اللَّهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الأَزَلِيَّةِ لَيْسَ كَالْمُلْكِ) الْحَادِثِ (الَّذِى يُعْطِيهِ لِلْمَخْلُوقِينَ) فَمُلْكُ أَحْبَابِ اللَّهِ كَسُلَيْمَانَ وَذِى الْقَرْنَيْنِ وَمُلْكُ أَعْدَاءِ اللَّهِ كَنُمْرُودَ وَفِرْعَوْنَ يَفْنَى أَمَّا مُلْكُ اللَّهِ فَإِنَّهُ لا يَفْنَى. (وَفِيهِ) أَىْ فِى صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ (غَيْرُ هَذَا الْمَوْضِعِ) مِنَ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِىِّ (كَتَأْوِيلِ) الْبُخَارِىِّ (الضَّحِكَ الْوَارِدَ فِى الْحَدِيثِ) الَّذِى فِيهِ ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ (بِالرَّحْمَةِ) نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ الْخَطَّابِىُّ وَقَالَ وَقَدْ تَأَوَّلَ الْبُخَارِىُّ الضَّحِكَ فِى مَوْضِعٍ ءَاخَرَ عَلَى مَعْنَى الرَّحْمَةِ وَهُوَ قَرِيبٌ وَتَأْوِيلُهُ عَلَى مَعْنَى الرِّضَا أَقْرَبُ (وَصَحَّ أَيْضًا التَّأْوِيلُ التَّفْصِيلِىُّ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ) بنِ حَنْبَلٍ (وَهُوَ مِنَ السَّلَفِ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ إِنَّمَا جَاءَتْ قُدْرَتُهُ) أَىْ ءَاثَارُ قُدْرَتِهِ مِنَ الأُمُورِ الْعِظَامِ الَّتِى تَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَجَرِّ الْمَلائِكَةِ لِجُزْءٍ كَبِيرٍ مِنْ جَهَنَّمَ إِلَى الْمَوْقِفِ حَتَّى يَرَاهُ الْكُفَّارُ فَيَفْزَعُوا وَشَهَادَةِ الأَيْدِى وَالأَرْجُلِ بِمَا كَسَبَهُ الْكُفَّارُ مَعَ الْخَتْمِ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ. وَهَذَا الأَثَرُ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ (صَحَّحَ سَنَدَهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِىُّ الَّذِى قَالَ فِيهِ الْحَافِظُ صَلاحُ الدِّينِ) أَبُو سَعِيدٍ (الْعَلائِىُّ لَمْ يَأْتِ بَعْدَ الْبَيْهَقِىِّ وَالدَّارَقُطْنِىِّ مِثْلُهُمَا وَلا مَنْ يُقَارِبُهُمَا) أَىْ فِى عِلْمِ الْحَدِيثِ.
(أَمَّا قَوْلُ الْبَيْهَقِىِّ ذَلِكَ فَفِى كِتَابِ مَنَاقِبِ أَحْمَدَ وَأَمَّا قَوْلُ الْحَافِظِ أَبِى سَعِيدٍ الْعَلائِىِّ فِى الْبَيْهَقِىِّ وَالدَّارَقُطْنِىِّ فَذَلِكَ فِى كِتَابِهِ الْوَشْىُ الْمُعْلَمُ وَأَمَّا الْحَافِظُ أَبُو سَعِيدٍ فَهُوَ الَّذِى يَقُولُ فِيهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ شَيْخُ مَشَايِخِنَا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّامِنِ الْهِجْرِىِّ).
(وَهُنَاكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ذَكَرُوا فِى تَآلِيفِهِمْ أَنَّ) الإِمَامَ (أَحْمَدَ أَوَّلَ) تَأْوِيلًا تَفْصِيلِيًّا (مِنْهُمُ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ ابْنُ الْجَوْزِىِّ الَّذِى) تُوُفِّىَ فِى أَوَاخِرِ الْقَرْنِ السَّادِسِ وَ(هُوَ أَحَدُ أَسَاطِينِ) أَىْ أَعْمِدَةِ (الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِىِّ لِكَثْرَةِ اطِّلاعِهِ عَلَى نُصُوصِ الْمَذْهَبِ وَأَحْوَالِ أَحْمَدَ).
وَبَعْدَ أَنْ أَنْهَى الْمُصَنِّفُ الْكَلامَ عَلَى مَسْلَكِ السَّلَفِ قَالَ وَ(الثَّانِى مَسْلَكُ الْخَلَفِ) وَهُمْ مَنْ جَاءُوا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى (وَهُمْ يُؤَوِّلُونَهَا) أَىِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةَ (تَفْصِيلًا بِتَعْيِينِ مَعَانٍ لَهَا مِمَّا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَلا يَحْمِلُونَهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا أَيْضًا كَالسَّلَفِ وَلا بَأْسَ بِسُلُوكِهِ وَلا سِيَّمَا عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ تَزَلْزُلِ الْعَقِيدَةِ) عِنْدَ إِلْقَاءِ الشُّبَهِ عَلَى الْعَوَامِّ (حِفْظًا) لَهُمْ (مِنَ التَّشْبِيهِ) وَهَذَا التَّأْوِيلُ التَّفْصِيلِىُّ هُوَ (مِثْلُ) تَأْوِيلِ (قَوْلِهِ تَعَالَى فِى تَوْبِيخِ إِبْلِيسَ ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ﴾ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِالْيَدَيْنِ الْعِنَايَةُ وَالْحِفْظُ) أَىْ مَا مَنَعَكَ يَا إِبْلِيسُ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِعِنَايَتِى وَحِفْظِى أَىْ لِمَنْ أَكْرَمْتُهُ وَأَرَدْتُ لَهُ الْمَقَامَ الْعَالِىَ وَالْخَيْرَ الْعَظِيمَ وَهُوَ ءَادَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ.
(تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿مِنْ رُّوحِنَا﴾ وَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿مِنْ رُّوحِى﴾)
(لِيُعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى) هُوَ (خَالِقُ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ فَلَيْسَ رُوحًا وَلا جَسَدًا وَمَعَ ذَلِكَ أَضَافَ اللَّهُ تَعَالَى رُوحَ عِيسَى ﷺ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى الْمِلْكِ وَالتَّشْرِيفِ) أَىِ التَّعْظِيمِ (لا لِلْجُزْئِيَّةِ) أَىْ لا بِمَعْنَى أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ إِنَّمَا لِلدِّلالَةِ عَلَى شَرَفِ رُوحِ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ وَهَذَا (فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿مِنْ رُّوحِنَا﴾ وَكَذَلِكَ فِى حَقِّ ءَادَمَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿مِنْ رُّوحِى﴾ فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُّوحِنَا﴾ أَمَرْنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنْ يَنْفُخَ فِى مَرْيَمَ الرُّوحَ الَّتِى هِىَ مِلْكٌ لَنَا وَمُشَرَّفَةٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ الأَرْوَاحَ قِسْمَانِ أَرْوَاحٌ مُشَرَّفَةٌ) لَهَا مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ كَأَرْوَاحِ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ وَالْمَلائِكَةِ (وَأَرْوَاحٌ خَبِيثَةٌ) لا يُحِبُّهَا اللَّهُ وَهِىَ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ (وَ)أَمَّا (أَرْوَاحُ الأَنْبِيَاءِ) فَهِىَ (مِنَ الْقِسْمِ الأَوَّلِ فَإِضَافَةُ رُوحِ عِيسَى وَرُوحِ ءَادَمَ إِلَى نَفْسِهِ إِضَافَةُ مِلْكٍ وَتَشْرِيفٍ وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رُوحٌ فَالرُّوحُ مَخْلُوقَةٌ) وَهِىَ جِسْمٌ لَطِيفٌ لا يُجَسُّ بِالْيَدِ (تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِى الْكَعْبَةِ ﴿بَيْتِىَ﴾ فَهِىَ إِضَافَةُ مِلْكٍ لِلتَّشْرِيفِ) أَىْ لِلدِّلالَةِ عَلَى أَنَّهَا بَيْتٌ مُشَرَّفٌ أَىْ مُعَظَّمٌ عِنْدَ اللَّهِ (لا إِضَافَةُ صِفَةٍ أَوْ) إِضَافَةُ (مُلابَسَةٍ) كَالْحُلُولِ فِيهِ أَىْ لَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّهَ يَسْكُنُهَا (لِاسْتِحَالَةِ الْمُلامَسَةِ أَوِ الْمُمَاسَّةِ بَيْنَ اللَّهِ وَالْكَعْبَةِ) فَإِضَافَةُ الْبَيْتِ إِلَى اللَّهِ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ (وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿رَبُّ الْعَرْشِ﴾ لَيْسَ إِلَّا لِلدِّلالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْعَرْشِ الَّذِى هُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ) وَ(لَيْسَ لِأَنَّ الْعَرْشَ لَهُ مُلابَسَةٌ لِلَّهِ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ أَوْ بِمُحَاذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ) أَىْ (لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشِهِ بِاتِّصَالٍ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مُحَاذٍ لِلْعَرْشِ بِوُجُودِ فَرَاغٍ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَرْشِ إِنْ قُدِّرَ ذَلِكَ الْفَرَاغُ وَاسِعًا أَوْ قَصِيرًا) بَلْ (كُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ) لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ أَىْ لَيْسَ جِسْمًا (وَإِنَّمَا مَزِيَّةُ الْعَرْشِ أَنَّهُ كَعْبَةُ الْمَلائِكَةِ الْحَافِّينَ مِنْ حَوْلِهِ) شُرِّفَ بِطَوَافِ الْمَلائِكَةِ بِهِ (كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ شُرِّفَتْ بِطَوَافِ الْمُؤْمِنِينَ بِهَا. وَمِنْ خَوَاصِّ الْعَرْشِ أَنَّهُ لَمْ يُعْصَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ لِأَنَّ مَنْ حَوْلَهُ كُلَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) أَىْ مُعَظَّمُونَ عِنْدَ اللَّهِ (لا يَعْصُونَ اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَ)أَمَّا (مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ) تَعَالَى (بِالْمُلُوكِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الأَسِرَّةَ الْكِبَارَ لِيَجْلِسُوا عَلَيْهَا وَمَنِ اعْتَقَدَ هَذَا لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ) وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ لا يَكُونُ مُسْلِمًا (وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ الْمُمَاسَّةَ) بَيْنَ اللَّهِ وَالْعَرْشِ (لِاسْتِحَالَتِهَا فِى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى) لِأَنَّ الْمُمَاسَّةَ لا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ جِسْمَيْنِ.
