الاجتهادُ إخوة الإيمانِ هو استخراجُ الأحكامِ التي لم يرِدْ فيها نصٌّ صريحٌ من الكتاب والسنةِ، وأما ما ورد فيه نصٌّ صريحٌ فلا مجالَ للاجتهادِ فيه، فإن قُلنا مذهبُ الشافعيِّ أو مذهبُ مالكٍ أو مذهبُ أبي حنيفةَ أو أحمدَ بنِ حنبلٍ فالمرادُ ما ذهبَ إليهِ من الأحكامِ في المسائلِ أي في ما قرَّرهُ من الأحكام، فإذن المجتهدُ له شروطٌ لا بد أن تجتمعَ به ليكونَ عنده الأهليةُ للاجتهاد، فالاجتهادُ مشروعٌ لأهلِهِ وليس لكل فردٍ من أفرادِ المسلمين وإلا لضاع الدِّين، والفوضى لا تليقُ بالدين، قال الأَفْوَهُ الأَوْدِيُّ:
لا يصلُحُ الناسُ فَوضَى لا سَراةَ لهم *** ولا سَراةَ إذا جُهّالُهُم سادُوا
نقول لهم قال الله تعالى [وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ] النحل 116.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ وَاحِدٌ في الْجَنّةِ وَاثْنَانِ في النّارِ، فَأمّا الّذِي في الْجَنّةِ فَرَجُل عَرَفَ الْحَقّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُل عَرَفَ الْحَقّ فَجَارَ في الْحُكْمِ فَهُوَ في النّارِ وَرَجُل قَضَى لِلنّاسِ عَلَى جَهَلٍ فَهُوَ في النّارِ).
وفي صحيح الإمام مسلم باب بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات، ثم روى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أنه قَالَ (إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ) وعن عبد الله بن المبارك أنه قال (الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء).
وفي هذا يقول النووي رحمه الله (لا يجوز استفتاء غير الثقة) أي لا يجوز لك أن تستفتي في أمر دينك إلا ثقة ضابطاً متقناً، يوثَق بدينه ومعرفته ويُعتمَد عليه، فيا أخي المسلم يا من تهتم بدينك لا تغتر بالشكل ولا بالزي ولا بالشهرة ولا بالمنصب، فقد قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (يَخرُجُ في آخِرِ الزّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدّنْيَا بالدّينِ، يَلْبَسُونَ لِلنّاسِ جُلُودَ الضّأْنِ مِنَ الّلينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السّكّرِ وَقُلِوبُهُمْ قُلُوبُ الذّئَابِ يَقُولُ الله عز وجل أَبي يَغْتَرّونَ أَمْ عَلَيّ تَجْتَرِئُونَ؟ فَبِي حَلَفْتُ لأَبْعَثَنّ عَلَى أُولَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ مِنْهُمْ حَيْرَاناً).
يا أخي المسلم لا تقل أعجبني شكله أو هذا مشهور يحاضر على الفضائيات أو هذا ما أهواه وأميل إليه، فقد ورد في الأثر (حُبُّكَ لِلشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ).
وأما حديث (استفت قلبك) فهو للعلماء المجتهدين وليس لعوام الناس لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله للصحابي الجليل وابصة بن معبد رضي الله عنه أحدِ علماء الصحابة وهو ممن له أهلية استنباط الأحكام، ولا يخفى أن العاميَّ قد يميلُ قلبه إلى ما يخالف الشرع، فكيف يتركُ العامي فتوى المجتهدين المعتبرين ويعمل بما تميل إليه نفسه، فقد روى الإمام أحمد وغيره عن وَابِصَةَ بن معبد رضي اللّه عنه أنه أتى رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال (جِئْتَ تَسألُ عَنِ البِرّ وَالإِثْمِ؟ قال نعم، فقال اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، البِرُّ ما اطْمأنَّت إِلَيْهِ النَّفْس وَاطْمأنَّ إِلَيْهِ القَلْبُ، وَالإِثْمُ ما حاكَ في النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ، وَإنْ أفْتاكَ النَّاسُ وَأفْتَوْكَ).
