إنّ الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه ونشكره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
أما بعد، فما زال المدعو محمد بن حمودة يظهر لنا على التلفاز بشطحاته ومخالفاته الشرعية النابعة من تنصيب نفسه مناصب علمية هو ليس أهلا لها، فنصب نفسه شافعيّ زمانه وطبري أوانه وسبكي عصره، فصار يستنبط ويرجح بين الآيات والأحاديث ويفسرها على حسب رأيه دون علم أو فهم سليم.
وهذا في الواقع ما جعل وسائل الإعلام تتهافت عليه وتصدره لتفاهة مقاله وتحريفه لأحكام الدين، وهو ما تفعله مع أمثاله: يوسف الصديق – ألفة يوسف – بدري المداني … وغيرهم كثير، أما علماء الزيتونة ومن لهم الأهلية في الحسم في هكذا أمور فهم في الدرج لا نجد لهم صوتا مذاعا في الإعلام إلا النادر النادر.
فيقول محمد بن حمودة في برنامج “الكل في الكل” على قناة التاسعة أن النعيم والعذاب في القبر ليسا موجودين أصلا، ونعيم القبر هو عبارة عن العروج مباشرة للجنة للأنبياء والصالحين، وأن عذاب القبر هو عبارة عن النزول مباشرة إلى النار وهو خاص بالكفار، أما عصاة المسلمين فلا عذاب لهم ولا نعيم. وهذا باطل لا شك.
وقد قسمت هذا الرد إلى ستة أقسام (1/إثبات نعيم القبر، 2/إثبات عود الروح إلى الجسد، 3/إثبات عذاب القبر من القرآن والسنة وأقوال علماء الأمة ، 4/الكلام عن الملكين منكر ونكير، 5/مصير عصاة المسلمين، 6/فوائد).
1/إثبات نعيم القبر
1-1/أما انكاره لنعيم القبر فهذا مخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة، روى الترمذيُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأناسٍ (فأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ المَوْتِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى الْقَبْرِ يَوْمٌ إِلا تَكَلَّمَ فِيهِ فَيَقُولُ أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ فَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ -أى الكامل- قَالَ لَهُ الْقَبْرُ مَرْحَبًا وَأَهْلا أَمَا إِنْ كُنْتَ لأحَبَّ مَنْ يَمْشِى عَلَى ظَهْرِى إِلَىَّ فَإِذْ وُلّيتُكَ اليَوْمَ وَصِرْتَ إِلَىَّ فَسَتَرَى صَنيعِى بِكَ قَالَ فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ).
2-1/وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة) رواه الترمذي من حديث أبي سعيد . وقد قال مسروق رحمه الله: ( ما غبطت أحداً ما غبطت مؤمناً في اللحد، قد استراح من نصب الدنيا وأمِنَ عذاب الله تعالى )).
3-1/والقصص في المشاهدات لبعض الصالحين الذين رووا يتنعمون في قبورهم كثيرة جدا، منها ما حصل مع الصحابي الجليل العلاء بن الحضرمي، وكذلك ما حصل مع التابعي الجليل ثابت البناني خادم أنس بن مالك وغيرهم كثير.
4-1/وَهَذَا النَّعِيمُ لِلْمُؤْمِنِ الْقَوِيِّ وَهُوَ الَّذِي يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمَعَاصِيَ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ (الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَسَنَتُهُ فَإِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا فَارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ) حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، يَعْنِي الْمُؤْمِنَ الْكَامِلَ. فقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (سِجْنُ الْمُؤْمِنِ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَلْقَاهُ مِنَ النَّعِيمِ فِي الآخِرَةِ الدُّنْيَا كَالسِّجْنِ، وَقَوْلُهُ (وَسَنَتُهُ) أَيْ دَارُ جُوعٍ وَبَلاءٍ.
5-1/فمن نعيم القبر أنه يُنَوَّرُ قَبْرُهُ أَيِ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ وَيُفْتَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَأْتِيهِ نَسِيمُهَا، وَيُمْلَأُ عَلَيْهِ خَضِرًا أَيْ يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ مِنْ نَبَاتِ الْجَنَّةِ الأَخْضَرِ، وَهَذَا كُلُّهُ حَقِيقِيٌّ لَيْسَ وَهْمًا لَكِنَّ اللَّهَ يَحْجُبُ ذَلِكَ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ أَيْ أَكْثَرِهِمْ أَمَّا أَهْلُ الْخُصُوصِيَّةِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْكَامِلِينَ فَيُشَاهِدُونَ، وَالْحِكْمَةُ فِي إِخْفَاءِ اللَّهِ حَقَائِقَ أُمُورِ الْقَبْرِ وَأُمُورِ الآخِرَةِ لِيَكُونَ إِيـمَانُ الْعِبَادِ إِيـمَانًا بِالْغَيْبِ فَيَعْظُمَ ثَوَابُهُ. ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ يُقَالُ لَهُ: نَمْ، فَيَنَامُ كَنَوْمِ الْعَرُوسِ الَّذِي لا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، أَيْ لا يُحِسُّ بِقَلَقٍ وَلا وَحْشَةٍ.
