(مَا جَاءَ فِى بَدْءِ الْخَلْقِ) Sirat 11

(مَا جَاءَ فِى بَدْءِ الْخَلْقِ)

     (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنْ بَدْءِ الأَمْرِ) أَىْ عَنْ أَوَّلِ الْمَخْلُوقَاتِ (كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ) وَالسَّائِلُ هُمْ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ رَحَلُوا إِلَيْهِ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ فَبَدَأَ الرَّسُولُ ﷺ بِذِكْرِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ جَوَابِ سُؤَالِهِمْ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَوْجُودٌ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ أَىْ أَزَلِىٌّ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ حادِثٌ لَهُ بِدَايَةٌ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَجَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ فَقَالَ (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) أَىْ وُجِدَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ أَىْ أَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ قَبْلَ الْعَرْشِ وَبِوُجُودِ الْمَاءِ وُجِدَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مِمَّا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ حَسَّنَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (وَكَتَبَ فِى الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ) أَىْ أَمَرَ الْقَلَمَ أَنْ يَكُتْبَ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (ثُمَّ) بَعْدَ ذَلِكَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) أَىْ خَلَقَهُمَا وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ﴾ وَكُلُّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ قَدْرُ أَلْفِ سَنَةٍ قَالَ تَعَالَى ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّون﴾. وَالْحَدِيثُ (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. أَجَابَ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ اللَّهَ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ أَىْ أَزَلِىٌّ وَلا أَزَلِىَّ سِوَاهُ) لِأَنَّهُ فِى الأَزَلِ أَىْ فِيمَا لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ لَمْ يَكُنْ مَاءٌ وَلا هَوَاءٌ وَلا نُورٌ وَلا ظَلامٌ وَلا مَكَانٌ وَلا جِهَاتٌ وَلا زَمَانٌ (وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَفِى الأَزَلِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ أَىْ مُخْرِجُهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَمَعْنَى خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ أَنَّهُ أَخْرَجَ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ) أَىْ أَبْرَزَهَا (مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ) وَلا يُضَافُ الْخَلْقُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا لِلَّهِ (وَ)كَمَا أَنَّ اللَّهَ أَزَلِىٌّ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ فَإِنَّ (اللَّهَ تَعَالَى حَىٌّ لا يَمُوتُ) فَلا يَفْنَى رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ (لِأَنَّهُ لا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ أَىْ أَبَدِىٌّ فَلا يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ إِذْ لَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْعَدَمُ لَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ الْقِدَمُ أَىِ الأَزَلِيَّةُ) فَالأَزَلِىُّ لا يَكُونُ إِلَّا أَبَدِيًّا أَىْ أَنَّ الَّذِى لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ لا يَلْحَقُهُ الْعَدَمُ.

     (وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ التَّكْفِيرُ قَطْعًا) أَىْ بِلا خِلافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ (لِأَنَّهُ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْعَدَمَ قَبْلَ الْوُجُودِ وَلا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا فِى الْحَوَادِثِ أَىِ الْمَخْلُوقَاتِ) أَمَّا مَنْ خَطَرَ لَهُ هَذَا السُّؤَالُ فِى بَالِهِ مِنْ دُونِ إِرَادَةٍ فَعِلاجُهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ أَنْ يَصْرِفَ فِكْرَهُ عَنْ هَذَا الْخَاطِرِ وَيَدْفَعَهُ بِالْمُعْتَقَدِ الصَّحِيحِ وَيَشْغَلَ فِكْرَهُ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُفِيدُ وَلْيَقُلْ ءَامَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَوْ ءَامَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُهُ عَنْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ هَذَا، خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ ءَامَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. وقَوْلُ بَعْضِهِمْ مَنْ خَلَقَ اللَّهَ هُوَ سُؤَالُ الْمُحَالِ لِأَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَالِقٌ (فَاللَّهُ تَعَالَى وَاجِبُ الْوُجُودِ أَىْ لا يُتَصَوَّرُ فِى الْعَقْلِ عَدَمُهُ فَلَيْسَ وُجُودُهُ كَوُجُودِنَا الْحَادِثِ لِأَنَّ وُجُودَنَا بِإِيجَادِهِ تَعَالَى وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ جَائِزُ الْوُجُودِ أَىْ يُمْكِنُ عَقْلًا وُجُودُهُ بَعْدَ عَدَمٍ وَإِعْدَامُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ بِالنَّظَرِ لِذَاتِهِ فِى حُكْمِ الْعَقْلِ) أَمَّا الْمُسْتَحِيلُ الْعَقْلِىُّ فَهُوَ مَا لا يُتَصَوَّرُ فِى الْعَقْلِ وُجُودُهُ كَوُجُودِ شَرِيكِ لِلَّهِ.

     (وَاعْلَمْ أَنَّ أَقْسَامَ الْمَوْجُودِ ثَلاثَةٌ الأَوَّلُ أَزَلِىٌّ أَبَدِىٌّ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ أَىْ لا بِدَايَةَ) لِوُجُودِهِ فَلَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ (وَلا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ) فَلا يَلْحَقُهُ عَدَمٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ﴾ (وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ هُنَاكَ شَيْئًا أَزَلِيًّا سِوَى اللَّهِ التَّكْفِيرُ قَطْعًا وَلِذَلِكَ كَفَرَتِ الْفَلاسِفَةُ بِاعْتِقَادِهِمُ السَّفِيهِ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ أَزَلِىٌّ) لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ (لِأَنَّ الأَزَلِيَّةَ لا تَصِحُّ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى فَقَطْ).

     (وَالثَّانِى أَبَدِىٌّ لا أَزَلِىٌّ أَىْ أَنَّ لَهُ بِدَايَةً وَلا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَهُمَا مَخْلُوقَتَانِ أَىْ لَهُمَا بِدَايَةٌ إِلَّا أَنَّهُ لا نِهَايَةَ لَهُمَا أَىْ أَبَدِيَّتَانِ فَلا يَطْرَأُ عَلَيْهِمَا خَرَابٌ أَوْ فَنَاءٌ لِمَشِيئَةِ اللَّهِ بَقَاءَهُمَا) فَبَقَاؤُهُمَا لَيْسَ ذَاتِيًّا بَلْ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ لَهُمَا (أَمَّا مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُمَا فَيَجُوزُ عَلَيْهِمَا الْفَنَاءُ عَقْلًا) لَكِنْ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ شَاءَ لَهُمَا الْبَقَاءَ فَإِنَّهُمَا لا تَفْنَيَانِ فَلا تَشَابُهَ بَيْنَ بَقَاءِ اللَّهِ وَبَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لِأَنَّ بَقَاءَ اللَّهِ ذَاتِىٌّ أَىْ لَيْسَ بِإِبْقَاءِ غَيْرِهِ لَهُ أَمَّا بَقَاءُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَلَيْسَ ذَاتِيًّا بَلْ بِغَيْرِهِمَا.

     (وَالثَّالِثُ لا أَزَلِىٌّ وَلا أَبَدِىٌّ أَىْ أَنَّ لَهُ بِدَايَةً وَلَهُ نِهَايَةً وَهُوَ كُلُّ مَا فِى هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ فَلا بُدَّ مِنْ فَنَائِهِمَا وَفَنَاءِ مَا فِيهِمَا مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ وَمَلائِكَةٍ) وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ أَىْ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ يَفْنَى وَفَنَاءُ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ هُوَ بِمُفَارَقَةِ أَرْوَاحِهِمْ لِأَجْسَادِهِمْ وَأَمَّا فَنَاءُ أَهْلِ السَّمَوَاتِ فَهُوَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ أَىْ ذَاتُهُ أَىْ يَبْقَى اللَّهُ.

