(حُكْمُ مَنْ يَدَّعِى الإِسْلامَ لَفْظًا وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِلإِسْلامِ مَعْنًى) Sirat 9

(حُكْمُ مَنْ يَدَّعِى الإِسْلامَ لَفْظًا وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِلإِسْلامِ مَعْنًى)

     أَىْ هَذَا بَيَانُ حُكْمِ مَنْ يَدَّعِى الإِسْلامَ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلإِسْلامِ فِى الْحَقِيقَةِ بِاعْتِقَادِ أَوْ قَوْلِ أَوْ فِعْلِ مَا يُنَافِيهِ.

     (هُنَاكَ طَوَائِفُ عَدِيدَةٌ) أَىْ فِرَقٌ مُتَعَدِّدَةٌ (كَذَّبَتِ الإِسْلامَ مَعْنًى) أَىْ حَقِيقَةً (وَلَوِ انْتَمَوْا لِلإِسْلامِ) أَىْ وَلَوْ كَانُوا يَنْتَسِبُونَ إِلَى الإِسْلامِ (بِقَوْلِهِمُ الشَّهَادَتَيْنِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَصَلَّوْا وَصَامُوا) أَىْ صُورَةً (لِأَنَّهُمْ نَاقَضُوا الشَّهَادَتَيْنِ بِاعْتِقَادِ مَا يُنَافِيهِمَا فَإِنَّهُمْ) يَتَلَفَّظُونَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَهُمْ مُكَذِّبُونَ لِمَعْنَاهُمَا فَهَؤُلاءِ (خَرَجُوا مِنَ التَّوْحِيدِ) أَىِ الإِسْلامِ إِمَّا (بِعِبَادَتِهِمْ لِغَيْرِ اللَّهِ) أَوْ بِتَكْذِيبِهِمْ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ (فَهُمْ كُفَّارٌ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ كَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أُلُوهِيَّةَ عَلِىِّ بنِ أَبِى طَالِبٍ) وَهُوَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (أَوْ) أُنَاسٍ يَعْبُدُونَ (الْخَضِرَ) وَهُوَ نَبِىٌّ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ (أَوْ) أُنَاسٍ يَعْتَقِدُونَ الأُلُوهِيَّةَ لِلسُّلْطَانِ العُبَيْدِىِّ الْمَعْرُوفِ بِلَقَبِ (الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ) الَّذِى ادَّعَى الأُلُوهِيَّةَ وَدَعَا النَّاسَ لِعِبَادَتِهِ (وَغَيْرِهِمْ) كَالْحُلُولِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ يَحُلُّ فِى غَيْرِهِ وَأَهْلِ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَالَمُ وَإِنَّ أَفْرَادَ الْعَالَمِ أَجْزَاءٌ مِنْهُ تَعَالَى وَالْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ (أَوْ) مَنْ يَأْتِى (بِمَا فِى حُكْمِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ) أَىْ يَأْتِى بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يُخْرِجُهُ مِنَ الإِسْلامِ.

     (وَحُكْمُ مَنْ يَجْحَدُ) أَىْ يُنْكِرُ مَعْنَى (الشَّهَادَتَيْنِ) أَوْ إِحْدَاهُمَا (التَّكْفِيرُ قَطْعًا) أَىْ قَوْلًا وَاحِدًا بِلا خِلافٍ (وَمَأْوَاهُ) فِى الآخِرَةِ (جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا لا يَنْقَطِعُ فِى الآخِرَةِ عَنْهُ الْعَذَابُ) وَلا يُخَفَّفُ (إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ وَمَا هُوَ بِخَارِجٍ مِنَ النَّارِ) كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ وَعَلَى هَذَا أَهْلُ الإِسْلامِ قَاطِبَةً وَخَالَفَ فِى ذَلِكَ جَهْمُ بنُ صَفْوَانَ وَابْنُ تَيْمِيَةَ. وَكَفَّرَ ابْنُ تَيْمِيَةَ جَهْمًا لِقَوْلِهِ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ شَارَكَهُ فِى نِصْفِ عَقِيدَتِهِ فَقَالَ إِنَّ النَّارَ تَفْنَى لا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِى رِسَالَةٍ لَهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّة فِى كِتَابِهِ حَادِى الأَرْوَاحِ إِلَى بِلادِ الأَفْرَاحِ.

     (وَمَنْ أَدَّى أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ) أَىْ أَدَّى أَعْظَمَ فَرْضٍ فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ (بِتَوْحِيدِهِ تَعَالَى أَىْ تَرْكِ الإِشْرَاكِ بِهِ شَيْئًا وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ ﷺ) أَىْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاجْتَنَبَ الْكُفْرَ فَإِنَّهُ (لا يَخْلُدُ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خُلُودًا أَبَدِيًّا وَإِنْ دَخَلَهَا بِمَعَاصِيهِ وَمَآلُهُ) أَىْ مَصِيرُهُ (فِى النِّهَايَةِ عَلَى أَىِّ حَالٍ كَانَ) هُوَ (الْخُرُوجُ مِنَ النَّارِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَالَ الْعِقَابَ الَّذِى يَسْتَحِقُّ إِنْ لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِى قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ) أَىْ أَنَّ الْمُسْلِمَ مَهْمَا كَانَ إِيمَانُهُ ضَعِيفًا طَالَمَا أَنَّ الإِيمَانَ فِى قَلْبِهِ فَلا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ إِنْ دَخَلَهَا بِمَعَاصِيهِ، وَالْحَدِيثُ (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ).

     (وَأَمَّا الَّذِى قَامَ بِتَوْحِيدِهِ تَعَالَى) أَىْ ءَامَنَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَزَّهَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ وَءَامَنَ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ (وَاجْتَنَبَ مَعَاصِيَهُ وَقَامَ بِأَوَامِرِهِ) أَىْ أَدَّى الْفَرَائِضَ وَاجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ (فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلا عَذَابٍ حَيْثُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ) أَىِ (الْخَالِدُ) لا يَلْقَى فِيهَا جُوعًا وَلا عَطَشًا وَلا نَكَدًا (بِدِلالَةِ الْحَدِيثِ الْقُدْسِىِّ الَّذِى رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِىَ الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هَيَّأَ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ نَعِيمًا فِى الْجَنَّةِ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ وَلا سَمِعَ بِهِ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ إِنْسَانٍ (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ (اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾) أَىْ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِى تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ أَىْ تَفْرَحُ بِهِ مِمَّا لَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلائِكَتَهُ وَلا أَنْبِيَاءَهُ (﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾) وَالْحَدِيثُ (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ).

(بَيَانُ أَقْسَامِ الْكُفْرِ)

     (وَاعْلَمْ يَا أَخِى الْمُسْلِمَ أَنَّ هُنَاكَ اعْتِقَادَاتٍ وَأَفْعَالًا وَأَقْوَالًا تَنْقُضُ الشَّهَادَتَيْنِ) أَىْ تُخَالِفُ مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ (وَتُوقِعُ فِى الْكُفْرِ لِأَنَّ الْكُفْرَ ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ كُفْرٌ اعْتِقَادِىٌّ) كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ أَىْ لَمْ يَشُكُّوا (وَكُفْرٌ فِعْلِىٌّ) كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ﴾ (وَكُفْرٌ لَفْظِىٌّ) كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ﴾ وَكُلٌّ مِنَ الأَنْوَاعِ الثَّلاثَةِ مُخْرِجٌ مِنَ الإِسْلامِ بِمُفْرَدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ نَوْعٌ ءَاخَرُ (وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ) الْعُلَمَاءِ مِنَ (الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ كَالنَّوَوِىِّ وَابْنِ الْمُقْرِئِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْبُهُوتِىِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّيْخِ مُحَمَّدِ عِلَّيْشٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَلْيَنْظُرْهَا مَنْ شَاءَ وَكَذَلِكَ غَيْرُ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَاضِينَ) قَاطِبَةً (كَالأَوْزَاعِىِّ فَإِنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا لَهُ مَذْهَبٌ كَانَ يُعْمَلُ بِهِ ثُمَّ انْقَرَضَ أَتْبَاعُهُ).

     وَ(الْكُفْرُ الِاعْتِقَادِىُّ مَكَانُهُ الْقَلْبُ كَنَفْىِ) أَىْ إِنْكَارِ (صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاجِبَةِ لَهُ إِجْمَاعًا كَوُجُودِهِ وَكَوْنِهِ قَادِرًا وَكَوْنِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا) فَمَنْ نَفَى وُجُودَ اللَّهِ بِقَلْبِهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِىِّ مَنْ نَفَى قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ، أَىْ بِلا خِلافٍ فَلا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِى الْجَهْلِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَنَحْوِهَا مِنْ صِفَاتِهِ الْوَاجِبَةِ لَهُ إِجْمَاعًا مَهْمَا بَلَغَ الْجَهْلُ بِصَاحِبِهِ. وَمِنَ الْكُفْرِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ كَثِيفٌ يُجَسُّ بِالْيَدِ كَالإِنْسَانِ أَوْ جِسْمٌ لَطِيفٌ لا يُجَسُّ بِالْيَدِ كَالْهَوَاءِ (أَوِ اعْتِقَادُ أَنَّهُ) تَعَالَى (نُورٌ بِمَعْنَى الضَّوْءِ) لِأَنَّ الضَّوْءَ مَخْلُوقٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أَمَّا إِذَا قَالَ قَائِلٌ اللَّهُ نُورٌ بِمَعْنَى الْهَادِى فَلا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ بِهَذَا الِاسْمِ قَالَ تَعَالَى ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وَوَرَدَ هَذَا الِاسْمُ فِى تَعْدَادِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى عِنْدَ الْبَيْهَقِىِّ وَغَيْرِهِ. وَمِنَ الْكُفْرِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ قَاعِدٌ فَوْقَ الْعَرْشِ (أَوْ أَنَّهُ رُوحٌ) أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُّوحِنَا﴾ فَمَعْنَاهُ أَمَرْنَا جِبْرِيلَ أَنْ يَنْفُخَ فِى مَرْيَمَ الرُّوحَ الَّتِى هِىَ مِلْكٌ لَنَا وَمُشَرَّفَةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ رُوحٌ لِأَنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ لَطِيفٌ تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ (قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِىِّ النَّابُلُسِىُّ) فِى كِتَابِهِ الْفَتْحِ الرَّبَانِىِّ (مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ مَلَأَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) أَىْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ مَلَأَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ (أَوْ أَنَّهُ جِسْمٌ قَاعِدٌ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ).

