بيان معنى قول العلماء “السُّكوت عمَّا شجر بَين الصَّحابة” (6/7)

عُيون النَّواصب والمُغفَّلين تتعامى عن حقيقة البُغاة

بيان معنى قول العلماء “السُّكوت عمَّا شجر بَين الصَّحابة” (6/7)

أمَّا بعدُ فإنَّ الكلام أو السُّكوت عمَّا شجر بَين الصَّحابة قد بيَّن العُلماء المُراد منه وهُو أنْ لا تكون حاجة شرعيَّة وليس مُجرَّد بيان حُكم الشَّرع في مثل هذا تكلُّم بالباطل بل صرَّح العُلماء بمُرادهم في السُّكوت أو الكلام فالأشعريُّ مثلًا لم يسكُت عمَّا شجر بين الصَّحابة؛ وذلك حفظًا للشَّريعة مِن التَّحريف مِن بابَين اثنَين: الأوَّل: ردُّ التَّكفير عن البُغاة مِن الصَّحابة. والثَّاني: بيان حُكم الشَّرع في تحريم الخُروج على الإمام العادل. وذلك لأنَّه لم يكُن يرى جائزًا لأحد أنْ يخرُج على الإمام عليٍّ رضي الله عنه.

فلو كان مُجرَّد الكلام فيما شجر بَين الصَّحابة باطلًا لَمَا ألَّف العُلماء أحكام البُغاة ولَمَا قال الشَّافعيُّ أخذتُ أحكام البُغاة مِن قتال سيِّدنا عليٍّ لهُم ولَمَا سرد أهل السِّيَر والتَّاريخ والحديث كُلَّ تلك الأخبار والأحاديث وبيَّنوا صحيحها مِن ضعيفها وأظهروا أحكامَها وإلَّا فلو كان مُجرَّد الكلام طعنًا في الصَّحابة لكان كُلُّ هؤلاء طاعنين بالصَّحابة وهذا ما لا يقولُه عاقل مُنصف يخشى اللهَ تعالى.

فقد قال الآمديُّ في أبكار الأفكار في أُصُول الدِّين ما نصُّه: (وأمَّا السُّكوت عن الكلام في التَّخطئة والتَّصويب: فإمَّا أنْ يكون ذلك لعدم ظُهور دليل التَّخطئة والتَّصويب، أو لقصد كفِّ اللِّسان عن ذكر مساوئ المُخطئ منهُمَا، مع عدم إيجابه. فإنْ كان الأوَّل فهُو ممتنع؛ لأنَّ الإجماع إذَا انعقد على إمامة شخص، ولم يظهر منه ما يُوجِد حِلَّ قتاله وقتله؛ فالخارج عليه يكون مُخطئًا خطأً ظاهرًا، وعُثمان، وعليٌّ -رضي الله عنهما- بهذه المثابة؛ فكان الخارج عليهمَا مُخطئًا) انتهى. لاحظ كيف بيَّن متى يكون السُّكوت وكيف قال إنَّ مَن قاتل عليًّا مُخطئٌ خطأً ظاهرًا ولم يقُل إنَّ له أجرًا أو تأويلًا شرعيًّا صحيحًا سالمًا قائمًا على القياس على الكتاب والسُّنَّة لا مِن قبل النَّفس كما يزعُم أهل الفتنة. ثُمَّ قال الآمديُّ ما نصُّه: (وإنْ كان الثَّاني: فهُو حقٌّ، ولا بأس به؛ بل وهُو الأَوْلى، فإنَّ السُّكوت عمَّا لا يلزم الكلام فيه، أَوْلى مِن الخوض فيه، وأبعدُ عنِ الزَّلل، وبهذا قال بعض المُعتبَرين مِن الأوائل “تلك دماء طهَّر اللهُ سيوفنا منها، أفلا نُطهِّر ألسنتنا” انتهى فلاحظ كيف بيَّن أنَّ السُّكوت هُنا للكفِّ عن (ذكر مساوئ المُخطِئ منهُمَا مع عدم إيجابه) انظُر كيف قيَّد كلامه (مع عدم ايجابه) فكيف الحال إذَا كان في زماننا وفي بعض العُصور السَّالفة مَن قال بالأجر للباغي فصار حقًّا علينا بيان الصَّواب كما بيَّنه الآمديُّ نفسه مرَّة أُخرى كما ستعرف ممَّا يلي مِن السُّطور.

