(صِفَاتُ اللَّهِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ)
الَّتِى يَجِبُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ
اعْلَمْ أَنَّهُ (جَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ الْمُؤَلِّفِينَ فِى الْعَقِيدَةِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى قَوْلِهِمْ إِنَّ الْوَاجِبَ الْعَيْنِىَّ الْمَفْرُوضَ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَىِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً) وَهِىَ (الْوُجُودُ وَالْقِدَمُ) أَىِ الأَزَلِيَّهُ (وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ) أَىْ عَدَمُ مُشَابَهَتِهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ (وَالْوَحْدَانِيَّةُ وَالْقِيَامُ بِنَفْسِهِ) أَىِ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ (وَالْبَقَاءُ وَالْقُدْرَةُ وَالإِرَادَةُ وَالْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْكَلامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ مَا يُنَافِى هَذِهِ الصِّفَاتِ. وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ ذُكِرَتْ كَثِيرًا فِى النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ) أَىِ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ وَكَانَ النَّبِىُّ ﷺ يَحْرِصُ عَلَى تَعْلِيمِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (قَالَ الْعُلَمَاءُ يَجِبُ مَعْرِفَتُهَا وُجُوبًا عَيْنِيًّا أَىْ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بِعَيْنِهِ) وَلا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ حِفْظُ أَلْفَاظِهَا (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) كَالْفَضَالِىِّ الشَّافِعِىِّ (بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ عِشْرِينَ صِفَةً فَزَادُوا سَبْعَ صِفَاتٍ مَعْنَوِيَّةٍ قَالُوا) بِوُجُوبِهَا (وَ)هِىَ (كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا وَمُرِيدًا وَحَيًّا وَعَالِمًا وَمُتَكَلِّمًا وَسَمِيعًا وَبَصِيرًا) وَهَذَا مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ اتِّصَافِهِ تَعَالَى بِالْحَيَاةِ يُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ حَيًّا وَمَعْرِفَةَ اتِّصَافِهِ بِالْقُدْرَةِ يُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ قَدِيرًا (وَالطَّرِيقَةُ الأُولَى هِىَ الرَّاجِحَةُ).
الصِّفَةُ الأُولَى (الْوُجُودُ)
(اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ أَزَلًا وَأَبَدًا) أَىْ أَنَّهُ مَوْجُودٌ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ وَلا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ (فَلَيْسَ وُجُودُهُ تَعَالَى بِإِيجَادِ مُوجِدٍ) لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ (وَقَدِ اسْتَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ قَوْلَ اللَّهُ مَوْجُودٌ لِكَوْنِهِ) أَىْ لِكَوْنِ اللَّفْظِ (عَلَى وَزْنِ مَفْعُولٍ) فَيَقْتَضِى بِزَعْمِهِمْ وُقُوعَ الْفِعْلِ عَلَيْهِ (وَالْجَوَابُ أَنَّ مَفْعُولًا قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ فِعْلُ الْغَيْرِ كَمَا نَقُولُ اللَّهُ مَعْبُودٌ وَ)لا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وُقُوعِ فِعْلٍ عَلَيْهِ فَالْحَقِيقَةُ أَنَّ (هَؤُلاءِ) الْمُسْتَنْكِرِينَ (ظَنُّوا بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّ لَهُمْ نَصِيبًا فِى عِلْمِ اللُّغَةِ وَلَيْسُوا كَمَا ظَنُّوا. قَالَ اللُّغَوِىُّ الْكَبِيرُ شَارِحُ الْقَامُوسِ) الْحَافِظُ الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى (الزَّبِيدِىُّ فِى شَرْحِ الإِحْيَاءِ مَا نَصُّهُ وَالْبَارِئُ تَعَالَى مَوْجُودٌ فَصَحَّ أَنْ يُرَى وَقَالَ الْفَيُّومِىُّ اللُّغَوِىُّ صَاحِبُ الْمِصْبَاحِ) أَىِ الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ (الْمَوْجُودُ خِلافُ الْمَعْدُومِ) وَأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ اللَّهُ مَوْجُودٌ نَقَلَ الإِجْمَاعَ سَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِىُّ فِى شَرْحِ الْعَقاَئِدِ النَّسَفِيَّةِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ (الْقِدَمُ)
اعْلَمْ أَنَّهُ (يَجِبُ لِلَّهِ) تَعَالَى (الْقِدَمُ بِمَعْنَى الأَزَلِيَّةِ) أَىْ أَنَّهُ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ (لا بِمَعْنَى تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَالزَّمَنِ) أَىْ لا بِمَعْنَى أَنَّهُ مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ طَوِيلٌ (لِأَنَّ لَفْظَ الْقَدِيمِ وَالأَزَلِىِّ إِذَا أُطْلِقَا عَلَى اللَّهِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ فَيُقَالُ) عَلَى هَذَا الْمَعْنَى (اللَّهُ أَزَلِىٌّ اللَّهُ قَدِيمٌ، وَإِذَا أُطْلِقَا عَلَى الْمَخْلُوقِ كَانَا بِمَعْنَى تَقَادُمِ الْعَهْدِ وَالزَّمَنِ) كَمَا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى الْقَمَرِ ﴿حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾) أَىْ كَعِذْقِ النَّخْلِ الَّذِى مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ طَوِيلٌ فَيَبِسَ وَتَقَوَّسَ (وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ) الْمُحِيطِ (الْفَيْرُوزَابَادِىُّ الْهَرَمَانِ بِنَاءَانِ أَزَلِيَّانِ بِمِصْرَ) أَىْ مَضَى عَلَيْهِمَا زَمَانٌ طَوِيلٌ.
(وَأَمَّا بُرْهَانُ) أَىْ دَلِيلُ (قِدَمِهِ تَعَالَى) الْعَقْلِىُّ (فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا لَلَزِمَ حُدُوثُهُ) فَيَكُونُ مُحْدَثًا أَىْ مَخْلُوقًا (فَيَفْتَقِرُ إِلَى مُحْدِثٍ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ) أَىْ تَوَقُّفُ وُجُودِ الشَّىْءِ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قِيلَ زَيْدٌ أَوْجَدَهُ عَمْرٌو وَعَمْرٌو أَوْجَدَهُ زَيْدٌ فَمَعْنَى ذَلِكَ تَوَقُّفُ وُجُودِ زَيْدٍ عَلَى وُجُودِ عَمْرٍو الْمُتَوَقِّفِ وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِ زَيْدٍ وَهَذَا أَمْرٌ لا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ وَهُوَ يَقْتَضِى أَنْ يَكُونَ الشَّىْءُ قَبْلَ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ خَالِقِيَّتِهِ وَبَعْدَ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مَخْلُوقِيَّتِهِ (أَوْ) يَلْزَمُ (التَّسَلْسُلُ) وَهُوَ تَوَقُّفُ وُجُودِ حَادِثٍ عَلَى انْقِضَاءِ مَا لا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْحَوَادِثِ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ اسْتِحَالَةَ وُجُودِ هَذَا الْحَادِثِ وَهُوَ كَأَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لِآخَرَ لا أُعْطِيكَ دِرْهَمًا حَتَّى أُعْطِيَكَ دِرْهَمًا قَبْلَهُ وَهَكَذَا لا إِلَى أَوَّلٍ فَإِنَّهُ لا يَحْصُلُ عَلَى الدِّرْهَمِ الْمَوْعُودِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (وَكُلٌّ مِنْهُمَا) أَىْ كُلٌّ مِنَ الدَّوْرِ وَالتَّسَلْسُلِ (مُحَالٌ) أَىْ مُسْتَحِيلٌ فَتَبَيَّنَ بُطْلانُ مَا يَقْتَضِيهِمَا وَهُوَ حُدُوثُ ذَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ (فَثَبَتَ أَنَّ حُدُوثَهُ تَعَالَى مُحَالٌ وَقِدَمَهُ ثَابِتٌ).