     وَ(الْكُفْرُ الْفِعْلِىُّ) يَحْصُلُ بِالْجَوَارِحِ أَىِ الأَعْضَاءِ (كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ) أَوْ أَوْرَاقِهِ (فِى الْقَاذُورَاتِ) فَإِنَّ رَمْيَهُ فِى الْقَاذُورَاتِ عَمْدًا كُفْرٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ (قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ) فِى رَدِّ الْمُحْتَارِ (وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ الِاسْتِخْفَافَ لِأَنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ). وَمِنَ الْكُفْرِ رَمْىُ كُتُبِ الْحَدِيثِ فِى الْقَاذُورَاتِ (أَوْ أَوْرَاقِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ أَىِّ وَرَقَةٍ عَلَيْهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الِاسْمِ فِيهَا) أَمَّا رَمْىُ الِاسْمِ الَّذِى يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ وَيُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ كَالرَّحِيمِ إِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ اللَّهُ فَلا يَكُونُ كُفْرًا. (وَمَنْ عَلَّقَ شِعَارَ الْكُفْرِ عَلَى نَفْسِهِ) وَهُوَ مَا اتَّخَذَهُ الْكُفَّارُ عَلامَةً دِينِيَّةً خَاصَّةً بِهِمْ كَالصَّلِيبِ (فَإِنْ كَانَ بِنِيَّةِ التَّبَرُّكِ) أَىْ عَلَّقَهُ لِاعْتِقَادِ وُجُودِ الْبَرَكَةِ فِيهِ (أَوْ) بِنِيَّةِ (التَّعْظِيمِ) أَىْ عَلَّقَهُ تَعْظِيمًا لَهُ (أَوْ) بِنِيَّةِ (الِاسْتِحْلالِ) أَىْ جَوَّزَ تَعْلِيقَهُ (مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَانَ) كَافِرًا (مُرْتَدًّا) أَمَّا إِنْ عَلَّقَهُ لا بِنِيَّةِ إِحْدَى هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ فَلا يَكْفُرُ لَكِنَّهُ أَثِمَ إِثْمًا كَبِيرًا.

     وَ(الْكُفْرُ الْقَوْلِىُّ) يَحْصُلُ بِاللِّسَانِ (كَمَنْ يَشْتِمُ اللَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنَ الْكُفْرِ أُخْتَ رَبِّكَ أَوِ ابْنَ اللَّهِ) وَ(يَقَعُ الْكُفْرُ هُنَا وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ لِلَّهِ أُخْتًا أَوِ ابْنًا) وَكَذَلِكَ لَوْ زَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ ابْنَ اللَّهِ الْمَحْبُوبَ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا لا يُنْجِيهِ مِنَ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾ وَقَدْ ثَبَتَ فِى الْحَدِيثِ الْقُدْسِىِّ أَنَّ نِسْبَةَ الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ شَتْمٌ لِلَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى شَتَمَنِى ابْنُ ءَادَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَفَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّاىَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ.

     (وَلَوْ نَادَى مُسْلِمٌ مُسْلِمًا ءَاخَرَ بِقَوْلِهِ يَا كَافِرُ بِلا تَأْوِيلٍ) أَىْ أَرَادَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ هَذَا الْمُسْلِمُ مِنَ الدِّينِ كُفْرٌ (كَفَرَ الْقَائِلُ لِأَنَّهُ سَمَّى الإِسْلامَ كُفْرًا) وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ، فَقَوْلُهُ ﷺ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا أَىْ كَانَ الْوِزْرُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَقَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ أَىْ إِنْ كَانَ كَافِرًا حَقِيقَةً خَارِجًا مِنَ الإِسْلامِ فَالْوِزْرُ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ كَفَّرَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ أَىْ وَإِلَّا كَانَ الْوِزْرُ عَلَى مَنْ كَفَّرَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ فِى ذَنْبٍ كَبِيرٍ لِأَنَّهُ كَفَّرَهُ مُتَأَوِّلًا أَىِ اعْتَمَدَ عَلَى سَبَبٍ فِى ذَلِكَ الشَّخْصِ ظَنَّهُ مُخْرِجًا مِنَ الإِسْلامِ وَهُوَ فِى الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مُخْرِجًا مِنَ الإِسْلامِ كَأَنْ كَفَّرَهُ لِقَتْلِهِ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ ظَنَّ لِجَهْلِهِ أَنَّ مُجَرَّدَ انْتِحَارِهِ كُفْرٌ فَكَفَّرَهُ وَإِمَّا أَنْ يَكْفُرَ بِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الإِسْلامَ الَّذِى عَلَيْهِ هَذَا الشَّخْصُ الْمُسْلِمُ كُفْرًا (وَ)كَذَلِكَ (يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ لِلْمُسْلِمِ يَا يَهُودِىُّ أَوْ أَمْثَالَهَا مِنَ الْعِبَارَاتِ بِنِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ إِلَّا إِذَا قَصَدَ أَنَّهُ يُشْبِهُ الْيَهُودَ) لِكَوْنِهِ مَثَلًا يُعَامِلُ النَّاسَ بِالرِّبَا (فَلا يَكْفُرُ) لَكِنْ عَلَيْهِ ذَنْبٌ كَبِيرٌ.

     (وَلَوْ قَالَ شَخْصٌ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنَ اللَّهِ) كَفَرَ الْقَائِلُ لِأَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِاللَّهِ فَاللَّهُ تَعَالَى تَجِبُ مَحَبَّتُهُ أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ (أَوْ) قَالَ لَهَا (أَعْبُدُكِ كَفَرَ) لِأَنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ أَنْ يُعْبَدَ أَىْ أَنْ يُتَذَلَّلَ لَهُ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ إِلَّا اللَّهُ أَمَّا (إِنْ كَانَ) الْقَائِلُ لا (يَفْهَمُ مِنْهَا الْعِبَادَةَ الَّتِى هِىَ خَاصَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى) بَلْ يَظُنُّ مِنْ شِدَّةِ جَهْلِهِ أَنَّ مَعْنَاهَا أُحِبُّكِ مَحَبَّةً شَدِيدَةً فَلا يَكْفُرُ.

     (وَ)كَذَلِكَ (لَوْ قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ اللَّهُ يَظْلِمُكَ كَمَا ظَلَمْتَنِى كَفَرَ الْقَائِلُ لِأَنَّهُ نَسَبَ الظُّلْمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى) وَالظُّلْمُ هُوَ مُخَالَفَةُ أَمْرِ وَنَهْىِ مَنْ لَهُ الأَمْرُ وَالنَّهْىُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ءَامِرٌ وَلا نَاهٍ فَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِى مِلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ لِأَنَّهُ خَالِقُ الأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَمَالِكُهَا الْحَقِيقِىُّ فَلا يَجُوزُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ فَمَنْ قَالَ اللَّهُ يَظْلِمُكَ كَمَا ظَلَمْتَنِى كَفَرَ (إِلَّا إِذَا كَانَ يَفْهَمُ) أَىْ يَعْتَقِدُ (أَنَّ مَعْنَى يَظْلِمُكَ) فِى هَذَا السِّيَاقِ (يَنْتَقِمُ مِنْكَ فَلا نُكَفِّرُهُ بَلْ نَنْهَاهُ) وُجُوبًا. أَمَّا إِذَا قَالَ لَهُ اللَّهُ يَظْلِمُكَ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ.

     (وَلَوْ قَالَ شَخْصٌ لِشَخْصٍ ءَاخَرَ) بِالْعَامِيَّةِ (وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ يِلْعَنْ رَبَّكَ) بِمَعْنَى أَلْعَنُ رَبَّكَ (كَفَرَ) الْقَائِلُ بِلا شَكٍّ (وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ لِلْمُسْلِمِ يِلْعَنْ دِينَكَ) بِمَعْنَى أَلْعَنُ دِينَكَ يَقْصِدُ بِذَلِكَ دِينَ الإِسْلامِ (قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِنْ قَصَدَ) لَعْنَ (سِيرَتِهِ) أَىْ عَادَاتِهِ وَأَخْلاقِهِ الْخَبِيثَةِ (فَلا يَكْفُرُ) لِأَنَّ لَفْظَ الدِّينِ يَأْتِى بِمَعْنَى السِّيرَةِ (قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ يَكْفُرُ إِنْ أَطْلَقَ أَىْ إِنْ لَمْ يَقْصِدْ سِيرَتَهُ وَلا قَصَدَ دِينَ الإِسْلامِ) لِأَنَّ الإِطْلاقَ يُحْمَلُ عِنْدَ فَقْدِ الْقَرِينَةِ أَىِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرِ الأَكْثَرِ اسْتِعْمَالًا وَهُوَ الِاعْتِقَادُ.

     (وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ فُلانٌ زَاحَ رَبِّى لِأَنَّ هَذَا فِيهِ نِسْبَةُ الْحَرَكَةِ) وَالِانْتِقَالِ (وَالْمَكَانِ لِلَّهِ) وَكَذَا يَكْفُرُ مَنْ يَتَلَفَّظُ بِهَا وَيَفْهَمُ مِنْهَا نِسْبَةَ الِانْزِعَاجِ إِلَى اللَّهِ.

     (وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ) بِالْعَامِيَّةِ (وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ قَدْ اللَّه يَقْصِدُ الْمُمَاثَلَةَ) فِى الْحَجْمِ أَوِ الْمَنْزِلَةِ (وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ جَارِحَةً مِنَ الْجَوَارِحِ) أَىِ الأَعْضَاءِ كَالأُذُنِ وَالْفَمِ.

