القول العليل في جواز إخراج زكاة الفطر بالمال

القول العليل في جواز إخراج زكاة الفطر بالمال

الحمد لله وكفى والصلاة على النبي المصطفى أما بعد:

يتكرر علينا كل عام الخلاف في حكم إخراج زكاة الفطر وهل يجوز دفع القيمة أم لابد من دفع الحبوب والطعام من غالب قوت البلد والمسألة ليست جديدة مستحدثة وقد أشبعها الفقهاء بحثا في كتبهم لذلك فإن إخراج زكاة الفطر بالمال جائز ولم ينكر أحد من العلماء الأجلاء هذا الخلاف وهي مسألة خلافية من قديم الزمان وسنذكر بعض أدلة الفريق الذي قال بجواز دفع القيمة لإزالة الغشاوة عمن ضلل هذا الفريق وبدعه رفعا للإشكال وللقيل والقال.

أولا : إن هذا القول ليس قولا خاصا بالحنفية كما اشتهر عند البعض بل هو مذهب كثير من العلماء والفقهاء وقد قاله قبلهم عدد من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فالمنكر لهذا القول طاعن بكل هؤلاء العلماء والفقهاء ومن جاء قبلهم من الصحابة والتابعين فإن إخراج المال في زكاة الفطر هو قول جماعة من الصحابة والتابعين منهم الحسن البصري وعمر بن عبدالعزيز وهو مذهب سفيان الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف تلميذ أبي حنيفة واختاره من الحنفية الفقيه أبو جعفر وبه العمل والفتوى عندهم في كل زكاة وفي الكفارات والنذر والخراج وغيرهم وبه قال اسحاق بن راهويه شيخ البخاري وأبو ثور إلا أنهما قيدا ذلك بالضرورة وهو قول جماعة من المالكية كابن حبيب وأصبغ وابن أبي حازم وابن دينار وابن وهب كل هؤلاء من المالكية. وسأذكر بعض نصوص هؤلاء العلماء والصحابة.

من ذلك ما قاله ابن ابي شيبة في مصنفه وعقد بابا سماه «باب إعطاء الدراهم في زكاة الفطر» ذكر فيه أن عمر بن عبدالعزيز كتب كتابا إلى عُدي بالبصرة «يؤخذ من أهل الديوان من أعطيتهم عن كل إنسان نصف درهم» . يعني زكاة الفطر. وعمر بن عبد العزيز من أهل الاجتهاد وخليفة راشد بالاتفاق وفي رواية أخرى «كتب عمر بن عبدالعزيز في صدقة الفطر نصف صاع عن كل إنسان أو قيمته نصف درهم». وذكر أيضا أن الحسن البصري قال «لا بأس أن تعطى الدراهم في صداقة الفطر» وذكر ابن أبي شيبة في مصنفه أن أبا إسحاق يقول «أدركتهم وهم يعطون في صدقة الفطر الدراهم بقيمة الطعام» قال المحدث أحمد الغماري وأبو إسحاق هذا هو عمرو بن عبدالله السبيعي من الطبقة الوسطى من التابعين أدرك عليا عليه السلام وجماعة من الصحابة فهو يحكي عنهم ويثبت أن ذلك كان معمولا به في عصرهم.

ثانيا: أن الأصل في الصدقة المال قال تعالى ﴿خذ من أموالهم صدقة﴾ والمال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة وأطلق عليه ما يقتنى من الأعيان مجازا وأكثر ما يطلقه العرب على الإبل لكونها أكثر مالهم وبيان رسول الله ﷺ المنصوص عليه إنما هو للتيسير ورفع الحرج لا لتقييد الواجب وحصر المقصود فيه لأن أهل البادية وأرباب المواشي تعز فيهم النقود وهم أكثر من تجب عليهم الزكاة فكان الإخراج مما عندهم أيسر عليهم فلذلك فرض على أهل المواشي أن يتصدقوا من ماشيتهم وعلى أهل الحب أن يتصدقوا من حبهم وعلى أهل الثمار من ثمارهم وعلى أهل النقد من نقدهم تيسيرا على الجميع ولأن لا يكلف أحد استحضار ما ليس عنده مع اتحاد المقصد في الجميع وهو مواساة الفقراء.