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ (الْبَقَاءُ)
اعْلَمْ أَنَّهُ (يَجِبُ الْبَقَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى) أَىِ اتِّصَافُهُ بِهِ (بِمَعْنَى أَنَّهُ لا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ قِدَمِهِ تَعَالَى عَقْلًا وَجَبَ لَهُ الْبَقَاءُ) وَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ (لِأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْعَدَمُ لَانْتَفَى عَنْهُ الْقِدَمُ) أَىْ لَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْعَدَمُ لَكَانَ مَخْلُوقًا وَلَمْ يَكُنْ أَزَلِيًّا لَكِنَّ اللَّهَ أَزَلِىٌّ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ فَوَجَبَ لَهُ الْبَقَاءُ قَالَ تَعَالَى ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ أَىْ ذَاتُ رَبِّكَ أَىْ يَبْقَى اللَّهُ قَالَ الرَّازِىُّ فِى تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ وَالْمُرَادُ بِوَجْهِهِ ذَاتُهُ وَقَالَ الْبَيْضَاوِىُّ فِى تَفْسِيرِهِ ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ ذَاتُهُ. وَلا يَصِحُّ تَفْسِيرُ الْوَجْهِ فِى هَذِهِ الآيَةِ بِالصِّفَةِ لِأَنَّ الذَّاتَ هُوَ الَّذِى يُوصَفُ بِذِى الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ وَلَيْسَ الصِّفَةَ. وَ﴿ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يُجَلَّ فَلا يُجْحَدَ وَلا يُكْفَرَ بِهِ أَىْ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنَّا أَنْ نُعَظِّمَهُ وَلا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُنْكِرَ وُجُودَهُ أَوْ نَكْفُرَ بِهِ وَهُوَ الْمُكْرِمُ أَهْلَ وِلايَتِهِ بِالْفَوْزِ وَالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْبَقَاءُ الَّذِى يَجِبُ لِلَّهِ هُوَ الْبَقَاءُ الذَّاتِىُّ أَىْ لَيْسَ بِإِبْقَاءِ غَيْرِهِ لَهُ (فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْبَاقِى لِذَاتِهِ) وَ(لا بَاقِىَ لِذَاتِهِ غَيْرُهُ وَأَمَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَبَقَاؤُهُمَا) الثَابِتُ بِالإِجْمَاعِ (لَيْسَ) بَقَاءً (بِالذَّاتِ) لِأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ وَالْمَخْلُوقُ لا يَكُونُ بَاقِيًا لِذَاتِهِ فَبَقَاءُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَيْسَ بِذَاتَيْهِمَا (بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ شَاءَ لَهُمَا الْبَقَاءَ) فَهُمَا بَاقِيَتَانِ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ لَهُمَا (فَالْجَنَّةُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْفَنَاءُ) عَقْلًا (وَكَذَلِكَ النَّارُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْفَنَاءُ) عَقْلًا لِكَوْنِهِمَا حَادِثَتَيْنِ أَىْ مَخْلُوقَتَيْنِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ (السَّمْعُ)
(وَهُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ ثَابِتَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ) تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْمُوعَاتِ (فَهُوَ) تَعَالَى (يَسْمَعُ الأَصْوَاتَ بِسَمْعٍ أَزَلِىٍّ أَبَدِىٍّ لا كَسَمْعِنَا) الْحَادِثِ (لَيْسَ بِأُذُنٍ وَصِمَاخٍ) وَهُوَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الإِصْبَعُ مِنَ الأُذُنِ (فَهُوَ تَعَالَى لا يَعْزُبُ أَىْ لا يَغِيبُ عَنْ سَمْعِهِ مَسْمُوعٌ وَإِنْ خَفِىَ أَىْ عَلَيْنَا وَبَعُدَ أَىْ عَنَّا كَمَا يَعْلَمُ بِغَيْرِ قَلْبٍ) فَهُوَ يَسْمَعُ كَلامَهُ الأَزَلِىَّ وَيَسْمَعُ كَلامَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَصْوَاتَهُمْ بِسَمْعٍ أَزَلِىٍّ لَيْسَ بِسَمْعٍ يَحْدُثُ فِى ذَاتِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْحَادِثَاتِ فَسَمْعُ اللَّهِ أَزَلِىٌّ وَمَسْمُوعَاتُهُ الَّتِى هِىَ مِنْ قَبِيلِ الأَصْوَاتِ حَادِثَةٌ قَالَ الإِمَامُ الأَشْعَرِىُّ فِى اللُّمَعِ (وَدَلِيلُ وُجُوبِ السَّمْعِ لَهُ عَقْلًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِالسَّمْعِ لَكَانَ مُتَّصِفًا بِالصَّمَمِ وَهُوَ نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُحَالٌ).
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ أَنْ حَرَّفَ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا فَنَسَبَ إِلَى اللَّهِ الأُذُنَ وَهَذَا تَشْبِيهٌ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ (فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ) تَعَالَى (يَسْمَعُ بِأُذُنٍ فَقَدْ أَلْحَدَ وَكَفَرَ) أَمَّا الأَذَنُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالذَّالِ الْوَارِدِ فِى الْحَدِيثِ فَهُوَ الِاسْتِمَاعُ.
الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ (الْبَصَرُ)
اعْلَمْ أَنَّهُ (يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَقْلًا) وَشَرْعًا (الْبَصَرُ أَىِ الرُّؤْيَةُ) وَالْبَصَرُ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ (فَهُوَ) سُبْحَانَهُ (يَرَى بِرُؤْيَةٍ أَزَلِيَّةٍ) لا بِدَايَةَ لَهَا (أَبَدِيَّةٍ) لا نِهَايَةَ لَهَا (الْمَرْئِيَّاتِ جَمِيعَهَا فَيَرَى ذَاتَهُ) الأَزَلِىَّ وَيَرَى الْحَادِثَاتِ أَىِ الْمَخْلُوقَاتِ (بِغَيْرِ حَدَقَةٍ وَ)لا (جَارِحَةٍ لِأَنَّ الْحَوَاسَّ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ) تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِشَىْءٍ مِنْهَا.
(وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْبَصَرِ لَهُ عَقْلًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَصِيرًا رَائِيًا لَكَانَ أَعْمَى وَالْعَمَى أَىْ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُسْتَحِيلٌ وَ)أَمَّا (دَلِيلُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ السَّمْعِىُّ) فَهُوَ (الآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ وَقَوْلِهِ ﷺ فِى تَعْدَادِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَهُوَ فِى حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِىُّ) فِى سُنَنِهِ (وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ).
الصِّفَةُ السَّادِسَةُ (الْكَلامُ)
اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى (الْكَلامُ) وَ(هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهَا ءَامِرٌ نَاهٍ وَاعِدٌ مُتَوَعِّدٌ لَيْسَ) حَادِثًا (كَكَلامِ غَيْرِهِ بَلْ أَزَلِىٌّ بِأَزَلِيَّةِ الذَّاتِ لا يُشْبِهُ كَلامَ الْخَلْقِ) لا يَطْرَأُ عَلَيْهِ سُكُوتٌ أَوْ تَقَطُّعٌ (وَلَيْسَ بِصَوْتٍ يَحْدُثُ مِنِ انْسِلالِ) أَىْ خُرُوجِ (الْهَوَاءِ) مِنَ الْجَوْفِ (أَوِ اصْطِكَاكِ الأَجْرَامِ) أَىْ أَجْرَامِ الْفَمِ وَهِىَ مَخَارِجُ الْحُرُوفِ (وَلا بِحَرْفٍ يَنْقَطِعُ) أَىْ يَظْهَرُ (بِإِطْبَاقِ شَفَةٍ أَوْ) يَحْدُثُ بِسَبَبِ (تَحْرِيكِ لِسَانٍ). وَالدَّلِيلُ النَّقْلِىُّ عَلَى وُجُوبِ الْكَلامِ لَهُ سُبْحَانَهُ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْمَعَ مُوسَى كَلامَهُ الأَزَلِىَّ وَأَمَّا دَلِيلُهُ الْعَقْلِىُّ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا لَكَانَ أَخْرَسَ وَهَذَا نَقْصٌ لا يَلِيقُ بِاللَّهِ.
(وَ)أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ نَفَوُا الْكَلامَ عَنِ اللَّهِ فَجَعَلُوهُ أَبْكَمَ وَقَالُوا إِنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ حَادِثَانِ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ لَكَانَ حَادِثًا أَىْ مَخْلُوقًا وَقَالُوا فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ إِنَّهُ مَجَازٌ أَىْ خَلَقَ اللَّهُ الْكَلامَ فِى الشَّجَرَةِ الَّتِى كَانَ مُوسَى عِنْدَهَا فَسَمِعَ مُوسَى كَلامَ اللَّهِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَنَقُولُ لَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ مَا أَكَّدَ اللَّهُ الْفِعْلَ بِالْمَصْدَرِ وَفِى ذَلِكَ نَفْىٌ لِلْمَجَازِ فَبَطَلَ زَعْمُهُمْ. وَ(نَعْتَقِدُ أَنَّ مُوسَى) عَلَيْهِ السَّلامُ (سَمِعَ كَلامَ اللَّهِ الأَزَلِىَّ بِغَيْرِ حَرْفٍ وَلا صَوْتٍ كَمَا يَرَى الْمُؤْمِنُونَ ذَاتَ اللَّهِ فِى الآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا) أَىْ حَجْمًا (وَلا عَرَضًا) أَىْ صِفَةً لِلْحَجْمِ (لِأَنَّ الْعَقْلَ لا يُحِيلُ سَمَاعَ مَا لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَ)إِنْ كُنَّا لا نَسْتَطِيعُ تَصَوُّرَهُ.