     (وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذِكْرِ أَنَّ الْحُكْمَ الْعَقْلِىَّ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاثَةٍ) أَىْ أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ بِحُكْمٍ مِنْ ثَلاثَةٍ (الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحَالَةِ وَالْجَوَازِ وَقَالُوا الْوَاجِبُ) الْعَقْلِىُّ هُوَ (مَا لا يُتَصَوَّرُ) فِى الْعَقْلِ (عَدَمُهُ) أَىْ لا يَقْبَلُ الْعَقْلُ عَدَمَهُ (وَهُوَ اللَّهُ وَصِفَاتُهُ وَالْمُسْتَحِيلُ) الْعَقْلِىُّ هُوَ (مَا لا يُتَصَوَّرُ فِى الْعَقْلِ وُجُودُهُ) أَىْ لا يَقْبَلُ الْعَقْلُ وُجُودَهُ (وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالْمُمْتَنِعِ) عَقْلًا، وَمِنَ الْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِىِّ كَوْنُ الْحَادِثِ أَزَلِيًّا (وَ)أَمَّا (الْجَائِزُ) الْعَقْلِىُّ وَيُقَالُ لَهُ الْمُمْكِنُ الْعَقْلِىُّ فَهُوَ (مَا يُتَصَوَّرُ فِى الْعَقْلِ وُجُودُهُ) تَارَةً (وَعَدَمُهُ) تَارَةً أُخْرَى كَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ (وَلِذَلِكَ) أَىْ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنَ الأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ الثَّلاثَةِ (يَصِفُونَ اللَّهَ بِالْوَاجِبِ الْوُجُودِ) لِأَنَّهُ لا يُتَصَوَّرُ فِى الْعَقْلِ عَدَمُهُ.

(قِدَمُ اللَّهِ لَيْسَ زَمَانِيًّا)

     اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يَجْرِى عَلَيْهِ زَمَانٌ أَىْ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ لِأَنَّ الزَّمَانَ حَادِثٌ فَالزَّمَانُ حَدَثَ مَعَ وُجُودِ أَوَّلِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ الْمَاءُ وَ(اللَّهُ تَعَالَى كَانَ قَبْلَ الزَّمَانِ وَقَبْلَ الْمَكَانِ وَقَبْلَ الظُّلُمَاتِ وَقَبْلَ النُّورِ فَهُوَ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْعَالَمِ الْكَثِيفِ) وَهُوَ الَّذِى يُجَسُّ بِالْيَدِ (كَالأَرْضِ وَالْحَجَرِ وَالْكَوَاكِبِ) أَىِ النُّجُومِ (وَالنَّبَاتِ وَالإِنْسَانِ وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْعَالَمِ اللَّطِيفِ) وَهُوَ الَّذِى لا يُجَسُّ بِالْيَدِ (كَالنُّورِ) أَىِ الضَّوْءِ (وَالرُّوحِ وَالْهَوَاءِ وَالْجِنِّ وَالْمَلائِكَةِ لِمُخَالَفَتِهِ) تَعَالَى (لِلْحَوَادِثِ أَىْ لِمُخَالَفَتِهِ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ) أَىْ عَدَمِ مُشَابَهَتِهِ لَهَا بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ مِنْ أَسْمَائِهِ اللَّطِيفُ فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى اللَّطِيفِ الَّذِى هُوَ اسْمٌ لِلَّهِ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ أَوِ الَّذِى احْتَجَبَ عَنِ الأَوْهَامِ فَلا تُدْرِكُهُ) أَىْ لا تَبْلُغُهُ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ وَلِذَلِكَ نُهِينَا عَنِ التَّفَكُّرِ فِى ذَاتِ اللَّهِ لِلْوُصُولِ إِلَى حَقِيقَتِهِ أَىْ نُهِينَا عَنْ إِعْمَالِ الْفِكْرِ لِتَوَهُّمِهِ وَتَخَيُّلِهِ وَأُمِرْنَا بِالتَّفَكُّرِ فِى مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ لِلْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا وَأَمَّا تَصَوُّرُ ذَاتِ اللَّهِ بِشَكْلٍ فَكُفْرٌ وَضَلالٌ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ (فَلا نَظِيرَ لَهُ تَعَالَى أَىْ لا مَثِيلَ لَهُ وَلا شَبِيهَ فِى ذَاتِهِ وَلا فِى صِفَاتِهِ وَلا فِى فِعْلِهِ) فَلا يُوجَدُ ذَاتٌ مِثْلُ ذَاتِهِ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ صِفَةٌ كَصِفَتِهِ أَوْ فِعْلٌ كَفِعْلِهِ (لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُمَاثِلًا لِمَخْلُوقَاتِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ) أَىْ لَوْ كَانَ يَتَّصِفُ بِمَا تَتَّصِفُ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ (كَالْحَجْمِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَنَحْوِ ذَلِكَ) لَكَانَ حَادِثًا أَىْ مَخْلُوقًا مِثْلَهَا وَلَجَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ وَ(لَمْ يَكُنْ خَالِقًا لَهَا فَاللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الِاتِّصَافِ بِالْحَوَادِثِ) أَىِ الصِّفَاتِ الْحَادِثَةِ فَلا يَتَّصِفُ رَبُّنَا بِصِفَةٍ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا فِى الأَزَلِ (وَكَذَلِكَ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى) الثَّابِتَةُ لِذَاتِهِ (هِىَ قَدِيمَةٌ أَىْ أَزَلِيَّةٌ) لِأَنَّ الذَّاتَ الأَزَلِىَّ لا يَتَّصِفُ بِصِفَةٍ حَادِثَةٍ.

     (وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذَا الْبَحْثِ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ (مَنْ قَالَ بِحُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ) أَىْ مَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ حَدَثَتْ لَهُ صِفَاتٌ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا فِى الأَزَلِ (أَوْ شَكَّ) فِيهَا أَىْ قَالَ لَعَلَّهَا أَزَلِيَّةٌ وَلَعَلَّهَا حَادِثَةٌ (أَوْ تَوَقَّفَ) فِيهَا أَىْ قَالَ لا أَقُولُ إِنَّهَا حَادِثَةٌ وَلا أَقُولُ إِنَّهَا أَزَلِيَّةٌ (فَهُوَ كَافِرٌ ذَكَرَهُ فِى كِتَابِ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ وَقَالَ) الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ سَلامَةَ (الطَّحَاوِىُّ) فِى عَقِيدَتِهِ (وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِى الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ) أَىْ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالتَّحَيُّزِ فِى الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ فَهُوَ كَافِرٌ.

(تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَتَصْحِيحُ وُجُودِهِ بِلا مَكَانٍ عَقْلًا)