2/إثبات عود الروح إلى الجسد
1-2/فالروح تعود للناس في قبورهم بعد خروجها بالموت، وهذا مما تشهد عليه الأحاديث الصحيحة، فقد ثَبَتَ فِي الحديث الصحيح الذي رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو عُوَانَةَ وَصَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ (مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ).
2-2/فَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ رُجُوعَ الرُّوحِ إِلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ وَذَلِكَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَوْ إِلَى بَعْضِهِ وَيَتَأَكَّدُ عَوْدُ الْحَيَاةِ فِي الْقَبْرِ إِلَى الْجَسَدِ مَزِيدَ تَأَكُّدٍ فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ) صَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ.
3-2/فَعَوْدُ الرُّوحِ إِلَى الْجَسَدِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ كُلِّ الأَشْخَاصِ الصَّالِحِينَ وَالطَّالِحِينَ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الأَنْبِيَاءِ فَأَقْوَى، فَقَدْ صَحَّ حَدِيثُ (الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ) هَذَا ثَابِتٌ لِكُلِّ نَبِيٍّ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ قَدْ يَحْصُلُ لِبَعْضِهِمْ لَكِنَّهُ لَيْسَ عَامًّا.
4-2/وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ذكر فتَّاني القبر فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أترد علينا عقولنا يا رسول الله قال : (( نعم كهيئتكم اليوم)) قال : فبفيه الحجر ، ومعنى الفتَّان الممتحن ، منكر ونكير سُمّيا بذلك لأنهما يمتحنان الناس.
3/إثبات عذاب القبر والسنة وأقوال علماء الأمة
1-3/ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [سُورَةَ غَافِر/46].
يُخْبِرُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَيْ أَتْبَاعَهُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ عَلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ فِي الْبَرْزَخِ أَيْ فِي مُدَّةِ الْقَبْرِ، وَالْبَرْزَخُ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ إِلَى الْبَعْثِ، يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ عَرْضًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلُوهَا حَتَّى يَمْتَلِئُوا رُعْبًا، أَوَّلَ النَّهَارِ مَرَّةً وَءَاخِرَ النَّهَارِ مَرَّةً. وَوَقْتُ الْغَدَاةِ مِنَ الصُّبْحِ إِلَى الضُّحَى، وَأَمَّا الْعَشِيُّ فَهُوَ وَقْتُ الْعَصْرِ ءَاخِرَ النَّهَارِ، ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ أَيْ يُقَالُ لِلْمَلائِكَةِ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، ءَالُ فِرْعَوْنَ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَاتَّبَعُوهُ فِي أَحْكَامِهِ الْجَائِرَةِ، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَقَارِبَهُ.
2-3/وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [سُورَةَ طَه/124].
يعني الْكُفَّار الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الإِيـمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى إِذَا مَاتُوا يَتَعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِـ ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ أَيِ الْمَعِيشَةَ الضَّيِّقَةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِـ ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ مَعِيشَةً قَبْل الْمَوْتِ إِنَّمَا الْمُرَادُ حَالُهُمْ فِي الْبَرْزَخِ.
فَفِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ إِثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ، الأُولَى صَرِيحَةٌ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَدْ عُرِفَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِهَا عَذَابَ الْقَبْرِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ هُوَ فَسَّرَ هَذِهِ الآيَةَ ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ بِعَذَابِ الْقَبْرِ. رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ بَعْدَ عَوْدِ الرُّوحِ إِلَيْهِ يَكُونُ لَهُ إِحْسَاسٌ بِالْعَذَابِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ لِلْكُفْرِ أَوْ لِلْمَعَاصِي.
3-3/وَمِنْ جُمْلَةِ عَذَابِ الْقَبْرِ ضَغْطَةُ الْقَبْرِ حَتَّى تَخْتَلِفَ الأَضْلاعُ وَهَذَا لِلْكُفَّارِ وَبَعْضِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَنْ لا يَتَجَنَّبُ الْبَوْلَ وَلَيْسَتِ الضَّغْطَةُ لِكُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ التَّقِيُّ فَهُوَ فِي نَعِيمٍ أَيْنَمَا دُفِنَ وَلَوْ دُفِنَ وَسَطَ الْكُفَّارِ وَقَدْ يُسَخِّرُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ مَنْ يَنْقُلُهُ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ.
