عُيون النَّواصب والمُغفَّلين تتعامى عن حقيقة البُغاة
بيان الحُكم الشرعي في البغاة (1/7)
أعجب لأُناس يقرأون وينشُرون عبارة (كُلٌّ يُؤخذ من قوله ويُترك غير صاحب هذا القبر) -أي النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم- وعبارة (ليس الحقُّ يُعرف بالرِّجال وإنَّما الرِّجال يعُرفون بالحقِّ) ثُمَّ مع ذلك يأخذون بكلام يُخالف النُّصوص الصَّريحة من القُرءان والحديث..
فمهمَا بلغ هذا العالِم أو ذاك من الشُّهرة فهل أخذتَ عنه ما في كتابه بالسَّند المُتَّصل له فإنْ لم تأخذه كذلك فكيف تُثبته عليه لمُجرَّد وُجوده في كتابه مع أنَّه يُخالف نصَّ القُرءان والحديث ثُمَّ كيف تُقدِّم كلامه -على تقدير أنَّه كلامه- على كلام النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وقد قال في الحديث الصَّحيح: (يدعوهُم إلى الجنَّة ويدعُونه إلى النَّار) أليس لك عقل تُفكِّر به وتعقل أم تمشي كالأنعام؟! بل الأَولى بك أنْ تقول كيف له أنْ يعتبر فعله اجتهادًا مُعتبَرًا وهذا يُخالف نصَّ القُرءان والحديث؟! كيف يكون له أجر وقد قتل أصحاب رسول الله وبينهُم من السَّابقين الأوَّلين من المُهاجرين والأنصار؟!! كيف اجتمع معهم الأجر والعصيان في فعل واحد؟! فكِّر.. تدبَّر.. لم يخلُقك الله بلا عقل حتَّى تمشي بلا هُدًى، الله أعلم هل صحَّ عنه العالم الفلانيِّ ذلك أم لا؟ ولو صحَّ، الله أعلم ماذَا أراد به؟ ثُمَّ لو أراد به مُخالفة الشَّرع هل تتَّبعُه وتترُك الشَّرع أم تتَّبع الشَّرع مهمَا بلغت به الشُّهرة؟
فمُجرَّد وُجود حروف في كتاب لا يعني ثبوتها بالبيِّنة الشَّرعيَّة على صاحب الكتاب فقد قال المُؤرِّخ الشَّافعيُّ الأشعريُّ صلاح الدِّين الصَّفديُّ ت/764ه في [الوافي بالوفيات] عند ذكر مسألة نُسِبَت للجُوينيِّ: (قلتُ أنا أحاشي إمام الحرمَين عن القول بهذه المسألة والَّذي أظنُّه أنَّها دُسَّت في كلامه؛ ووضعها الحَسَدَة له على لسانه: كما وُضع كتاب الإبانة على لسان الشَّيخ أبي الحسن الأشعريِّ) انتهى وكلامه صريح في القول بوُقوع الدَّسِّ في [الإبانة].
فانظر كيف رفض أنْ يُثبت على الجُوينيِّ قولًا يُخالف النَّصَّ الدِّينيَّ لمُجرَّد العُثور عليه في مُصنَّفه؛ وعِلم الأشعريِّ وصلنا بالنَّقل مِن الصُّدور لا مِن السُّطور.
واللهِ ليس تعصُّبًا لشيخنا لكنَّه قدَّم دليل الشَّرع على كلام كُلِّ هؤُلاء أمَّا أنتُم قدَّمتُم هواكُم على كلام الشَّرع فلا تكُن أحمقًا فإنَّنا -أعني أهل السُّنَّة- لا نقول بعصمة الصَّحابة عن الذُّنوب صغيرها وكبيرها، وكون مُعاوية صحابيًّا فهذا لا يستدعي أنْ نُبدِّل وأنْ نُحرِّف في دين الله لكي نُبرِّئه ممَّا لا يقول الشَّرع بعصمته منه. ثُمَّ الَّذي نصَّ القُرآن والحديث وإجماع الأُمَّة على تحريمه لا يتغيَّر حُكمُه لو فعله مُعاوية؛ ولا يصير الحرام بذلك فرضًا أو سُنَّة أو مندوبًا يُؤجَر فاعله أو يُثاب! وإنْ قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ تسمع وتُطِع فهُو أَولى بالمُؤمنين من أنفسهم ويسكُت أهل الفتنة، يُريدون إسكات أصواتنا ونحن على الحقِّ؛ ويُحاولون إسقاط أعلام النُّبوَّة واللهُ يرفعُها رغم أُنوفكُم.