     (وَ)اعْلَمْ أَنَّ (اللَّهَ تَعَالَى غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ أَىْ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ أَزَلًا وَأَبَدًا فَلا يَحْتَاجُ) رَبُّنَا (إِلَى مَكَانٍ يَتَحَيَّزُ فِيهِ أَوْ شَىْءٍ يَحُلُّ بِهِ أَوْ إِلَى جِهَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا) كَالإِنْسَانِ وَالْحَجَرِ (وَلا حَجْمًا لَطِيفًا) كَالنُّورِ وَالْهَوَاءِ (وَالتَّحَيُّزُ مِنْ صِفَاتِ الْجِسْمِ الْكَثِيفِ وَ)الْجِسْمِ (اللَّطِيفِ فَالْجِسْمُ الْكَثِيفُ) مُتَحَيِّزٌ فِى جِهَةٍ وَمَكَانٍ (وَالْجِسْمُ اللَّطِيفُ مُتَحَيِّزٌ فِى جِهَةٍ وَمَكَانٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلٍّ مِنَ الأَرْبَعَةِ) اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمَا جِسْمَانِ لَطِيفَانِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَهُمَا جِسْمَانِ كَثِيفَانِ (التَّحَيُّزَ فِى فَلَكِهِ وَهُوَ الْمَدَارُ) الَّذِى يَجْرِى فِيهِ وَالتَّحَيُّزُ فِى الْمَكَانِ نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ التَّحَيُّزِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدٌّ أَىْ حَجْمٌ وَمِقْدَارٌ وَلَوْ كَانَ ذَا حَدٍّ وَمِقْدَارٍ لَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ وَالْمِقْدَارِ وَالْمُحْتَاجُ لا يَكُونُ إِلَهًا قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ فِى شَرْحِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ مَنْ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى مُقَدَّرًا بِمِقْدَارٍ كَفَرَ، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ ذَا كَمِيَّةٍ وَحَجْمٍ وَمِقْدَارٍ وَكُلُّ شَىْءٍ لَهُ مِقْدَارٌ فَهُوَ مَخْلُوقٌ قَالَ تَعَالَى ﴿وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى مِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْحَجْمِ وَقَالَ الإِمَامُ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَنَا مَحْدُودٌ فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِى كِتَابِهِ حِلْيَةُ الأَوْلِيَاءِ. وَالْمَحْدُودُ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّوْحِيدِ مَا لَهُ حَجْمٌ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا وَمَعْنَى كَلامِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ حَجْمٌ بِالْمَرَّةِ لا صَغِيرٌ وَلا كَبِيرٌ (وَيَكْفِى فِى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَكَانٌ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ وَأَبْعَادٌ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا) أَىْ مَخْلُوقًا (مُحْتَاجًا لِمَنْ حَدَّهُ بِهَذَا الطُّولِ وَبِهَذَا الْعَرْضِ وَبِهَذَا الْعُمْقِ. هَذَا الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْءَانِ أَمَّا مِنَ الْحَدِيثِ فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَابْنُ الْجَارُودِ وَالْبَيْهَقِىُّ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا فِى الأَزَلِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ لا مَاءٌ وَلا هَوَاءٌ وَلا أَرْضٌ وَلا سَمَاءٌ وَلا كُرْسِىٌّ وَلا عَرْشٌ وَلا إِنْسٌ وَلا جِنٌّ وَلا مَلائِكَةٌ وَلا زَمَانٌ وَلا مَكَانٌ) وَلا فَرَاغٌ (وَلا جِهَاتٌ فَهُوَ تَعَالَى مَوْجُودٌ قَبْلَ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الْمَكَانَ فَلَيْسَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ وَهَذَا) مِنْ جُمْلَةِ (مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِىُّ فِى كِتَابِهِ الأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا) أَىِ الأَشَاعِرَةُ الشَّافِعِيَّةُ (فِى نَفْىِ الْمَكَانِ عَنْهُ) تَعَالَى (بِقَوْلِ النَّبِىِّ ﷺ أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَىْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَىْءٌ) وَالظَّاهِرُ أَىْ مِنْ حَيْثُ الدَّلائِلُ الْعَقْلِيَّةُ لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَىْءٍ إِلَّا وَيَدُلُّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَالْبَاطِنُ أَىِ الَّذِى لا تُدْرِكُهُ الأَوْهَامُ أَىْ لا تَبْلُغُهُ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ. قَالَ الْبَيْهَقِىُّ (وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَوْقَهُ شَىْءٌ وَلا دُونَهُ شَىْءٌ لَمْ يَكُنْ فِى مَكَانٍ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ الرَّدُّ أَيْضًا عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْجِهَةِ فِى حَقِّهِ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ) سَيِّدُنَا (عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ اللَّهُ وَلا مَكَانَ) أَىْ كان اللَّهُ فِى الأَزَلِ أَىْ فِيمَا لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَكَانٌ (وَهُوَ الآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ) أَىْ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ الْمَكَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَمَّا كَانَ فَهُوَ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ (رَوَاهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِىُّ) فِى كِتَابِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ مَوْضِعُ إِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ (وَلَيْسَ مِحْوَرُ الِاعْتِقَادِ عَلَى الْوَهْمِ) أَىْ أَنَّ الِاعْتِقَادَ الصَّحِيحَ لا يُبْنَى عَلَى الْوَهْمِ (بَلْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ السَّلِيمُ الَّذِى هُوَ شَاهِدٌ لِلشَّرْعِ) أَىْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الشَّرْعِ (وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْدُودَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ حَدَّهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ) أَىْ أَنَّ كُلَّ مَا لَهُ حَجْمٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ عَلَى هَذَا الْحَجْمِ (فَلا يَكُونُ إِلَهًا) فَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَلا كَمِيَّةٌ فَالْعِبْرَةُ بِحُكْمِ الْعَقْلِ فَكَمَا أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ مُتَّصِلًا بِالْعَالَمِ وَلا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ الْوَهْمُ لا يَتَصَوَّرُهُ كَمَا لا يَتَصَوَّرُ الْوَهْمُ وُجُودَ وَقْتٍ لَيْسَ فِيهِ نُورٌ وَلا ظَلامٌ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَا لِأَنَّهُمَا خُلِقَا بَعْدَ خَلْقِ الْمَاءِ وَالْعَرْشِ وَالْقَلَمِ وَاللَّوْحِ قَالَ تَعَالَى ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أَىْ خَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ (فَكَمَا صَحَّ وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى بِلا مَكَانٍ وَ)لا (جِهَةٍ قَبْلَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ وَالْجِهَاتِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ وُجُودُهُ) تَعَالَى (بَعْدَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ) وَالْجِهَاتِ (بِلا مَكَانٍ وَ)لا (جِهَةٍ وَهَذَا) أَىِ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ (لا يَكُونُ نَفْيًا لِوُجُودِهِ تَعَالَى كَمَا زَعَمَتِ الْمُشَبِّهَةُ وَ)مِنْهُمُ (الْوَهَّابِيَّةُ وَهُمُ الدُّعَاةُ إِلَى التَّجْسِيمِ فِى هَذَا الْعَصْرِ) أَىْ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ قَاعِدٌ فَوْقَ الْعَرْشِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ هَلْ يُقَالُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ دَاخِلَهُ أَوْ خَارِجَهُ أَوْ فِى جِهَةٍ مِنْهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَقُولُوا لا فَيُقَالُ لَهُمْ كَمَا صَحَّ عَقْلًا وُجُودُهُ تَعَالَى قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلا خَارِجَهُ وَلا فِى جِهَةٍ مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَفْيًا لِوُجُودِهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ الْعَالَمِ هُوَ مَوْجُودٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلَهُ أَوْ خَارِجَهُ أَوْ فِى جِهَةٍ مِنْهُ وَلا يَكُونُ هَذَا نَفْيًا لِوُجُودِهِ تَعَالَى.

     (وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِى كُلِّ مَكَانٍ أَوْ فِى جَمِيعِ الأَمَاكِنِ التَّكْفِيرُ إِذَا كَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ) مَعْنَاهَا فِى اللُّغَةِ وَهُوَ (أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ مُنْبَثٌّ) أَىْ مُنْتَشِرٌ (أَوْ حَالٌّ فِى الأَمَاكِنِ أَمَّا إِذَا كَانَ) لا (يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ) مَعْنَاهَا اللُّغَوِىَّ أَىْ لا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا فِى اللُّغَةِ بَلْ يَظُنُّ أَنَّ مَعْنَاهَا (أَنَّهُ تَعَالَى مُسَيْطِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَعَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ فَلا يَكْفُرُ وَهَذَا قَصْدُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يَلْهَجُ بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ وَ)لَكِنْ (يَجِبُ النَّهْىُ عَنْهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا صَادِرَتَيْنِ عَنْ) عُلَمَاءِ (السَّلَفِ) أَىْ أَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى (بَلْ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ) وَالْجَهْمِيَّةِ (ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُمَا جَهَلَةُ الْعَوَامِّ) مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِمَعْنَاهَا. أَمَّا الَّذِى يَقُولُ اللَّهُ مَوْجُودٌ فِى كُلِّ مَكَانٍ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِى إِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ.