(تَفْسِيرُ الآيَةِ ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ أَىْ قَهَرَ وَحَفِظَ وَأَبْقَى وَلا يَجُوزُ تَفْسِيرُهَا بِالْجُلُوسِ بَلْ (يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ بِغَيْرِ الِاسْتِقْرَارِ وَالْجُلُوسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ) مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ (وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَيَجِبُ تَرْكُ الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى مَحْمِلٍ مُسْتَقِيمٍ فِى الْعُقُولِ فَتُحْمَلُ لَفْظَةُ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْقَهْرِ) وَمَعْنَى قَهْرِ اللَّهِ لِلْعَرْشِ الَّذِى هُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّ الْعَرْشَ تَحْتَ تَصَرُّفِ اللَّهِ هُوَ أَوْجَدَهُ وَحَفِظَهُ وَأَبْقَاهُ حَفِظَهُ مِنَ الْهُوِىِّ وَالسُّقُوطِ وَلَوْلا حِفْظُ اللَّهِ لَهُ لَهَوَى وَتَحَطَّمَ. وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ فِى لُغَةِ الْعَرَبِ لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًى مِنْهَا مَا لا يَلِيقُ بِاللَّهِ كَالْجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَمِنْهَا مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ كَالْقَهْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ (فَفِى لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ اسْتَوَى فُلانٌ عَلَى الْمَمَالِكِ إِذَا احْتَوَى عَلَى مَقَالِيدِ الْمُلْكِ وَاسْتَعْلَى عَلَى الرِّقَابِ) أَىِ اسْتَوْلَى عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ (كَقَوْلِ الشَّاعِرِ) الأُمَوِىِّ فِى بِشْرِ بنِ مَرْوَانَ (قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ) أَىْ سَيْطَرَ عَلَى الْعِرَاقِ وَمَلَكَهَا مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ وَإِرَاقَةِ دِمَاءٍ فَإِنْ قِيلَ إِذَا كَانَ كُلُّ شَىْءٍ مَقْهُورًا لِلَّهِ فَمَا (فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْعَرْشِ بِالذِّكْرِ) فَيُقَالُ فَائِدَتُهُ (أَنَّهُ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَجْمًا فَيُعْلَمُ) مِنْ ذَلِكَ (شُمُولُ مَا دُونَهُ) بِالْقَهْرِ (مِنْ بَابِ الأَوْلَى قَالَ الإِمَامُ عَلِىٌّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ) أَىْ خَلَقَهُ حَتَّى يُظْهِرَ لِخَلْقِهِ أَنَّهُ تَامُّ الْقُدْرَةِ (وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ رَوَاهُ الإِمَامُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ اللُّغُوِىُّ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِىُّ فِى كِتَابِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ) فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ اسْتَوَى بِمَعْنَى قَهَرَ (أَوْ يُقَالَ اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَعْلَمُهُ هُوَ) مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَسَّرَ بِالْقَهْرِ أَوْ نَحْوِهِ (مَعَ تَنْزِيهِهِ عَنِ اسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ كَالْجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ) وَالْمُحَاذَاةِ أَىْ كَوْنِ الشَّىْءٍ فِى مُقَابِلِ شَىْءٍ.
(وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَذَرُ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُجِيزُونَ عَلَى اللَّهِ الْقُعُودَ عَلَى الْعَرْشِ وَالِاسْتِقْرَارَ عَلَيْهِ) وَهُمُ الْوَهَّابِيَّةُ (مُفَسِّرِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بِالْجُلُوسِ أَوِ الْمُحَاذَاةِ مِنْ فَوْقٍ وَمُدَّعِينَ أَنَّهُ لا يُعْقَلُ مَوْجُودٌ إِلَّا فِى مَكَانٍ وَحُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) أَىْ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُودِ التَّحَيُّزُ فِى الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ أَلَيْسَ اللَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْمَكَانِ وَالْجِهَاتِ وَكُلِّ مَا سِوَاهُ بِشَهَادَةِ حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ. فَالْمَكَانُ وَالْجِهَاتُ وَالْحَجْمُ غَيْرُ اللَّهِ فَإِذَا صَحَّ وُجُودُهُ تَعَالَى شَرْعًا وَعَقْلًا قَبْلَ الْمَكَانِ وَالْجِهَاتِ بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ فَكَيْفَ يَسْتَحِيلُ عَلَى زَعْمِ هَؤُلاءِ وُجُودُهُ تَعَالَى بِلا مَكَانٍ ولا جِهَةٍ بَعْدَ خَلْقِ الْمَكَانِ وَالْجِهَاتِ وَمُصِيبَةُ هَؤُلاءِ الْمُشَبِّهَةِ أَنَّهُمْ قَاسُوا الْخَالِقَ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَضَلُّوا فَإِنَّهُمْ أَخَذُوا بِظَاهِرِ الآيَةِ ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ مُفَسِّرِينَ لَهَا بِالْجُلُوسِ أَوِ الْمُحَاذَاةِ (وَمُدَّعِينَ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَ السَّلَفِ اسْتَوَى بِلا كَيْفٍ مُوَافِقٌ لِذَلِكَ وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ الْكَيْفَ الَّذِى نَفَاهُ السَّلَفُ هُوَ الْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالتَّحَيُّزُ فِى الْمَكَانِ وَالْمُحَاذَاةُ وَكُلُّ الْهَيْئَاتِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ وَانْتِقَالٍ) فَقَدْ نَقَلَ الْبَيْهَقِىُّ فِى كِتَابِ الْمُعْتَقَدِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الأَوْزَاعِىِّ وَمَالِكٍ وَسُفْيَانَ وَاللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ أَنَّهُمْ سُئِلُوا عَنِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ فَقَالُوا أَمِّرُوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفِيَّةٍ، أَىْ ءَامِنُوا بِهَا وَلا تُفَسِّرُوهَا تَفْسِيرًا فَاسِدًا بِنِسْبَةِ الْكَيْفِيَّةِ أَىْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ إِلَى اللَّهِ. قَالَ الْحَافِظُ الزَّبِيدِىُّ (وَالَّذِى يَدْحَضُ شُبَهَهُمْ) أَىْ يُبْطِلُهَا (أَنْ يُقَالَ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ) اللَّهُ (الْعَالَمَ أَوِ الْمَكَانَ هَلْ كَانَ مَوْجُودًا أَمْ لا فَمِنْ ضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنْ يَقُولُوا بَلَى فَيَلْزَمُهُ) أَىْ يَلْزَمُ الْمُشَبِّهَ (لَوْ صَحَّ قَوْلُهُ لا يُعْلَمُ مَوْجُودٌ إِلَّا فِى مَكَانٍ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَقُولَ الْمَكَانُ وَالْعَرْشُ وَالْعَالَمُ قَدِيمٌ) أَىْ أَزَلِىٌّ كَمَا أَنَّ اللَّهَ أَزَلِىٌّ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ وَهَذَا قَوْلٌ بِوُجُودِ شَرِيكٍ لِلَّهِ فِى الأَزَلِيَّةِ وَهُوَ كُفْرٌ (وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ) كُلُّ مَوْجُودٍ لابُدَّ أَنْ يَكُونَ فِى مَكَانٍ وَالْمَكَانُ حَادِثٌ فَإِذًا (الرَّبُّ تَعَالَى مُحْدَثٌ) أَىْ مَخْلُوقٌ وَهُوَ كُفْرٌ أَيْضًا (وَهَذَا) هُوَ (مَآلُ) كَلامِ (الْجَهَلَةِ الْحَشْوِيَّةِ) الَّذِينَ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ الْمَكَانَ فَيُقَالُ لَهُمْ (لَيْسَ الْقَدِيمُ بِالْمُحْدَثِ وَالْمُحْدَثُ بِالْقَدِيمِ) أَىْ لا يَكُونُ الأَزَلِىُّ مُحْدَثًا وَلا يَكُونُ الْمُحْدَثُ أَزَلِيًّا (وَقَالَ الْقُشَيْرِىُّ أَيْضًا فِى التَّذْكِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ) أَىْ إِذَا قَالَ الْمُشَبِّهَةُ لَنَا (أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فَيَجِبُ الأَخْذُ بِظَاهِرِهِ قُلْنَا) لَهُمُ (اللَّهُ) تَعَالَى (يَقُولُ أَيْضًا ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ وَيَقُولُ تَعَالَى ﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ فَيَنْبَغِى أَيْضًا) عَلَى مُقْتَضَى كَلامِكُمْ (أَنْ نَأْخُذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الآيَاتِ حَتَّى يَكُونَ) مُسْتَقِرًّا (عَلَى الْعَرْشِ وَعِنْدَنَا وَمَعَنَا) بِذَاتِهِ فِى الأَرْضِ (وَمُحِيطًا بِالْعَالَمِ مُحْدِقًا بِهِ بِالذَّاتِ) كَالدَّائِرَةِ الْمُحِيطَةِ بِمَا فِيهَا (فِى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَ)مَعْلُومٌ أَنَّ الشَّىْءَ (الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بِذَاتِهِ فِى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِكُلِّ مَكَانٍ) وَفِى وَقْتٍ وَاحِدٍ وَهَذَا الَّذِى قَالَهُ الْقُشَيْرِىُّ حُجَّةٌ مُفْحِمَةٌ قَاطِعَةٌ. (قَالَ الْقُشَيْرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ) فَإِنْ (قَالُوا قَوْلُهُ) تَعَالَى (﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ يَعْنِى بِالْعِلْمِ وَ)قَوْلُهُ (﴿بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾) أَىْ (إِحَاطَةُ الْعِلْمِ قُلْنَا وَقَوْلُهُ) تَعَالَى (﴿عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾) أَىْ (قَهَرَ وَحَفِظَ وَأَبْقَى) وَهَذَا (يَعْنِى أَنَّهُمْ قَدْ أَوَّلُوا هَذِهِ الآيَاتِ وَلَمْ يَحْمِلُوهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا فَكَيْفَ يَعِيبُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ تَأْوِيلَ) أَىْ تَفْسِيرَ (ءَايَةِ الِاسْتِوَاءِ بِالْقَهْرِ فَمَا هَذَا التَّحَكُّمُ) أَىْ مَا هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِى بِلا دَلِيلٍ.
