(عَوْدٌ إِلَى تَقْسِيمِ الْكُفْرِ لِزِيَادَةِ فَائِدَةٍ)
(وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفْرَ ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ إِمَّا تَشْبِيهٌ) لِلَّهِ بِخَلْقِهِ (أَوْ تَكْذِيبٌ) لِشَرْعِهِ (أَوْ تَعْطِيلٌ) أَىْ نَفْىُ وُجُودِهِ وَهَذِهِ الأَبْوَابُ (أَحَدُهَا التَّشْبِيهُ أَىْ تَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ) كَمَا تَقَدَّمَ (كَمَنْ يَصِفُهُ بِالْحُدُوثِ) أَىِ الْوُجُودِ بَعْدَ عَدَمٍ لِذَاتِهِ أَوْ لِصِفَاتِهِ الثَّابِتَةِ لَهُ (أَوْ) يُجَوِّزُ (الْفَنَاءَ) عَلَيْهِ (أَوْ) يَصِفُهُ بِصِفَاتِ (الْجِسْمِ) كَالْحَرَكَةِ أَوِ السُّكُونِ (أَوِ اللَّوْنِ أَوِ الشَّكْلِ أَوِ الْكَمِيَّةِ أَىْ مِقْدَارِ الْحَجْمِ) فَمَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ كَأَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ قَاعِدٌ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ كَافِرٌ مُكَذِّبٌ لِـلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَعْنًى وَلَوْ قَالَهَا لَفْظًا لِأَنَّهُ نَسَبَ الأُلُوهِيَّةَ إِلَى هَذَا الْجِسْمِ الَّذِى تَصَوَّرَهُ وَهُوَ لَيْسَ اللَّه فَلا يَكُونُ أَقَرَّ بِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ وَلا عَبَدَهُ بَلْ عَبَدَ شَيْئًا تَخَيَّلَهُ وَتَوَهَّمَهُ. (أَمَّا مَا وَرَدَ فِى الْحَدِيثِ) الَّذِى رَوَاهُ مُسْلِمٌ (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ) يُحِبُّ الْجَمَالَ (فَلَيْسَ مَعْنَاهُ جَمِيلَ الشَّكْلِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ جَمِيلُ الصِّفَاتِ) أَىْ صِفَاتُهُ كَامِلَةٌ (أَوْ مُحْسِنٌ) أَىْ مُنْعِمٌ عَلَى الْعِبَادِ. وَمَعْنَى يُحِبُّ الْجَمَالَ يُحِبُّ لِعِبَادِهِ نَظَافَةَ الْخُلُقِ وَالْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ يُحِبُّ جَمَالَ الشَّكْلِ لِأَنَّ جَمَالَ الشَّكْلِ يَتَّصِفُ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَاللَّهُ تَعَالَى لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ قَالَ تَعَالَى ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾.
وَ(ثَانِيهَا) أَىْ ثَانِى أَبْوَابِ الْكُفْرِ (التَّكْذِيبُ أَىْ تَكْذِيبُ مَا وَرَدَ فِى الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ أَوْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى وَجْهٍ ثَابِتٍ وَكَانَ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ) أَىْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (كَاعْتِقَادِ فَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) أَوْ إِحْدَاهُمَا فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَيِّنَةِ وَالأَحْزَابِ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ وَقَوْلِهِ ﷺ إِنَّهُ يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَح (أَىْ أَنَّ الْمَوْتَ يُصَوَّرُ بِهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَح) فَيُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلا مَوْت وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْت رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ (أَوِ) اعْتِقَادِ (أَنَّ الْجَنَّةَ لَذَّاتٌ غَيْرُ حِسِيَّةٍ وَأَنَّ النَّارَ ءَالامٌ مَعْنَوِيَّةٌ) أَىْ غَيْرُ حِسِيَّةٍ وَهُوَ كُفْرٌ بِالإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ وَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ (أَوْ إِنْكَارِ بَعْثِ الأَجْسَادِ وَالأَرْوَاحِ مَعًا) فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾ (أَوْ إِنْكَارِ وُجُوبِ الصَّلاةِ) الْمَفْرُوضَةِ فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ وَقَوْلِهِ ﷺ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ (أَوْ) إِنْكَارِ وُجُوبِ (الصِّيَامِ) فِى رَمَضَانَ فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (أَوْ) إِنْكَارِ وُجُوبِ (الزَّكَاةِ) فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ﴾ (أَوِ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِ الطَّلاقِ) عَلَى الإِطْلاقِ أَوْ تَحْرِيمِهِ بِغَيْرِ رِضَى الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ (أَوْ تَحْلِيلِ) شُرْبِ (الْخَمْرِ) فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ وَقَوْلِهِ ﷺ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَشَارِبَهَا وَءَاكِلَ ثَمَنِهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَمُسْتَقِيَهَا رَوَاهُ أَحْمَدُ (وَ)كَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يُنْكِرُ (غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وَ)الْيَقِينِ (وَظَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ) كَمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ بَعْضَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ لا تَصْلُحُ لِلنَّاسِ فِى زَمَانِنَا (هَذَا). وَمَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ الصَّلاةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيْهِ كَفَرَ (بِخِلافِ مَنْ يَعْتَقِدُ بِوُجُوبِ الصَّلاةِ عَلَيْهِ مَثَلًا لَكِنَّهُ لا يُصَلِّى فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاصِيًا لا كَافِرًا كَمَنْ يَعْتَقِدُ عَدَمَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ) وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ لا يَكْفُرُ إِذَا لَمْ يَسْتَحِلَّهَا.