فقد ذكر الآمديُّ الَّذي هُو أُصُوليٌّ شافعيٌّ في نفس الكتاب الَّذي ذكر السُّكوت عمَّا شَجَر بَين الصَّحابة والَّذي بيَّنَّاه وهُو كتاب أبكار الأفكار أنَّ كثيرًا مِن الشَّافعيَّة قالوا بتفسيق مَن قاتل عليًّا في الفصل التَّاسع فيما جرى بين الصَّحابة مِن الفتن والحُروب، والآمديُّ وصفه التَّاج السُّبكيُّ في طبقات الشَّافعيَّة بقوله: “الأُصُوليُّ المُتكلِّم، أحد أذكياء العالَم” انتهى.

فتبيَّن مِن هذا أنَّ الآمديَّ الَّذي هُو أحد أذكياء العالَم يقول بالسُّكوت عمَّا شجر بَين الصَّحابة إنْ لم تكُن حاجة شرعيَّة فإذَا خرجت شرذمة تزعُم بالأجر بالخروج على الحاكم وقتاله وأنَّ الباغي ليس عليه معصية بالخُروج صار حقًّا علينا بيان حُكم الشَّرع في ذلك فظهر أنَّ مُجرَّد الكلام فيما شجر بَين الصَّحابة -إنْ كان لضرورة بيان حُكم الشَّرع- فهُو مطلوب.

والَّذي يُؤكِّد كلامنا أيضًا ما قاله الزَّركشيُّ بعد كلام في شرحه على جمع الجوامع: “هذا مع القطع بتخطئة مُقاتلي عليٍّ وكُلِّ مَن خرج على مَن اتُّفق على إمامته، لكنَّ التَّخطئة لا تبلُغ إلى حدِّ التَّفسيق عند القاضي أبي بكر، وقالت الشِّيعة بالتَّفسيق، ونسبه الآمديُّ لأكثر أصحابنا” انتهى. وقوله: “أصحابنا” يعني به الأشاعرة ثُمَّ انظُر هُنا كيف ينقُل الزَّركشيُّ عن الآمديِّ أيضًا ما ذكره في كتابه بل ينسبُه لأكثر الأشاعرة.

هذا وقد حرَّم الله علينا السُّكوت عن إنكار المُنكر مع القدرة على إنكاره؛ وقال نبيُّنا عليه الصَّلاة والسَّلام: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ) ومِن هذا المُنطلَق كان الإنكار ومِن هذا المُنطلق أيضًا بيَّن شيخنا الهرريُّ رحمه الله حُكم الشَّرع كما بيَّنه الآمديُّ وبيَّن متى يجب السُّكوت ومتى يجب الإنكار فرحم الله مَن أنصف وعرَف حدَّه فوقف عنده.

تكمِلةٌ في معنى قول الفُقهاء (السُّكوت عمَّا شجر بين الصَّحابة).

أمَّا بعدُ فقد بيَّنَّا في الكلام السَّابق معنى قول الفُقهاء (السُّكوت عمَّا شجر بين الصَّحابة) كما شرحه الآمديُّ فأوضح أنَّ الإجماع قام على أنَّ مَن قاتل عليًّا مُخطئ وإنْ كان السُّكوت لعدم ذكر مساوئ المُخطئ مع عدم وُجوبه فواضح. أمَّا إذَا وجب فالكلام وبيان حُكم الشَّرع في قول بعضهم (بالأجر والثَّواب بالخُروج على الخليفة وقتاله أو باعتباره اجتهادًا مُعتبَرًا) فهو واجب وإلَّا لصار الحرام عند كثيرين حلالًا إذَا سكتنا.

هذا وإنَّ ممَّن بيَّن معنى قول الفُقهاء أيضًا بالإمساك عمَّا شجر بين الصَّحابة ابن حجر الهيتميُّ وقد بيَّن قبله حُرمة الخُروج على الخليفة وأنَّه لا اجتهاد مع النَّصِّ فقد قال في [فتح الجواد بشرح الإرشاد على متن الإرشاد] ما نصُّه: (قوله: (وإلَّا فهُم عُصاة) ظاهرُه أنَّه لا فرق بَين مَن بلغ مرتبة الاجتهاد وغيره ويوجَّه بأنَّ الخُروج على الإمام خَرقُهُ عظيم لا يُتدارك ولذا أجمعوا على حُرمة الخُروج على الخائن وإذَا كان خَرقُه كذلك وجب سدُّ بابه على كُلِّ أحد ولم يُسمع لأحد فيه قولٌ وإنْ بلغ مِن الاجتهاد ما بلغ وهذا واضح فتعيَّن المصير إليه فاعلَمْه) انتهى. انظر فهُو ينقُل الإجماع على حُرمة الخُروج على الخائن وليس على الإمام العادل وحسب؛ ثُمَّ يمنع أنْ يصير فيه اجتهاد مِن أحد مهمَا بلغ مِن رُتبة الاجتهاد وهذه عجيبة لِمَا اشتهر عنه مِن دفاعه عن مُعاوية لكنَّه مُصيب في أنَّه لا اجتهاد مع النَّص.