4-3/وفي سنن النسائى عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللهُ عَنْهَا قالت سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ (نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ).
5-3/روى أبو داود في سننه عن البراء بن عازب رضِىَ الله عنه أنه قال خَرَجْنَا مَعَ رَسْولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ فيِ جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنّـمَا عَلَى رُؤوسِنَا الطَّيْرُ وَفىِ يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بهِ الأرْضَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ (اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذابِ الْقَبْرِ اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا).
6-3/وفي صحيح مسلم عن أَبَى هُرَيْرَةَ رَضِىَ الله عنه أنه قال قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عُوذُوا بِاللهِ مِنْ عَذابِ اللهِ، عُوذُوا بِاللهِ مِن عَذَابِ القَبْرِ، عُوذوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، عُوذُوا بِاللهِ مِنُ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ).
7-3/قال الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه في الفقه الأكبر (وضغطة القبر وعذابه حق كائن للكفار ولبعض عصاة المسلمين). اهـ
8-3/قال الإمام أبو منصور البغدادِى في كتاب الفرق بين الفرق: وقطعوا -أى أهل السنة والجماعة- بأن المنكرين لعذاب القبر يعذبون في القبر. اهـ.
4/الكلام عن الملكين منكر ونكير
1-4/رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ؟ فَأَمّا الْمُؤْمِنُ [أَيِ الْكَامِلُ] فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِ، فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ).
يعنِي تُؤْخَذُ رُوحُهُ إِلَى مَكَانٍ يَنْظُرُ مِنْهُ إِلَى جَهَنَّمَ فَيَرَى مَقْعَدَهُ فِي النَّارِ لَوْ كَانَ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، وَتُؤْخَذُ رُوحُهُ إِلَى مَكَانٍ قُرْبَ الْجَنَّةِ فَيَرَى مَقْعَدَهُ الَّذِي يَتَبَوَّؤُهُ فِي الآخِرَةِ فَيَعْرِفُ فَضْلَ الإِسْلامِ حِينَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً عِيَانِيَّةً كَمَا كَانَ يَعْرِفُ فِي الدُّنْيَا مَعْرِفَةً قَلْبِيَّةً.
وَمَعْنَى (لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ) أَيْ لا عَرَفْتَ، وَإِنَّمَا قِيلَ وَلا تَلَيْتَ لِتَأْكِيدِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ حَسَنٌ بَسَنٌ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِتَأْكِيدِ الْمَعْنَى ثُمَّ إِنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَضْرِبَانِهِ بِهَذِهِ الْمِطْرَقَةِ ضَرْبَةً لَوْ ضُرِبَ بِهَا الْجَبَلُ لَانْدَكَّ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ مِنْ بَهَائِمَ وَطُيُورٍ إِلَّا الإِنْسَ وَالْجِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ حَجَبَ عَنْهُمْ ذَلِكَ.
وَلَفْظُ الإِشَارَةِ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ (مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ) لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ يَكُونُ ظَاهِرًا مَرْئِيًا مُشَاهَدًا، وَإِنَّمَا هَذِهِ الإِشَارَةُ تُسَمَّى إِشَارَةً لِلْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ.
5/مصير عصاة المسلمين
1-5/وأما عصاة المسلمين من أهل الكبائر فهم صنفان: صنف يعفيهم الله من العذاب وصنف يعذبهم ثم ينقطع عنهم ويؤخر لهم بقية عذابهم إلى الآخرة: فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرِ إِثْمٍ، قَالَ: بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ)، ثُمَّ دَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقَّهُ اثْنَيْنِ فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا، ثُمَّ قَالَ (لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا)
2-5/هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ، الرَّسُولُ مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرِ إِثْمٍ) ثُمَّ قَالَ (بَلَى)، أَيْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ بِحَسَبِ مَا يَرَى النَّاسُ لَيْسَ ذَنْبُهُمَا شَيْئًا كَبِيرًا لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ ذَنْبٌ كَبِيرٌ لِذَلِكَ قَالَ (بَلَى)، (أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ) وَهِيَ نَقْلُ الْكَلامِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِلإِفْسَادِ بَيْنَهُمَا يَقُولُ لِهَذَا فُلانٌ قَالَ عَنْكَ كَذَا وَيَقُولُ لِلآخَرِ فُلانٌ قَالَ عَنْكَ كَذَا لِيُوقِعَ بَيْنَهُمَا الشَّحْنَاءَ، (وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ) أَيْ كَانَ يَتَلَوَّثُ بِالْبَوْلِ، وَهَذَا مِنَ الْكَبَائِرِ، فَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَعْنَاهُ تَحَفَّظوا مِنَ الْبَوْلِ لِئَلَّا يُلَوِّثَكُمْ، مَعْنَاهُ لا تُلَوِّثُوا ثِيَابَكُمْ وَجِلْدَكُمْ بِهِ لِأَنَّ أَكْثَرَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ.