     (وَنَرْفَعُ الأَيْدِىَ فِى الدُّعَاءِ لِلسَّمَاءِ لِأَنَّهَا) قِبْلَةُ الدُّعَاءِ وَ(مَهْبِطُ الرَّحَمَاتِ وَالْبَرَكَاتِ) أَىْ تَنْزِلُ عَلَيْنَا الْبَرَكَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنْهَا (وَلَيْسَ لِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ فِى السَّمَاءِ كَمَا أَنَّنَا نَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ الشَّرِيفَةَ فِى الصَّلاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ) فَهِىَ قِبْلَةُ الصَّلاةِ (وَلَيْسَ لِأَنَّ لَهَا مِيزَةً وَخُصُوصِيَّةً بِسُكْنَى اللَّهِ فِيهَا) أَىْ لَيْسَ لِأَنَّ اللَّهَ يَسْكُنُهَا (وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ التَّحَيُّزَ لِلَّهِ تَعَالَى) أَىْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يَتَحَيَّزُ فِى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ (أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ شَىْءٌ كَالْهَوَاءِ أَوْ كَالنُّورِ يَمْلَأُ مَكَانًا أَوْ غُرْفَةً أَوْ مَسْجِدًا).

     (وَيُرَدُّ عَلَى الْمُعْتَقِدِينَ أَنَّ اللَّهَ مُتَحَيِّزٌ فِى جِهَةِ الْعُلْوِ) كَالْوَهَّابِيَّةِ (وَيَقُولُونَ لِذَلِكَ تُرْفَعُ الأَيْدِى عِنْدَ الدُّعَاءِ بِمَا ثَبَتَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ أَنَّهُ اسْتَسْقَى أَىْ طَلَبَ الْمَطَرَ وَجَعَلَ بَطْنَ كَفَّيْهِ إِلَى الأَرْضِ وَظَاهِرَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ) كَمَا فِى صَحِيحِ مُسْلِمٍ (وَبِأَنَّهُ ﷺ نَهَى الْمُصَلِّىَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ) فِى الصَّلاةِ (إِلَى السَّمَاءِ) رَوَاهُ الدَّارِمِىُّ فِى سُنَنِهِ (وَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُتَحَيِّزًا فِى جِهَةِ الْعُلْوِ كَمَا تَظُنُّ الْمُشَبِّهَةُ مَا نَهَانَا) رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (عَنْ رَفْعِ أَبْصَارِنَا فِى الصَّلاةِ إِلَى السَّمَاءِ وَبِأَنَّهُ ﷺ كَانَ يَرْفَعُ إِصْبَعَهُ الْمُسَبِّحَةَ عِنْدَ قَوْلِ إِلَّا اللَّهُ فِى التَّحِيَّاتِ وَيَحْنِيهَا قَلِيلًا) كَمَا رَوَى ذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ (فَلَوْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ مَا كَانَ يَحْنِيهَا بَلْ) كَانَ (يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَكُلُّ هَذَا ثَابِتٌ حَدِيثًا عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فَمَاذَا تَفْعَلُ الْمُشَبِّهَةُ وَالْوَهَّابِيَّةُ. وَنُسَمِّى الْمَسَاجِدَ بُيُوتَ اللَّهِ لا لِأَنَّ اللَّهَ يَسْكُنُهَا بَلْ لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ مُعَدَّةٌ لِذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ) فَالإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَلا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْمَعَابِدِ الدِّينِيَّةِ لِلْكُفَّارِ بُيُوتَ اللَّهِ لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ بُنِيَتْ لِلشِّرْكِ وَالْكُفْرِ فَلا تَكُونُ مُعَظَّمَةً عِنْدَ اللَّهِ (وَيُقَالُ فِى الْعَرْشِ إِنَّهُ جِرْمٌ) أَىْ حَجْمٌ (أَعَدَّهُ اللَّهُ لِيَطُوفَ بِهِ الْمَلائِكَةُ كَمَا يَطُوفُ الْمُؤْمِنُونَ فِى الأَرْضِ بِالْكَعْبَةِ) قَالَ الإِمَامُ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ رَوَاهُ الإِمَامُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِىُّ فِى كِتَابِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ حَتَّى يُظْهِرَ لِخَلْقِهِ أَنَّهُ تَامُّ الْقُدْرَةِ.

     (وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ يَسْكُنُ قُلُوبَ أَوْلِيَائِهِ) وَهُوَ مِنْ كَلامِ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ أَىْ (إِنْ كَانَ يَفْهَمُ مِنْهُ الْحُلُولَ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ حَالٌّ فِى قُلُوبِهِمْ أَمَّا إِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعْنِى أَنَّ حُبَّ اللَّهِ يَسْكُنُ قُلُوبَ الأَوْلِيَاءِ فَلا يَكْفُرُ وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ وُجُوبًا.

     (وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْمِعْرَاجِ وُصُولَ الرَّسُولِ ﷺ إِلَى مَكَانٍ يَنْتَهِى وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ) أَىْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ أَنَّ الرَّسُولَ وَصَلَ إِلَى مَكَانٍ حَيْثُ اللَّهُ تَعَالَى مُتَحَيِّزٌ فِيهِ (وَيَكْفُرُ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يَجُوزُ عَلَيْهِ عَقْلًا التَّحَيُّزُ فِى مَكَانٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمَكَانُ عُلْوِيًّا أَوْ سُفْلِيًّا (إِنَّمَا الْقَصْدُ مِنَ الْمِعْرَاجِ هُوَ تَشْرِيفُ) أَىْ تَعْظِيمُ (الرَّسُولِ ﷺ بِإِطْلاعِهِ عَلَى عَجَائِبَ فِى الْعَالَمِ الْعُلْوِىِّ) كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ (وَتَعْظِيمُ مَكَانَتِهِ وَرُؤْيَتُهُ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ بِفُؤَادِهِ) أَىْ رُؤْيَتُهُ لِذَاتِ اللَّهِ الْمُنَزَّهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ أَىْ عَنْ كُلِّ مَا لا يَلِيقُ بِهِ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الذَّاتُ فِى مَكَانٍ وَإِنَّمَا الْمَكَانُ لِلرَّسُولِ) ﷺ (وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ فَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الآيَةِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ) فَإِنَّهُ اقْتَرَبَ مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ فَرَحًا بِهِ فَكَانَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَسَافَةِ قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ بَلْ أَقْرَبَ (حَيْثُ رَءَاهُ الرَّسُولُ ﷺ بِمَكَّةَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ أَجْيَاد وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ سَادًّا عُظْمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ الأُفُقِ) أَىْ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ (كَمَا رَءَاهُ مَرَّةً أُخْرَى) عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾) وَهِىَ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ أَصْلُهَا فِى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَتَمْتَدُّ إِلَى السَّابِعَةِ أَوْرَاقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَثِمَارُهَا كَالْقِلالِ وَيَغْشَاهَا فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ.