وَ(ثَالِثُهَا) أَىْ ثَالِثُ أَبْوَابِ الْكُفْرِ (التَّعْطِيلُ أَىْ نَفْىُ وُجُودِ اللَّهِ وَهُوَ أَشَدُّ الْكُفْرِ) عَلَى الإِطْلاقِ. وَمِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ كُفْرُ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ وَهُوَ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَالَمُ وَأَنَّ أَفْرَادَ الْعَالَمِ أَجْزَاءٌ مِنْهُ تَعَالَى وَكُفْرُ الْحُلُولِ وَهُوَ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ يَحُلُّ فِى غَيْرِهِ كَاعْتِقَادِ الشَّاذِلِيَّةِ الْيَشْرُطِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ دَاخِلٌ فِى كُلِّ شَخْصٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. (وَحُكْمُ مَنْ يُشَبِّهُ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ التَّكْفِيرُ قَطْعًا) أَىْ بِلا خِلافٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ وَلَمْ يَعْبُدْهُ إِنَّمَا يَعْبُدُ شَيْئًا تَخَيَّلَهُ وَتَوَهَّمَهُ وَمَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ لا يَكُونُ مُسْلِمًا (وَالسَّبِيلُ إِلَى صَرْفِ التَّشْبِيهِ) أَىْ طَرْدِ خَوَاطِرِ التَّشْبِيهِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ (اتِّبَاعُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْقَاطِعَةِ) أَىِ الثَّابِتَةِ قَطْعًا وَيَقِينًا (مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَاللَّهُ بِخِلافِ ذَلِكَ) أَىْ لا يُشْبِهُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَتَصَوَّرُهُ الإِنْسَانُ بِبَالِهِ خَيَالٌ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ (وَهِىَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ) ذَكَرَهَا الإِمَامُ ذُو النُّونِ الْمِصْرِىُّ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (وَهِىَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَمُلاحَظَةُ مَا رُوِىَ عَنْ) أَبِى بَكْرٍ (الصِّدِّيقِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى النَّهْىِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِى ذَاتِ اللَّهِ وَهُوَ (شِعْرٌ مِنَ الْبَسِيطِ
الْعَجْزُ عَنْ دَرَكِ الإِدْرَاكِ إِدْرَاكُ وَالْبَحْثُ عَنْ ذَاتِهِ كُفْرٌ وَإِشْرَاكُ)
أَىْ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ لا كَالْمَوْجُودَاتِ وَأَنَّهُ لا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ فِى النَّفْسِ وَاعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ إِدْرَاكِهِ أَىْ عَنْ مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ فَلَمْ يَبْحَثْ عَنْ ذَاتِهِ لِلْوُصُولِ إِلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّهُ عَرَفَ اللَّهَ وَأَدْرَكَ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ بِهِ وَسَلِمَ مِنَ التَّشْبِيهِ أَمَّا الَّذِى لا يَكْتَفِى بِهَذَا الْعَجْزِ وَيُرِيدُ بِزَعْمِهِ أَنْ يَعْرِفَ حَقِيقَتَهُ وَيَبْحَثَ عَنْ ذَاتِهِ فَيَتَصَوَّرُهُ كَالإِنْسَانِ أَوْ كَكُتْلَةٍ نُورَانِيَّةٍ أَوْ يَتَصَوَّرُهُ جِسْمًا مُسْتَقِّرًا فَوْقَ الْعَرْشِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ) كَابْنِ جُزَىٍّ فِى التَّسْهِيلِ (لا يَعْرِفُ اللَّهَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى) مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ عَالِمٌ بِذَاتِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ (وَ)أَمَّا (مَعْرِفَتُنَا نَحْنُ بِاللَّهِ تَعَالَى) فَهِىَ (لَيْسَتْ عَلَى سَبِيلِ الإِحَاطَةِ بَلْ بِمَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى) مِنَ الصِّفَاتِ (كَوُجُوبِ الْقِدَمِ لَهُ) أَىْ أَنَّهُ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ (وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ تَعَالَى) أَىْ مَا يَسْتَحِيلُ عَقْلًا فِى حَقِّهِ (كَاسْتِحَالَةِ الشَّرِيكِ لَهُ وَ)مَعْرِفَةِ (مَا يَجُوزُ فِى حَقِّهِ تَعَالَى كَخَلْقِ شَىْءٍ وَتَرْكِهِ) فَاللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ مَا يَشَاءُ وَيَتْرُكَ مَا يَشَاءُ أَىْ لا يَخْلُقَهُ (قَالَ الإِمَامُ) أَحْمَدُ (الرِّفَاعِىُّ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ خَمْسِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةٍ وَسَبْعِينَ (غَايَةُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ الإِيقَانُ بِوُجُودِهِ تَعَالَى بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ) أَىْ أَقْصَى مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ بِوُجُودِهِ تَعَالَى بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ أَىْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ فَمَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ فَقَدْ وَصَلَ إِلَى غَايَةِ مَا يَبْلُغُهُ الإِنْسَانُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(فَائِدَةٌ. قَالَ الْغَزَالِىُّ فِى) كِتَابِهِ (إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ إِنَّهُ أَىِ اللَّهَ أَزَلِىٌّ لَيْسَ لِوُجُودِهِ أَوَّلٌ) أَىْ لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ (وَ)أَبَدِىٌّ (لَيْسَ لِوُجُودِهِ ءَاخِرٌ) أَىْ لا يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ (وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ) فَرْدٍ (يَتَحَيَّزُ) فِى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ وَالْجَوْهَرُ الْفَرْدُ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِى لا يَتَجَزَّأُ مِنْ تَنَاهِيهِ فِى الْقِلَّةِ (بَلْ يَتَعَالَى) رَبُّنَا (وَيَتَقَدَّسُ عَنْ مُنَاسَبَةِ الْحَوَادِثِ) أَىْ يَتَنَزَّهُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ (وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ مُؤَلَّفٍ مِنْ جَوَاهِرَ) أَىْ أَجْزَاءٍ وَالْجِسْمُ مَا تَرَكَّبَ مِنْ جَوْهَرَيْنِ فَأَكْثَرَ (وَلَوْ جَازَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ صَانِعَ) أَىْ خَالِقَ (الْعَالَمِ جِسْمٌ لَجَازَ أَنْ تُعْتَقَدَ الأُلُوهِيَّةُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَوْ لِشَىْءٍ ءَاخَرَ مِنْ أَقْسَامِ الأَجْسَامِ) فَالْجِسْمُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا لِأَنَّ لَهُ حَدًّا أَىْ حَجْمًا وَمِقْدَارًا فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ وَالْمِقْدَارِ وَالْمُحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ لا يَكُونُ إِلَهًا (فَإِذًا لا يُشْبِهُ) رَبُّنَا (شَيْئًا) مِنْ خَلْقِهِ (وَلا يُشْبِهُهُ شَىْءٌ بَلْ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ الَّذِى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَأَنَّى يُشْبِهُ الْمَخْلُوقُ خَالِقَهُ) أَىْ لا يَصِحُّ عَقْلًا وَلا شَرْعًا أَنْ يُشْبِهَ الْمَخْلُوقُ خَالِقَهُ (وَالْمُقَدَّرُ) بِمِقْدَارٍ (مُقَدِّرَهُ وَالْمُصَوَّرُ مُصَوِّرَهُ) الَّذِى أَنْشَأَهُ عَلَى هَذَا الشَّكْلِ وَالصُّورَةِ، إِذْ لَوْ أَشْبَهَ الْمَخْلُوقَاتِ بِوَجْهِ مِنَ الْوُجُوهِ لَكَانَ حَادِثًا أَىْ مَخْلُوقًا، (فَلَيْسَ هَذَا) الَّذِى ذَكَرَهُ الْغَزَالِىُّ هُوَ (الْكَلامَ الَّذِى عَابَهُ) أَىْ ذَمَّهُ (الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا عَابَ السَّلَفُ) أَىِ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى (كَلامَ الْمُبْتَدِعَةِ فِى الِاعْتِقَادِ كَالْمُشَبِّهَةِ) الَّذِينَ يَصِفُونَ اللَّهَ بِصِفَاتِ الْبَشَرِ (وَالْمُعْتَزِلَةِ) الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ الِاخْتِيَارِيَّةَ أَىْ يُحْدِثُهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ (وَالْخَوَارِجِ) الْقَائِلِينَ بِتَكْفِيرِ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ (وَسَائِرِ الْفِرَقِ الَّتِى شَذَّتْ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ) وَهَذَا مَا عَنَاهُ الشَّافِعِىُّ بِقَوْلِهِ الَّذِى رَوَاهُ عَنْهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بنُ الْمُنْذِرِ فِى الأَوْسَطِ لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَىْءٍ مِنَ الأَهْوَاءِ، أَىِ الْعَقَائِدِ الَّتِى مَالَ إِلَيْهَا الْمُخَالِفُونَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ (الَّذِينَ افْتَرَقُوا إِلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ) ﷺ (بِذَلِكَ فِى حَدِيثِهِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ الَّذِى رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِى هُرَيْرَةَ) أَنَّهُ (قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ) عَلَى (إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى على اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِى إِلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهُمْ فِى النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِىَ الْجَمَاعَةُ، أَىِ السَّوَادُ الأَعْظَمُ) وَهُمْ جُمْهُورُ الأُمَّةِ الَّذِينَ لَمْ يَخْرُجُوا فِى أُصُولِ الْعَقِيدَةِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ وَأَصْحَابُهُ.
