عُيون النَّواصب والمُغفَّلين تتعامى عن حقيقة البُغاة
شرح حديث “ويحَ عمَّار” وبيان معنى البغي (2/7)
فليُعلَمْ أنَّ قتال مُعاوية لعليٍّ هو خُروجٌ عن طاعة الإمام ويكفي لإثبات ذلك الحديثُ الصَّحيحُ الَّذي رواه البُخاريُّ: (ويحَ عمَّار تقتُلُهُ الفئةُ الباغيةُ) في موضعَين: الأوَّل في كتاب الصَّلاة في باب التَّعاون في بناء المساجد بلفظ: (ويح عمَّار تقتُلُهُ الفئةُ الباغيةُ يدعُوهُم إلى الجنَّة ويدعُونهُ إلى النَّار) ورواهُ في كتاب الجهاد والسِّير بلفظ: (ويحَ عمَّار تقتُلُهُ الفئةُ الباغيةُ، عمَّار يدعُوهُم إلى الله ويدعُونهُ إلى النَّار) ورواهُ أيضًا ابنُ حبَّان في صحيحه باللَّفظ الأوَّل للبخاريِّ.
ويدُلُّ على أنَّ مُعاوية ومَن قاتل معهُ مِن الصَّحابة وهم قلَّةٌ قليلةٌ دُعاةٌ إلى النَّار، وكيف يكونُ للدَّاعي إلى النَّار ثوابٌ بعمله الَّذي صار به داعيًا إلى النَّار وكيف يكُون لهُم أجرٌ!؟ وقد قال المُناويُّ في شرح الجامع الصَّغير المُسمَّى فيض القدير ما نصُّه: (“ويحَ عمَّار” بالجرِّ على الإضافة وهُو ابنُ ياسر “تقتُلُهُ الفئةُ الباغيةُ” قال القاضي في شرح المصابيح: يُريدُ به مُعاوية وقومه انتهى. وهذا صريحٌ في بغي طائفة مُعاوية الَّذين قتلُوا عمَّارًا في وقعة صفِّين وأنَّ الحقَّ مع عليٍّ وهُو مِن الإخبار بالمُغيَّبات “يدعُوهُم” أي عمَّارُ يدعُو الفئة وهُم أصحابُ مُعاوية الَّذين قتلُوه بوقعة صفِّين في الزَّمان المُستقبل “إلى الجنَّة” أي إلى سببها وهو طاعةُ الإمام الحقِّ “ويدعُونهُ إلى” سبب “النَّار” وهو عصيانُهُ ومقاتلتُهُ. قالُوا وقد وقع ذلك في يوم صفِّين دعاهُم فيه إلى الإمام الحقِّ ودعَوهُ إلى النَّار وقتلُوهُ فهُو معجزةٌ للمُصطفى وعَلَمٌ مِن أعلام نُبُوَّته) انتهى. انظُر قوله إنَّهم بعصيانهم عليًّا وقتالِه استحقُّوا دخول النَّار فهل بعد هذا يُقال لهُم أجرٌ!؟
وقال عمَّارُ بعد أنْ قال لهُ الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك: “أعوذُ بالله مِن الفتن”. والحديثُ بروايتَيه مِن أصحِّ الصَّحيح. وهذا القدرُ: “ويحَ عمَّار تقتُلُهُ الفئةُ الباغيةُ” مِن الحديث مُتواترٌ، ذكر ذلك الحافظُ السُّيوطيُّ في الخصائص الكُبرى وغيرُه كالمُناويِّ في شرحه على الجامع الصَّغير المُسمَّى بفيض القدير. وروى ابنُ حبَّان في صحيحه عن أُمِّ سَلَمَة قالت: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (تقتُلُ عمَّارًا الفئةُ الباغيةُ) وفيه أيضًا عن أبي سعيد الخُدريِّ قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (ويحَ ابن سُميَّة تقتُلُهُ الفئةُ الباغيةُ يدعُوهُم إلى الجنَّة ويدعُونهُ إلى النَّار) وروايةُ الطَّبرانيِّ فيها زيادةٌ وهي: (ويحَ عمَّار تقتُلُهُ الفئةُ الباغيةُ النَّاكبةُ عن الحقِّ) وهل النَّاكبةُ عن الحقِّ يكُون لها أجرٌ!؟
فهذا حديثٌ صريحٌ يقرِّرُ فيه سيِّدُنا مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم الأمور التَّالية:
أولًا أنَّ مُعاوية وطائفته هُمُ الفئةُ الباغيةُ، وقد أمرنا اللهُ تعالى بقتال الفئة الباغية في قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} ولم تفئ تلك الفئةُ ولا أتباعُها إلى أمر الله تعالى! وقد عدَّ اللهُ تعالى البغي مِن المعاصي فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ}.