     (وَأَمَّا مَا) ذُكِرَ (فِى) صَحِيحِ (مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَهُ عَنْ جَارِيَةٍ لَهُ) قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِى جَارِيَةً تَرْعَى لِى غَنَمًا فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ ذِئْبٌ فَأَكَلَ شَاةً فَغَضِبْتُ فَصَكَكْتُهَا أَىْ ضَرَبْتُهَا عَلَى وَجْهِهَا (قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُعْتِقُهَا قَالَ ائْتِنِى بِهَا فَأَتَاهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا أَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ فِى السَّمَاءِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ) إِنَّمَا هُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لا يُحْتَجُّ بِهِ فِى الْعَقِيدَةِ (لِأَمْرَيْنِ) الأَوَّلُ (لِلِاضْطِرَابِ) ذَكَرَ ذَلِكَ الْبَيْهَقِىُّ فِى السُّنَنِ الْكُبْرَى (لِأَنَّهُ) رُوِىَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ (رُوِىَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَ)رَوَاهُ النَّسَائِىُّ (بِلَفْظِ مَنْ رَبُّكِ فَقَالَتِ اللَّهُ وَ)رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (بِلَفْظِ أَيْنَ اللَّهُ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ وَ)رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ (بِلَفْظِ أَتَشْهَدِينَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ أَتَشْهَدِينَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ قَالَتْ نَعَمْ، وَالأَمْرُ الثَّانِى أَنَّ رِوَايَةَ أَيْنَ اللَّهُ مُخَالِفَةٌ لِلأُصُولِ) الْمَقْطُوعِ بِهَا (لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الشَّخْصَ لا يُحْكَمُ لَهُ بِقَوْلِ اللَّهُ فِى السَّمَاءِ بِالإِسْلامِ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ) فَلا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ حَكَمَ عَلَى الْجَارِيَةِ السَّوْدَاءِ بِالإِسْلامِ لِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا اللَّهُ فِى السَّمَاءِ (وَإِنَّمَا الأَصْلُ الْمَعْرُوفُ فِى شَرِيعَةِ اللَّهِ) هُوَ (مَا جَاءَ فِى الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ) الَّذِى نَصَّ عَلَى تَوَاتُرِهِ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ وَرَوَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ). (وَ)أَمَّا (لَفْظُ رِوَايَةِ مَالِكٍ أَتَشْهَدِينَ) أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ أَتَشْهَدِينَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ قَالَتْ نَعَمْ فَإِنَّهُ (مُوَافِقٌ لِلأُصُولِ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَكُونُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ أَيْنَ اللَّهُ فَقَالَتْ فِى السَّمَاءِ إِلَى ءَاخِرِهِ مَرْدُودَةً مَعَ إِخْرَاجِ مُسْلِمٍ لَهَا فِى كِتَابِهِ وَكُلُّ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مَوْسُومٌ بِالصِّحَّةِ فَالْجَوَابُ أَنَّ) مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنَ الأَحَادِيثِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ صَحِيحٌ لَكِنَّ (عَدَدًا مِنْ أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ رَدَّهَا عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ وَذَكَرَهَا الْمُحَدِّثُونَ فِى كُتُبِهِمْ كَحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُولَ) ﷺ (قَالَ لِرَجُلٍ إِنَّ أَبِى وَأَبَاكَ فِى النَّارِ) لِأَنَّ أَبَاهُ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ وَهَؤُلاءِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ فَلا يُعَذَّبُونَ فِى الآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ (وَحَدِيثِ إِنَّهُ يُعْطَى كُلُّ مُسْلِمٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِدَاءً لَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ بَعْضَ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ يُعَذَّبُونَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ (وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ فَكَانُوا لا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ فَأَمَّا) الْحَدِيثُ (الأَوَّلُ فَضَعَّفَهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ وَالثَّانِى رَدَّهُ الْبُخَارِىُّ وَالثَّالِثُ ضَعَّفَهُ) الإِمَامُ (الشَّافِعِىُّ وَعَدَدٌ مِنَ الْحُفَّاظِ). وَلْيُعْلَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ فِى الْعَقِيدَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مَشْهُورًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا لِأَنَّ الْعَقَائِدَ تُبْنَى عَلَى الأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ لا عَلَى الظَّنِّيَّةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ صَحِيحًا ثَابِتًا بِلا خِلافٍ وَحَدِيثُ الْجَارِيَةِ بِرِوَايَةِ أَيْنَ اللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ حَدِيثُ ءَاحَادٍ أَىْ ظَنِىُّ الثُّبُوتِ فَلا يُحْتَجُّ بِهِ فِى الْعَقِيدَةِ. وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ هُوَ مَا رَوَاهُ ثَلاثَةٌ فَأَكْثَرُ أَمَّا الْمُتَوَاتِرُ فَهُوَ مَا رَوَاهُ جَمْعٌ عَنْ جَمْعٍ بِحَيْثُ يَسْتَحِيلُ عَادَةً اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَهُوَ يُفِيدُ الْقَطْعَ وَالْيَقِينَ.

     (فَهَذَا الْحَدِيثُ) أَىْ حَدِيثُ الْجَارِيَةِ إِذَا حُمِلَ (عَلَى ظَاهِرِهِ) فَهُوَ (بَاطِلٌ لِمُعَارَضَتِهِ الْحَدِيثَ الْمُتَوَاتِرَ الْمَذْكُورَ) أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ (وَمَا خَالَفَ) الْحَدِيثَ (الْمُتَوَاتِرَ فَهُوَ بَاطِلٌ إِنْ لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ الْمُحَدِّثُونَ) أَىْ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ (وَالأُصُولِيُّونَ) أَىْ عُلَمَاءُ أُصُولِ الدِّينِ وَعُلَمَاءُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَحَدِيثُ الْجَارِيَةِ هُوَ حَدِيثُ ءَاحَادٍ أَىْ ظَنِىُّ الثُّبُوتِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَرْدُودٌ لا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ إِذَا عَارَضَ الْحَدِيثَ الْمُتَوَاتِرَ الثَّابِتَ بِالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ وَلا مَجَالَ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِىُّ فِى الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَّقِهِ (لَكِنْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ) مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ (أَوَّلُوهُ) أَىْ تَرَكُوا ظَاهِرَهُ وَحَمَلُوهُ (عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالُوا مَعْنَى أَيْنَ اللَّهُ سُؤَالٌ عَنْ تَعْظِيمِهَا لِلَّهِ) أَىْ مَا اعْتِقَادُكِ فِى اللَّهِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَمِنَ الْعُلُوِّ وَرِفْعَةِ الْقَدْرِ (وَقَوْلُهَا فِى السَّمَاءِ) أَرَادَتْ بِهِ أَنَّهُ (عَالِى الْقَدْرِ جِدًّا) وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِىُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهُ صَحِيحًا وَهُوَ لا يُخَالِفُ تَنْزِيهَ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْحَدِّ أَىِ الْحَجْمِ وَ(أَمَّا أَخْذُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سَاكِنُ السَّمَاءِ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ لِمَا تَقَرَّرَ فِى عِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَا خَالَفَ الْمُتَوَاتِرَ) فَهُوَ (بَاطِلٌ إِنْ لَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قَالَ اللَّهُ فِى السَّمَاءِ يُحْكَمُ لَهُ بِالإِيمَانِ) وَالإِسْلامِ (وَحَمَلَ الْمُشَبِّهَةُ) فِى عَصْرِنَا وَهُمُ الْوَهَّابِيَّةُ (رِوَايَةَ مُسْلِمٍ) لِحَدِيثِ الْجَارِيَةِ (عَلَى ظَاهِرِهَا) كَمَا حَمَلُوا ءَايَةَ الِاسْتِوَاءِ ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ عَلَى ظَاهِرِهَا (فَضَلُّوا) فَمَاذَا يَقُولُونَ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ فَإِنْ قَالُوا نَحْنُ لا نُأَوِّلُ بَلْ نَحْمِلُ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَقَعُوا فِى التَّنَاقُضِ (وَلا يُنْجِيهِمْ مِنَ الضَّلالِ قَوْلُهُمْ إِنَّنَا نَحْمِلُ كَلِمَةَ فِى السَّمَاءِ بِمَعْنَى إِنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ أَثْبَتُوا لَهُ مِثْلًا وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِى كَتَبَ اللَّهُ فِيهِ إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى) وَمَعْنَاهُ الأَشْيَاءُ الَّتِى أُحِبُّهَا أَكْثَرُ مِنَ الأَشْيَاءِ الَّتِى أَكْرَهُهَا فَإِنَّهُ (فَوْقَ الْعَرْشِ فَيَكُونُونَ أَثْبَتُوا الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا اللَّهَ وَذَلِكَ الْكِتَابَ مُسْتَقِرَّيْنِ فَوْقَ الْعَرْشِ فَيَكُونُونَ كَذَّبُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَهَذَا الْحَدِيثُ) أَىْ حَدِيثُ الْكِتَابِ (رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِ مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَمَّا رِوَايَةُ الْبُخَارِىِّ فَهِىَ) بِلَفْظِ (مَوْضُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ) وَكِلاهُمَا بِمَعْنىً وَاحِدٍ (وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ النَّاسِ) كَلِمَةَ (فَوْقَ بِمَعْنَى تَحْتٍ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِرِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ فَإِنَّهُ لا يَصِحُّ تَأْوِيلُ فَوْقَ فِيهِ بِتَحْتٍ) أَىْ لا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْكِتَابَ مَرْفُوعٌ تَحْتَ الْعَرْشِ. (ثُمَّ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ هَذَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُحَاذِيًا لِلْعَرْشِ بِقَدْرِ الْعَرْشِ أَوْ أَوْسَعَ مِنْهُ أَوْ أَصْغَرَ وَكُلُّ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّقْدِيرُ) فَهُوَ (حَادِثٌ) مَخْلُوقٌ (مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ) كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَكُلُّ شَىْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾.