     (وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ أَنَا رَبُّ مَنْ عَمِلَ كَذَا) لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ رَبًّا لِلْعِبَادِ وَكَذَا لَوْ قَالَ فُلانٌ رَبُّ النَّجَّارِينَ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ لا مَعْنَى لَهُ إِلَّا أَنَّهُ خَالِقُهُمْ بِخِلافِ مَا لَوْ قَالَ أَنَا رَبُّ النِّجَارَةِ بِمَعْنَى أَنِّى خَبِيرٌ بِهَا فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ بَلْ هُوَ جَائِزٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ يَمْلِكُ شَيْئًا كَدَابَّةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فُلانٌ رَبُّ هَذِهِ الدَّابَّةِ بِمَعْنَى مَالِكِهَا كَمَا جَاءَ فِى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِى أَخْرَجَهُ ابْنُ شَاهِينَ فِى دَلائِلِ النُّبُوَّةِ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ هَذَا لِى فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَلا تَتَّقِى اللَّهَ فِى هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِى مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إِلَىَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ، أَىْ تُتْعِبُهُ. وَكَذَلِكَ الْعَبِيدُ الْمَمْلُوكُونَ وَالإِمَاءُ الْمَمْلُوكَاتُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فُلانٌ رَبُّ هَؤُلاءِ الْعَبِيدِ وَرَبُّ هَؤُلاءِ الإِمَاءِ بِمَعْنَى مَالِكِهِمْ أَمَّا قَوْلُ فُلانٌ رَبُّ الْعَائِلَةِ أَوْ رَبُّ الأُسْرَةِ فَهُوَ قَبِيحٌ لا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لا يَمْلِكُهُمْ لَكِنْ مَنْ قَالَ فُلانٌ رَبُّ الْعَائِلَةِ أَوْ رَبُّ الأُسْرَةِ وَيَظُنُّ أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى مَنْ يَكْفِى عِيَالَهُ حَاجَاتِهِمْ فَلا نُكَفِّرُهُ بَلْ نَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ. وَهَذَا التَّعْبِيرُ غَلَطٌ فِى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ الأُسْرَةَ هُمْ أَقَارِبُ الرَّجُلِ الذُّكُورُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ لا غَيْرُ وَالتَّعْبِيرُ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ فُلانٌ صَاحِبُ الْعِيَالِ أَوْ مُعِيلُ الْعِيَالِ. أَمَّا الرَّبُّ بِالأَلِفِ وَاللَّامِ فَهُوَ مِنَ الأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاللَّهِ قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ فِى لِسَانِ الْعَرَبِ وَلا يُقَالُ الرَّبُّ فِى غَيْرِ اللَّهِ إِلَّا بِالإِضَافَةِ، أَىْ مَعَ قَيْدٍ كَقَوْلِ فُلانٌ رَبُّ الْبَيْتِ أَىْ مَالِكُ الْبَيْتِ.

     (وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ) بِالْعَامِيَّةِ (وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ) فُلانٌ (خَوَتْ رَبِّى) أَىْ جَنَّنَهُ (أَوْ قَالَ لِلْكَافِرِ اللَّهُ يُكْرِمُكَ بِقَصْدِ أَنْ يُحِبَّهُ اللَّهُ كَفَرَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾) أَىْ فَإِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (﴿فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾) أَىْ فَهُمْ كُفَّارٌ وَلا يُحِبُّ اللَّهُ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَوْ أَحَبَّهُمْ أَىْ لَوْ أَرَادَ لَهُمُ الْخَيْرَ فِى الآخِرَةِ لَرَزَقَهُمُ الإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ لِكَافِرٍ اللَّهُ يُكْرِمُكَ وَلا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ بَلْ أَرَادَ الدُّعَاءَ لَهُ بِالتَّوْسِعَةِ فِى الرِّزْقِ فَلا يَكْفُرُ بَلْ هُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ مَعْنَى أَكْرَمَهُ اللَّهُ فِى اللُّغَةِ وَسَّعَ عَلَيْهِ الرِّزْقَ.

     وَاعْلَمْ أَنَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْكَافِرِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَفَرَ لِتَكْذِيبِهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ وَقَوْلَهُ تَعَالَى ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ وَقَوْلَهُ ﷺ إِنَّ اللَّهَ لَيَغْفِرُ لِعَبْدِهِ مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ قَالُوا وَمَا وُقُوعُ الْحِجَابِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَمُوتَ النَّفْسُ وَهِىَ مُشْرِكَةٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ. (وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ لِلْكَافِرِ) الْحَىِّ (اللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ إِنْ قَصَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُ) ذُنُوبَهُ (وَهُوَ) بَاقٍ (عَلَى كُفْرِهِ إِلَى الْمَوْتِ) فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾. أَمَّا مَنْ قَالَ لِكَافِرٍ حَىٍّ اللَّهُ يَغْفِرُ لَكَ وَقَصَدَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ بِدُخُولِهِ فِى الإِسْلامِ فَلا يَكْفُرُ. أَمَّا مَا وَرَدَ فِى الْقُرْءَانِ أَنَّ سَيِّدَنَا نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ لِقَوْمِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾ فَمَعْنَاهُ اطْلُبُوا مَغْفِرَةَ اللَّهِ بِالدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَمِّهِ أَبِى طَالِبٍ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، مَعْنَاهُ لَأَطْلُبَنَّ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ بِدُخُولِكَ فِى الإِسْلامِ إِلَّا إِذَا مِتَّ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ الرَّسُولَ مَنْهِىٌّ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ الإِسْلامِ. فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ لِكَافِرٍ حَىٍّ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ عَلَى مَعْنَى اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ فِى الإِسْلامِ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لَنَا فَيَجُوزُ مَعَ الْقَيْدِ أَىْ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ بِالإِسْلامِ. (وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ قَالَ لِمَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ اللَّهُ يَرْحَمُهُ) لِتَكْذِيبِهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ﴾ أَىْ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ وَسِعَتْ فِى الدُّنْيَا كُلَّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أَىْ أَخُصُّهَا فِى الآخِرَةِ لِلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ الشِّرْكَ وَسَائِرَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ.

      (وَيَكْفُرُ مَنْ يَسْتَعْمِلُ كَلِمَةَ الْخَلْقِ مُضَافَةً لِلنَّاسِ فِى الْمَوْضِعِ الَّذِى تَكُونُ فِيهِ بِمَعْنَى الإِبْرَازِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ كَأَنْ يَقُولَ لِشَخْصٍ اخْلُقْ لِى كَذَا كَمَا خَلَقَكَ اللَّهُ). وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَلْقَ فِى لُغَةِ الْعَرَبِ لَهُ خَمْسَةُ مَعَانٍ أَحَدُهَا الإِبْرَازُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَلا يُطْلَقُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا عَلَى اللَّهِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَحْسَنُ الْمُقَدِّرينَ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ لا يُخْطِئُ وَلا يَتَغَيَّرُ أَمَّا تَقْدِيرُ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ وَالتَّغَيُّرُ فَيُطْلَقُ الْخَلْقُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ. وَيَأْتِى الْخَلْقُ بِمَعْنَى التَّصْوِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِى حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ أَىْ أَنَّ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ يُصَوِّرُ مِنَ الطِّينِ صُورَةَ خُفَّاشٍ ثُمَّ يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهَا الرُّوحَ فَتَطِيرُ حَتَّى تَغِيبَ عَنْ أَنْظَارِ النَّاسِ ثُمَّ تَقَعُ مَيْتَةً وَهَذِهِ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَيُطْلَقُ الْخَلْقُ بِمَعْنَى افْتِرَاءِ الْكَذِبِ وَهَذَا لا يُضَافُ إِلَّا إِلَى الْعَبْدِ قَالَ تَعَالَى ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ أَىْ تَفْتَرُونَ الْكَذِبَ فَنَسَبَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ خَلْقَ الإِفْكِ أَىِ افْتِرَاءَهُ. وَيُطْلَقُ الْخَلْقُ بِمَعْنَى سَوَّى وَمَلَّسَ فَيُقَالُ فِى اللُّغَةِ خَلَقْتُ هَذَا الْخَشَبَ كُرْسِيًّا أَىْ سَوَّيْتُهُ أَمْلَسَ بِحَيْثُ يَصْلُحُ لِلْجُلُوسِ عَلَيْهِ.

     (وَيَكْفُرُ مَنْ يَشْتِمُ) مَلَكَ الْمَوْتِ (عَزْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ) بِأَنْ ذَمَّهُ وَحَقَّـرَهُ وَلَمْ يُعَظِّمْهُ التَّعْظِيمَ الْوَاجِبَ (كَمَا قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ) الْمَالِكِىُّ (فِى تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ أَوْ أَىَّ مَلَكٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ) كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾. وَكَذَا يَكْفُرُ مَنْ قَالَ لِشَخْصٍ أَكْرَهُكَ كَمَا أَكْرَهُ عَزْرَائِيلَ أَوْ قَالَ لَوْ شَهِدَ عِنْدِىَ الْمَلائِكَةُ بِكَذَا مَا قَبِلْتُهُمْ أَىْ مَا صَدَّقْتُهُمْ لِأَنَّهُ يَكُونُ استَخَفَّ بِهِمْ وَطَعَنَ فِى صِدْقِهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ أَوْ قَالَ أَنَا بَرِىءٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَىْ لا أُعَظِّمُ الْمْلَائِكَةَ الَّذِينَ كَرَّمَهُمُ اللَّهُ وَعَظَّمَهُمْ أَوِ اعْتَقَدَ أَنَّ بَعْضَ الْمَلائِكَةِ شَرِبَ الْخَمْرَ وَزَنَى وَقَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ نَسَبَ الْخِيَانَةَ إِلَى الْمَلَكِ جِبْرِيلَ عَلَيهِ السَّلامُ بِأَنْ قَالَ إِنَّ جِبرِيلَ أُمِرَ بِالنُّزُولِ بِالْوَحْىِ عَلَى عَلِىٍّ فَـنَـزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ تَاهَ الأَمِينُ.

     (وَكَذَلِكَ) يَكْفُرُ (مَنْ يَقُولُ أَنَا عَايِفْ اللَّه أَىْ كَرِهْتُ اللَّهَ وَ)كَذَا (يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ لا يَتَحَمَّلُ فُلانًا إِذَا فَهِمَ) مِنْهَا (الْعَجْزَ) أَىْ نِسْبَةَ الْعَجْزِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (أَوْ أَنَّ اللَّهَ يَنْزَعِجُ مِنْهُ أَمَّا إِذَا كَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ اللَّهَ) لا يُحِبُّهُ وَأَنَّهُ (يَكْرَهُهُ) لِفِسْقِهِ (فَلا يَكْفُرُ) لَكِنْ يَجِبُ نَهْيُهُ عَنْهَا.