(وَكَلامُهُ تَعَالَى الذَّاتِىُّ) أَىِ الَّذِى هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ (لَيْسَ حُرُوفًا مُتَعَاقِبَةً) يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَتَأَخَّرُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ (كَكَلامِنَا وَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ مِنَّا كَلامَ اللَّهِ) أَىِ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ (فَقِرَاءَتُهُ حَرْفٌ وصَوْتٌ لَيْسَتْ أَزَلِيَّةً) فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ لَهُ إِطْلاقَانِ أَىْ لَهُ مَعْنَيَانِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَلامُ الأَزَلِىُّ الَّذِى هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ (وَقَدْ نُقِلَ هَذَا التَّفْصِيلُ عَنِ) الإِمَامِ (أَبِى حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ) رُؤُوسِ (السَّلَفِ) أَىْ أَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى فَإِنَّهُ (أَدْرَكَ شَيْئًا مِنَ الْمِائَةِ الأُولَى) إِذْ وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ (ثُمَّ تُوُفِّىَ سَنَةَ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ هِجْرِيَّةً) فَإِنَّهُ (قَالَ وَاللَّهُ يَتَكَلَّمُ لا بِآلَةٍ وَحَرْفٍ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِآلَةٍ وَحَرْفٍ) وَنَصُّ كَلامِهِ وَيَتَكَلَّمُ لا كَكَلامِنَا نَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالآلاتِ مِنَ الْمَخَارِجِ وَالْحُرُوفِ وَاللَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِلا ءَالَةٍ وَلا حَرْفٍ، فَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ وَشَفَتَيْنِ وَكَلامُنَا حُرُوفٌ لَهَا مَخَارِجُ فَبَعْضُ الْحُرُوفِ تَخْرُجُ مِنَ الشَّفَتَيْن كَالْبَاءِ وَالْمِيمِ وَبَعْضُ الْحُرُوفِ مِنَ الْحَلْقِ وَبَعْضُهَا مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ (فَلْيُفْهَمْ ذَلِكَ. وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ بِأَنَّ السَّلَفَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ بِأَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ لَيْسَ بِحَرْفٍ) وَلا صَوْتٍ (وَإِنَّمَا هَذَا بِدْعَةُ الأَشَاعِرَةِ) وَمُرَادُهُمْ بِهَذَا صَرْفُ النَّاسِ عَنِ التَّنْزِيهِ إِلَى اعْتِقَادِهِمُ الْبَاطِلِ وَالْعِيَاذُ باللَّهِ.
(وَهَذَا الْكَلامُ مِنَ) الإِمَامِ (أَبِى حَنِيفَةَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (ثَابِتٌ) عَنْهُ (ذَكَرَهُ فِى) رِسَالَةِ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ وَهِىَ (إِحْدَى رَسَائِلِهِ الْخَمْسِ) الَّتِى صَحَّتْ نِسْبَتُهَا إِلَيْهِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الْحَنَفِىُّ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ فِى شَرْحِهِ عَلَى إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ.
(وَالْقُرْءَانُ) لَفْظٌ (لَهُ إِطْلاقَانِ) أَىْ لَهُ مَعْنَيَانِ (يُطْلَقُ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ عَلَى) سَيِّدِنَا (مُحَمَّدٍ) ﷺ (وَ)يُطْلَقُ (عَلَى الْكَلامِ الذَّاتِىِّ الأَزَلِىِّ الَّذِى) لا يُشْبِهُ كَلامَ غَيْرِهِ (لَيْسَ هُوَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَلا لُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ وَلا غَيْرِهَا. فَإِنْ قُصِدَ بِهِ) أَىِ بِالْقُرْءَانِ وَكَذَا بِغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ (الْكَلامُ الذَّاتِىُّ) الَّذِى هُوَ صِفَتُهُ (فَهُوَ أَزَلِىٌّ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ) وَلا لُغَةٍ (وَإِنْ قُصِدَ بِهِ وَبِسَائِرِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ) فَهُوَ بِلُغَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ (فَمِنْهُ مَا هُوَ بِاللُّغَةِ الْعِبْرِيَّةِ) كَالتَّوْرَاةِ وَالزَّبُورِ (وَمِنْهُ مَا هُوَ بِاللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ) كَالإِنْجِيلِ وَأَمَّا الْقُرْءَانُ فَأُنْزِلَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ (وَهَذِهِ اللُّغَاتُ) الثَّلاثُ الْعِبْرِيَّةُ وَالسُّرْيَانِيَّةُ وَالْعَرَبِيَّةُ (وَغَيْرُهَا مِنَ اللُّغَاتِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فَخَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَصَارَتْ مَوْجُودَةً) بِإِيجَادِ اللَّهِ لَهَا (وَاللَّهُ تَعَالَى كَانَ) مَوْجُودًا (قَبْلَ كُلِّ شَىْءٍ وَكَانَ مُتَكَلِّمًا) أَىْ مُتَّصِفًا بِالْكَلامِ (قَبْلَهَا وَلَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا وَكَلامُهُ الَّذِى هُوَ صِفَتُهُ أَزَلِىٌّ أَبَدِىٌّ) أَىْ لا بِدَايَةَ وَلا نِهَايَةَ لَهُ (وَهُوَ كَلامٌ وَاحِدٌ) أَىْ لَيْسَ مُتَجَزِّءًا وَلا مُرَكَّبًا مِنْ الْحُرُوفِ. (وَهَذِهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ كُلُّهَا عِبَارَاتٌ عَنْ ذَلِكَ الْكَلامِ الذَّاتِىِّ الأَزَلِىِّ الأَبَدِىِ) أَىْ تَدُلُّ عَلَيْهِ (وَلا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْعِبَارَةِ حَادِثَةً كَوْنُ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ) وَهُوَ صِفَةُ اللَّهِ (حَادِثًا) أَىْ مَخْلُوقًا (أَلا تَرَى أَنَّنَا إِذَا كَتَبْنَا عَلَى لَوْحٍ أَوْ جِدَارٍ) لَفْظَ الْجَلالَةِ (اللَّه فَقِيلَ هَذَا اللَّهُ فَهَلْ مَعْنَى هَذَا أَنَّ أَشْكَالَ الْحُرُوفِ الْمَرْسُومَةَ هِىَ ذَاتُ اللَّهِ) الَّذِى نَعْبُدُهُ (لا يَتَوَهَّمُ هَذَا عَاقِلٌ إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ عِبَارَةٌ عَنِ الإِلَهِ الَّذِى هُوَ مَوْجُودٌ مَعْبُودٌ خَالِقٌ لِكُلِّ شَىْءٍ) وَكَذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلامِ اللَّهِ الذَّاتِىِّ الأَزَلِىِّ. (وَمَعَ هَذَا لا يُقَالَ الْقُرْءَانُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مَخْلُوقٌ) أَىْ إِطْلاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ حَرَامٌ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عِنْدَ الإِطْلاقِ عَلَى صِفَةِ الْكَلامِ الأَزَلِيَّةِ (لَكِنْ يُبَيَّنُ فِى مَقَامِ التَّعْلِيمِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ لَيْسَ قَائِمًا بِذَاتِ اللَّهِ) أَىْ لَيْسَ صِفَةً قَائِمَةً بِذَاتِ اللَّهِ أَىْ ثَابِتَةً لَهُ (بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لِأَنَّهُ حُرُوفٌ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ) فَهُوَ (حَادِثٌ مَخْلُوقٌ قَطْعًا لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مَلَكٍ وَلا بَشَرٍ) أَىْ لَيْسَ مِنْ تَأْلِيفِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَلا مِنْ تَأْلِيفِ نَبِىٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ (فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْكَلامِ الذَاتِىِّ الَّذِى لا يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرَبِىٌّ وَلا بِأَنَّهُ عِبْرانِىٌّ وَلا بِأَنَّهُ سُرْيَانِىٌّ وَكُلٌّ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلامُ اللَّهِ أَىْ أَنَّ صِفَةَ الْكَلامِ الْقَائِمَةَ بِذَاتِ اللَّهِ) أَىِ الثَّابِتَةَ لَهُ (يُقَالُ لَهَا كَلامُ اللَّهِ وَاللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ الَّذِى هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ يُقَالُ لَهُ كَلامُ اللَّهِ وَالإِطْلاقَانِ مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ) لا الْمَجَازِ (لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ إِمَّا لُغَوِيَّةٌ) وَهِىَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِىِّ كَإِطْلاقِ الأَسَدِ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمُفْتَرِسِ (وَإِمَّا شَرْعِيَّةٌ) وَهِىَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِى الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَ حَمَلَةِ الشَّرْعِ كَإِطْلاقِ الصَّلاةِ عَلَى عِبَادَةٍ مَخْصُوصَةٍ كَصَلاةِ الْعَصْرِ وَالصَّلاةُ فِى الأَصْلِ مَعْنَاهَا الدُّعَاءُ (وَإِمَّا عُرْفِيَّةٌ) وَهِىَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِى الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ كَإِطْلاقِ الدَّابَّةِ عَلَى الْحِمَارِ وَنَحْوِهِ وَالدَّابَّةُ فِى الأَصْلِ مَعْنَاهَا كُلُّ مَا يَدِبُّ أَىْ يَمْشِى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنْ إِنْسَانٍ وَبَهَائِمَ وَحَشَرَاتٍ، وَإِطْلاقُ الْقُرْءَانِ عَلَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّهِ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ وَشَرْعِيَّةٌ (وَإِطْلاقُ الْقُرْءَانِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ. وَتَقْرِيبُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ لَفْظَ الْجَلالَةِ اللَّه عِبَارَةٌ عَنْ ذَاتٍ أَزَلِىٍّ أَبَدِىٍّ فَإِذَا قُلْنَا نَعْبُدُ اللَّهَ فَذَلِكَ الذَّاتُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَإِذَا كُتِبَ هَذَا اللَّفْظُ فَقِيلَ مَا هَذَا يُقَالُ اللَّهُ بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الذَّاتِ الأَزَلِىِّ الأَبَدِىِّ لا بِمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ هِىَ الذَّاتُ الَّذِى نَعْبُدُهُ).