     (وَ)لْيُعْلَمْ أَنَّ (قَوْلَ الْمُشَبِّهَةِ اللَّهُ قَاعِدٌ عَلَى الْعَرْشِ شَتْمٌ لِلَّهِ لِأَنَّ الْقُعُودَ مِنْ صِفَةِ الْبَشَرِ) وَالْمَلائِكَةِ (وَالْبَهَائِمِ وَالْجِنِّ وَالْحَشَرَاتِ) وَلا يَكُونُ إِلَّا مِمَّنْ لَهُ جُزْءٌ أَعْلَى وَجُزْءٌ أَسْفَلُ وَمَقْعَدَةٌ يُلامِسُ بِهَا مَا يَقْعُدُ عَلَيْهِ (وَكُلُّ وَصْفٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ) إِذَا (وُصِفَ اللَّهُ بِهِ) فَهُوَ (شَتْمٌ لَهُ، قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ اللُّغَوِىُّ) مُحَمَّدُ (مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ) فِى شَرْحِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ (مَنْ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى مُقَدَّرًا بِمِقْدَارٍ كَفَرَ، أَىْ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ ذَا كَمِيَّةٍ وَحَجْمٍ وَالْحَجْمُ وَالْكَمِيَّةُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْحُدُوثِ) أَىْ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهِمَا حَادِثٌ أَىْ مَخْلُوقٌ (وَهَلْ عَرَفْنَا أَنَّ الشَّمْسَ حَادِثَةٌ مَخْلُوقَةٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ إِلَّا لِأَنَّ لَهَا حَجْمًا وَلَوْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى حَجْمٌ لَكَانَ مِثْلًا لِلشَّمْسِ فِى الْحَجْمِيَّةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ لا تَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ. فَلَوْ طَالَبَ هَؤُلاءِ الْمُشَبِّهَةَ عَابِدُ الشَّمْسِ بِدَلِيلٍ عَقْلِىٍ) أَىْ لَوْ قَالَ عَابِدُ الشَّمْسِ لِلْمُشَبِّهَةِ أَعْطُونِى دَلِيلًا عَقْلِيًّا (عَلَى اسْتِحْقَاقِ اللَّهِ الأُلُوهِيَّةَ وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الشَّمْسِ الأُلُوهِيَّةَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ وَغَايَةُ مَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَقُولُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لِعَابِدِ الشَّمْسِ يَقُولُ لَهُمْ عَابِدُ الشَّمْسِ أَنَا لا أُؤْمِنُ بِكِتَابِكُمْ أَعْطُونِى دَلِيلًا عَقْلِيًّا عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ لا تَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ) فَإِنْ قَالَ الْمُشَبِّهُ مَعْبُودِى جِسْمٌ وَلَهُ شَكْلٌ وَيَنْزِلُ وَيَصْعَدُ أَجَابَهُ عَابِدُ الشَّمْسِ وَمَعْبُودِى كَذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ مَعْبُودِىَ جِسْمٌ مُنِيرٌ يَرَاهُ وَيُحِسُّ بِنَفْعِهِ كُلُّ أَحَدٍ وَأَمَّا مَعْبُودُكُمُ الَّذِى تَزْعُمُونَ أَنَّهُ جِسْمٌ مُسْتَقِرٌّ فَوْقَ الْعَرْشِ فَلا أَنَا رَأَيْتُهُ وَلا أَنْتُمْ رَأَيْتُمُوهُ وَلا يُحِسُّ أَحَدٌ بِنَفْعِهِ فَكَيْفَ تَكُونُ عِبَادَتُكُمْ صَحِيحَةً وَعِبَادَتِى بَاطِلَةً (فَهُنَا يَنْقَطِعُونَ) وَيَعْجِزُونَ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى عَابِدِ الشَّمْسِ.

     (فَلا يُوجَدُ فَوْقَ الْعَرْشِ شَىْءٌ حَىٌّ يَسْكُنُهُ إِنَّمَا يُوجَدُ كِتَابٌ فَوْقَ الْعَرْشِ مَكْتُوبٌ فِيهِ إِنَّ رَحْمَتِى سَبَقَتْ غَضَبِى أَىْ إِنَّ مَظَاهِرَ الرَّحْمَةِ أَكْثَرُ مِنْ مَظَاهِرِ الْغَضَبِ) أَىْ أَنَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلنَّاسِ وَنِعْمَةً أَكْثَرُ مِمَّا خَلَقَهُ عَذَابًا لَهُمْ وَنِقْمَةً. (الْمَلائِكَةُ مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ قَطَرَاتِ الأَمْطَارِ وَأَوْرَاقِ الأَشْجَار) لا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ (وَالْجَنَّةُ) أَيْضًا (مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَةِ وَهِىَ أَكْبَرُ مِنْ جَهَنَّمَ بِآلافِ الْمَرَّاتِ وَكَوْنُ ذَلِكَ الْكِتَابِ فَوْقَ الْعَرْشِ ثَابِتٌ أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْبُخَارِىُّ وَالنَّسَائِىٌّ فِى السُّنَنِ الْكُبْرَى وَغَيْرُهُمَا) كَابْنِ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ (وَلَفْظُ رِوَايَةِ ابْنِ حِبِّانَ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِى كِتَابٍ يَكْتُبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِى تَغْلِبُ غَضَبِى) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَصِحُّ تَأْوِيلُ فَوْقَ فِى حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ بِمَعْنَى دُونَ أَىْ لا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْكِتَابَ مَرْفُوعٌ تَحْتَ الْعَرْشِ (فَإِنْ حَاوَلَ مُحَاوِلٌ) رَغْمَ ذَلِكَ (أَنْ يُؤَوِّلَ فَوْقَ بِمَعْنَى دُونَ قِيلَ لَهُ تَأْوِيلُ النُّصُوصِ) الْقُرْءَانِيَّةِ وَالْحَدِيثِيَّةِ (لا يَجُوزُ إِلَّا بِدَلِيلٍ نَقْلِىٍّ ثَابِتٍ أَوْ عَقْلِىٍّ قَاطِعٍ وَ)الْمُخَالِفُونَ (لَيْسَ عِنْدَهُمْ شَىْءٌ مِنْ هَذَيْنِ وَلا دَلِيلَ عَلَى لُزُومِ التَّأْوِيلِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَوْقَ الْعَرْشِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَلا بِأَنَّهُ تَحْتَ الْعَرْشِ فَبَقِىَ الأَمْرُ عَلَى الِاحْتِمَالِ أَىِ احْتِمَالِ أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَحْتَ الْعَرْشِ فَعَلَى) مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُخَالِفُ يَكُونُ (قَوْلُهُ) مُوقِعًا لَهُ فِى مَا عَابَ عَلَيْنَا فَإِنَّهُ مَنَعَنَا مِنَ التَّأْوِيلِ مَعَ أَنَّنَا لا نُأَوِّلُ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَأَوَّلَ هُوَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ (إِنَّهُ) أَىِ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ (فَوْقَ الْعَرْشِ يَكُونُ) الْمُشَبِّهُ قَدْ (جَعَلَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ مُعَادِلًا لِلَّهِ أَىِ) اقْتَضَى كَلامُهُ (أَنْ يَكُونَ اللَّهُ بِمُحَاذَاةِ قِسْمٍ مِنَ الْعَرْشِ وَاللَّوْحُ) الْمَحْفُوظُ (بِمُحَاذَاةِ قِسْمٍ مِنَ الْعَرْشِ وَهَذَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِخَلْقِهِ لِأَنَّ مُحَاذَاةَ شَىْءٍ لِشَىْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ).