     (وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ) بِالْعَامِيَّةِ (يِلْعَنْ سَمَاءَ رَبِّكَ لِأَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِاللَّهِ تَعَالَى) فَإِنَّ مَنْ يَتَلَفَّظُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ يُرِيدُ بِهَا لَعْنَ الْخَالِقِ وَكَذَا يَكْفُرُ إِنْ قَصَدَ سَبَّ السَّمَاءِ الَّتِى هِىَ مَسْكَنُ الْمَلائِكَةِ لِأَنَّ اللَّهَ عَظَّمَ شَأْنَها وَجَعَلَهَا قِبْلَةَ الدُّعَاءِ وَمَهْبِطَ الرَّحَمَاتِ وَالْبَرَكَاتِ.

     (وَكَذَلِكَ) يَكْفُرُ (مَنْ يُسَمِّى الْمَعَابِدَ الدِّينِيَّةَ لِلْكُفَّارِ بُيُوتَ اللَّهِ) لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ بُنِيَتْ لِلشِّرْكِ وَالْكُفْرِ فَلا تَكُونُ مُعَظَّمَةً عِنْدَ اللَّهِ (وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾ فَالْمُرَادُ بِهِ) أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحُكَّامَ يَدْفَعُونَ الأَذَى وَالضَّرَرَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فَصَارَ بِهِمُ الأَمَانُ وَلَوْلاهُمْ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ. وَالصَّوَامِعُ وَالْبِيَعُ وَالصَّلَوَاتُ هِىَ (مَعَابِدُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَمَّا كَانُوا عَلَى الإِسْلامِ لِأَنَّهَا كَمَسَاجِدِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ) ﷺ مِنْ (حَيْثُ إِنَّ الْكُلَّ بُنِىَ لِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ) أَىْ تَعْظِيمِهِ (لا لِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْمَسْجِدَ الأَقْصَى مَسْجِدًا وَهُوَ لَيْسَ مِنْ بِنَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ) بَلْ بَنَاهُ سَيِّدُنَا ءَادَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ (فَلْيَتَّقِ اللَّهَ امْرُؤٌ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُسَمِّىَ مَا بُنِىَ لِلشِّرْكِ بُيُوتَ اللَّهِ وَمَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ قَالَ مَا شَاءَ) ثُمَّ وَجَدَ عَاقِبَةَ قَوْلِهِ فِى الآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَتُبْ. وَلَفْظُ الْيَهُودِ مُشْتَقٌّ وَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ قَوْمِ مُوسَى ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ أَىْ تُبْنَا إِلَيْكَ يَا اللَّهُ. لَمَّا تَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى أَىْ رَجَعُوا إِلَى الإِسْلامِ قَالُوا ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾. وَقِيلَ سُمُّوا يَهُودًا لِتَهَوِّدِهِمْ أَىْ تَمَايُلِهِمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ ثُمَّ بَعْدَ أَنْ كَفَرُوا بِتَكْذِيبِهِمْ لِسَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ بَقِىَ هَذَا الِاسْمُ عَلَيْهِمْ. أَمَّا النَّصَارَى فَسُمُّوا بِذَلِكَ لِقَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿مَنْ أَنْصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ أَىْ أَنْصَارُ دِينِ اللَّهِ. وَالنَّصَارَى بَعْدَ أَنْ كَفَرُوا بِتَكْذِيبِهِمْ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ بَقِىَ هَذَا الِاسْمُ عَلَيْهِمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا مِنْ يَهُودِىٍّ أَوْ نَصْرَانِىٍّ يَسْمَعُ بِى ثُمَّ لا يُؤْمِنُ بِى وَبِمَا جِئْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْحَوَارِيُّونَ هُمْ أَتْبَاعُ سَيِّدِنَا عِيسَى وَتَلامِذَتُهُ وَكَانُوا أَعْوَانًا لَهُ يَنْشُرُونَ دَعْوَتَهُ وَشَرْعَهُ.

     (وَكَذَلِكَ مَنْ حَدَّثَ حَدِيثًا كَذِبًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ فَقَالَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا أَقُولُ بِقَصْدِ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ الأَمْرَ كَمَا قُلْتُ) كَفَرَ (لِأَنَّهُ نَسَبَ الْجَهْلَ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَيْسَ صَادِقًا. وَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ الْقَوْلُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى دِينِهِ اللَّهُ يُعِينُهُ بِقَصْدِ الدُّعَاءِ لِكُلٍّ) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ أَىْ لا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يُعِينَ الْكَافِرِينَ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا بِكُفْرِ الْغَيْرِ وَمَنْ رَضِىَ بِكُفْرِ غَيْرِهِ كَفَرَ وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الإِخْبَارَ أَنَّ اللَّهَ يُعِينُ الْمُؤْمِنَ عَلَى الإِيمَانِ وَفِعْلِ الصَّالِحَاتِ أَىْ يُمَكِّنُهُ مِنْهَا وَيُعِينُ الْكَافِرَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِى فَلا يَكْفُرُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِى يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ. فَالإِعَانَةُ مَعْنَاهَا التَّمْكِينُ وَالإِقْدَارُ وَلَيْسَ الرِّضَا كَمَا يَتَوَهَّمُ بَعْضُ النَّاسِ فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِى يُعِينُ الْمُؤْمِنَ عَلَى الإِيمَانِ وَالْكَافِرَ عَلَى الْكُفْرِ وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِى كِتَابِهِ الإِرْشَادِ وَالإِمَامُ مُحَمَّدُ الأَمِيرُ الْمَالِكِىُّ فِى حَاشِيَةِ الأَمِيرِ وَوَافَقَهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ عِلَّيش الْمَالِكِىُّ مُفْتِى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِى مُنَحِ الْجَلِيلِ شَرْحِ مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ وَالشَّيْخُ مُحَمَّدُ الْبَاقِرُ النَّقْشَبَنْدِىُّ.

     (وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ مُعَمِّمًا كَلامَهُ الْكَلْبُ أَحْسَنُ مِنْ بَنِى ءَادَمَ) لِأَنَّ كَلامَهُ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنُ لَهُ حُرْمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ فَلا يَكُونُ الْكَلْبُ أَحْسَنَ مِنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنَ الْكَعْبَةِ رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ وَابْنُ حِبَّانَ (أَوْ مَنْ يَقُولُ الْعَرَبُ جَرَبٌ) بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ الْعَرَبِ لا خَيْرَ فِيهِمْ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ لِأَنَّ كَلامَهُ يَشْمَلُ ذَمَّ جَمِيعِ الْعَرَبِ الأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَهُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَنْبِيَاءُ مِنَ الْعَرَبِ (أَمَّا إِذَا خَصَّصَ كَلامَهُ لَفْظًا) أَىْ أَتَى بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ كَقَوْلِهِ الْكَلْبُ أَحْسَنُ مِنْ بَنِى ءَادَمَ الْكُفَّارِ فَلا يَكْفُرُ لِأَنَّ الْكُفَّارَ هُمْ أَحْقَرُ وَأَخَسُّ خَلْقِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُمْ صُورَةَ الْبَشَرِ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَفَرُوا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ حِبَّانَ لا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِى الْجَاهِلِيَّةِ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ أَىْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ إِنَّ الَّذِى يُدَهْدِهُهُ أَىْ يُدَحْرِجُهُ الْجُعَلُ بِأَنْفِهِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ. وَالْجُعَلُ يُدَحْرِجُ الْقَذَرَ الَّذِى يَخْرُجُ مِنْ بَنِى ءَادَمَ وَيَجْعَلُهُ حُبَيْبَاتٍ لِيَتَقَوَّتَ بِهِ (أَوْ) خَصَّصَ كَلامَهُ (بِقَرِينَةِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ الْيَوْمَ الْعَرَبُ فَسَدُوا ثُمَّ قَالَ الْعَرَبُ جَرَبٌ) مُرِيدًا هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُهُمْ فَاسِدِينَ (فَلا يَكْفُرُ) لَكِنَّهُ لا يَسْلَمُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ الْعَرَبِ الْيَوْمَ فَاسِدِينَ.

     (وَيَكْفُرُ مَنْ يُسَمِّى الشَّيْطَانَ بِـبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ) لِأَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الشَّرِيفَةَ اسْمًا لِلشَّيْطَانِ (لا إِنْ ذَكَرَ الْبَسْمَلَةَ بِنِيَّةِ التَّعَوُّذِ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهِ) أَىْ بِقَصْدِ أَنْ يَحْفَظَهُ اللَّهُ بِبَرَكَةِ الْبَسْمَلَةِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ.

     (وَهُنَاكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ وَالْكُتَّابِ يَكْتُبُ كَلِمَاتٍ كُفْرِيَّةً) فِيهَا شَتْمٌ لِلَّهِ (كَمَا كَتَبَ أَحَدُهُمْ هَرَبَ اللَّهُ فَهَذَا مِنْ سُوءِ الأَدَبِ مَعَ اللَّهِ الْمُوقِعِ فِى الْكُفْرِ) لِأَنَّ قَائِلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ شَتَمَ اللَّهَ وَاسْتَخَفَّ بِهِ وَنَسَبَ إِلَيْهِ الْحَرَكَةَ وَالْفِرَارَ وَالْمَكَانَ (وَقَدْ قَالَ الْقَاضِى عِيَاضٌ فِى كِتَابِهِ الشِّفَا) بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ الْمُصْطَفَى (لا خِلافَ أَنَّ سَابَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَافِرٌ).

     (وَ)كَذَلِكَ (يَكْفُرُ مَنْ يَسْتَحْسِنُ هَذِهِ الأَقْوَالَ وَالْعِبَارَاتِ) أَىْ يَعْتَبِرُهَا شَيْئًا حَسَنًا (وَمَا أَكْثَرَ انْتِشَارَهَا فِى مُؤَلَّفَاتٍ عَدِيدَةٍ) فِى هَذَا الزَّمَنِ.

     (وَسُوءُ الأَدَبِ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ أَوْ بِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ) أَوْ أَمْرٍ مِنْ أَوَامِرِهِ (كُفْرٌ) كَالَّذِى يَسْتَهْزِئُ بِاسْتِعْمَالِ السِّوَاكِ أَوْ إِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ أَوْ نَتْفِ الإِبْطِ أَوِ الِاسْتِحْدَادِ أَىْ حَلْقِ الْعَانَةِ أَوْ يَسْتَهْزِئُ بِلُبْسِ الْعِمَامَةِ أَوِ الْقَمِيصِ الطَّوِيلِ الَّذِى يُعْرَفُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ بِالْجَلَّابِيَّةِ أَوِ الدِّشْدَاشَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ مَدَحَهُ وَكَذَا الَّذِى يَسْتَهْزِئُ بِالأَكْلِ بِالأَصَابِعِ الثَّلاثَةِ الإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ يَأْكُلُ بِثَلاثِ أَصَابِعَ وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ.    