شيخُنا يُضلِّل مَن طعن بكُلِّ الصَّحابة لأنَّهُم هُم نقلوا لنا الدِّين. فعندما نتناول الصَّحابة رضوان الله عليهم بكلامنا مِن حيث الجُملة نُعظِّمُهُم ولا يجوز الطَّعن بهم إطلاقًا.
أمَّا عندما نذكُر أفرادًا مِن الصَّحابة ننبه إلى أنَّ منهُمُ السَّابقين ومنهُم غيرُهم فالسَّابقون أعلى مِن غيرهم. ليس معنى كون الواحد صحابيًّا أنَّه يصير معصومًا لا يقع في ذنب.
فلماذَا نقول عن مُعاوية إنَّه باغ؟ نفعل ذلك لبيان حُكم الشَّرع حُكم القُرآن حُكم الدِّين حُكم الإسلام في تحريم الخُروج على الخليفة الرَّاشد الَّذي صحَّت إمامتُه ووجبَتْ طاعتُه. فأين الطَّعن في الصَّحابة كما يقولون؟ فلماذَا المُكابرة ومَن أثار الفتن والقلائل في الدُّخول في هذه المسألة نحن أم هُم أخبروني؟ هُم يُريدون تشويه صورة شيخنا رحمه الله ومَن معه هذا غرضُهُم لا غير، وهُم مَن شنَّع علينا واتَّهمنا زُورًا وباطلًا أنَّنا نطعن في الصَّحابة وآل البيت.
نحن لم نتكلَّم إلَّا بما قاله الشَّيخ رحمه الله ونقلناه عن جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة ونقلنا لهُمُ الإجماع مِن أكثر مِن موضع على أنَّ مُعاوية ومَن معه عُصاة وليس هذا مِن الطَّعن في الصَّحابة كما يدَّعون وإنَّما في بيان الحُكم الشَّرعيِّ كما نقله كثير مِن العُلماء وفي بيان ردِّ التُّهمة عنَّا.
الشَّيخ عبد اللهِ رحمه الله ذكر في عدَّة مواضع مِن كُتُبه أنَّ مُعاوية ومَن معه عصَوا وأنَّ هذا كلام العُلماء بل ألَّف كتابًا خاصًّا في ذلك سمَّاه (كتاب الدَّليل الشَّرعيِّ على إثبات عصيان مَن قاتلهم عليٌّ مِن صحابيٍّ أو تابعيٍّ) العنوان وحده كاف في إثبات مذهب شيخنا في مَن قاتل سيِّدنا عليًّا رضي الله عنه فهل كان غرض الشَّيخ رحمه الله مِن هذا الكتاب الطَّعن في الصَّحابة أم بيان الحُكم الشَّرعي في هذه المسألة؟ وهل كُلُّ مَن ذكر معصية حصلَتْ مع صحابيٍّ يكون طعن في الصَّحابة!؟
بل هُو معلوم عند كُلِّ مَن له أدنى اطِّلاع أنَّ بعض الصَّحابة في زمن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد عصَوا وقد أُقيمَتْ عليهمُ الحدود فمنهُم مَن زنا ومنهُم مَن سرق ومنهُم مَن شرب الخَمر فهذا لا يُخرجُهُم عن كونهم صحابة ولا يُخرجهُم عن كونهم عُدولَ رواية وقد وردَتْ بذلك الأحاديث الكثيرة وذكرهُمُ العُلماء بالاسم فيها فهل هذا طعن في الصَّحابة؟ وهل العُلماء الَّذين تناولوا ذكر هذه الأحاديث وشرحوها أرادوا الطَّعن في الصَّحابة؟ هذا لا يقوله عاقل وإنَّما المُراد بالعدالة الَّتي يذكُرُها العُلماء في الصَّحابة جُملةً هُو أنَّهم لا يكذبون على رسول الله حتَّى مُعاوية نفسه لم يُكذِّب حديث (ويح عمَّار تقتُلُه الفئة الباغية) لأنَّه صحابيٌّ والصَّحابة عُدولُ رواية لا يكذبون على رسول الله فهذا هو المُراد.