ثانيًا أنَّ معاوية وطائفته الَّتي يقُودُها يدعُون عمَّارًا إلى النَّار فهل يجُوزُ بعد هذا تبرئته ممَّا اتَّهمه به الرَّسول!؟ ألا نستحي من سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الَّذي لا ينطقُ عن الهوى إنْ هو إلَّا وحيٌ يُوحى فكيف يقول بعضُهم بنسبة الأجر لمَن ذمَّ فعلَه الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم!؟
ثالثًا أنَّ سيِّدنا عليًّا وطائفته ومِنهم سيِّدُنا عمَّارٌ يدعُون إلى الجنَّة وإلى طاعة الله تعالى وقد استباحوا دماء مَن قاتلهم مِن البُغاة فلو كان البُغاة مأجورين فكيف يستبيح الإمام عليٌّ ومَن معه مِن أفاضل الصَّحابة دماءَ البُغاة لمُجرَّد أنَّهم يفعلون ما يُؤجرون عليه!؟
وسيِّدنا عليٌّ هو الإمام الواجب الطَّاعة فأين المؤمنُون المُمتثلُون لله تعالى ورسوله صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم؟ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنَ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}.
وقد قال الحافظُ ابنُ حجر في شرح البُخاريِّ ما نصُّه: “وَفِي هَذَا الحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَفَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعَلِيٍّ وَلِعَمَّارٍ، وَرَدٌّ عَلَى النَّوَاصِبِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا فِي حُرُوبِهِ” انتهى.
وقال الحافظُ البيهقيُّ ما نصُّه: “وَفِي كُلِّ هَذَا دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللهُ كَانَ يَعْتَقِدُ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ مُحِقًّا فِي قِتَالِ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ قَاتَلَهُ لَمْ يَخْرُجُوا بِالبَغْيِ مِنَ الإِيمَانِ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى سَمَّى الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا “مُؤْمِنِينَ”، والآيةُ عامَّةٌ، وجرى عليٌّ رضي اللهُ عنه في قتالهم مجرى قتال الإمام العادل مَن خرج مِن طاعته مِن المُؤمنين، وسار بسيرته في قتالهم، وقصد به حملهُم على الرُّجوع إلى الطَّاعة كما قال اللهُ تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} انتهى وهذا صريحٌ في أنَّ البيهقيَّ ما رفع عن مُعاوية في قتاله لعليٍّ ما سِوى الكُفر، نفى عنهُ الكُفر فقط وأثبت ما دُونه مِن المعاصي.