     (وَ)كَذَلِكَ (الِاسْتِهْزَاءُ) بِالْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ أَوْ (بِمَا كُتِبَ فِيهِ شَىْءٌ مِنَ الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ أَوِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ) بِأَنْ نَسَبَ إِلَيْهِمُ الْقَبَائِحَ وَالرَّذَائِلَ كَالَّذِى يَقُولُ إِنَّ سَيِّدَنَا ءَادَمَ يُشْبِهُ الْقُرُودَ أَوْ إِنَّ سَيِّدَنَا يُوسُفَ نَوَى أَنْ يَزْنِىَ بِامْرَأَةِ الْعَزِيزِ أَوْ إِنَّ سَيِّدَنَا مُوسَى كَانَ سَيِّئَ الْخُلُقِ أَوْ إِنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا كَانَ مُتَعَلِّقَ الْقَلْبِ بِالنِّسَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (أَوِ) الِاسْتِهْزَاءُ (بِشَعَائِرِ الإِسْلامِ) أَىْ مَا كَانَ مَشْهُورًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ كَالصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالأَذَانِ وَالْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ وَعِيدِ الأَضْحَى وَعِيدِ الْفِطْرِ وَالطَّوَافِ وَرَمْىِ الْجِمَارِ. وَمِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِشَعَائِرِ الإِسْلامِ الِاسْتِهْزَاءُ بِالسُّنَّةِ أَوْ ذَمُّ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ كَقَوْلِ سَيِّد قُطُب زَعِيمِ حِزْبِ الإِخْوَانِ إِنَّ تَعَلُّمَ الْفِقْهِ مَضْيَعَةٌ لِلْعُمْرِ وَالأَجْرِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِى كِتَابِهِ الْمُسَمَّى فِى ظِلالِ الْقُرْءَانِ وَهُوَ مُعَارِضٌ لِلْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ وَيُعَدُّ تَصْغِيرًا لِمَا عَظَّمَ اللَّهُ وَكَذَلِكَ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ إِنَّ التَّعَمُّقَ فِى الدِّينِ يُعَقِّدُ الإِنْسَانَ أَوْ يُجَنِّنُهُ. وَمِنْ شَعَائِرِ الإِسْلامِ حِجَابُ الْمَرْأَةِ فَمَنِ اسْتَخَفَّ بِسَتْرِ الْمَرْأَةِ لِرَأْسِهَا كَفَرَ أَوِ اسْتَخَفَّ بِسَتْرِ الْمَرْأَةِ لِوَجْهِهَا وَكَانَ عَالِمًا بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ فِى الشَّرْعِ كَأَنْ جَعَلَ هَذَا تَخَلُّفًا كَفَرَ لِأَنَّهُ ذَمَّ مَا هُوَ مَمْدُوحٌ فِعْلُهُ فِى الشَّرْعِ (أَوِ) الِاسْتِهْزَاءُ (بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى) كَأَنْ عَلِمَ شَخْصٌ بِحُكْمِ الشَّرْعِ أَنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ ثُمَّ اسْتَخَفَّ بِهِ فَإِنَّهُ (كُفْرٌ قَطْعًا) أَىْ بِلا خِلافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ (وَكَذَلِكَ اسْتِحْسَانُ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِهِ) أَىِ اعْتِبَارُ الْكُفْرِ شَيْئًا حَسَنًا كَأَنْ ضَحِكَ لِقَوْلِ شَخْصٍ كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ الْمُوَافَقَةِ لَهُ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُ (كُفْرٌ لِأَنَّ) اسْتِحْسَانَ الْكُفْرِ مَعْنَاهُ الرِّضَى بِهِ وَ(الرِّضَى بِالْكُفْرِ كُفْرٌ).

     (وَلا يَكْفُرُ مَنْ نَقَلَ عَنْ غَيْرِهِ كُفْرِيَّةً حَصَلَتْ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْسَانٍ لَهَا) أَىْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ رَاضِيًا بِالْكُفْرِ وَلا مُسْتَحْسِنًا لَهُ (بِقَوْلِهِ قَالَ فُلانٌ كَذَا) أَىْ مِمَّا هُوَ كُفْرٌ (وَ)أَمَّا (لَوْ أَخَّرَ صِيغَةَ قَالَ إِلَى ءَاخِرِ الْجُمْلَةِ) أَىْ ذَكَرَ الْكُفْرَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَ أَدَاةَ الْحِكَايَةِ قَالَ فُلانٌ (فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِى نِيَّتِهِ ذِكْرُ أَدَاةِ الْحِكَايَةِ مُؤَخَّرَةً عَنِ الِابْتِدَاءِ) أَىْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ نَاوِيًا أَنْ يَأْتِىَ بِأَدَاةِ الْحِكَايَةِ مُؤَخَّرَةً قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ.

(مَا يُسْتَثْنَى مِنَ الْكُفْرِ الْقَوْلِىِّ)

     (يُسْتَثْنَى مِنَ الْكُفْرِ اللَّفْظِىِّ) خَمْسُ حَالاتٍ لا يَكْفُرُ فِيهَا قَائِلُهُ (حَالَةُ سَبْقِ اللِّسَانِ أَىْ أَنْ يَتَكَلَّمَ) الإِنْسَانُ (بِشَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ) أَىْ بِكَلامٍ كُفْرِىٍّ (مِنْ غَيْرِ إِرَادَةٍ بَلْ جَرَى) الْكَلامُ (عَلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ أَنْ يَقُولَهُ بِالْمَرَّةِ) كَأَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَالَ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ وَقَدْ مَثَّلَ الرَّسُولُ ﷺ لِسَبْقِ اللِّسَانِ بِرَجُلٍ فَقَدَ دَابَّتَهُ فِى الصَّحْرَاءِ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِى ظِلِّهَا فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ فَقَالَ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِى وَأَنَا رَبُّكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.  

     (وَحَالَةُ غَيْبُوبَةِ الْعَقْلِ أَىْ عَدَمِ صَحْوِ الْعَقْلِ) فَمَنْ غَابَ عَقْلُهُ فَنَطَقَ بِكَلامٍ كُفْرِىٍّ لا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ لِارْتِفَاعِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ وَيَشْمَلُ هَذَا الْحُكْمُ النَّائِمَ وَالْمَجْنُونَ وَنَحْوَهُمَا كَالْوَلِىِّ الْمُسْتَغْرِقِ فِى حُبِّ اللَّهِ إِذَا غَابَ عَقْلُهُ لِقَوْلِهِ ﷺ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبِىِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ.

    (وَحَالَةُ الإِكْرَاهِ فَمَنْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ بِلِسَانِهِ مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ) أَىْ مِمَّا يُؤَدِّى إِلَى الْمَوْتِ (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ فَلا يَكْفُرُ) أَمَّا إِذَا انْشَرَحَ صَدْرُهُ بِالْكُفْرِ أَىْ رَضِىَ بِهِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ. وَالْمُكْرَهُ هُوَ الَّذِى هَدَّدَهُ غَيْرُهُ بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِالْكُفْرِ وَكَانَ قَادِرًا عَلَى تَنْفِيذِ تَهْدِيدِهِ وَهُوَ يُصَدِّقُهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ وَلا يَجِدُ طَرِيقَةً لِلْخَلاصِ إِلَّا بِالإِتْيَانِ بِمَا طَلَبَ مِنْهُ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُكْرَهِ فَلا يُشْتَرَطُ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ فَمَنْ قَالَ كَلامًا كُفْرِيًّا كَفَرَ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُنْشَرِحِ الصَّدْرِ أَىْ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَاضٍ بِالْكُفْرِ وَلا قَصَدَ أَنْ يَكْفُرَ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ سَيِّد سَابِق الْمِصْرِىُّ فِى كِتَابِهِ الْمُسَمَّى فِقْهَ السُّنَّةِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لا يُعْتَبَرُ خَارِجًا عَنِ الإِسْلامِ وَلا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ إِلَّا إِذَا انْشَرَحَ صَدْرُهُ بِالْكُفْرِ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِهِ وَدَخَلَ فِى دِينٍ غَيْرِ الإِسْلامِ بِالْفِعْلِ، فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ بِقَوْلِهِ هَذَا كُلَّ الْعِبَادِ فِى حُكْمِ الْمُكْرَهِ وَاللَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْمُكْرَهَ فِى كِتَابِهِ بِحُكْمٍ خَاصٍّ (قَالَ) اللَّهُ (تَعَالَى ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾) أَىْ أَنَّ الْمُكْرَهَ إِذَا نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ تَحْتَ الإِكْرَاهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكْفُرْ وَلَمْ يَعْصِ (﴿وَلَكِنْ مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ﴾).

     وَ(حَالَةُ الْحِكَايَةِ لِكُفْرِ الْغَيْرِ فَلا يَكْفُرُ الْحَاكِى كُفْرَ غَيْرِهِ) أَىِ الَّذِى يَنْقُلُ عَنْ غَيْرِهِ كُفْرِيَّةً حَصَلَتْ مِنْهُ (عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الرِّضَى وَالِاسْتِحْسَانِ) أَىْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ رَاضِيًا بِالْكُفْرِ وَلا مُسْتَحْسِنًا لَهُ مَعَ اسْتِعْمَالِ أَدَاةِ الْحِكَايَةِ كَأَنْ يَقُولَ قَالَ فُلانٌ وَيَذْكُرُ كُفْرَهُ (وَمُسْتَنَدُنَا فِى اسْتِثْنَاءِ مَسْئَلَةِ الْحِكَايَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾) وَقَوْلُهُ تَعَالَى (﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾. ثُمَّ الْحِكَايَةُ الْمَانِعَةُ لِكُفْرِ حَاكِى الْكُفْرِ) أَىْ أَدَاةُ الْحِكَايَةِ الَّتِى تَمْنَعُ عَنْهُ الْكُفْرَ (إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِى أَوَّلِ الْكَلِمَةِ الَّتِى يَحْكِيهَا عَمَّنْ تَكَلَّمَ بِكُفْرٍ أَوْ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْكَلِمَةَ عَقِبَهَا وَقَدْ كَانَ نَاوِيًا أَنْ يَأْتِىَ بِأَدَاةِ الْحِكَايَةِ) مُؤَخَّرَةً (قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ فَلَوْ قَالَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ قَوْلُ النَّصَارَى أَوْ قَالَتْهُ النَّصَارَى فَهِىَ حِكَايَةٌ مَانِعَةٌ لِلْكُفْرِ عَنِ الْحَاكِى) أَىْ تَمْنَعُ عَنْهُ الْكُفْرَ.