(ثُمَّ قَالَ الْقُشَيْرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ أَشْعَرَ مَا قُلْنَا تَوَهُّمَ غَلَبَتِهِ) أَىْ لَوْ كَانَ تَفْسِيرُ الِاسْتِوَاءِ بِالْقَهْرِ يُشْعِرُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ مُغَالَبًا أَىْ كَانَ يَتَشَاجَرُ وَيَتَغَالَبُ مَعَ غَيْرِهِ (لَأَشْعَرَ قَوْلُهُ) تَعَالَى (﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ بِذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى يُقَالَ) عَلَى مُقْتَضَى كَلامِكُمْ (كَانَ مَقْهُورًا قَبْلَ خَلْقِ الْعِبَادِ، هَيْهَاتَ) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ (إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلْعِبَادِ وُجُودٌ قَبْلَ خَلْقِهِ إِيَّاهُمْ بَلْ لَوْ كَانَ الأَمْرُ عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ) هَؤُلاءِ (الْجَهَلَةُ مِنْ أَنَّهُ اسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِالتَّغَيُّرِ وَاعْوِجَاجٍ سَابِقٍ عَلَى وَقْتِ الِاسْتِوَاءِ فَإِنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ) وُجُودِ (الْعَرْشِ. وَمَنْ أَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْعَرْشُ بِالرَّبِّ اسْتَوَى) أَىْ تَمَّ وُجُودُهُ وَبَقِىَ بِإِيجَادِ اللَّهِ لَهُ وَإِبْقَائِهِ (أَمْثَلُ) أَىْ أَحْسَنُ (مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الرَّبُّ بِالْعَرْشِ اسْتَوَى) لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ الرَّبُّ بِالْعَرْشِ اسْتَوَى جَعَلَ إِحْدَاثَ اللَّهِ لِلْعَرْشِ مُغَيِّرًا لِصِفَتِهِ تَعَالَى وَهُوَ بَاطِلٌ (فَالرَّبُّ إِذًا مَوْصُوفٌ بِالْعُلُوِّ) أَىْ عُلُوِّ الْقَدْرِ (وَفَوْقِيَّةِ الرُّتْبَةِ وَالْعَظَمَةِ وَمُنَزَّهٌ عَنِ الْكَوْنِ فِى الْمَكَانِ) وَالْجِهَةِ (وَعَنِ الْمُحَاذَاةِ) أَىِ الْمُقَابَلَةِ.
(قَالَ الْقُشَيْرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ نَبَغَتْ نَابِغَةٌ) أَىْ ظَهَرَتْ طَائِفَةٌ (مِنَ الرَّعَاعِ) أَىِ السُّفَهَاءِ (لَوْلا اسْتِنْزَالُهُمْ لِلْعَوَامِّ) أَىِ اسْتِدَرَاجُهُمْ لَهُمْ لِإِيقَاعِهِمْ (بِمَا يَقْرُبُ مِنْ أَفْهَامِهِمْ وَيُتَصَوَّرُ فِى أَوْهَامِهِمْ) مِنَ التَّشْبِيهِ (لَأَجْلَلْتُ هَذَا الْكِتَابَ عَنْ تَلْطِيخِهِ بِذِكْرِهِمْ) أَىْ لَوْلا حَاجَةُ التَّحْذِيرِ مِنْهُمْ مَا كُنْتُ ذَكَرْتُهُمْ (يَقُولُونَ نَحْنُ نَأْخُذُ بِالظَّاهِرِ وَنُجْرِى الآيَاتِ الْمُوهِمَةَ تَشْبِيهًا) لِلَّهِ بِخَلْقِهِ (وَالأَخْبَارَ) الْمَرْوِيَّةَ عَنِ النَّبِىِّ ﷺ (الْمُوهِمَةَ حَدًّا) لِلَّهِ تَعَالَى (وَعُضْوًا عَلَى) هَذَا (الظَّاهِرِ وَلا يَجُوزُ أَنْ نُطَرِّقَ التَّأْوِيلَ إِلَى شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ) أَىْ لا يَجُوزُ أَنْ نُأَوِّلَ شَيْئًا مِنْهَا (وَيَتَمَسَّكُونَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾. وَهَؤُلاءِ وَالَّذِى أَرْوَاحُنَا بِيَدِهِ) أَىْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ (أَضَرُّ عَلَى الإِسْلامِ) وَأَهْلِهِ (مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ لِأَنَّ ضَلالاتِ الْكُفَّارِ) الْمُعْلِنِينَ (ظَاهِرَةٌ يَتَجَنَّبُهَا الْمُسْلِمُونَ وَ)أَمَّا (هَؤُلاءِ) الْمُبْتَدِعَةُ فِى الِاعْتِقَادِ فَإِنَّهُمْ (أَتَوُا الدِّينَ وَالْعَوَامَّ) مِنَ الْمُسْلِمِينَ (مِنْ طَرِيقٍ يَغْتَرُّ بِهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ) أَىِ الضُّعَفَاءُ فِى الْعَقِيدَةِ (فَأَوْحَوْا إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) أَىْ أَتْبَاعِهِمْ (بِهَذِهِ الْبِدَعِ وَأَحَلُّوا فِى قُلُوبِهِمْ وَصْفَ الْمَعْبُودِ سُبْحَانَهُ بِالأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ وَالرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ) أَىِ الْحِسِّىِّ (وَالِاتِّكَاءِ) أَىِ الِاسْتِنَادِ عَلَى شَىْءٍ (وَالِاسْتِلْقَاءِ) عَلَى الْقَفَى أَوْ جَنْبٍ (وَالِاسْتِوَاءِ بِالذَّاتِ) أَىْ كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِينَ (وَالتَّرَدُّدِ) أَىِ التَّنَقُّلِ (فِى الْجِهَاتِ فَمَنْ أَصْغَى إِلَى) قَوْلِهِمْ وَاتَّبَعَ (ظَاهِرَهُمْ يُبَادِرُ بِوَهْمِهِ إِلَى تَخَيُّلِ الْمَحْسُوسَاتِ) أَىِ الأَشْيَاءِ الَّتِى نَرَاهَا بِأَعْيُنِنَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فِى حَقِّ اللَّهِ (فَاعْتَقَدَ الْفَضَائِحَ فَسَالَ بِهِ السَّيْلُ) أَىْ هَلَكَ (وَهُوَ لا يَدْرِى). فَهَؤُلاءِ الْمُشَبِّهَةُ يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّ اللَّهَ مِثْلُ هَذِهِ الأَشْيَاءِ الْبَشَرِ وَالضَّوْءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(فَتَبَيَّنَ) بِذَلِكَ (أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ التَّأْوِيلَ) لِلآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ الْمُتَشَابِهَةِ أَىْ إِخْرَاجَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا (غَيْرُ جَائِزٍ) هُوَ (خَبْطٌ وَجَهْلٌ) أَىْ قَوْلٌ بِلا دَلِيلٍ (وَ)لا عِلْمٍ بَلْ (هُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِهِ ﷺ لِابْنِ عَبَّاسٍ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَوَّلُهُ عِنْدَ الْبُخَارِىِّ) وَرَوَى هَذَا اللَّفْظَ أَحْمَدُ فِى مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِىُّ فِى الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ فَلَوْ كَانَ التَّأْوِيلُ غَيْرَ جَائِزٍ لَمَا دَعَا النَّبِىُّ ﷺ لِابْنِ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ تَأْوِيلَ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ. (قَالَ الْحَافِظُ) عَبْدُ الرَّحْمٰنِ (بنُ الْجَوْزِىِّ) الْحَنْبَلِىُّ (فِى كِتَابِهِ الْمَجَالِسُ وَلا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دُعَاءَ الرَّسُولِ ﷺ هَذَا، وَشَدَّدَ النَّكِيرَ وَالتَّشْنِيعَ) أَىْ أَنْكَرَ إِنْكَارًا شَدِيدًا (عَلَى مَنْ يَمْنَعُ التَّأْوِيلَ وَوَسَّعَ الْقَوْلَ فِى ذَلِكَ فَلْيُطَالِعْهُ مَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ التَّأَكُّدِ).
(وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّنْ فَوْقِهِمْ﴾ فَوْقِيَّةُ الْقَهْرِ دُونَ) فَوْقِيَّةِ (الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ أَىْ لَيْسَ فَوْقِيَّةَ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ) لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ. وَفِى الآيَةِ مَجَازُ حَذْفٍ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّنْ فَوْقِهِمْ أَىْ يَخَافُونَ عِقَابَ رَبِّهِمْ وَعَذَابَهُ لِأَنَّ الْعَذَابَ الْمُهْلِكَ أَكْثَرُهُ يَأْتِى مِنَ السَّمَاءِ.
(وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾) جَاءَتْ قُدْرَتُهُ أَىْ ءَاثَارُ قُدْرَتِهِ أَىِ الأُمُورُ الْعِظَامُ الَّتِى تَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَجَرِّ الْمَلائِكَةِ لِجُزْءٍ كَبِيرٍ مِنْ جَهَنَّمَ إِلَى الْمَوْقِفِ حَتَّى يَرَاهُ الْكُفَّارُ فَيَفْزَعُوا وَشَهَادَةِ الأَيْدِى وَالأَرْجُلِ بِمَا كَسَبَهُ الْكُفَّارُ مَعَ الْخَتْمِ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَ(لَيْسَ) مَعْنَاهُ (مَجِىءَ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَالزَّوَالِ وَإِفْرَاغَ مَكَانٍ وَمَلْءِ ءَاخَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ) فَإِنَّهُ (يَكْفُرُ فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْحَرَكَةَ) وَهِىَ انْتِقَالُ الْحَجْمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ (وَالسُّكُونَ) وَهُوَ ثُبُوتُ الْحَجْمِ فِى مَكَانٍ (وَكُلَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ) أَىِ الْمَخْلُوقَاتِ (فَلا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَرَكَةِ وَلا بِالسُّكُونِ). (وَالْمَعْنِىُّ بِقَوْلِهِ) تَعَالَى (﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أَىْ أَثَرٌ مِنْ ءَاثَارِ قُدْرَتِهِ) لِأَنَّ صِفَةَ اللَّهِ لا تُفَارِقُ ذَاتَهُ (وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ إِنَّمَا جَاءَتْ قُدْرَتُهُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ فِى مَنَاقِبِ أَحْمَدَ) بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ (وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ). وأَمَّا مَجِىءُ الْمَلائِكَةِ فَهُوَ الْمَجِىءُ الْمَحْسُوسُ الَّذِى هُوَ حَرَكَةٌ وَانْتِقَالٌ، فَهَذِهِ الآيَةُ فِيهَا اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ.
(تَفْسِيرُ مَعِيَّةِ اللَّهِ الْمَذْكُورَةِ فِى الْقُرْءَانِ)
(وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ الإِحَاطَةُ بِالْعِلْمِ) لا بِالْجِهَةِ أَىْ عَالِمٌ بِكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ (وَتَأْتِى الْمَعِيَّةُ أَيْضًا بِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَالْكِلاءَةِ) أَىِ الْحِفْظِ وَهِىَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الأَتْقِيَاءِ (كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾) فَاللَّهُ تَعَالَى نَصَرَ الأَوْلِيَاءَ وَحَفِظَهُمْ مِنْ أَنْ يُغْرِقَهُمُ الشَّيْطَانُ فِى الْمَعَاصِى (وَلَيْسَ الْمَعْنِىُّ بِهَا) أَىْ بِالْمَعِيَّةِ (الْحُلُولَ وَالِاتِّصَالَ وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ) فِى حَقِّ اللَّهِ (لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ بِالْمَسَافَةِ فَلا يُقَالُ إِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْعَالَمِ وَلا مُنْفَصِلٌ عَنْهُ بِالْمَسَافَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ مِنْ صِفَاتِ الْحَجْمِ وَالْحَجْمُ هُوَ الَّذِى يَقْبَلُ الأَمْرَيْنِ) لِأَنَّهُ حَادِثٌ أَىْ مَخْلُوقٌ (وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلا لَيْسَ بِحَادِثٍ) وَ(نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾).