ثالثا: إن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن النبي ﷺ وعن جماعة من الصحابة في عصره وبعد عصره قال معاذ باليمن «ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة» وقال ابن أبي شيبة في المصنف عن طاوس قال «بعث رسول الله ﷺمعاذا إلى اليمن فأمره أن يأخذ الصدقة من الحنطة والشعير فأخذ العروض والثياب بدل الحنط والشعير» فيظهر أن سيدنا معاذ وهو صحابي من الصحابة ومجتهد من المجتهدين وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام كما أخبر عنه الصادق المصدوق قال بجواز الأخذ بالقيمة والعوض ولم يفهم من نص النبي ﷺ التقيد به وكذلك جاء بعده من الصحابة من أخذ القيمة هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأخذ العروض في الصدقة من الورق وغيرها وأيضا علي بن طالب رضي الله عنه كان يأخذ العروض في الجزية مثل ما رواه ابن أبي شيبة ثم قال «قد رخصا -أي عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب- في أخذ العروض والحيوان مكان الجزية وإنما أصلها الدراهم والدنانير والطعام».

ومن أشهر من وافق الحنفية في هذا القول من المحدثين البخاري في صحيحه وبوب له بابا سماه «باب العروض في الزكاة» ثم ذكر جملة من الأحاديث منها حديث معاذ السابق وكذلك الإمام البيهقي في سننه بوب بابا سماه «باب من أجاز أخذ القيم في الزكاة» وذكر الحديث أيضا ومعلوم أن معاذا كان يرسل ذلك إلى النبي ﷺ لأنه متولي الصدقة ومفرقها على الفقراء بالمدينة وقد قبل ذلك وأقره عليه مع أن ﷺ لما وجهه إلى اليمن قال له «خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقرة من البقر» كما رواه البيهقي وغيره. ومع هذا التعيين الصريح من النبي ﷺ قال معاذ للناس «ائتوني بعرض ثياب بدل الشعير والذرة» لعلمه أن المراد سد حاجة الفقراء لا خصوص هذه الأعيان وأقره النبي ﷺ على ذلك ولو كان خلاف الشرع المفترض لما أقر ه ولأمره برد ذلك إلى أهله ونهاه عنه.

رابعا: ما يدلك على إرادة القيمة وما هو أنفع للفقير ورفع الحرج والتيسير أمور كثيرة منها أن النبي ﷺ قال «في خمس من الإبل شاة» وعين الشاة لا توجد في الإبل فلما أجاز إخراجها من الإبل وليست منها دل ذلك على أن المراد قدرها من المال، وكذلك رأى النبي ﷺ في إبل الصدقة ناقة كوماء يعني عظيمة السنام فغضب وقال «ألم أنهكم عن أخذ كرائم أموال الناس» فقال الساعي أخذتها ببعيرين من إبل الصدقة فقال ﷺ «نعم إذا». وأخذ البعير ببعيرين إنما يكون باعتبار القيمة فهذا أيضا يدل على أن التنصيص على الأسنان المخصوصة والشاة إنما هو لبيان قدر المالية التي هي الأصل وأن التخصيص المذكور إنما هو للتيسير على أرباب المواشي.

ومن ذلك ما استدل به البخاري فقال في صحيحه قال ﷺ «ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه ويعطيه المصدِّق عشرين درهما أو شاتين» وهو صريح في أخذ القيمة بدل الواجب وقد استدل البخاري بأحاديث أخرى تشبه ما ذكرنا ساقها البخاري ولم أذكرها خشية الإطالة. وتتبع مثل هذه الاحاديث يطول قال العيني في شرح البخاري: «واعلم أن دفع القيمة في الزكاة جائز عندنا وكذلك الكفارة وصدقة الفطر والعشر والخراج والنذر وهو قول عمر وابنه عبد الله وابن مسعود وابن عباس ومعاذ وطاووس وقال الثوري يجوز إخراج العروض في الزكاة إذا كانت بقيمتها وهو مذهب البخاري وإحدى الروايتين عن أحمد ولو أعطى عرضا عن ذهب وفضة قال أشهب يجوز وقال الطرطوشي هذا قول بيِّنٌ في جواز إخراج القيم في الزكاة قال وأجمع أصحابنا على أنه لو أعطى فضة عن ذهب أجزأه وأجاز ابن حبيب دفع القيمة إذا رآه أحسن للمساكين وقال مالك والشافعي لا يجوز وهو قول داوود» ثم قال العيني «وحديث الباب حجة لنا لأن ابن لبون لا مدخل له في الزكاة إلا بطريق القيمة لأن الذكر لا يجوز في الإبل إلا بالقيمة ولذلك احتج به البخاري أيضا في جواز إخراج القيم مع شدة مخالفته للحنفية» وكذلك قبول بنت لبون مكان بنت مخاض مع أخذ عشرين درهما من المصدق دليل على جواز القيمة لأن الواجب بعض بنت لبون لا هي كلها. وإذا ثبت ذلك في الزكاة فهي شاملة لزكاة الفطر إذ لا فرق أصلا والقيمة كما تكون عرضا تكون نقدا بل هو الأصل فيها.