وقال الشَّيخُ عبدُ الباسط الفاخُوريُّ مُفتي ولاية بيروت في تُحفة الأنام ما نصُّه: “عَلَى أَنَّ مَعْشَرَ أَهْلِ الحَقِّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ مُخْطِئًا، بَغَى عَلَى الإِمَامِ الحَقِّ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ لِسَبْقِ البَيْعَةِ وَالخِلَافَةِ لَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ مُصِيبٌ بِمُحَارَبَةِ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ بِحُكْمِ قِتَالِ أَهْلِ البَغْيِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَلِذَا لَمْ يُعَامِلْهُمْ مُعَامَلَةَ المُرْتَدِّينَ وَلَا الكَافِرِينَ، وَأَنَّ عَائِشَةَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَدْ رَجَعُوا عَنْ خَطَئِهِمْ بِخُرُوجِهِمْ فِي وَقْعَةِ الجَمَلِ عَلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، وَقَدْ نَدِمُوا عَلَى خُرُوجِهِمْ مُتَأَسِّفِينَ، وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ مِنَ الخَطِيئَةِ، فَاتَّبِعِ الحَقَّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وِاللُهُ أَعْلَمُ” انتهى. انظُر قوله (والنَّدمُ توبةٌ عن الخطيئة).
فالعبرةُ أخي القارئ بالدَّليل والتَّحقيق، لا بالسَّرد والتَّنميق. ففي الحديث الشَّريف: “ليس البيانُ كثرةَ الكلام، ولكنَّ البيانَ إصابةُ الحقِّ” رواهُ ابنُ حبان. فتبيَّن بما ذكرنا وبما لا يدعُ مجالًا للشَّكِّ ثبوتُ حديث “الفئة الباغية” وأنَّ معناه الذَّمُّ لا المدح وفيه إثباتُ الإثم والعصيان والظُّلم والطُّغيان.
وقد حاول أهل النَّصب في الماضي وأهل الفتنة في الحاضر تأويل لفظ البغي تحريف الحديث المُتواتر: (ويح عمَّار تقتله الفئة الباغية) فقالوا: “إنَّ الفئة الباغية هي الطَّالبة لدم عُثمان رضي الله عنه وليس معناها الفئة الظَّالمة” وقالوا غير ذلك ممَّا بَيَّنَ العُلماء أنَّه باطل وتحريف للحديث عن معناه وسنُبيِّن بُطلان كلامهم فوَصْفُ النَّبيِّ لمُعاوية وفئته الَّذين قاتلوا عليًّا بالبغي صريحٌ في أنَّهم ءاثمون، لأنَّ البغي إذَا أُطلق في مقام الذَّمِّ لا يكون إلَّا بمعنى التَّعدِّي الَّذي هُو الظُّلم، فمَن زعم أنَّ الوصف بالبغي لا يستلزم الوُقوع في المعصية فقد خالف مفهوم الكلمة مِن حيثُ اللُّغة لأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ذكر الحديث في إظهار فضيلة عمَّار وذمِّ قاتله.
فالبغي بمعنى الطَّلب فعل يتعدَّى بنفسه إلى مفعول به فيُقال بغيتُ الشَّيء أي طلبتُه، أمَّا البغي الَّذي لا يتعدَّى بنفسه إلى مفعول به فهذا لا يكون إلَّا بمعنى الظُّلم وهُو ما ورد في الحديث وكذلك البغي الَّذي يتعدَّى بحرف الجرِّ -لا بنفسه- مثله بمعنى الظُّلم فيُقال: بغى فُلان على فُلان.