6/فوائد
1-6/يُسْتَثْنَى مِنَ السُّؤَالِ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ أَيْ شُهَدَاءُ الْمَعْرَكَةِ وَكَذَلِكَ الطِّفْلُ أَيِ الَّذِي مَاتَ دُونَ الْبُلُوغِ. الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَصَّهُمُ اللَّهُ بِمَزَايَا عَدِيدَةٍ مِنْهَا أَنَّهُمْ لا تَبْلَى أَجْسَادُهُمْ وَتَصْعَدُ أَرْوَاحُهُمْ فَوْرًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ (أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ)، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَخْلُقُ اللَّهُ لَهُمْ أَجْسَادًا تَكُونُ بِصُورَةِ طُيُورٍ وَأَرْوَاحُهُمْ تَكُونُ فِي حَوْصَلَةِ هَذِهِ الطُّيُورِ يَطِيرُونَ فِي الْجَنَّةِ وَيَأْكُلُونَ مِنْ ثِمَارِهَا، أَمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْخُذُ مُتَبَوَّأَهُ الْخَاصَّ، لا يَدْخُلُونَ فِي حَوَاصِلِ الطُّيُورِ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ.
2-6/ ثُمَّ إِذَا بَلِيَ الْجَسَدُ -في حق من تبلى أجسادهم- وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ يَكُونُ رُوحُ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ فِي الْجَنَّةِ وَتَكُونُ أَرْوَاحُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ بَعْدَ بِلَى الْجَسَدِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَبَعْضُهُمْ فِي السَّمَاءِ الأُولَى. وَتَكُونُ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ بَعْدَ بِلَى الْجَسَدِ فِي سِجِّينَ، وَهُوَ مَكَانٌ فِي الأَرْضِ السُّفْلَى.
3-6/أمّا عَجْبُ الذَّنَبِ لا يَبْلَى وَلَوْ سُلِّطَ عَلَيْهِ نَارٌ شَدِيدَةٌ، وَهُوَ عَظْمٌ صَغِيرٌ قَدْرُ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ (مِنْهُ خُلِقَ الإِنْسَانُ وَعَلَيْهِ يُرَكَّبُ) أَيْ أَنَّ سَائِرَ الْعِظَامِ تُرَكَّبُ عَلَى هَذَا الْعَظْمِ الصَّغِيرِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ لا تَبْلَى أَجْسَادُهُمْ فَهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَشُهَدَاءُ الْمَعْرَكَةِ وَبَعْضُ الأَوْلِيَاءِ.
4-6/وَأَمَّا الشُّهَدَاءُ فَتَصْعَدُ أَرْوَاحُهُمْ فَوْرًا إِلَى الْجَنَّةِ.
5-6/وَالأَوْلِيَاءُ وَالْوَلِيَّاتُ بَعْدَمَا يَأْكُلُ التُّرَابُ أَجْسَادَهُمْ أَرْوَاحُهُمْ تَصْعَدُ إِلَى الْجَنَّةِ فَتَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ بِشَكْلِ طَائِرٍ، لَيْسَ بِشَكْلِ جَسَدِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، الرُّوحُ يَتَشَكَّلُ بِشَكْلِ طَائِرٍ فَيَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ ثُمَّ بَعْدَ الْبَعْثِ تَعُودُ الأَرْوَاحُ إِلَى أَجْسَادِهَا ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ءَامِنِينَ. وَفِي ذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ (إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَيْرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ) رَوَاهُ مَالِكٌ، أَرْوَاحُهُمْ بَعْدَ بِلَى أَجْسَامِهِمْ تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ تَأْكُلُ مِنْ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ لَكِنْ لا يَتَبَوَّؤُنَ الْمَكَانَ الَّذِي هُيِّءَ لَهُمْ لِيَدْخُلُوهُ فِي الآخِرَةِ، إِنَّمَا لَهُمْ مَكَانٌ يَنْطَلِقُونَ فِيهِ فِي الْجَنَّةِ فَيَأْكُلُونَ مِنْ أَشْجَارِهَا وَمِنْ ثِمَارِهَا.
فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يثبتنا على الإيمان ونعوذ به من فتنة القبر وفتن المسيح الدجال وفتنة المحيا والممات إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
والله تعالى أعلم وأحكم.