     (وَحَالَةُ كَوْنِ الشَّخْصِ مُتَأَوِّلًا بِاجْتِهَادِهِ فِى فَهْمِ الشَّرْعِ) أَىْ فَهِمَ ءَايَةً أَوْ حَدِيثًا عَلَى خِلافِ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ (فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ الْمُتَأَوِّلُ) فِى هَذِهِ الْحَالِ (إِلَّا إِذَا كَانَ تَأَوُّلُهُ فِى الْقَطْعِيَّاتِ فَأَخْطَأَ) أَىْ إِذَا كَانَ تَفْسِيرُهُ لِلآيَةِ أَوِ الْحَدِيثِ يُكَذِّبُ أَصْلَ مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ (فَإِنَّهُ لا يُعْذَرُ) لِأَنَّهُ لا يَكُونُ عَارِفًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﷺ وَذَلِكَ (كَتَأَوُّلِ الَّذِينَ قَالُوا بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَأَزَلِيَّتِهِ كَابْنِ تَيْمِيَةَ) وَحُدُوثُ الْعَالَمِ مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ وَهُوَ مَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِالْعِلْمِ بِهِ فَمَنْ رَدَّ ذَلِكَ وَزَعَمَ أَزَلِيَّتَهُ كَفَرَ. (وَأَمَّا مِثَالُ مَنْ لا يَكْفُرُ مِمَّنْ تَأَوَّلَ) ءَايَةً أَوْ حَدِيثًا عَلَى خِلافِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ وَكَانَ تَأَوُّلُهُ فِى غَيْرِ الْقَطْعِيَّاتِ (فَهُوَ كَتَأَوُّلِ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ) أَىِ امْتَنَعُوا عَنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ (فِى عَهْدِ أَبِى بَكْرٍ) الصِّدِّيقِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (بِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ) عَلَيْهِمْ (فِى عَهْدِ الرَّسُولِ لِأَنَّ صَلاتَهُ كَانَتْ عَلَيْهِمْ سَكَنًا لَهُمْ أَىْ رَحْمَةً وَطُمَأْنِينَةً وَطُهْرَةً وَأَنَّ ذَلِكَ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُكَفِّرُوهُمْ لِذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلاءِ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ ﴿خُذْ﴾ أَىْ يَا مُحَمَّدُ الزَّكَاةَ لِتَكُونَ إِذَا دَفَعُوهَا إِلَيْكَ سَكَنًا لَهُمْ وَأَنَّ هَذَا لا يَحْصُلُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلا يَجِبُ عَلَيْهِمْ دَفْعُهَا لِأَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ وَلَمْ يَفْهَمُوا) مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَعْلَمُوا (أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ فِى حَالِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّمَا قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ كَمَا قَاتَلَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ فِى دَعْوَاهُ النُّبُوُّةَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمُ) الزَّكَاةَ (قَهْرًا بِدُونِ قِتَالٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِى قُوَّةٍ فَاضْطُرَّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (إِلَى الْقِتَالِ).

     (وَكَذَلِكَ) لَمْ يُكَفِّرِ الصَّحَابَةُ (الَّذِينَ فَسَّرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ بِأَنَّهُ تَخْيِيرٌ) بَيْنَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَبَيْنَ تَرْكِ شُرْبِهَا (وَلَيْسَ تَحْرِيمًا لِلْخَمْرِ فَشَرِبُوهَا لِأَنَّ) هَؤُلاءِ ظَنُّوا أَنَّ الآيَةَ لا تَعْنِى تَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ تَحْرِيمُ الْمُسْلِمِينَ لَهَا لِهَذَا سَيِّدُنَا (عُمَرُ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (مَا كَفَّرَهُمْ وَإِنَّمَا قَالَ اجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ ثُمَّ إِنْ عَادُوا) أَىْ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ شُرْبَهَا جَائِزٌ (فَاقْتُلُوهُمْ) أَىْ لِكُفْرِهِمْ (رَوَاهُ ابْنُ أَبِى شَيْبَةَ). وَ(إِنَّمَا كَفَّرُوا) أَىِ الصَّحَابَةُ (الآخَرِينَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلامِ لِتَصْدِيقِهِمْ لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ الَّذِى ادَّعَى) النُّبُوَّةَ وَ(الرِّسَالَةَ) فَكَذَّبُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ وَقَوْلَهُ ﷺ وَخُتِمَ بِىَ النَّبِيُّونَ، (فَمُقَاتَلَتُهُمْ) أَىْ مُقَاتَلَةُ الصَّحَابَةِ (لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا مَنْعَ الزَّكَاةِ) أَىِ امْتَنَعُوا عَنْ دَفْعِهَا (عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ لِأَخْذِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ فِى أَمْوَالِهِمْ وَذَلِكَ كَقِتَالِ الْبُغَاةِ) الظَّالِمِينَ الَّذِينَ تَمَرَّدُوا عَلَى سَيِّدِنَا عَلِىٍّ وَهُوَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ (فَإِنَّهُمْ لا يُقَاتَلُونَ لِكُفْرِهِمْ بَلْ يُقَاتَلُونَ لِرَدِّهِمْ إِلَى طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ كَالَّذِينَ قَاتَلَهُمْ سَيِّدُنَا عَلِىٌّ فِى الْوَقَائِعِ الثَّلاثِ وَقَعْةِ الْجَمَلِ) مَعَ مَنْ نَكَثَ بَيْعَتَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ (وَوَقَعْةِ صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ) وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ (وَوَقْعَةِ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ) الَّذِينَ لَمْ يَصِلُوا إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ فَإِنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا قَاتَلَهُمْ لِرَدِّهِمْ إِلَى الْحَقِّ (عَلَى أَنَّ مِنَ الْخَوَارِجِ صِنْفًا هُمْ كُفَّارٌ حَقِيقَةً فَأُولَئِكَ لَهُمْ حُكْمُهُمُ الْخَاصُّ).

(قَاعِدَةٌ) فِى تَقْسِيمِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ

     قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ (اللَّفْظَ) إِلَى ظَاهِرٍ وَصَرِيحٍ وَالظَّاهِرُ (الَّذِى لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالآخَرُ لَيْسَ كُفْرًا وَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِى هُوَ كُفْرٌ ظَاهِرًا) أَىْ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ لِلَّفْظِ الأَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا فِيهِ كُفْرٌ وَلَكِنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ مَعْنًى ءَاخَرَ لَيْسَ كُفْرًا فَعِنْدَئِذٍ (لا يُكَفَّرُ قَائِلُهُ) أَىْ لا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُ (حَتَّى يُعْرَفَ مِنْهُ أَىُّ الْمَعْنَيَيْنِ أَرَادَ فَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَأُجْرِىَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ وَإِلَّا فَلا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ) أَىْ إِنْ لَمْ يُرِدِ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ فَلَوْ قَالَ شَخْصٌ الصَّلاةُ عَلَى النَّبِىِّ مَكْرُوهَةٌ وَأَرَادَ أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى النَّبِىِّ مُحَمَّدٍ مَكْرُوهَةٌ فَهُوَ كُفْرٌ لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِلشَّرِيعَةِ قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ وَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى الأَرْضِ الْمُحْدَوْدِبَةِ مَكْرُوهَةٌ لِأَنَّ الشَّخْصَ لا يَخْشَعُ فِى صَلاتِهِ عَلَيْهَا فَلا يَكْفُرُ لِأَنَّ كَلِمَةَ النَّبِىِّ تَأْتِى فِى اللُّغَةِ بِمَعْنَى الأَرْضِ الْمُحْدَوْدِبَةِ وَتَأْتِى بِمَعْنَى مَنْ أُوحِىَ إِلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ (وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَهُ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ وَكَانَ كُلُّ مَعَانِيهِ كُفْرًا وَكَانَ مَعْنًى وَاحِدٌ مِنْهَا غَيْرَ كُفْرٍ لا يُكَفَّرُ) قَائِلُهُ (إِلَّا أَنْ يُعْرَفَ مِنْهُ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْكُفْرِىِّ وَهَذَا هُوَ الَّذِى ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْحَنَفِيِّينَ فِى كُتُبِهِمْ) فَعَنْ مُحَمَّدِ بنِ الْحَسَنِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قِيلَ لَهُ صَلِّ فَقَالَ لا أُصَلِّى فَإِنْ أَرَادَ لا أُصَلِّى لِأَنِّى صَلَّيْتُ لا يَكْفُرُ وَإِنْ أَرَادَ لا أُصَلِّى لِقَوْلِكَ لا يَكْفُرُ وَكَذَا إِنْ أَرَادَ لا أُصَلِّى أَنَا مُتَكَاسِلٌ وَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لا يُصَلِّى لِأَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِالصَّلاةِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ (وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِى الْكَلِمَةِ) الصَّرِيحَةِ فِى الْكُفْرِ (تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ قَوْلًا بِالتَّكْفِيرِ وَقَوْلٌ وَاحِدٌ بِتَرْكِ التَّكْفِيرِ أُخِذَ بِتَرْكِ التَّكْفِيرِ فَلا مَعْنَى لَهُ) أَىْ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَى تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ قَوْلًا بِالتَّكْفِيرِ وَقَوْلٍ وَاحِدٍ بِتَرْكِ التَّكْفِيرِ يُؤْخَذُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْوَاحِدِ فَهُوَ بَاطِلٌ (وَلا يَصِحُّ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى مِالِكٍ وَلا إِلَى أَبِى حَنِيفَةَ كَمَا نَسَبَ سَيِّد سَابِق) فِى كِتَابِهِ الْمُسَمَّى فِقْهَ السُّنَّةِ (شِبْهَ ذَلِكَ إِلَى) الإِمَامِ (مَالِكٍ وَهُوَ شَائِعٌ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الْعَصْرِيِّينَ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ) فَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْكَلامِ فِيهِ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ أَوْ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَىْ مَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُكَفَّرُ قَائِلُهُ وَلَوْ خَالَفَ فِى ذَلِكَ أَلْفُ إِنْسَانٍ وَلا يُنْظَرُ إِلَى كَثْرَةِ الْمُخَالِفِينَ إِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى مُوَافَقَةِ الْحَقِّ.