ثُمَّ قال ابن حجر الهيتميُّ في بيان قول الفُقهاء (الإمساك عمَّا شجر بين الصَّحابة) ما نصُّه (فذلك الزَّمن بلغ مِن الفساد ما أوجب أنْ يُقال يجب الإمساك عمَّا شجر بينهم أي بأنْ لا يُخاض في أمر وقع فيه يقتضي تخطئة مُحقٍّ كعليٍّ وابنَيه رضي الله عنهُم وكرَّم وُجوهَهُم أو عكسُهُ أمَّا الخوض فيه على ما استقرَّ فيه بين مُحقِّقي أهل السُّنَّة فلا حرجَ فيه بوجه) انتهى. وقول ابن حجر الهيتميِّ: (أو عكسه) أي تصويب مَن حارب الامام عليًّا رضي الله عنه؛ انظر كيف يشرح لماذَا قال بعض العُلماء يجب الإمساك عمَّا شجر.. فبيَّن أنَّهم ما قالوا ذلك تبرئة لمُعاوية ولا تزكية له وإنَّما كي لا يخلط كُلُّ مُتكلِّم فيقول ما فيه تبرئة لمُعاوية أو تخطئة عليٍّ وابنَيه رضي الله عنهم خاصة في زمن بني أُميَّة ومَن بعدهُم وكثرة النَّواصب المُعادين لآل البيت فوجَّه العُلماء العامَّة إلى السُّكوت عن الكلام حتَّى لا يقتضي كلامُهُم القول بتخطئة سيِّدنا عليٍّ أمَّا بيان أنَّ مُعاوية ومَن معه ليس لهُم أجر أو اجتهاد شرعيٌّ فيما فعلوه فلا حرج في ذلك بالمرَّة كما بيَّنه ابن حجر الهيتميُّ وذكره شيخُنا رحمه الله.

وإنَّ تركَ تحقيق مذاهب العُلماء يُؤدِّي بالبعض إلى أنْ ينسبوا إلى عالِم ما لا يثبت عنه؛ أو أنْ يحكموا بكونه مُضطربًا لرسمهم عليه الشَّيءَ ونقيضَه؛ أو أنْ يستعجلوا في تخطئته مُطلقًا؛ وكُلُّ ذلك منهُم في غير محلِّه؛ فإذَا كان النَّظر سليمًا غيرَ مأخوذ صاحبه بزحمة الكُتُب وضجيج الجَهَلَة وأثر الدَّسِّ: وقع تحقيق المسألة وانتفى التَّناقض وانعدمت التَّخطئة.

في معنى الكلام عما شجر بين الصحابة

في الزَّمان السَّابق؛ كانتْ أغلبُ الفِتَنِ العقائدية ونحوِها موءودةً؛ إنْ ظهرت فتنة اجتمع لها العُلماء بالرَّدِّ والتَّصدِّي حتَّى يُخمدوها فكان يَسَعُ العالِم أنْ يسكُتَ عن بيانٍ يتعلَّق بهذه الفتنة أو تلك لاندثارها وانعدام الحاجة إلى بيانها على التَّفصيل والتَّحقيق وحفظًا لأفهام العامَّة مِن اللَّبْس.

ومع مُرور الزَّمان؛ راحت تلك الفُسحة تضيق شيئًا فشيئًا؛ فكُلَّما زاد انتشار الفِتن بين النَّاس كلَّما ضاق مجال السُّكوت على العُلماء؛ وكُلَّما اختلفت الفِتن في أنواعها وأصنافها كُلَّما اختلفت الكيفيَّة الَّتي يبادر العُلماء مِن خلالها في دفع الفتنة وردِّها. فإنْ نامت فتنة سكتوا وإنْ قامت تكلَّموا.