فالبغي بمعنى الظُّلم ورد في قوله تعالى: {فإنْ بَغَتْ إحداهُما على الأخرى فقاتلوا الَّتي تبغي}، فمعنى بغت لا يخرج عن ظلمت هُنا بدليل تتمَّة الآية ففيها: {حتَّى تَفئَ إلى أمرِ الله} وأمر الله هو طاعة الإمام وفي قوله تعالى {ويَنْهى عنِ الفَحشاءِ والمُنكرِ والبغي} بيان أنَّ الباغي آثم عاصٍ، فمَن قال: إنَّ قول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: “تقتله الفئة الباغية” ليس فيه ذمٌّ، فهُو مُخالف لِمَا كان عليه عليٌّ ومُعاوية كلاهُما، لأنَّ كُلًّا منهُما اتَّهم الآخَر بأنَّ هذا الحديث فيه ودفعه عن نفسه، فقال القُرطبيُّ في حديث “ويح عمَّار”: (وهُو –أي هذا الحديث- مِن أثبت الأحاديث كما تقدَّم، ولمَّا لم يقدر مُعاوية على إنكاره لثُبوته عنده قال: إنَّما قتله مَن اخرجه، ولو كان حديثًا فيه شكٌّ لرَدَّه مُعاوية وأنكره وأكذب ناقله وزوَّره، وقد أجاب عليُّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه بأنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذًا قتل حمزة حين أخرجه، قال ابن دِحية: وهذا مِن عليٍّ إلزام مُفحم لا جواب عنه وحُجَّة لا اعتراض عليها) انتهى كلام القُرطبيِّ فانظر كيف حاول مُعاوية دفع الحديث عنه لمَّا علم ما فيه مِن الذَّمِّ لكن سيِّدنا عليٌّ ردَّ عليه بردٍّ مُفحم ومعنى كلام الإمام عليٍّ أنَّ مُؤدَّى كلام مُعاوية أنَّ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم قتل حمزة لأنَّه هُو الَّذي أخرجه معه للقتال في معركة أُحُد.
وقال القُرطبيُّ أيضا: (فرجع وتأوَّله على الطَّلب، وقال: نحن الفئة الباغية -أي الطَّالبة لدم عُثمان مِن البُغاء بضمِّ الباء والمدِّ وهُو الطَّلب-) انتهى. قال العلَّامة الأبي في شرحه على صحيح مُسلم: (البغي عُرفًا الخُروج عن طاعة الإمام مُغالبة له، ولا يخفى بُعد التَّأوُّلَين أو خطؤُهُمَا والأوَّل واضح وكذا الثَّاني) انتهى. وقد ذكر الجصَّاص الحنفيُّ في كتاب أحكام القُرءان تحت باب قتال أهل البغي مثل كلام القُرطبيِّ فانظره ثُمَّ قال: “وهو عَلَمٌ مِن أعلام النُّبُوَّة، لأنَّه خَبَر عن غَيْبٌ لا يُعلَم إلَّا مِن جهة علَّام الغُيوب” انتهى.
والَّذي يدُلُّ على أنَّ البغي صفة ذمٍّ ما ذكره العُلماء عن مُعاوية مُحاولة دفع الحديث عن نفسه كما ذكرنا وما ذاك إلَّا لِمَا فيه مِن ذمِ لتلك الفئة. فقال العلَّامة اللُّغويُّ ابن منظور في لسان العرب ما نصُّه: “والبغي: التَّعدِّي، وبغى الرَّجُل علينا بغيًا: عَدَل عن الحقِّ واستطال” انتهى. ثُمَّ قال: “وقال الأزهريُّ: معناه الكِبْرُ، والبغي: الظُّلم والفساد” انتهى، ثُمَّ قال: “والفئة الباغية: هي الظَّالمة الخارجة عن طاعة الإمام العادل، وقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لعمَّار: “ويح ابن سُميَّة تقتله الفئة الباغية” انتهى.
وقال أبو العبَّاس القُرطبيُّ في [المُفهِم لِمَا أشكل مِن تلخيص كتاب مُسلم] ما نصُّه: (نقل الأخباريُّون: أنَّ مُعاوية تأوَّل الخبر تأوِيلَين:
أحدُهما: أنَّه قال بمُوجب الخبر فقال: نحن الباغية لدم عُثمان -رضي الله عنه- أي الطَّالبة له.
وثانيهما: أنَّه قال: إنَّما قَتَلَه مَن أخرجه للقتل وعرَّضه له.