الصِّفَةُ السَّابِعَةُ (الإِرَادَةُ)
(اعْلَمْ أَنَّ الإِرَادَةَ وَهِىَ الْمَشِيئَةُ وَاجِبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى) أَىْ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يَكُونَ مُتَّصِفًا بِهَا (وَهِىَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ يُخَصِّصُ اللَّهُ بِهَا الْجَائِزَ) أَىِ الْمُمْكِنَ (الْعَقْلِىَّ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ وَبِصِفَةٍ دُونَ أُخْرَى وَبِوَقْتٍ دُونَ ءَاخَرَ) فَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِى الْوُجُودِ إِنَّمَا وُجِدَ بِتَخْصِيصِ اللَّهِ لَهُ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ أَىْ بَدَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا وَبِبَعْضِ الصِّفَاتِ دُونَ غَيْرِهَا وَبِالْوُجُودِ فِى وَقْتٍ دُونَ غَيْرِهِ. وَالدَّلِيلُ النَّقْلِىُّ عَلَى وُجُوبِ الإِرَادَةِ لِلَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ (وَبُرْهَانُ) أَىْ دَلِيلُ (وُجُوبِ الإِرَادَةِ لِلَّهِ) عَقْلًا (أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا) أَىْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِالإِرَادَةِ (لَمْ يُوجَدْ شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ لِأَنَّ الْعَالَمَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فَوُجُودُهُ لَيْسَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ عَقْلًا) أَىْ أَنَّ وُجُودَ الْعَالَمِ لَيْسَ ذَاتِيًّا بَلْ بِإِيجَادِ اللَّهِ لَهُ (وَالْعَالَمُ مَوْجُودٌ) بَعْدَ عَدَمٍ (فَعَلِمْنَا أَنَّهُ مَا وُجِدَ إِلَّا بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ لِوُجُودِهِ وَتَرْجِيحِهِ لَهُ عَلَى عَدَمِهِ فَثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ مُرِيدٌ شَاءٍ) أَىْ مُتَّصِفٌ بِالإِرَادَةِ أَىِ الْمَشِيئَةِ. (ثُمَّ الإِرَادَةُ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ) لا بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَى (عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ شَامِلَةٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ جَمِيعِهَا الْخَيْرِ مِنْهَا وَالشَّرِّ) فَلَوْلا تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى لِلطَّاعَاتِ بِالْوُجُودِ مَا وُجِدَتْ وَكَذَلِكَ الْكُفْرِيَّاتُ وَالْمَعَاصِى لَوْلا تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا بِالْوُجُودِ مَا وُجِدَتْ (فَكُلُّ مَا دَخَلَ فِى الْوُجُودِ مِنْ أَعْمَالِ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ وَمِنْ كُفْرٍ أَوْ مَعَاصٍ أَوْ طَاعَةٍ فَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَعَ وَحَصَلَ) كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ ﴿إِنْ هِىَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِى مَنْ تَشَاءُ﴾ (وَهَذَا كَمَالٌ فِى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ شُمُولَ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ لائِقٌ بِجَلالِ اللَّهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَقَعُ فِى مِلْكِهِ مَا لا يَشَاءُ لَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ الْعَجْزِ وَالْعَجْزُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ) فَكُلُّ شَىْءٍ يَحْصُلُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ لَكِنَّ الْخَيْرَ يَحْصُلُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَأَمَّا الشَّرُّ فَيَحْصُلُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ لا بِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ.
(وَالْمَشِيئَةُ) أَىْ مَشِيئَةُ اللَّهِ (تَابِعَةٌ لِلْعِلْمِ أَىْ أَنَّهُ مَا عَلِمَ حُدُوثَهُ فَقَدْ شَاءَ حُدُوثَهُ وَمَا عَلِمَ أَنَّهُ لا يَكُونُ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَكُونَ) وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَشِيئَةَ تَابِعَةٌ لِلْعِلْمِ فِى الْوُجُودِ لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ الْوَاجِبَةَ لَهُ كُلُّهَا أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا سَابِقٌ وَمَسْبُوقٌ (وَلَيْسَتِ الْمَشِيئَةُ تَابِعَةً لِلأَمْرِ) كَمَا زَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ (بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ) عَلَيْهِ السَّلامُ بِالْوَحْىِ الْمَنَامِىِّ (بِذَبْحِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَلَمْ يَشَأْ لَهُ ذَلِكَ) أَىْ لَمْ يَشَأْ لَهُ أَنْ يُذْبَحَ فَلَمَّا أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ تَنْفِيذَ مَا أُمِرَ بِهِ فَدَى اللَّهُ تَعَالَى إِسْمَاعِيلَ بِكَبْشٍ مِنَ الْجَنَّةِ جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ (فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَأْمُرُ بِمَا لَمْ يَشَأْ وُقُوعَهُ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَمْ يَشَأْ) ابْتِلاءً لِلْعِبَادِ (كَمَا أَنَّهُ عَلِمَ بِوُقُوعِ شَىْءٍ مِنَ الْعَبْدِ) كَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِى (وَنَهَاهُ عَنْ فِعْلِهِ).
الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ (الْقُدْرَةُ)
اعْلَمْ أَنَّهُ (يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى الْقُدْرَةُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ) وَهِىَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ ثَابِتَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ بِهَا يُوجِدُ الْمَعْدُومَ وَيُعْدِمُ الْمَوْجُودَ. وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِىُّ عَلَى وُجُوبِ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَكَانَ عَاجِزًا وَالْعَجْزُ نَقْصٌ وَالنَّقْصُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ وَأَمَّا دَلِيلُهُ النَّقْلِىُّ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ (وَالْمُرَادُ بِالشَّىْءِ هُنَا الْجَائِزُ الْعَقْلِىُّ) وَهُوَ مَا يُتَصَوَّرُ فِى الْعَقْلِ وُجُودُهُ تَارَةً وَعَدَمُهُ تَارَةً (فَخَرَجَ بِذَلِكَ الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِىُّ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْوُجُودِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَخَالَفَ فِى ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ) فِى كِتَابِهِ الْمُحَلَّى بِالآثَارِ (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَادِرٌ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِذْ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لَكَانَ عَاجِزًا) وَكَلامُهُ هَذَا كُفْرٌ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ لِأَنَّ مَعْنَى كَلامِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الأَزَلِىُّ حَادِثًا أَىْ مَخْلُوقًا لِأَنَّ الَّذِى يَنْحَلُّ مِنْهُ شَىْءٌ يَكُونُ حَادِثًا وَاللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ (وَهَذَا الَّذِى قَالَهُ) ابْنُ حَزْمٍ (غَيْرُ لازِمٍ) أَىْ لا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَاجِزًا إِنْ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا (لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ مُحَالٌ) أَىْ مُسْتَحِيلٌ (عَلَى اللَّهِ وَالْمُحَالُ الْعَقْلِىُّ لا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ) أَىْ لا تَتَعَلَّقُ الْقُدْرَةُ بِهِ فَلا يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا وَلا يُقَالُ إِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ بَلْ يُقَالُ هَذَا مُسْتَحِيلٌ عَقْلِىٌّ وَالْقُدْرَةُ لا تَتَعَلَّقُ بِهِ (وَعَدَمُ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالشَّىْءِ تَارَةً يَكُونُ لِقُصُورِهَا عَنْهُ وَذَلِكَ) يَحْصُلُ (فِى الْمَخْلُوقِ) كَمَا إِذَا قُلْنَا الإِنْسَانُ عَاجِزٌ عَنْ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا أَىْ أَنْ يُحْدِثَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قُدْرَتَهُ قَاصِرَةٌ عَنْ ذَلِكَ (وَتَارَةً يَكُونُ لِعَدَمِ قَبُولِ ذَلِكَ الشَّىْءِ الدُّخُولَ فِى الْوُجُودِ أَىْ حُدُوثَ الْوُجُودِ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِيلًا عَقْلِيًّا أَوْ لِعَدَمِ قَبُولِ ذَلِكَ الشَّىْءِ الْعَدَمَ) أَىِ الْفَنَاءَ (لِكَوْنِهِ وَاجِبًا عَقْلِيًّا) وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى (وَالْعَجْزُ هُوَ الأَوَّلُ) أَىْ عَدَمُ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالشَّىْءِ لِقُصُورِهَا عَنْهُ وَهُوَ (الْمَنْفِىُّ عَنْ قُدْرَتِهِ تَعَالَى لا الثَّانِى) أَىْ عَدَمُ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ بِالْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِىِّ وَالْوَاجِبِ الْعَقْلِىِّ لَيْسَ عَجْزًا فِى حَقِّ اللَّهِ (فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَلا عَاجِزٌ قَالَ بَعْضُهُمْ كَمَا لا يُقَالُ عَنِ الْحَجَرِ عَالِمٌ وَلا جَاهِلٌ وَكَذَلِكَ يُجَابُ) بِمِثْلِ ذَلِكَ (عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُلْحِدِينَ هَلِ اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُ وَهَذَا) السُّؤَالُ (فِيهِ تَجْوِيزُ الْمُحَالِ الْعَقْلِىِّ) وَالْمُحَالُ الْعَقْلِىُّ لا يَكُونُ جَائِزًا (وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَزَلِىٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ لَكَانَ أَزَلِيًّا وَالأَزَلِىُّ لا) يُقَالُ فِيهِ (يُخْلَقُ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ) لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ (فَكَيْفَ يُخْلَقُ الْمَوْجُودُ، أَمَّا الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِىُّ فَعَدَمُ قَبُولِهِ الدُّخُولَ فِى الْوُجُودِ ظَاهِرٌ) كَمَا تَقَدَّمَ (وَأَمَّا الْوَاجِبُ الْعَقْلِىُّ فَلا يَقْبَلُ حُدُوثَ الْوُجُودِ لِأَنَّ وُجُودَهُ أَزَلِىٌّ) لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ وَ(فَرْقٌ بَيْنَ الْوُجُودِ وَبَيْنَ الدُّخُولِ فِى الْوُجُودِ فَالْوُجُودُ يَشْمَلُ الْوُجُودَ الأَزَلِىَّ وَالْوُجُودَ الْحَادِثَ أَمَّا الدُّخُولُ فِى الْوُجُودِ فَهُوَ الْوُجُودُ الْحَادِثُ فَالْوَاجِبُ الْعَقْلِىُّ) هُوَ (اللَّهُ وَصِفَاتُهُ فَاللَّهُ وَاجِبٌ عَقْلِىٌّ) أَىْ لا يَقْبَلُ الْعَقْلُ عَدَمَهُ وَ(وُجُودُهُ أَزَلِىٌّ وَصِفَاتُهُ أَزَلِيَّةٌ وَ)لِذَلِكَ (لا يُقَالُ لِلَّهِ وَلا لِصِفَاتِهِ دَاخِلٌ فِى الْوُجُودِ لِأَنَّ وُجُودَهُمَا أَزَلِىٌّ فَقَوْلُنَا إِنَّ الْوَاجِبَ الْعَقْلِىَّ لا يَقْبَلُ الدُّخُولَ فِى الْوُجُودِ صَحِيحٌ لَكِن) قَدْ (يَقْصُرُ عَنْهُ أَفْهَامُ الْمُبْتَدِئِينَ فِى الْعَقِيدَةِ أَمَّا عِنْدَ مَنْ مَارَسَ فَهِىَ) عِبَارَةٌ (وَاضِحَةُ الْمُرَادِ).
الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ (الْعِلْمُ)
(اعْلَمْ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ قَدِيمٌ أَزَلِىٌّ) أَىْ لا بِدَايَةَ لَهُ (كَمَا أَنَّ ذَاتَهُ) قَدِيمٌ (أَزَلِىٌّ فَلَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَكَانَ جَاهِلًا وَالْجَهْلُ نَقْصٌ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ فَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ وَلا يَقْبَلُ عِلْمُهُ الزِّيَادَةَ وَلا النُّقْصَانَ (فَلا يَتَّصِفُ) رَبُّنَا (بِعِلْمٍ حَادِثٍ) كَعِلْمِنَا (لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ اتِّصَافُهُ بِالْحَوَادِثِ) أَىْ بِصِفَاتٍ حَادِثَةٍ أَىْ مَخْلُوقَةٍ (لَانْتَفَى عَنْهُ الْقِدَمُ لِأَنَّ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ) أَىِ الَّذِى تَقُومُ بِهِ صِفَاتٌ حَادِثَةٌ فَذَاتُهُ (لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا) مَخْلُوقًا (وَمَا أَوْهَمَ تَجَدُّدَ الْعِلْمِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الآيَاتِ الْقُرْءَانِيَّةِ) أَىْ مَا كَانَ ظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّ اللَّهَ يَكْتَسِبُ عِلْمًا جَدِيدًا (كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ) لِأَنَّ اللَّهَ لا يَتَجَدَّدُ لَهُ عِلْمٌ أَىْ لا يَكْتَسِبُ عِلْمًا جَدِيدًا بَلْ هُوَ عَالِمٌ فِى الأَزَلِ بِكُلِّ شَىْءٍ إِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ نُسِخَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ مِنْ مُقَاوَمَةِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ بِإِيجَابِ مُقَاوَمَةِ وَاحِدٍ لِاثْنَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ رَحْمَةً بِهِمْ لِلضَّعْفِ الَّذِى فِيهِمْ (وَ)بِعِبَارَةٍ أُخْرَى نَقُولُ (قَوْلُهُ ﴿وَعَلِمَ﴾ لَيْسَ رَاجِعًا لِقَوْلِهِ ﴿الآنَ﴾ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى خَفَّفَ عَنْكُمُ الآنَ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِى الأَزَلِ أَنَّهُ يَكُونُ فِيكُمْ ضَعْفٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ مَعْنَاهُ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِمَا شِئْنَا مِنَ الْبَلايَا (حَتَّى نُمَيِّزَ أَىْ) حَتَّى (نُظْهِرَ لِلْخَلْقِ مَنْ) هُوَ الصَّادِقُ الَّذِى (يُجَاهِدُ) فِى سَبِيلِ اللَّهِ (وَيَصْبِرُ) عَلَى الْمَشَقَّاتِ (مِنْ غَيْرِهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَالِمًا قَبْلُ) أَىْ فِى الأَزَلِ (كَمَا نَقَلَ الْبُخَارِىُّ ذَلِك عَنْ أَبِى عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بنِ الْمُثَنَّى وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾) أَىْ لِيُظْهِرَ لِعِبَادِهِ مَنْ هُوَ الْخَبِيثُ وَمَنْ هُوَ الطَّيِّبُ.
الصِّفَةُ الْعَاشِرَةُ (الْحَيَاةُ)
اعْلَمْ أَنَّهُ (يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى الْحَيَاةُ فَهُوَ حَىٌّ لا كَالأَحْيَاءِ إِذْ حَيَاتُهُ) صِفَةٌ (أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ) أَىْ لا بِدَايَةَ وَلا نِهَايَةَ لَهَا (لَيْسَتْ بِرُوحٍ) وَجَسَدٍ (وَدَمٍ. وَالدَّلِيلُ) الْعَقْلِىُّ (عَلَى وُجُوبِ حَيَاتِهِ وُجُودُ هَذَا الْعَالَمِ فَلَوْ لَمْ يَكُنِ) اللَّهُ (حَيًّا لَمْ يُوجَدْ شَىءٌ مِنَ) هَذَا (الْعَالَمِ لَكِنَّ وُجُودَ الْعَالَمِ ثَابِتٌ بِالْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ بِلا شَكٍّ) فَوَجَبَ أَنَّ اللَّهَ حَىٌّ لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ حَيًّا لا يَتَّصِفُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالإِرَادَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لِلْعَالَمِ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ النَّقْلِىُّ عَلَى اتِّصَافِ اللَّهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ﴾.
الصِّفَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (الْوَحْدَانِيَّةُ)
(مَعْنَى الْوَحْدَانِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ ذَاتًا مُؤَلَّفًا مِنْ أَجْزَاءٍ) كَالأَجْسَامِ فَالْعَرْشُ وَمَا دُونَهُ مِنَ الأَجْسَامِ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَجْزَاءٍ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ مُشَابَهَةٌ فَلا مَثِيلَ لَهُ تَعَالَى وَلا شَبِيهَ فِى ذَاتِهِ وَلا فِى صِفَاتِهِ وَلا فِى فِعْلِهِ (فَلا يُوجَدُ ذَاتٌ مِثْلُ ذَاتِهِ) لِأَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَ جِسْمًا (وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ صِفَةٌ كَصِفَتِهِ أَوْ فِعْلٌ كَفِعْلِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَحْدَانِيَّةَ الْعَدَدِ إِذِ الْوَاحِدُ فِى الْعَدَدِ لَهُ نِصْفٌ وَأَجْزَاءٌ أَيْضًا بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لا شَبِيهَ لَهُ) كَمَا قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّهُ وَاحِدٌ لا مِنْ طَرِيقِ الْعَدَدِ وَلَكِنْ مِنْ طَرِيقِ أَنَّهُ لا شَرِيكَ لَهُ.
(وَبُرْهَانُ) أَىْ دَلِيلُ (وَحْدَانِيَّتِهِ) الْعَقْلِىُّ (هُوَ أَنَّهُ لا بُدَّ لِلصَّانِعِ) أَىْ لِلْخَالِقِ (مِنْ أَنْ يَكُونَ حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا مُخْتَارًا) إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا لَكَانَ مَيِّتًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَكَانَ عَاجِزًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَكَانَ جَاهِلًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا مُخْتَارًا لَكَانَ مَجْبُورًا وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لا يَكُونُ إِلَهًا (فَإِذَا ثَبَتَ وَصْفُ الصَّانِعِ) أَىِ الْخَالِقِ (بِمَا ذَكَرْنَاهُ قُلْنَا لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ) أَىْ خَالِقَانِ (وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيًّا قَادِرًا عَالِمًا مُرِيدًا مُخْتَارًا وَالْمُخْتَارَانِ يَجُوزُ اخْتِلافُهُمَا فِى الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى مُوَافَقَةِ الآخَرِ فِى اخْتِيَارِهِ وَإِلَّا لَكَانَا مَجْبُورَيْنِ وَالْمَجْبُورُ لا يَكُونُ إِلَهًا، فَإِذَا صَحَّ هَذَا فَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا خِلافَ مُرَادِ الآخَرِ فِى شَىْءٍ كَأَنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا حَيَاةَ شَخْصٍ وَأَرَادَ الآخَرُ مَوْتَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَتِمَّ مُرَادُهُمَا أَوْ لا يَتِمَّ مُرَادُهُمَا أَوْ يَتِمَّ مُرَادُ أَحَدِهِمَا وَلا يَتِمَّ مُرَادُ الآخَرِ وَمُحَالٌ) أَىْ مُسْتَحِيلٌ (تَمَامُ مُرَادَيْهِمَا لِتَضَادِّهِمَا أَىْ إِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا حَيَاةَ شَخْصٍ وَأَرَادَ الآخَرُ مَوْتَهُ) مَثَلًا (يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّخْصُ حَيًّا وَمَيِّتًا فِى ءَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ مُرَادُهُمَا فَهُمَا عَاجِزَانِ وَالْعَاجِزُ لا يَكُونُ إِلَهًا، وَإِنْ تَمَّ مُرَادُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَتِمَّ مُرَادُ الآخَرِ فَإِنَّ الَّذِى لَمْ يَتِمَّ مُرَادُهُ عَاجِزٌ وَلا يَكُونُ الْعَاجِزُ إِلَهًا وَلا قَدِيمًا وَهَذِهِ الدِّلالَةُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْمُوَحِّدِينَ تُسَمَّى بِدِلالَةِ التَّمَانُعِ) كَمَا (قَالَ تَعَالَى ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾) أَىْ لَوْ كَانَ لِلسَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ءَالِهَةٌ غَيْرُ اللَّهِ لَفَسَدَتَا أَىْ مَا كَانَتَا تَسْتَمِرَّانِ عَلَى انْتِظَامٍ. فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ وَاحِدًا وَكَانَ مُتَعَدِّدًا لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ مُنْتَظِمًا لَكِنَّ الْعَالَمَ مُنْتَظِمٌ فَوَجَبَ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ النَّقْلِىُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ مِنَ الْقُرْءَانِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ وَمِنَ الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ أَنَّهُ ﷺ كَانَ إِذَا تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ أَىِ اسْتَيْقَظَ قَالَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ (الْقِيَامُ بِالنَّفْسِ)
(اعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى قِيَامِهِ بِنَفْسِهِ هُوَ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَلا يَحْتَاجُ) إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَلا يَنْتَفِعُ رَبُّنَا بِطَاعَةِ الطَّائِعِينَ وَلا يَنْضَرُّ بِعِصْيَانِ الْعُصَاةِ وَكُلُّ شَىْءٍ سِوَى اللَّهِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِى أَوْجَدَهُ فَلا يَسْتَغْنِى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلا يَحْتَاجُ (إِلَى مُخَصِّصٍ لَهُ بِالْوُجُودِ) بَدَلَ الْعَدَمِ وَبِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ (لِأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إِلَى الْغَيْرِ يُنَافِى قِدَمَهُ وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ قِدَمِهِ وَبَقَائِهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ (الْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ)
اعْلَمْ أَنَّهُ (يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْحَوَادِثِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ كَانَ يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لَهَا وَلَجَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ أَمَّا الدَّلِيلُ النَّقْلِىُّ لِوُجُوبِ مُخَالَفَتِهِ تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ أَىِ الْمَخْلُوقَاتِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ فَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ نَفْسِهِ مُشَابَهَةَ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (فَلَيْسَ هُوَ بِجَوْهَرٍ يَشْغَلُ حَيِّزًا وَلا عَرَضٍ) أَىْ لَيْسَ حَجْمًا يَمْلَأُ فَرَاغًا وَلا صِفَةً لِلْحَجْمِ (وَالْجَوْهَرُ مَا لَهُ تَحَيُّزٌ وَقِيَامٌ بِذَاتِهِ كَالأَجْسَامِ) أَىْ مَا يَمْلَأُ فَرَاغًا وَلَيْسَ صِفَةً لِغَيْرِهِ (وَالْعَرَضُ مَا لا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ) أَىْ هُوَ صِفَةٌ لِلْجَوْهَرِ (كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَالأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَلِذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِى بَعْضِ رَسَائِلِهِ فِى عِلْمِ الْكَلامِ) وَهِىَ رِسَالَةُ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ (أَنَّى يُشْبِهُ الْخَالِقُ مَخْلُوقَهُ، مَعْنَاهُ لا يَصِحُّ عَقْلًا وَلا نَقْلًا أَنْ يُشْبِهَ الْخَالِقُ مَخْلُوقَهُ وَ)يَشْمَلُ نَفْىُ مُشَابَهَةِ اللَّهِ لِخَلْقِهِ تَنْزِيهَهُ تَعَالَى عَنِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ. وَالْكَمِيَّةُ هِىَ مِقْدَارُ الْحَجْمِ وَالْكَيْفِيَّةُ هِىَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ (قَالَ) الإِمَامُ (أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِىُّ إِنَّ الَّذِى يَجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَهُ أَنَّ رَبَّنَا لَيْسَ بِذِى صُورَةٍ وَلا هَيْئَةٍ) أَىْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ خَالِقَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَجْمِ وَالْمِقْدَارِ وَالشَّكْلِ وَالصُّورَةِ (فَإِنَّ الصُّورَةَ تَقْتَضِى الْكَيْفِيَّةَ) أَىْ مَنْ كَانَ حَجْمًا مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ لا بُدَّ مِنِ اتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الأَحْجَامِ مِنَ الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَنَحْوِهَا (وَهِىَ) أَىِ الْكَيْفِيَّةُ (عَنِ اللَّهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ مَنْفِيَّةٌ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَصِفَاتُهُ لَيْسَتْ حَادِثَةً (رَوَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِىُّ فِى الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَقَدْ تُطْلَقُ الْكَيْفِيَّةُ بِمَعْنَى الْحَقِيقَةِ كَمَا فِى قَوْلِ بَعْضِهِمْ
كَيْفِيَّةُ الْمَرْءِ لَيْسَ الْمَرْءُ يُدْرِكُهَا فَكَيْفَ كَيْفِيَّةُ الْجَبَّارِ فِى الْقِدَمِ
وَمُرَادُ هَذَا الْقَائِلِ) بِالْكَيْفِيَّةِ (الْحَقِيقَةُ) أَىْ أَنَّ الإِنْسَانَ لا يُحِيطُ عِلْمًا بِاللَّهِ لِأَنَّهُ لا يَعْرِفُ اللَّهَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ (وَهَذَا الْبَيْتُ ذَكَرَهُ) بَدْرُ الدِّينِ (الزَّرْكَشِىُّ) فِى تَشْنِيفِ الْمَسَامِعِ (وَابْنُ الْجَوْزِىِّ) فِى دَفْعِ شُبْهَةِ التَّشْبِيهِ (وَغَيْرُهُمَا). قَالَ الْعَلَّامَةُ الْهَرَرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ قِيلَ
حَقِيقَةُ الْمَرْءِ لَيْسَ الْمَرْءُ يُدْرِكُهَا فَكَيْفَ يُدْرِكُ كُنْهَ الْخَالِقِ الأَزَلِىِ
لَكَانَ أَحْسَنَ فَإِنَّ فِى التَّعْبِيرِ بِكَيْفِيَّةِ الْجَبَّارِ بشَاعَةً.