(وَلا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكِبَرِ حَجْمًا وَلا بِالصِّغَرِ وَلا بِالطُّولِ وَلا بِالْقِصَرِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَوَادِثِ) أَىْ غَيْرُ مُشَابِهٍ لَهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ﴾ فَمَعْنَاهُ كَبِيرُ الْقَدْرِ. (وَيَجِبُ طَرْدُ كُلِّ فِكْرَةٍ عَنِ الأَذْهَانِ تُفْضِى إِلَى تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَحْدِيدِهِ) أَىْ تُؤَدِّى إِلَى وَصْفِ اللَّهِ بِالْحَدِّ وَالْمِقْدَارِ لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ فِى شَرْحِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ مَنْ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى مُقَدَّرًا بِمِقْدَارٍ كَفَرَ وَقَالَ الإِمَامُ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَنَا مَحْدُودٌ فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِى كِتَابِهِ حِلْيَةُ الأَوْلِيَاءِ. وَالْمَحْدُودُ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّوْحِيدِ مَا لَهُ حَجْمٌ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا.
وَ(كَانَ الْيَهُودُ قَدْ نَسَبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى التَّعَبَ فَقَالُوا إِنَّهُ بَعْدَ) أَنْ (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ (اسْتَرَاحَ) يَوْمَ السَّبْتِ (فَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَقَوْلُهُمْ هَذَا كُفْرٌ) لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ جِسْمًا لَهُ أَعْضَاءٌ وَوَصَفُوهُ بِأَوْصَافِ الْخَلْقِ (وَ)كَذَلِكَ الْوَهَّابِيَّةُ جَعَلَتْهُ جِسْمًا لَهُ أَعْضَاءٌ فَهُمْ إِخْوَةُ الْيَهُودِ وَإِنْ ظَنُّوا بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ (اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ) أَىْ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ (وَعَنِ الِانْفِعَالِ كَالإِحْسَاسِ بِالتَّعَبِ وَالآلامِ وَاللَّذَّاتِ) لِأَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ (فَالَّذِى تَلْحَقُهُ هَذِهِ الأَحْوَالُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا) أَىْ (مَخْلُوقًا يَلْحَقُهُ التَّغَيُّرُ وَهَذَا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى) كَمَا (قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ﴾) أَىْ وَمَا أَصَابَنَا مِنْ تَعَبٍ (إِنَّمَا يَلْغَبُ) أَىْ يَتْعَبُ (مَنْ يَعْمَلُ بِالْجَوَارِحِ) أَىِ الأَعْضَاءِ (وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْجَارِحَةِ) فَهُوَ يَفْعَلُ بِلا جَارِحَةٍ وَلا حَرَكَةٍ وَلا ءَالَةٍ وَلا مُمَاسَّةٍ لِشَىْءٍ (قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فَاللَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ وَبَصِيرٌ بِلا كَيْفِيَّةٍ) أَىْ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ لَيْسَ كَسَمْعِ وَبَصَرِ غَيْرِهِ (فَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ هُمَا صِفَتَانِ) لِلَّهِ (أَزَلِيَّتَانِ بِلا جَارِحَةٍ أَىْ بِلا أُذُنٍ أَوْ حَدَقَةٍ وَبِلا شَرْطِ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ أَوْ جِهَةٍ وَبِدُونِ انْبِعَاثِ شُعَاعٍ مِنَ الْبَصَرِ أَوْ تَمَوُّجِ هَوَاءٍ. وَمَنْ قَالَ لِلَّهِ أُذُنٌ فَقَدْ كَفَرَ وَلَوْ قَالَ لَهُ أُذُنٌ لَيْسَتْ كَآذَانِنَا بِخِلافِ مَنْ قَالَ لَهُ عَيْنٌ لَيْسَتْ كَعُيُونِنَا وَيَدٌ لَيْسَتْ كَأَيْدِينَا) وَوَجْهٌ لَيْسَ كَوُجُوهِنَا (بَلْ بِمَعْنَى الصِّفَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِوُرُودِ إِطْلاقِ الْعَيْنِ وَالْيَدِ) وَالْوَجْهِ عَلَى اللَّهِ (فِى الْقُرْءَانِ) لَكِنْ مَعَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْجَوَارِحِ (وَلَمْ يَرِدْ إِطْلاقُ الأُذُنِ عَلَيْهِ) لا فِى الْكِتَابِ وَلا فِى السُّنَّةِ.
(تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾)
(قَالَ) اللَّهُ (تَعَالَى ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾) وَ(الْمَعْنَى) أَنَّ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ مِلْكٌ لِلَّهِ (فَأَيْنَمَا تُوَجِّهُوا وُجُوهَكُمْ فِى صَلاةِ النَّفْلِ فِى السَّفَرِ) عَلَى الرَّاحِلَةِ (فَثَمَّ قِبْلَةُ اللَّهِ أَىْ فَتِلْكَ الْوِجْهَةُ الَّتِى تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْهَا هِىَ قِبْلَةٌ لَكُمْ) فِى صَلاتِكُمْ وَأَنْتُمْ رَاكِبُونَ الدَّابَّةَ لَكِنْ لا بُدَّ مِنَ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ (وَلا يُرَادُ بِالْوَجْهِ) هُنَا (الْجَارِحَةُ) أَىِ الْجُزْءُ الْمُرَكَّبُ عَلَى الْبَدَنِ (وَحُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ الْجَارِحَةَ لِلَّهِ التَّكْفِيرُ) قَطْعًا أَىْ بِلا شَكٍّ. وَيَكْفِى فِى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْجَوَارِحِ أَىِ الأَعْضَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ (لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُ جَارِحَةٌ لَكَانَ مِثْلًا لَنَا) وَ(يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْنَا مِنَ الْفَنَاءِ) وَالتَّغَيُّرِ. (وَقَدْ يُرَادُ بِالْوَجْهِ) فِى هَذِهِ الآيَةِ (الْجِهَةُ الَّتِى يُرَادُ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا لِوَجْهِ اللَّهِ وَمَعْنَى ذَلِكَ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا) مِنَ الْخَيْرِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ وَ(امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى) كَمَا فِى حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ أَقْرَبُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ إِذَا كَانَتْ فِى قَعْرِ بَيْتِهَا. وَمَعْنَى وَجْهِ اللَّهِ هُنَا طَاعَةُ اللَّهِ. (وَيَحْرُمُ أَنْ يُقَالَ كَمَا شَاعَ بَيْنَ الْجُهَّالِ افْتَحِ النَّافِذَةَ لِنَرَى وَجْهَ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى ﴿لَنْ تَرَانِى﴾) أَىْ فِى الدُّنْيَا (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُ النَّاطِقِينَ بِهِ رُؤْيَةَ اللَّهِ فَهُوَ حَرَامٌ) لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ لِلَّهِ جِهَةً وَأَنَّهُ يُرَى بِالْعَيْنِ فِى الدُّنْيَا.
(تَفْسِيرُ) قَوْلِهِ تَعَالَى (﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾)
اعْلَمْ أَنَّ النُّورَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ بِمَعْنَى الْهَادِى (فَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَادِى أَهْلِ السَّمَوَاتِ) وَهُمُ الْمَلائِكَةُ (وَ)هَادِى أَهْلِ (الأَرْضِ) وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الإِنْسِ وَالْجِنِّ (لِنُورِ الإِيمَانِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ) فِى الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا) وَقَالَ قَتَادَةُ ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أَىْ مُنِيرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ذَكَرَهُ ابْنُ السِّمْعَانِىِّ فِى تَفْسِيرِهِ (فَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ نُورًا بِمَعْنَى الضَّوْءِ بَلْ هُوَ الَّذِى خَلَقَ النُّورَ قَالَ تَعَالَى ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أَىْ خَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نُورًا كَخَلْقِهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا) أَىْ تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ تَنَزُّهًا كَامِلًا. (وَحُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نُورٌ أَىْ ضَوْءٌ التَّكْفِيرُ قَطْعًا) أَىْ بِلا شَكٍّ.
(وَهَذِهِ الآيَةُ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أَصْرَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ) عَزَّ وَجَلَّ (لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا) يُجَسُّ بِالْيَدِ (كَالسَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَيْسَ حَجْمًا لَطِيفًا) لا يُجَسُّ بِالْيَدِ (كَالظُّلَمَاتِ وَالنُّورِ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ فِى الآيَةِ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَهُمَا جِسْمَانِ كَثِيفَانِ وَخَلَقَ النُّورَ وَالظَّلامَ وَهُمَا جِسْمَانِ لَطِيفَانِ وَخَالِقُ الشَّىْءِ لا يَكُونُ مِثْلَهُ (فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ حَجْمٌ كَثِيفٌ أَوْ لَطِيفٌ فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ وَالآيَةُ شَاهِدَةٌ عَلَى ذَلِكَ).
وَ(أَكْثَرُ الْمُشَبِّهَةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَجْمٌ) أَىْ جِسْمٌ (كَثِيفٌ) مُسْتَقِرٌّ فِى السَّمَاءِ أَوْ عَلَى الْعَرْشِ (وَبَعْضُهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ حَجْمٌ لَطِيفٌ) كَالْهَوَاءِ مُنْتَشِرُ فِى كُلِّ الأَمْكِنَةِ أَوْ أَنَّهُ ضَوْءٌ (حَيْثُ) إِنَّهُمْ (قَالُوا إِنَّهُ نُورٌ يَتَلأْلَأُ فَهَذِهِ الآيَةُ وَحْدَهَا تَكْفِى لِلرَّدِّ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ) أَىِ الْفَرِيقِ الْقَائِلِ بِأَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ كَثِيفٌ وَالْفَرِيقِ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ جِسْمٌ لَطِيفٌ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.
(وَهُنَاكَ الْعَدِيدُ مِنَ الْعَقَائِدِ الْكُفْرِيَّةِ كَاعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذُو لَوْنٍ أَوْ ذُو شَكْلٍ فَلْيَحْذَرِ الإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ عَلَى أَىِّ حَالٍ) أَىْ لِيَعْمَلِ الإِنْسَانُ عَلَى تَجَنُّبِ الْكُفْرِ غَايَةَ مُسْتَطَاعِهِ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ.