     (قَالَ الْعُلَمَاءُ أَمَّا) اللَّفْظُ (الصَّرِيحُ أَىِ الَّذِى لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ يَقْتَضِى التَّكْفِيرَ فَيُحْكَمُ عَلَى قَائِلِهِ بِالْكُفْرِ كَقَوْلِ) إِنْسَانٍ (أَنَا اللَّهُ). أَمَّا مَنْ قَالَ كَلِمَةً كُفْرِيَّةً لا تَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ لَكِنَّهُ ظَنَّ أَنَّ لَهَا مَعْنًى ءَاخَرَ غَيْرَ كُفْرِىٍّ فَقَالَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِى ظَنَّهُ مَعْنًى لَهَا فَلا يَكْفُرُ.

     وَاللَّفْظُ الصَّرِيحُ بِالْكُفْرِ (حَتَّى لَوْ صَدَرَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ وَلِىٍّ فِى حَالَةِ غَيْبَةِ عَقْلِهِ) فَإِنَّهُ (يُعَزَّرُ) أَىْ يُزْجَرُ (وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُكَلَّفًا تِلْكَ السَّاعَةَ قَالَ ذَلِكَ عِزُّ الدِّينِ بنُ عَبْدِ السَّلامِ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ) أَىِ الزَّجْرَ (يُؤَثِّرُ فِى مَنْ غَابَ عَقْلُهُ كَمَا يُؤَثِّرُ فِى الصَّاحِى الْعَاقِلِ وَكَمَا يُؤَثِّرُ فِى الْبَهَائِمِ فَإِنَّهَا إِذَا جَمَحَتْ فَضُرِبَتْ تَكُفُّ عَنْ جُمُوحِهَا مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَاقِلَةٍ) أَىْ أَنَّ الْبَهَائِمَ وَهِىَ لَيْسَ لَهَا عَقْلٌ إِذَا أَسَاءَتِ التَّصَرُّفَ فَصَرَخْنَا عَلَيْهَا أَوْ ضَرَبْنَاهَا تَكُفُّ وَتُغَيِّرُ هَيْأَتَهَا (كَذَلِكَ الْوَلِىُّ الَّذِى نَطَقَ بِالْكُفْرِ فِى حَالِ الْغَيْبَةِ) أَىْ غَيْبَةِ عَقْلِهِ (عِنْدَمَا يُضْرَبُ أَوْ يُصْرَخُ عَلَيْهِ يَكُفُّ لِلزَّاجِرِ الطَّبِيعِىِّ) أَىْ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَنِ الْكَلامِ لِأَنَّهُ مَجْبُولٌ عَلَى الْكَفِّ وَالِانْزِجَارِ خَوْفًا مِنَ التَّوْبِيخِ أَوِ الْعِقَابِ (عَلَى أَنَّ الْوَلِىَّ لا يَصْدُرُ مِنْهُ كُفْرٌ فِى حَالِ حُضُورِ عَقْلِهِ إِلَّا أَنْ يَسْبِقَ لِسَانُهُ) فَيَتَلَفَّظَ بِهِ (لِأَنَّ الْوَلِىَّ مَحْفُوظٌ مِنَ الْكُفْرِ بِخِلافِ الْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ عَلَى الْوَلِىِّ) وَقَدْ سُئِلَ الْجُنَيْدُ الْبَغْدَادِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ يَقَعُ الْوَلِىُّ فِى الْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ فَقَالَ ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ أَىْ إِذَا شَاءَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ حَصَلَ مِنْهُ (لَكِنْ لا يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ بَلْ يَتُوبُ عَنْ قُرْبٍ. وَقَدْ يَحْصُلُ مِنَ الْوَلِىِّ مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ لَكِنْ لا يَمُوتُ إِلَّا وَقَدْ تَابَ) مِنْهَا (كَطَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالزُّبَيْرِ بنِ الْعَوَّامِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُمَا خَرَجَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِىِّ) بنِ أَبِى طَالِبٍ (رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ) أَىْ تَرَكَا طَاعَتَهُ وَخَالَفَاهُ (بِوُقُوفِهِمَا مَعَ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ فِى الْبَصْرَةِ فَذَكَّرَ عَلِىٌّ كُلًّا مِنْهُمَا) قَبْلَ نُشُوبِ الْحَرْبِ (حَدِيثًا) سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (أَمَّا الزُّبَيْرُ فَقَالَ لَهُ أَلَمْ يَقُلْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُقَاتِلَنَّ عَلِيًّا وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ فَقَالَ نَسِيتُ فَذَهَبَ مُنْصَرِفًا عَنْ قِتَالِهِ) تَائِبًا (ثُمَّ لَحِقَهُ فِى طَرِيقِهِ رَجُلٌ مِنْ جَيْشِ عَلِىٍّ) فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ فِى ظَهْرِهِ (فَقَتَلَهُ فَتَابَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (بِتَذْكِيرِ عَلِىٍّ لَهُ فَلَمْ يَمُتْ إِلَّا تَائِبًا. وَأَمَّا طَلْحَةُ فَقَالَ لَهُ عَلِىٌّ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِىٌّ مَوْلاهُ) أَىْ مَنْ كُنْتُ أَنْصُرُهُ فَعَلِىٌّ يَنْصُرُهُ (فَذَهَبَ) طَلْحَةُ (مُنْصَرِفًا) عَنْ قِتَالِهِ تَائِبًا (فَضَرَبَهُ مَرْوَانُ بنُ الْحَكَمِ) أَىْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ (فَقَتَلَهُ وَهُوَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (أَيْضًا تَابَ وَنَدِمَ عِنْدَ ذِكْرِ عَلِىٍّ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ فَكُلٌّ مِنْهُمَا) أَىْ كُلٌّ مِنَ الزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ (مَا مَاتَ إِلَّا تَائِبًا. وَكِلا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ) الأَوَّلُ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ وَالثَّانِى رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ فِى سُنَنِهِ (بَلِ الْحَدِيثُ الثَّانِى مُتَوَاتِرٌ) كَمَا قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ فِى الأَزْهَارِ الْمُتَنَاثِرَةِ (وَقَدْ ذَكَرَ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ مَغْفُورٌ لَهُمَا لِأَجْلِ الْبِشَارَةِ الَّتِى بَشَّرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ بِهَا مَعَ ثَمَانِيَةٍ ءَاخَرِينَ فِى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَبُو بَكْرٍ فِى الْجَنَّةِ عُمَرُ فِى الْجَنَّةِ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ فِى الْجَنَّةِ عَلِىُّ بنُ أَبِى طَالِبٍ فِى الْجَنَّةِ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فِى الْجَنَّةِ الزُّبَيْرُ بنُ الْعَوَّامِ فِى الْجَنَّةِ سَعْدُ بنُ أَبِى وَقَّاصٍ فِى الْجَنَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الْجَرَّاحِ فِى الْجَنَّةِ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ عَوْفٍ فِى الْجَنَّةِ وَسَعِيدُ بنُ زَيْدٍ فِى الْجَنَّةِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِىُّ (فَهَذَا مِنَ الإِمَامِ أَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ إِثْبَاتٌ) مِنْهُ (أَنَّهُمَا أَثِمَا) أَىْ وَقَعَا فِى الْمَعْصِيَةِ. (وَكَذَلِكَ قَالَ فِى حَقِّ عَائِشَةَ) إِنَّهَا مَغْفُورٌ لَهَا (لِأَجْلِ أَنَّهَا مُبَشَّرَةٌ أَيْضًا وَكَانَتْ نَدِمَتْ نَدَمًا شَدِيدًا مِنْ وُقُوفِهَا فِى) مُعَسْكَرِ (الْمُقَاتِلِينَ لِعَلِىٍّ حَتَّى كَانَتْ حِينَ تَذْكُرُ سَيْرَهَا إِلَى الْبَصْرَةِ وَوُقُوفَهَا مَعَ الْمُقَاتِلِينَ لِعَلِىٍّ تَبْكِى بُكَاءً شَدِيدًا يَبْتَلُّ مِنْ دُمُوعِهَا خِمَارُهَا) رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ أَيْضًا وَقَالَ) الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ (فِى غَيْرِهِمَا مِنْ مُقَاتِلِى عَلِىٍّ مِنْ أَهْلِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ) الَّذِينَ نَكَثُوا بِبَيْعَتِهِ أَىْ بَايَعُوهُ ثُمَّ خَرَجُوا عَنْ طَاعَتِهِ (وَمِنْ أَهْلِ صِفِّينَ الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَ مُعَاوِيَةَ عَلِيًّا) وَلَمْ يُبَايِعُوهُ إِنَّ ذَنْبَهُمْ (مُجَوَّزٌ غُفْرَانُهُ وَالْعَفْوُ عَنْهُ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بنُ فُورَك عَنْ أَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ فِى كِتَابِهِ مُجَرَّدُ مَقَالاتِ الأَشْعَرِىِّ) وَفِى هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ وَقَعُوا فِى الإِثْمِ. (وَابْنُ فُورَك تِلْمِيذُ تِلْمِيذِ أَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ الْبَاهِلِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمَا يَظُنُّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنْ أَنَّ الْوَلِىَّ لا يَقَعُ فِى مَعْصِيَةٍ فَهُوَ جَهْلٌ فَظِيعٌ فَهُؤَلاءِ الثَّلاثَةُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ مِنْ أَكَابِرِ الأَوْلِيَاءِ) وَمَعَ ذَلِكَ صَدَرَتْ مِنْهُمْ مَعْصِيَةٌ.