أخي المسلم اعرف الحق تعرف أهله، فالحق لا يعرف بالرجال ولكن الرجال يعرفون بالحق، ولا تقل أنا في حيرة وضياع، ولا تجعل الحسد والهوى وتصديق الشائعات مانعا لك من قبول الحق، أقبل على طلب العلم من أهله وأشفق على نفسك وعلى زوجك وأولادك.
وقد روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ خَرَجَ في طلَبِ العِلمِ فهو في سبيلِ الله حتّى يرجِع) أي أنَّ ثوابَهُ يُشبِهُ ثواب الخارج للجهاد في سبيل الله وذلك لأنّ علم الدين سلاحٌ يُدافِعُ به المؤمنُ الشيطان ويُدافِعُ به شياطين الإنس ويُدافِعُ به نفسَه التي بينَ جنبَيه وهواه ويُمَيّزُ به ماينفعُهُ في الآخِرَةِ وما يَضُرُّهُ ويُميّز العمل المَرضِيّ عند الله والعمل الذي يَسخَطُ اللهُ على فاعِلِهِ
قال الحافظ النوويّ رحمه الله [لا يـجوز استفتاءُ غيرِ العالِـمِ الثقَةِ].
طلبُ العلمِ إخوتي في الله ليس بقراءة الكتُبِ مِن غيرِ تلقّ على أهل المعرفة فقد حَذَّرَ السلَفُ مِن مجرّد أخذ العلم من الكتب من غير تلقّ من عالم ثقة وحذّروا من أخذ العلم ممن هذا حالُه فقالوا ]لا تقرؤوا القرءان على الـمُصْحَفِيّينَ ولا تأخذوا العلم مِنَ الصُّحُفِيّينَ (وهم الذي يأخذون العلم من الصُّحُفِ أي الكتب من غير تلقّ على معلّم وأما الـمـُصْحَفِيّون فهم الذين يقرؤون القرءان من غير تلقّ من قارئ يتصل سنده بالقراءة إلى رسول الله)]، فأشفِقْ على ديِنك أخي المسلم واعلم أن هذا العِلمَ دينٌ فانظُرْ عمِّنْ تأخُذُ دينَكَ كما قال ابن سيرينَ رحمه الله، فافهم هذا أخي المسلم ولا تُهلِك نفسك واطلُبِ العلم مِن أهلِهِ واصبِرْ عليه
وإيّاكَ ومُدّعِي العلمِ زورًا لعَلَّ اللهَ يُهيّئ لك مِن أمرِكَ رشَدًا.
قال الإمام أبو عمرو الداني القرطبي المعروف في زمانه بابن الصيرفي الإمام العلامة الحافظ وشيخ مشايخ المقرئين رضي الله عنه فيمن لا يؤخذ عنه العلم
والعلم لا تأخذه عن صحفي *** ولا حروف الذكر عن كتبي
ولا عن المجهول والكذاب *** ولا عن البدعي والمرتاب
وارفض شيوخ الجهل والغباوه *** لا تأخذن عنهم التلاوه
لأنهم بِالجهل قد يأتونا *** بغير ما يروى وما يروونا
وكل من لا يعرف الإعرابا *** فربما قد يترك الصوابا
وربما قد قوَّل الأئمة *** ما لا يجوز وينال إثمة
فدعه والزم يا أخي الصدوقا *** ومن تراه يحتذي الطريقا
طريق من مضى من الأسلاف *** أولي النهى والعلم بالخلاف
علم الدّين لا يؤخذ ممن ليس له إسناد، يؤخذ ممن أخذ عن غيره من الثّقات إلى البداية، علم الدّين ليس فكرة يفتكرها الشخص.
روى مسلم عن عبد الله بن المبارك أنّه قال (الإسناد من الدين ولو لا الإسناد لقال من شاء ما شاء).
قال الإمام الشافعي (الذي يطلب العلم بلا سند كحاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى وهو لا يدري).
1/433 من فيض القدير للمناوي اثناء شرحه لحديث (إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بإسناده).