خامسا: إذا ثبت جواز أخذ القيمة في الزكاة المفروض في الأعيان فجوازها في الزكاة المفروضة على الرقاب من باب أولى لأن الشرع أوجب الزكاة في عين الحب والتمر والماشية والنقدين فهو حق ثابت في أعيان هذه الأشياء وأما الفطر فإنها ثابتة في الرقاب ولذلك وجبت على الذكر والأنثى والحر والعبد والكبير والصغير والغني والفقير.

ولما كان الحال فيها كذلك اقتضت حكمة الشرع البالغة أمر الناس بإخراج الطعام ليتمكن جميعهم من أداء ما فرض عليهم ولا يحصل لهم فيه عسر ولا مشقة قد يؤديان بالكثير منهم إلى تركه وتفويته لمشقته أو عدم القدرة عليه وذلك لأن النقود كانت نادرة الوجود في تلك الأزمان في العرب لا سيما البوادي منها وخصوصا الفقراء.

فلو أمر بإعطاء النقود في الزكاة المفروضة على الرؤوس لتعذر إخراجها على الفقراء في الكلية ولتعسر أيضا على كثير من الأغنياء فإن الكثير من أغنياء البادية لا توجد بيدهم النفود إلا على سبيل الندرة بعدم احتياجهم إليها في غالب أحوالهم حتى أن من يحتاج منهم إلى شيء من النقود يخرج بعض الطعام أو الماشية ليحصل عليه كما هو معلوم من حالهم خصوصا البوادي البعيدة من المدن أما الطعام فإنه متيسر للجميع ولا يخلو منه منزل إلا من بلغ به الفقر منتهاه فكان من أعظم المصالح وأبلغ الحكم العدول عن المال النادر العسر إخراجه إلى الطعام المتيسر وجوده وإخراجه لكل الناس.

سادسا: أن النبي ﷺ بين القدر الواجب من الأعيان المنصوص عليها مع تساويها في كفاية الحاجة وسد الخلة فأوجب من التمر والشعير صاعا ومن البر نصف صاع وذلك لكونه أعلى ثمنا لقلته بالمدينة في عصره فدل على أنه اعتبر القيمة ولم يعتبر الأعيان إذ لو اعتبرها لسوى بينها في المقدار وورد أيضا عن الصحابة التصرف في القدر الواجب في الفطرة على سبيل الاجتهاد منهم فمنهم من جعل مدين من صنف من الأصناف بدل صاع مراعاة للقيمة وهو دليل على أنهم فهموا من النبي ﷺ اعتبار القيمة ومراعاة المصلحة وإذ لو لم يكن ذلك جائزا لما استجاز الصحابة خصوصا عمر وعلي رضي الله عنهما مخالفة كلام رسول الله ﷺ في شيء من حده وقدره.

وبعد ما ذكرنا طرفا من الأدلة التي بيناها العلماء والفقهاء وبيان أوجه دلالتها فإن القول بجواز إخراج القيمة في زكاة الفطر هو قول قال به الصحابة والتابعين وعدد من الآئمة الأعلام من مجتهدي هذه الأمة فلا يسعنا رده ولا إنكاره وقد ورد ما يدل على جوازه من الأحاديث وإقرار النبي ﷺ لمعاذ رضي الله عنه في أخذ البدل وفعل الصحابة رضوان الله عليهم فلا عبرة بمن بدع وضلل وأنكر على من أخذ بهذا القول من المسلمين وما سوى هذا فهو تحكم يأباه العقل ولا يرضاه الدليل ونحن مكلفون باتباع الحق والدليل لا استحسان الناس وآرائهم والله تعالى أعلم وأحكم.

وكتب د. محمد عبد الجواد الصباغ

الدعاء لي ولوالديا بالخير بارك الله فيكم