(وَأَمَّا عِلْمُ الْكَلامِ الَّذِى يَشْتَغِلُ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ) أَىِ الْعِلْمُ الَّذِى يُعْرَفُ بِهِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنَ الصِّفَاتِ وَمَا يَسْتَحِيلُ فِى حَقِّهِ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ (فَقَدْ عَمِلَ بِهِ) الْعُلَمَاءُ (مِنْ قَبْلِ) الإِمَامِ (الأَشْعَرِىِّ وَ)الإِمَامِ (الْمَاتُرِيدِىِّ كَأَبِى حَنِيفَةَ فَإِنَّ لَهُ خَمْسَ رَسَائِلَ فِى ذَلِكَ وَ)صَنَّفَ فِيهِ (الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ) كِتَابَ الْقِيَاسِ (وَكَانَ يُتْقِنُهُ حَتَّى إِنَّهُ قَالَ) فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ فِى مَنَاقِبِ الشَّافِعِىِّ (أَتْقَنَّا ذَاكَ قَبْلَ هَذَا، أَىْ أَتْقَنَّا عِلْمَ الْكَلامِ قَبْلَ) فُرُوعِ (الْفِقْهِ). وَالإِمَامَانِ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِىُّ هُمَا إِمَامَا أَهْلِ السُّنَّةِ ظَهَرَا فِى الْقَرْنِ الثَّالِثِ الْهِجْرِىِّ فَقَامَا بِنُصْرَةِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالدِّفَاعِ عَنْهَا وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ كالْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَغَيْرِهِمْ.
(الْوِقَايَةُ مِنَ النَّارِ)
(قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ وَجَاءَ فِى تَفْسِيرِ) هَذِهِ (الآيَةِ) عَنْ سَيِّدِنَا عَلِىٍّ بِإِسنَادٍ قَوِىٍّ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ (أَنَّ اللَّهَ) تَعَالَى (يَأْمُرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلَهُمُ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) وَيَكُونُ ذَلِكَ (بِتَعَلُّمِ الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَتَعْلِيمِ أَهْلِيهِمْ ذَلِكَ أَىْ مَعْرِفَةِ مَا فَرَضَ اللَّهُ فِعْلَهُ أَوِ اجْتِنَابَهُ أَىْ) مَعْرِفَةِ (الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ) قَالَ سَيِّدُنَا عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَلِّمُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمُ الْخَيْرَ، أَىْ أُمُورَ الدِّينِ (وَذَلِكَ كَىْ لا يَقَعَ) مَنْ أَهْمَلَ تَعَلُّمَ عِلْمِ الدِّينِ (فِى التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَالْكُفْرِ وَالضَّلالِ) فَيَخْلُدَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ إِنْ مَاتَ عَلَيْهِ وَيَكُونَ وَقُودًا لَهَا وَ(ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَنْ يُشَبِّهُ اللَّهَ تَعَالَى بِشَىْءٍ مَا) فَهُوَ كَافِرٌ (لَمْ تَصِحَّ عِبَادَتُهُ لِأَنَّهُ يَعْبُدُ شَيْئًا تَخَيَّلَهُ وَتَوَهَّمَهُ فِى مُخَيِّلَتِهِ وَأَوْهَامِهِ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِىُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ (لا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ) أَىْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ بَلْ يُشَبِّهُهُ بِخَلْقِهِ بِالضَّوْءِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَاكِنٌ فِى السَّمَاءِ أَوْ أَنَّهُ جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ يَصِفُهُ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ فَهَذَا عِبَادَتُهُ تَكُونُ لِشَىْءٍ تَخَيَّلَهُ وَتَوَهَّمَهُ فِى مُخَيِّلَتِهِ فَيَكُونُ مُشْرِكًا بِاللَّهِ فَلا تَصِحُّ عِبَادَتُهُ.