وهذانِ التَّأويلانِ فاسدان. أمَّا بيان فساد الأوَّل: فالبغي -وإنْ كان أصلُه الطَّلب- فقد غلب عُرف استعماله في اللُّغة والشَّرع على التَّعدي والفساد، ولذلك قال اللُّغويُّون، أبو عُبيد وغيره: البغي: التَّعدي. وبغى الرَّجُل على الرَّجُل: استطال عليه..) إلى أنْ قال: (ورأَوا أنَّ ذلك التَّأويل تحريف. سلَّمْنَا نفي العُرف، وأنَّ لفظ الباغية صالح للطَّلب وللتَّعدِّي، لكنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذكر الفئة الباغية في هذا الحديث في معرض إظهار فضيلة عمَّار وذمِّ قاتليه، ولو كان المقصود البغي الَّذي هُو مُجرَّد الطَّلب لَمَا أفاد شيئا مِن ذلك، وقد أفادهُما بدليل مساق الحديث فتأمَّله بجميع طُرُقه تجده كذلك، وأيضًا فلو كان ذلك هُو المقصود لكان تخصيص قَتَلَة عمَّار بالبغي الَّذي هُو الطَّلب ضائعًا لا فائدة له؛ إذ عليٌّ وأصحابه طالبون للحقِّ ولقَتَلَة عُثمان، لو تفرَّغوا لذلك، وتمكَّنوا منه، وإنَّما منعهُم مِن ذلك مُعاوية وأصحابه بما أبدَوا مِن الخلاف، ومِن الاستعجال مع قول عليٍّ لهُم: ادخُلوا فيما دخل فيه النَّاس، ونطلُب قَتَلَة عُثمان، ونُقيم عليهم كتاب الله. فلم يلتفتوا لهذا ولا عرَّجوا عليه، ولكن سبقت الأقدار، وعظُمت المُصيبة بقتيل الدَّار. وأمَّا فساد التَّأويل الثَّاني فواضح؛ لأنَّه عدل عمَّن وُجِدَ القتل منه إلى مَن لا تصحُّ نسبتُه إليه، إذ لم يُجبَر عمَّار على الخُروج؛ بل هُو خرج بنفسه وماله مُجاهدًا في سبيل الله، قاصدًا لقتال مَن بغى على الإمام الحقِّ، وقد نقلنا ما صدر عنه في ذلك) انتهى فانظر كلام القُرطبيِّ وكيف ردَّ التَّأوِيلَين وبيَّن فسادهُما وأنَّهُما لا يُقبلان لُغة ولا شرعًا ولا عُرفًا.
ثُمَّ المُصنِّف نفسه لم يُوافق على ثُبوت نسبة هذا التَّأويل إلى مُعاوية فقال: (وحاشى مُعاوية عن مثل هذا التَّأويل والعُهدة على النَّاقل) إلخ.. والخُلاصة أنَّ التَّأويلَين فاسدان لدرجة لم يوافق المُصنِّف معها على ثُبوتهما على مُعاوية لأجل ما وجد فيهما مِن بُطلان فكيف يقول بهذا التَّأويل قوم ولا ينتبهون أنَّ نسبته إلى مُعاوية طعن آخَر في مُعاوية الَّذي يُريدون الدِّفاع عنه وكأنَّه معصوم!؟
وقال القاضي عياض في [إكمال المعلم بفوائد مُسلم] ما نصُّه: (وأصل البغي: الحسد، ثُمَّ استُعمل فى الظُّلم؛ ولهذا حمل الحديث عبدُالله بن عَمرو بن العاص يوم قتله وغيره، لكنَّ مُعاوية تأوَّله على الطَّلب، قال: نحن الفئة الباغية لدم عُثمان، أي الطَّالبة له. والبُغاء بالضَّمِّ ممدود الطَّلب. وقد كان قبل ذلك قال: إنَّما قَتَلَه مَن أخرجه لينفيَ عن نفسه هذه الصِّفة، ثُمَّ رجع إلى هذا الوجه الآخَر) انتهى.