وقد رأينا كيف أنَّ العُلماء؛ في زمن ما؛ وجَّهوا إلى السُّكوت عن الكلام في مسألة بقصد قطع دابر الخوض فيها وحمايةً للعامَّة مِن أنْ تُعرَض عليهم الشُّبهات الَّتي لا طائل لهم على دفعها وردِّها، فإذا تبيَّن لهُم أنَّها معروضة على العامَّة بكُلِّ حال؛ رأيناهم قد طلَّقوا السُّكوت وانتهجوا الكلام والبيان.

وهذا عين كلام الآمدي وابن حجر الهيتمي السابق الذي ذكرنا ويؤيده كلام البيهقي في مناقب الشافعي حيث قال ما نصه (قال: سمعت الشافعي يقول: سئل عمرُ بن عبد العزيز عن أهل صفّين؟ فقال: تلك دماء طهَّر الله منها يدي فلا أحِبُّ أن أخْضِب لساني بها. قلت: وهذا رأي حسن جميل من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في السكوت عما لا يعنيه إذا لم يحتج إلى القول فيه. فأما إذا احتاج إلى تعلّم السيرة في قتال الفئة الباغية، فلا بد له من متابعة علي بن أبي طالب في سيرته في قتالهم. ثم ولا بد من أن يعتقد كونه محقًّا في قتالهم. وإذا كان هو محقًّا في قتالهم كان خصمه مخطئاً في قتاله والخروج عليه)انتهى انظر كيف قيده بقوله ( إذا لم يحتج إلى القول فيه ) فإذا دعت الحاجة كما يفعل أهل الفتنة اليوم وكما في زمان السابق من اثبات الأجر للعاصي أطلقوا ألسنتهم وبينوا الصواب هذا ما فعله شيخنا رحمه الله تعالى هذا وقد حكى البيهقي قبله كذلك في مناقب الشافعي اعتراف معاوية بذنوبه.

وقد علِمنا أنَّنا اليومَ في زمان كثُرت فيه الآراء واختلفت المذاهب وفُتحت الأبواب أمام الغَثِّ والسَّمين وانقسم النَّاس شِيَعًا جمَّة تصارعت فيه فئات وأحزاب مُتعدِّدَةٌ اختلفت غاياتُها وتنوَّعتْ دعواتُها؛ واتَّخذ كُلُّ ضالٍّ للدِّعاية سبُلًا لا يُراعي فيها شرع الله بل يتحايل في تحريف أحكام الشَّريعة.

وكيف يكون السُّكوت عمَّا شجر بين الصَّحابة في هذا الزَّمن الَّذي صار فيه تحريف شرع الله وصار قاتل عمَّار -الَّذي وصفه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّه في النَّار- له أجر بقتله وخُروجه على الخليفة وجعلوا ذلك مِن قبيل الاجتهاد الشَّرعيِّ المُعتبَر ثُمَّ يفترون علينا أنَّنا نطعن في الصَّحابة.

لذلك كان شيخُنا رحمه الله يقول الحقَّ ولو كان مُرًّا ولا يُبالي ولا تأخذُه في الله لومة لائم ولا يُداهن في الباطل على حساب الشَّرع فعاداهُ الجبابرةُ بِعُتُوِّهِم واجتمعَ لهُ أهلُ البِدَعِ بجُموعِهم فلم يَحفَلْ بهم بل انتصبَ لهُم فردَّ عليهم فرحمه الله كم كان مُنصفًا جاعلًا الآخرةَ نُصْبَ عينَيْهِ لا يَهابُ ولا يَتراجَعُ ولا يتزحزَحُ ولا يَنحني ولا يُداهِنُ ولا يُحابي بل يَصولُ ويَجولُ ويَدفَعُ ويكِرُّ بقلبٍ ثابتٍ وحُجَّةٍ ظاهرةٍ وكلمةٍ بالحقِّ عاليَةٍ حَتَّى فلَّ حَدَّهُم وشتَّتَ جمعَهُم وكسَرَ شوكَتَهُم وردَّهُم اللهُ خائبينَ لم يَثْنُوا سيفَهُ ولا كَسَرُوا نَبْلَهُ ولا حَطَمُوا دِرْعَهُ ولا أسكتُوا صوتَهُ جمعنا الله به في الجنَّة.

والحمد لله رب العالمين