     (وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ) الَّذِى سَبَقَ ذِكْرُهُ هُوَ (فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقِيَّةً حَقِيقِيَّةً لا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ الْحَدِيثُ الَّذِى رَوَاهُ النَّسَائِىُّ فِى السُّنَنِ الْكُبْرَى إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَىْ سَنَةٍ فَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَإِنَّهُ أَنْزَلَ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ ءَايَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفِى لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ، فَهَذَا) وَمَا سَبَقَهُ (صَرِيحٌ فِى أَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ فَوْقَ الْعَرْشِ فَوْقِيَّةً حَقِيقِيَّةً لا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ). (وَكَلِمَةُ عِنْدَ) فِى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ (لِلتَّشْرِيفِ) أَىِ التَّعْظِيمِ وَ(لَيْسَ لِإِثْبَاتِ تَحَيُّزِ اللَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ لِأَنَّ) كَلِمَةَ (عِنْدَ تُسْتَعْمَلُ لِغَيْرِ الْمَكَانِ) أَيْضًا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّنْ سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ﴾) فَلا تَدُلُّ عِنْدَ فِى هَذِهِ الآيَةِ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ حَيِّزًا أَىْ مَكَانًا وَأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحِجَارَةِ تَقَارُبًا (إِنَّمَا تَدُلُّ عِنْدَ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ مُجَاوِرَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فِى الْمَكَانِ فَمَنْ يَحْتَجُّ بِمُجَرَّدِ كَلِمَةِ عِنْدَ لِإِثْبَاتِ الْمَكَانِ وَالتَّقَارُبِ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ وَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إِنَّ تِلْكَ الْحِجَارَةَ الَّتِى أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ نَزَلَتْ مِنَ الْعَرْشِ إِلَيْهِمْ وَكَانَتْ مُكَوَّمَةً بِمَكَانٍ فِى جَنْبِ اللَّهِ فَوْقَ الْعَرْشِ).

     عَوْدٌ إِلَى الْكَلامِ عَنْ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ.

     (وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِىُّ أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ قَالَ إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِى صَلاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِى رَبَّهُ فَلا يَبْصُقَنَّ فِى قِبْلَتِهِ وَلا عَنْ يَمِينِهِ فَإنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ قِبْلَتِهِ) أَىْ أَنَّ الْمُصَلِّىَ انْقَطَعَ عَنْ مُخَاطَبَةِ النَّاسِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ فَلَيْسَ مِنَ الأَدَبِ أَنْ يَبْصُقَ فِى قِبْلَتِهِ وَلا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ أَىْ رَحْمَةَ رَبِّهِ أَمَامَهُ أَىِ الرَّحْمَةَ الْخَاصَّةَ الَّتِى تَنْزِلُ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ (وَهَذَا الْحَدِيثُ أَقْوَى إِسْنَادًا مِنْ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِىُّ أَيْضًا عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ) لِصَحَابَتِهِ (ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أَىْ هَوِّنُوا عَلَيْهَا وَلا تُجْهِدُوهَا بِرَفْعِ الصَّوْتِ كَثِيرًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِى سَفَرٍ فَوَصَلُوا إِلَى وَادِى خَيْبَر فَصَارُوا يُهَلِّلُونَ وَيُكَبِّرُونَ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ (فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا) أَىْ لا تَخْفَى عَلَيْهِ الأُمُورُ (إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَالَّذِى تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ) وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْبُ الْمَعْنَوِىُّ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى أَحْوَالِ عِبَادِهِ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ مِنْهَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْبَ الْحِسِّىَّ الَّذِى هُوَ بِالْجِهَةِ وَالْمَسَافَةِ (فَيُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ) الَّذِى يَمْنَعُ التَّأْوِيلَ وَيَحْتَجُّ بِظَاهِرِ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ لِإِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ (إِذَا أَخَذْتَ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا بَطَلَ زَعْمُكَ أَنَّ اللَّهَ فِى السَّمَاءِ) لِأَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ الأَوَّلِ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بَيْنَ الْمُصَلِّى وَالْكَعْبَةِ وَظَاهِرَ الْحَدِيثِ الثَّانِى أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بَيْنَ الرَّاكِبِ الدَّاعِى وَعُنُقِ دَابَّتِهِ (وَإِنْ أَوَّلْتَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَلَمْ تُؤَوِّلْ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ فَهَذَا تَحَكُّمٌ أَىْ قَوْلٌ بِلا دَلِيلٍ وَيَصْدُقُ عَلَيْكَ قَوْلُ اللَّهِ) تَعَالَى (فِى الْيَهُودِ ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾).

     (وَ)يُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ (كَذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ فَإِنْ أَوَّلْتَهُ فَلِمَ لا تُؤَوِّلُ حَدِيثَ الْجَارِيَةِ وَقَدْ جَاءَ فِى تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ تِلْمِيذِ ابْنِ عَبَّاسٍ قِبْلَةُ اللَّهِ فَفَسَّرَ الْوَجْهَ بِالْقِبْلَةِ) ذَكَرَ ذَلِكَ الطَّبَرِىُّ فِى تَفْسِيرِهِ (أَىْ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَخَصَّ لَكُمْ (لِصَلاةِ النَّفْلِ فِى السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ) أَىِ الدَّابَّةِ أَنْ تَتَوَجَّهُوا إِلَى الْجِهَةِ الَّتِى تَذْهَبُونَ إِلَيْهَا.

     (وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِى رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ) فِى سُنَنِهِ (وَهُوَ الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمٰنُ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ) أَىْ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْخَيْرِ كَتَعْلِيمِهِمْ أُمُورَ الدِّينِ الضَّرُورِيَّةَ وَإِطْعَامِ جَائِعِهِمْ وَكِسْوَةِ عَارِيهِمْ (يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ) أَىْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَهُمُ الْمَلائِكَةُ لِأَنَّ الْمَلائِكَةَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُنْزِلُونَ لَهُمُ الْمَطَرَ وَيَحْفَظُونَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ التِّرْمِذِىُّ (وَفِى رِوَايَةٍ أُخْرَى) لِلإِمَامِ أَحْمَدَ إِسْنَادُهَا حَسَنٌ (يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفَسِّرُ الرِّوَايَةَ الأُولَى لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِالْوَارِدِ) أَىْ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (كَمَا قَالَ الْحَافِظُ) زَيْنُ الدِّينِ (الْعِرَاقِىُّ فِى أَلْفِيَّتِهِ وَخَيْرُ مَا فَسَّرْتَهُ بِالْوَارِدِ).