(وَقَالَ) الإِمَامُ (أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِىُّ) أَحْمَدُ بنُ سَلامَةَ الْمِصْرِىُّ (وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِى الْبَشَرِ) أَىْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ (فَقَدْ كَفَرَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ) تُوُفِّىَ سَنَةَ ثَلاثِمِائَةٍ وَوَاحِدٍ وَعِشْرِينَ (فَهُوَ دَاخِلٌ فِى حَدِيثِ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِى) أَىْ قَرْنُ الصَّحَابَةِ وَهُمْ خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَىْ بِاعْتِبَارِ الإِجْمَالِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الصَّحَابَةِ خَيْرٌ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) أَىِ التَّابِعُونَ (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) أَىْ أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ. وَالْقَرْنُ الْمُرَادُ بِهِ مِائَةُ سَنَةٍ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بنُ عَسَاكِرَ فِى كِتَابِهِ تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِى الَّذِى أَلَّفَهُ فِى التَّنْوِيهِ بِأَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ) أَىْ لِبَيَانِ عُلُوِّ قَدْرِهِ.
(صِفَاتُ اللَّهِ) تَعَالَى (كُلُّهَا كَامِلَةٌ)
اعْلَمْ أَنَّ (صِفَاتِ اللَّهِ) تَعَالَى (أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ) أَىْ لا بِدَايَةَ وَلا نِهَايَةَ لَهَا (لِأَنَّ الذَّاتَ أَزَلِىٌّ فَلا تَحْصُلُ لَهُ صِفَةٌ لَمْ تَكُنْ فِى الأَزَلِ) وَلا تَقْبَلُ صِفَاتُهُ التَّغَيُّرَ وَالتَّطَوُّرَ (أَمَّا صِفَاتُ الْخَلْقِ فَهِىَ حَادِثَةٌ) أَىْ مَخْلُوقَةٌ (تَقْبَلُ التَّطَوُّرَ مِنْ كَمَالٍ إِلَى أَكْمَلَ) بِخِلافِ صِفَاتِ اللَّهِ فَإِنَّهَا كَامِلَةٌ لا تَزِيدُ وَلا تَنْقُصُ (فَلا يَتَجَدَّدُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَىْءٌ) أَىْ لا يَكْتَسِبُ اللَّهُ عِلْمًا جَدِيدًا بَلْ هُوَ عَالِمٌ فِى الأَزَلِ بِكُلِّ شَىْءٍ (وَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ بِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ وَقُدْرَتِهِ الأَزَلِيَّةِ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ) أَىْ أَحْدَثَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ بِقُدْرَتِهِ الأَزَلِيَّةِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ الأَزَلِىِّ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ (فَالْمَاضِى وَالْحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ بِالنِّسْبَةِ لِلَّهِ أَحَاطَ بِهِ بِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ) فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ مَا يَحْدُثُ فِى الدَّارِ الآخِرَةِ الَّتِى لا نِهَايَةَ لَهَا يَعْلَمُ ذَلِكَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فَأَنْفَاسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّعِيمُ الَّذِى يَتَجَدَّدُ لَهُمْ وَأَنْفَاسُ أَهْلِ النَّارِ وَمَا يَتَجَدَّدُ لَهُمْ مِنَ الآلامِ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ كُلُّ ذَلِكَ يَعْلَمُهُ اللَّهُ (وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ فَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ سَوْفَ يَعْلَمُ الْمُجَاهِدِينَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِمْ بِالِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ وَهَذَا يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ مَعْنَى الآيَةِ حَتَّى نُمَيِّزَ أَىْ حَتَّى نُظْهِرَ لِلْعِبَادِ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ (مِنْ غَيْرِهِمْ وَيَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالى يَكْتَسِبُ عِلْمًا جَدِيدًا) لِأَنَّه نَسَبَ الْجَهْلَ إِلَى اللَّهِ وَجَعَلَ عِلْمَ اللَّهَ تَعَالَى حَادِثًا أَىْ مَخْلُوقًا. (وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّهَا كَامِلَةٌ) أَىْ تَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ (قَالَ تَعَالَى ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾) أَىْ لِلَّهِ الأَسْمَاءُ الَّتِى تَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى اللَّهِ اسْمٌ لا يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ يُوهِمُ نَقْصًا كَمَا فَعَلَ سَيِّد قُطُب فِى كِتَابِهِ الْمُسَمَّى التَّصْوِيرَ الْفَنِّىَّ فِى الْقُرْءَانِ فَإِنَّهُ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى بِالرِّيشَةِ الْخَالِقَةِ وَفِعْلُهُ هَذَا مِنَ الإِلْحَادِ فِى أَسْمَاءِ اللَّهِ. (وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾) أَىْ لِلَّهِ صِفَاتٌ تَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ لا تُشْبِهُ صِفَاتِ غَيْرِهِ (فَيَسْتَحِيلُ فِى حَقِّهِ تَعَالَى أَىُّ نَقْصٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾) فَلَيْسَ فِيهِ نِسْبَةُ النَّقْصِ إِلَى اللَّهِ (فَالْمَكْرُ مِنَ الْخَلْقِ خُبْثٌ وَخِدَاعٌ لِإِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْغَيْرِ) بِطَرِيقَةٍ خَفِيَّةٍ (بِاسْتِعْمَالِ حِيلَةٍ) وَهَذَا لا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ (وَأَمَّا) الْمَكْرُ (مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُجَازَاةُ الْمَاكِرِينَ بِالْعُقُوبَةِ مِنْ حَيْثُ لا يَدْرُونَ) فَلا يُذَمُّ لِأَنَّ اللَّهَ لا يَجُوزُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ لا يَكُونُ ظَالِمًا إِنِ انْتَقَمَ مِنْ عِبَادِهِ الظَّالِمِينَ بِمَا شَاءَ (وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى إِنَّ اللَّهَ) تَعَالَى (أَقْوَى فِى إِيصَالِ الضَّرَرِ إِلَى الْمَاكِرِينَ مِنْ كُلِّ مَاكِرٍ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ فَالْمَكْرُ بِمَعْنَى الِاحْتِيَالِ) مَذْمُومٌ وَهُوَ (مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى) ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ أَىْ يُجَازِيهِمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ) فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا اجْتَمَعُوا يَتَكَلَّمُونَ بِذَمِّ الإِسْلامِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وبِالْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَخِفُّ بِالْمُنَافِقِينَ كَمَا يَسْتَخِفُّ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ أَىْ تَرَكُوا طَاعَةَ اللَّهِ بِالإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَتَرَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ رَحْمَتِهِ خَالِدِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ عَذَابُهَا. وَلا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ بِالْمَاكِرِ أَوِ الْمُسْتَهْزِئِ أَوِ النَّاسِى لِأَنَّهُ اسْتِخْفَافٌ باللَّهِ.
(وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِإِثْبَاتِ مَا وَرَدَ فِى الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالْعَيْنِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ) مِمَّا أُضِيفَ إِلَى اللَّهِ (عَلَى أَنَّهَا صِفَاتٌ يَعْلَمُهَا اللَّهُ) أَىْ يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا (لا عَلَى أَنَّهَا جَوَارِحُ) أَىْ أَعْضَاءٌ (وَانْفِعَالاتٌ كَأَيْدِينَا وَوُجُوهِنَا وَعُيُونِنَا) وَرِضَانَا (وَغَضَبِنَا) فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلَّهِ يَدٌ لا كَأَيْدِينَا وَوَجْهٌ لا كَوُجُوهِنَا وَعَيْنٌ لا كَأَعْيُنِنَا عَلَى مَعْنَى الصِّفَةِ كَمَا فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ أَىْ بِقُوَّةٍ وَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ أَىْ إِلَّا مُلْكَهُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ سَفِينَةِ نُوحٍ ﴿تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا﴾ أَىْ بِحِفْظِنَا لَهَا وَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ وَالرِّضَا إِذَا وُصِفَ اللَّهُ بِهِ فَمَعْنَاهُ إِرَادَةُ الرَّحْمَةِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ لِعِبَادِهِ إِسْبَاغُ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَتْ رِقَّةَ الْقَلْبِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ﴾ وَالْغَضَبُ إِذَا وُصِفَ اللَّهُ بِهِ فَمَعْنَاهُ إِرَادَة الِانْتِقَامِ وَلَيْسَ انْفِعَالًا أَوْ تَغَيُّرًا يَحْدُثُ فِى النَّفْسِ (فَإِنَّ الْجَوَارِحَ) وَالاِنْفِعَالاتِ (مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَقَوْلِهِ) تَعَالَى (﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾) أَىْ لا مَثِيلَ لَهُ وَلا شَبِيهَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَ(قَالُوا لَوْ كَانَ لِلَّهِ عَيْنٌ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ وَالْجِسْمِ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ فَضْلًا عَنْ مِثْلٍ وَاحِدٍ وَلَجَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْمُحْدَثَاتِ) أَىِ الْمَخْلُوقَاتِ (مِنَ الْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ وَالتَّطَوُّرِ وَلَكَانَ ذَلِكَ خُرُوجًا مِنْ مُقْتَضَى الْبُرْهَانِ) أَىِ الدَّلِيلِ (الْعَقْلِىِّ عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّغَيُّرِ وَالتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ الدَّلائِلَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ) أَظْهَرُهَا (طُرُوءُ) أَىْ حُدُوثُ (صِفَاتٍ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ وَالتَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَلا يَصِحُّ إِهْمَالُ) أَىْ إِلْغَاءُ إِعْمَالِ (الْعَقْلِ لِأَنَّ الشَّرْعَ لا يَأْتِى إِلَّا بِمُجَوَّزَاتِ الْعَقْلِ أَىْ إِلَّا بِمَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ لِأَنَّهُ شَاهِدُ الشَّرْعِ) أَىْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الشَّرْعِ (فَالْعَقْلُ يَقْضِى بِأَنَّ الْجِسْمَ وَالْجِسْمَانِيَّاتِ أَىِ الأَحْوَالَ الْعَارِضَةَ لِلْجِسْمِ) أَىْ صِفَاتِ الْجِسْمِ (مُحْدَثَةٌ) أَىْ مَخْلُوقَةٌ (لا مَحَالَةَ وَأَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ لِمُحْدِثٍ) أَحْدَثَهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ (فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَّصِفُ بِهَا لَهُ مُحْدِثٌ وَلا تَصِحُّ الأُلُوهِيَّةُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ).
(سَبَبُ نُزُولِ) سُورَةِ (الإِخْلاصِ)
رَوَى الْبَيْهَقِىُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ (الْيَهُودَ قَالَتْ لِلرَّسُولِ ﷺ) يَا مُحَمَّدُ (صِفْ لَنَا رَبَّكَ) الَّذِى تَعْبُدُهُ وَ(قَدْ كَانَ سُؤَالُهُمْ تَعَنُّتًا أَىْ عِنَادًا لا حُبًّا لِلْعِلْمِ وَاسْتِرْشَادًا بِهِ) أَىْ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ) تَعَالَى (سُورَةَ الإِخْلاصِ) فَقَالَ النَّبِىُّ ﷺ هَذِهِ صِفَةُ رَبِّى عَزَّ وَجَلَّ. (﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ أَىِ الَّذِى لا يَقْبَلُ) الِانْقِسَامَ وَ(التَّعَدُّدَ وَالْكَثْرَةَ وَلَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِى الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ أَوِ الأَفْعَالِ) فَلا يُوجَدُ ذَاتٌ مِثْلُ ذَاتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ جِسْمًا (وَلَيْسَ لِأَحَدٍ صِفَةٌ كَصِفَاتِهِ) أَوْ فِعْلٌ كَفِعْلِهِ لِأَنَّ فِعْلَهُ وَصِفَاتِهِ أَزَلِيَّةٌ (بَلْ قُدْرَتُهُ تَعَالَى قُدْرَةٌ وَاحِدَةٌ يَقْدِرُ بِهَا عَلَى كُلِّ شَىْءٍ) أَىْ أَنَّ قُدْرَتَهُ تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مُمْكِنٍ عَقْلِىٍّ إِيجَادًا وَإِعْدَامًا (وَعِلْمُهُ وَاحِدٌ يَعْلَمُ بِهِ كُلَّ شَىْءٍ) أَىْ يَعْلَمُ بِهِ الأَزَلِىَّ كَذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَيَعْلَمُ بِهِ الْحَادِثَاتِ أَىِ الْمَخْلُوقَاتِ وَ(قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ أَىِ الَّذِى تَفْتَقِرُ) أَىْ تَحْتَاجُ (إِلَيْهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ وَ)هُوَ (الَّذِى يُقْصَدُ) أَىْ يُلْجَأُ إِلَيْهِ (عِنْدَ الشِّدَّةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا وَلا يَجْتَلِبُ بِخَلْقِهِ نَفْعًا لِنَفْسِهِ) أَىْ لا يَنْتَفِعُ بِهِمْ (وَلا يَدْفَعُ بِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ضُرًّا) أَىْ ضَرَرًا فَهُمْ لا يَنْفَعُونَهُ وَلا يَضُرُّونَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِّنْ رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ وَ(قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ نَفْىٌ لِلْمَادِّيَّةِ وَالِانْحِلالِ) أَىْ أَنَّهُ لَيْسَ أَصْلًا لِغَيْرِهِ أَوْ أَبًا وَلا فَرْعًا لِغَيْرِهِ أَوْ وَلَدًا (وَهُوَ) مُنَزَّهٌ عَنْ (أَنْ يَنْحَلَّ مِنْهُ شَىْءٌ) كَمَا يَنْفَصِلُ الْوَلَدُ عَنْ وَالِدِهِ (أَوْ أَنْ يَحُلَّ هُوَ فِى شَىْءٍ) كَمَا يَحُلُّ الْوَلَدُ فِى رَحِمِ أُمِّهِ (وَ)أَمَّا (مَا وَرَدَ فِى كِتَابِ مَوْلِدِ الْعَرُوسِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ) تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ خَلْقَ مُحَمَّدٍ (قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ نُورِ وَجْهِهِ فَقَالَ لَهَا كُونِى مُحَمَّدًا فَكَانَتْ مُحَمَّدًا فَهَذِهِ مِنَ الأَبَاطِيلِ الْمَدْسُوسَةِ) الَّتِى أَدْخَلَهَا بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الإِسْلامِ وَهِىَ تُوهِمُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ لَهُ أَجْزَاءٌ (وَحُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ) سَيِّدَنَا (مُحَمَّدًا ﷺ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّكْفِيرُ قَطْعًا وَكَذَلِكَ الَّذِى يَعْتَقِدُ) فِى سَيِّدِنَا عِيسَى (الْمَسِيحِ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى ذَمِّ الْكُفَّارِ ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾ (وَلَيْسَ هَذَا الْكِتَابُ لِابْنِ الْجَوْزِىِّ رَحِمَهُ اللَّهُ) كَمَا يَزْعُمُ مَنْ طَبَعَهُ (وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَيْهِ إِلَّا الْمُسْتَشْرِقُ) الأَلْمَانِىُّ (بُروكلْمَان) وَأَمَّا (قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ أَىْ لا نَظِيرَ لَهُ) وَلا شَبِيهَ (بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ).