وقال مُلَّا عليٌّ القاري في شرح المشكاة ما نصُّه: ((تقتلك الفئة الباغية (أي الجماعة الخارجة على إمام الوقت وخليفة الزَّمان، قال الطيبيُّ: ترحَّم عليه بسبب الشِّدَّة الَّتي يقع فيهما عمَّار مِن قِبل الفئة الباغية يُريد به مُعاوية وقومه فإنَّه قُتل يوم صِفِّين، وقال ابن الملك: اعلم أنَّ عمارًا قتله مُعاوية وفئته فكانوا طاغين باغين بهذا الحديث لأنَّ عمَّارًا كان في مُعسكر عليٍّ وهُو المُستحقُّ للإمامة فامتنعوا عن بَيعته، وحُكي أنَّ مُعاوية كان يُؤوِّل معنى الحديث ويقول: نحن فئة باغية طالبة لدم عُثمان وهذا كما ترى تحريف إذ معنى طلب الدَّم غير مُناسب هُنا لأنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ذكر الحديث في إظهار فضيلة عمَّار وذمِّ قاتله لأنَّه جاء في طريق وَيح، قلتُ: وَيح كلمةٌ تُقال لمَن وقع في هَلَكة لا يستحقُّها فيُترحَّم عليه ويُرثى له بخلاف وَيل فإنَّها كلمة عُقوبة تُقال للَّذي يستحقُّها ولا يُترحَّم عليه، هذا وفي الجامع الصَّغير برواية أحمد والبُخاريِّ عن أبي سعيد مرفوعًا: “وَيح عمَّار تقتُلُه الفئة الباغية يدعُوهُم إلى الجنَّة ويدعونه إلى النَّار” وهذا كالنَّصِّ الصَّريح في المعنى الصَّحيح المُتبادَر مِن البغي المُطلق في الكتاب كما في قوله تعالى: {ويَنْهى عنِ الفَحشاءِ والمُنكرِ والبغي} وقوله سُبحانه: {فإن بغَتْ إحداهُما على الأُخرى} فإطلاق اللَّفظ الشَّرعيِّ على إرادة المعنى اللُّغويِّ عُدول عن العدل ومَيل إلى الظُّلم الَّذي هُو وضع الشَّيء في غير موضعه. والحاصل أنَّ البغي بحسب المعنى الشَّرعيِّ والإطلاق العُرفيِّ خصَّص عُموم معنى الطَّلب اللُّغويِّ إلى طلب الشَّرِّ الخاصِّ بالخُروج المنهيِّ فلا يصحُّ أنْ يُراد به طلب دم خليفة الزَّمان وهُو عُثمان رضي الله عنه. وقد حُكي عن مُعاوية تأويل أقبح مِن هذا حيث قال: إنَّما قَتَلَه عليٌّ وفئتُه حيث حَمَلَه على القتال وصار سببًا لقتله في المآل، فقيل له في الجواب: فإذن قاتل حمزة هُو النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم حيث كان باعثًا له على ذلك والله سُبحانه وتعالى حيثُ أمر المُؤمنين بقتال المُشركين. والحاصل أنَّ هذا الحديث فيه مُعجزات ثلاث إحداها أنَّه سيُقتل وثانيها أنَّه مظلوم وثالثُها أنَّ قاتله باغٍ مِن البُغاة والكُلُّ صدق وحقٌّ) انتهى.
وفئة أهل الفتنة بدَّلتَ وحرَّفتَ حديث الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم -والعياذ بالله- فإنَّها زعمتَ أنَّ وُرود لفظ “البُغاة” في الحديث لا يقتضي معنى الوُقوع في المعصية أو الفسق؛ ومنعتَ إطلاق لفظ البُغاة على هذا المعنى وهي تعلم أنَّها بذلك تَكْذِبُ على الرَّسول؛ فانطبق عليها قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: (مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ فِي النَّارِ) وما ردُّنا عليهم إلَّا ليعلمَ النَّاس أنَّهم دُعاة إلى النَّار فإنَّ جُلَّ عملِهم هُو رمي الشُّبهات الواهية لإضلال العامَّة وما اتَّهمونا نحن أهلَ السُّنَّة بالتَّشيُّع إلَّا لحقد في نفوسهم ألَا عليهم مِن الله ما يستحقُّون.
والحمد لله رب العالمين