     (ثُمَّ الْمُرَادُ بِأَهْلِ السَّمَاءِ الْمَلائِكَةُ ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ) زَيْنُ الدِّينِ (الْعِرَاقِىُّ فِى أَمَالِيِّهِ عَقِيبَ هَذَا الْحَدِيثِ وَنَصُّ عِبَارَتِهِ وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ) فِى الْحَدِيثِ (عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ) تَعَالَى (﴿مَّنْ فِى السَّمَاءِ﴾ الْمَلائِكَةُ، لِأَنَّهُ لا يُقَالُ لِلَّهِ أَهْلُ السَّمَاءِ) أَىْ لا يَجُوزُ ذَلِكَ (وَ)قَالَ بَعْضُ الْمُشَبِّهَةِ إِنَّ كَلِمَةَ مَنْ تُسْتَعْمَلُ فِى الْمُفْرَدِ فَلا يَصِحُّ حَمْلُهَا عَلَى الْمَلائِكَةِ وَهَذَا كَلامٌ مَرْدُودٌ فَإِنَّ (مَنْ تَصْلُحُ لِلْمُفَرَدِ وَلِلْجَمْعِ) كَمَا فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ وَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ (فَلا حُجَّةَ لَهُمْ فِى) حَمْلِ (الآيَةِ) ﴿مَّنْ فِى السَّمَاءِ﴾ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِى الآيَةِ الَّتِى تَلِيهَا وَهِىَ ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ مَّنْ فِى السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾) أَىْ رِيحًا ذَاتَ حِجَارَةٍ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا أَرْسَلَهَا عَلَى قَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْفِيلِ (فَـمَنْ فِى هَذِهِ الآيَةِ) مَعْنَاهَا (أَيْضًا أَهْلُ السَّمَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَى الْكُفَّارِ الْمَلائِكَةَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِلَّ عَلَيْهِمْ عُقُوبَتَهُ فِى الدُّنْيَا كَمَا أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِتَسْلِيطِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ وَهُمْ يَجُرُّونَ عُنُقًا) أَىْ جُزْءًا كَبِيرًا (مِنْ جَهَنَّمَ إِلَى الْمَوْقِفِ لِيَرْتَاعَ الْكُفَّارُ بِرُؤْيَتِهِ) أَىْ حَتَّى يَرَاهُ الْكُفَّارُ فَيَفْزَعُوا بِرُؤْيَتِهِ. (وَتِلْكَ الرِّوَايَةُ الَّتِى أَوْرَدَهَا الْحَافِظُ الْعِرَاقِىُّ فِى أَمَالِيِّهِ لَفْظُهَا الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحِيمُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ) وَإِسْنَادُهَا حَسَنٌ وَأَمَّا رِوَايَةُ الْحَاكِمِ فِى الْمُسْتَدْرَكِ فَهِىَ الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمٰنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ صَحَّحَهَا الْحَاكِمُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِىُّ.

     (وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِى رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ أَلا تَأْمَنُونِى وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِى السَّمَاءِ) أَىْ وَأَنَا مُؤْتَمَنٌ عِنْدَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ أَمِينٌ فِى إِبْلاغِ الْوَحْىِ (يَأْتِينِى خَبَرُ مَنْ فِى السَّمَاءِ صَبَاحَ مَسَاءَ) أَىْ خَبَرُ الْمَلائِكَةِ (فَالْمَقْصُودُ بِهِ) أَىْ بِقَوْلِهِ مَنْ فِى السَّمَاءِ (الْمَلائِكَةُ أَيْضًا وَ)قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ (إِنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّهُ فَمَعْنَاهُ الَّذِى هُوَ رَفِيعُ الْقَدْرِ جِدًّا).

     (وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ زَوْجِ النَّبِىِّ ﷺ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ لِنِسَاءِ الرَّسُولِ ﷺ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِى اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّ تَزَوُّجَ النَّبِىِّ ﷺ بِهَا مُسَجَّلٌ فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ) وَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ الْحَيِّزِ أَىِ الْمَكَانِ لِلَّهِ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُشَبِّهَةِ بَلْ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ زَيْنَبَ تَزَوَّجَهَا النَّبِىُّ بِالْوَحْىِ مِنْ غَيْرِ وَلِىٍّ وَشَاهِدَيْنِ وَهَذَا مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾ (وَهَذِهِ كِتَابَةٌ خَاصَّةٌ بِزَيْنَبَ لَيْسَتِ الْكِتَابَةَ الْعَامَّةَ) فَإِنَّ (الْكِتَابَةَ الْعَامَّةَ لِكُلِّ شَخْصٍ فَكُلُّ زِوَاجٍ يَحْصُلُ إِلَى نِهَايَةِ الدُّنْيَا مُسَجَّلٌ) فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ (وَاللَّوْحُ) الْمَحْفُوظُ مَوْجُودٌ (فَوْقَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ) فَهَذَا هُوَ الَّذِى كَانَتْ زَيْنَبُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا تَفْتَخِرُ بِهِ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ.

     (وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِى) رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ وَ(فِيهِ وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ) أَىْ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ (مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ) أَىْ لِلْجِمَاعِ (فَتَأْبَى عَلَيْهِ) أَىْ تَمْنَعُهُ مِنْ مُجَامَعَتِهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ (إِلَّا كَانَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا، الْحَدِيثَ فَيُحْمَلُ أَيْضًا عَلَى الْمَلائِكَةِ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الصَّحِيحَةِ وَالَّتِى هِىَ أَشْهَرُ مِنْ هَذِهِ وَهِىَ لَعَنَتْهَا الْمَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبِح، رَوَاهَا ابْنُ حِبَّانَ) فِى صَحِيحِهِ (وَغَيْرُهُ).

     (وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِى الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ قَالَ رَبَّنَا الَّذِى فِى السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ فَلَمْ يَصِحَّ بَلْ هُوَ ضَعِيفٌ كَمَا حَكَمَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِىِّ وَلَوْ صَحَّ فَأَمْرُهُ كَمَا مَرَّ فِى حَدِيثِ الْجَارِيَةِ) أَىْ لَكَانَ مَعْنَاهُ الَّذِى هُوَ رَفِيعُ الْقَدْرِ جِدًّا.

     (وَأَمَّا حَدِيثُ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِىِّ ﷺ إِنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ وَسَمَوَاتُهُ فَوْقَ أَرَاضِيهِ مِثْلُ الْقُبَّةِ فَلَمْ يُدْخِلْهُ الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ) بَلْ يَرْوِيهِ فِى بَعْضِ كُتُبِهِ الأُخْرَى وَفِى هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ تَصْحِيحِهِ لَهُ (فَلا حُجَّةَ فِيهِ وَفِى إِسْناَدِهِ مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ لا يُحْتَجُّ بِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِىِّ) فِى كِتَابِ دَفْعِ شُبَهِ التَّشْبِيهِ (وَغَيْرُهُ) كَالْبَيْهَقِىِّ فِى الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

     (وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ) الْبُخَارِىُّ (فِى كِتَابِهِ خَلْقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا (أَنَّهُ قَالَ لَمَّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى كَانَ نِدَاؤُهُ فِى السَّمَاءِ وَكَانَ اللَّهُ فِى السَّمَاءِ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ فَلا يُحْتَجُّ بِهِ) وَالْبُخَارِىُّ ذَكَرَهُ فِى هَذَا الْكِتَابِ بِدُونِ سَنَدٍ وَلا يُكْتَفَى لِتَصْحِيحِ هَذا الْحَدِيثِ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهِ فِيهِ لِأَنَّ الْبُخَارِىَّ لَمْ يَقُلْ أَنَا أَلْتَزِمُ أَنْ لا أَذْكُرَ فِيهِ إِلَّا الصَّحِيحَ.

     (وَأَمَّا الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ لِمَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهُ فِى السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِى كُلِّ مَكَانٍ لا يَخْلُو مِنْهُ شَىْءٌ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ وَأَبُو دَاوُدَ لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَيْهِ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ بَلْ ذَكَرَهُ فِى كِتَابِهِ الْمَسَائِلُ) أَىْ مَسَائِلُ الإِمَامِ أَحْمَدَ (وَمُجَرَّدُ الرِّوَايَةِ لا يَكُونُ إِثْبَاتًا) وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ نَافِعٍ قَالَ فِيهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ حَدِيثٍ وَكَانَ ضَعِيفًا فِيهِ.