     (قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ) عَبْدُ الْمَلِكِ (الْجُوَيْنِىُّ) فِى كِتَابِهِ الإِرْشَادِ (اتَّفَقَ الأُصُولِيُّونَ) أَىْ عُلَمَاءُ أُصُولِ الدِّينِ وَعُلَمَاءُ أُصُولِ الْفِقْهِ (عَلَى أَنَّ مَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الرِّدَّةِ أَىِ الْكُفْرِ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَضْمَرَ تَوْرِيَةً) أَىْ زَعَمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا مَعْنًى بَعِيدًا لا تَحْتَمِلُهُ اللُّغَةُ (كُفِّرَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا) أَىْ هُوَ كَافِرٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ اللَّهِ (وَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَىْ) وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ (فَلا يَنْفَعُهُ التَّأْوِيلُ الْبَعِيدُ كَالَّذِى يَقُولُ يِلْعَنْ رَسُولَ اللَّهِ وَيَقُولُ قَصْدِى بِرَسُولِ اللَّهِ) الَّذِى أَلْعَنُهُ (الصَّوَاعِقُ) أَلَيْسَ اللَّهُ يُرْسِلُهَا لِأَنَّ اللُّغَةَ لا تَحْتَمِلُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِى ادَّعَاهُ (وَقَدْ عَدَّ) أَىْ ذَكَرَ (كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ) مِنَ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ (كَالْفَقِيهِ الْحَنَفِىِّ بَدْرِ) الدِّينِ (الرَّشِيدِ) فِى رِسَالَتِهِ فِى بَيَانِ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ (وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَرْنِ الثَّامِنِ الْهِجْرِىِّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً) مِمَّا هُوَ كُفْرٌ وَرِدَّةٌ تَحْذِيرًا لِلنَّاسِ مِنْهَا (فَيَنْبَغِى الِاطِّلاعُ عَلَيْهَا) لِلْحَذَرِ مِنْهَا (فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشَّرَّ يَقَعُ فِيهِ) وَأَعْظَمُ الشُّرُورِ هُوَ الْكُفْرُ (فَلْيُحْذَرْ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَحَدِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَخَذَ لِسَانَهُ وَخَاطَبَهُ) قَائِلًا (يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ أَكْثَرُ خَطَايَا ابْنِ ءَادَمَ مِنْ لِسَانِهِ) رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ فى الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ (وَمِنْ هَذِهِ الْخَطَايَا الْكُفْرُ وَالْكَبَائِرُ) فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالْخَيْرِ كَذِكْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَسَبَ ثَوَابًا وَمَنْ أَمْسَكَ لِسَانَهُ عَمَّا فِيهِ مَعْصِيَةٌ فَقَدْ حَفِظَ نَفْسَهُ وَسَلِمَ أَمَّا مَنْ لَمْ يَحْفَظْ لِسَانَهُ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْهَلاكِ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمَهَالِكِ سَبَبُهَا اللِّسَانُ فَإِنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فَإِنَّهُ يَنْدَمُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ النَّدَمُ (وَفِى حَدِيثٍ ءَاخَرَ لِلرَّسُولِ ﷺ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَهْوِى بِهَا فِى النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ) أَىْ أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ لا يَرَى فِيهَا ضَرَرًا يَسْتَوْجِبُ بِهَا النُّزُولَ إِلَى قَعْرِ جَهَنَّمَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ التِّرْمِذِىِّ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِى بِهَا فِى النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا، أَىْ يَنْزِلُ بِسَبَبِهَا فِى النَّارِ سَبْعِينَ عَامًا حَتَّى يَصِلَ إِلَى قَعْرِهَا وَلا يَصِلُ إِلَى قَعْرِ النَّارِ إِلَّا الْكَافِرُ.

(فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ)

     (حُكْمُ مَنْ يَأْتِى بِإِحْدَى أَنْوَاعِ هَذِهِ الْكُفْرِيَّاتِ هُوَ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ وَحَسَنَاتُهُ جَمِيعُهَا) أَىْ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا حَصَلَ مِنْهُ كُفْرٌ فَإِنَّهُ يَخْسَرُ حَسَنَاتِهِ السَّابِقَةَ (فَلا تُحْسَبُ لَهُ ذَرَّةٌ مِنْ حَسَنَةٍ كَانَ سَبَقَ لَهُ أَنْ عَمِلَهَا مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ صِيَامٍ أَوْ صَلاةٍ وَنَحْوِهَا إِنَّمَا تُحْسَبُ لَهُ الْحَسَنَاتُ الْجَدِيدَةُ الَّتِى يَقُومُ بِهَا بَعْدَ تَجْدِيدِ إِيمَانِهِ) أَىْ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى الإِسْلامِ (قَالَ) اللَّهُ (تَعَالَى ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾) وَلا تَرْجِعُ إِلَيْهِ حَسَنَاتُهُ الَّتِى خَسِرَهَا بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى الإِسْلامِ وَأَمَّا ذُنُوبُهُ الَّتِى عَمِلَهَا أَثْنَاءَ الرِّدَّةِ وَقَبْلَ ذَلِكَ فَلا تُمْحَى عَنْهُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الإِسْلامِ إِنَّمَا الَّذِى يُغْفَرُ لَهُ هُوَ الْكُفْرُ فَقَطْ وَأَمَّا الْكَافِرُ الأَصْلِىُّ فَإِنَّ ذُنُوبَهُ تُمْحَى بِإِسْلامِهِ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ الإِسْلامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، أَىْ يَمْحُو مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ الْكُفْرِ وَمَا سِوَاهُ.

     (وَإِذَا قَالَ) الْمُرْتَدُّ (أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ قَبْلَ أَنْ يُجِدِّدَ إِيمَانَهُ) أَىْ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الإِسْلامِ (بِقَوْلِهِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى حَالَتِهِ هَذِهِ) أَىْ وَهُوَ لا يَزَالُ عَلَى كُفْرِهِ (فَلا يَزِيدُهُ قَوْلُهُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا إِثْمًا وَكُفْرًا لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ وَقَوْلَهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾) وَ(رَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عِمْرَانَ بنِ الْحُصَيْنِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ (أَتَى رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ) أَىْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ) جَدُّكَ (عَبْدُ الْمُطَّلِبِ خَيْرٌ لِقَوْمِهِ مِنْكَ كَانَ يُطْعِمُهُمُ الْكَبِدَ وَالسَّنَامَ) أَىْ سَنَامَ الإِبِلِ أَىْ أَعْلَى ظَهْرِهَا وَهُوَ طَعَامٌ فَاخِرٌ عِنْدَ الْعَرَبِ (وَأَنْتَ تَنْحَرُهُمْ) أَىْ تَقْتُلُهُمْ فِى الْجِهَادِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ) ﷺ (مَا شَاءَ اللَّهُ) لَهُ أَنْ يَقُولَ مِنَ الْكَلامِ فِى الرَّدِّ عَلَيْهِ (فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ قَالَ مَا أَقُولُ) أَىْ عَلِّمْنِى شَيْئًا أَقُولُهُ (قَالَ قُلِ اللَّهُمَّ قِنِى شَرَّ نَفْسِى) أَىِ احْفَظْنِى مِنْ شَرِّ نَفْسِى (وَاعْزِمْ لِى عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِى) أَىْ دُلَّنِى عَلَى مَا فِيهِ خَيْرِى وَصَلاحِى (فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ ثُمَّ) عَادَ بَعْدَ مُدَّةٍ وَ(قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ) ﷺ (إِنِّى أَتَيْتُكَ فَقُلْتُ عَلِّمْنِى فَقُلْتَ قُلِ اللَّهُمَّ قِنِى شَرَّ نَفْسِى وَاعْزِمْ لِى عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِى فَمَا أَقُولُ الآنَ حِينَ أَسْلَمْتُ قَالَ قُلِ اللَّهُمَّ قِنِى شَرَّ نَفْسِى وَاعْزِمْ لِى عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِى اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى مَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا عَمَدْتُ وَمَا أَخْطَأْتُ وَمَا جَهِلْتُ) فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإِنْسَانَ مَا دَامَ كَافِرًا لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّسُولَ مَا عَلَّمَهُ الِاسْتِغْفَارَ اللَّفْظِىَّ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ.

     (وَمِنْ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَفْسُدُ صِيَامُهُ وَتَيَمُّمُهُ) فَوْرَ وُقُوعِهِ فِى الْكُفْرِ (وَ)يَبْطُلُ (نِكَاحُهُ) إِنْ حَصَلَ مِنْهُ الْكُفْرُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَ(قَبْلَ الدُّخُولِ) بِالزَّوْجَةِ وَلا تَحِلُّ لَهُ وَلَوْ عَادَ إِلَى الإِسْلامِ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ (وَكَذَا) يَبْطُلُ النِّكَاحُ إِنْ حَصَلَ الْكُفْرُ (بَعْدَهُ) أَىْ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا (إِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الإِسْلامِ فِى) مُدَّةِ (الْعِدَّةِ) وَهِىَ ثَلاثَةُ أَطْهَارٍ لِمَنْ تَحِيضُ وَثَلاثَةُ أَشْهُرٍ قَمَرِيَّةٍ لِمَنْ لا تَحِيضُ وَأَمَّا الْحَامِلُ فَعِدَّتُهَا تَنْتَهِى بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَإِنْ عَادَ الْمُرْتَدُّ إِلَى الإِسْلامِ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْعِدَّةِ فَلا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ الْعَقْدِ. فَإِنْ جَامَعَ الْمُسْلِمُ امْرَأَتَهُ الْمُرْتَدَّةَ وَهُوَ لا يَعْلَمُ بِرِدَّتِهَا فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَيُنْسَبُ الْوَلَدُ الْمُنْعَقِدُ مِنْ هَذَا الْجِمَاعِ إِلَيْهِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الزَّوْجَ وَجَامَعَ امْرَأَتَهُ الْمُسْلِمَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْرِفَ بِرِدَّتِهِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهَا وَلا يُنْسَبُ الْوَلَدُ لَهُ أَمَّا الْكُفَّارُ الأَصْلِيُّونَ فَإِنَّ نِكَاحَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ نِكَاحٌ يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُ الْوَلَدِ فَيُقَالُ مَثَلًا عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ فَيُنْسَبُ إِلَى أَبِيهِ مَعْ أَنَّهُ وُلِدَ مِنْ نِكَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ. (وَلا يَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ) أَىِ الْمُرْتَدِّ (لا عَلَى مُسْلِمَةٍ وَلا) عَلَى (كَافِرَةٍ وَلَوْ مُرْتَدَّةً مِثْلَهُ).