فلماذَا نقول عن مُعاوية إنَّه باغ؟ نفعل ذلك لبيان حُكم الشَّرع حُكم القُرآن حُكم الدِّين حُكم الإسلام في تحريم الخُروج على الخليفة الرَّاشد الَّذي صحَّت إمامتُه ووجبَتْ طاعتُه.
وهُنا في قضية مُعاوية؛ نحن لا نقول عنه (هو باغ) لأنَّنا نهوى مُجرَّد سبِّه وشتمه وإنَّما هذه العبارة مع كونها شتمًا وطعنًا وذمًّا تقال ويجوز أنْ تُقال وقالها العُلماء كثيرًا كما لا يخفى عليك. لكن لماذَا نقولُها؟ هل للتَّشفِّي من شخص مُعاوية؟ لا. هل نحن نقول بكُفر مُعاوية؟ لا. هل نقول بأنَّه لا بُدَّ مُعذب في النَّار؟ لا وإنَّما نقول كما قال الأشعريُّ: (مُجوَّز غُفران ذنبه).
وقد يُشكل عليك يا أخي الكريم أنَّه في بعض الكُتُب مذكور عبارة (اجتهد وأخطأ وله أجر). فمتى ما رأيت كلمة (اجتهد مُعاوية وله أجر) فاعلم أنَّ العالِم أو الفقيه لا يتكلَّم عن قتال مُعاوية لعليٍّ؛ ولا عن خروجه عليه، وإنَّما عن القدر الَّذي يقف عند مُطالبته بدم عُثمان أوَّل الأمر وحسب. وأحيانًا قد يكون دسًّا في كتاب والنَّاس ليس بين أيديهم شيء ثابت من ذلك عن أئمَّة الإسلام. مُجرَّد وُجود جملة ما في كتاب لا يعني ثُبوت الجُملة على مُصنِّف الكتاب أبدًا.
ولا حُجَّة لك في قول بعض العُلماء (اجتهد وله أجر) لأنَّهم ما قالوا هذا على معنى أنَّ له الأجر بخُروجه على وليِّ الأمر وقتاله له وقَتْلِه عمَّارَ بن ياسر، أم تُراهم أسرُّوا لك بمُرادهم من هذه الجُملة الَّتي ليس لك سند واحد فيها إلى عالِم مُعتبَر من عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة؛ فالزم حدَّك.
كيف تُثبت؟
في أحوال منها السَّند المُتَّصل ومنها أنْ يُقارن خطُّه مع ضمان عدم السَّقط والتَّصحيف. هل تعلم يا أخي أنَّ بعض كُتُب الإمام الأشعريِّ نفسه وقع فيها الدَّسُّ؟ دسَّ فيها المُشبِّهة أشياء تُناقض التَّنزيه ممَّا لا يقبلُه أشعريٌّ في إمامه.
فإنَّ مَن قال من العُلماء إنَّه اجتهد فهذا مُراده في البداية قبل القتال مُراده في المُطالبة في دم عُثمان لا في القتال وهذا على فرض إنْ صحَّ عنه ذلك فعلى هذا القدر نحن لا نعترض عليه مع أنَّ الأصل أنْ يدخُل في طاعة الخليفة ثُمَّ يحتكم له فقد قال الباقلانيُّ في تمهيده (وعلى أنَّه إذَا ثبت أنَّ عليًّا ممَّن يرى قتل الجماعة بالواحد لم يجُز أنْ يقتُل جميع قَتَلَة عُثمان إلَّا بأنْ تقوم البيِّنة على القَتَلَة بأعيانهم، وبأنْ يحضُر أولياء الدَّم مجلسه ويطلُبوا بدم أبيهم ووليِّهم، ولا يكونوا في حُكم مَن يُعتقد أنَّهم بُغاة عليه وممَّن لا يجب استخراج حقٍّ لهُم دون أنْ يدخُلوا في الطَّاعة ويرجعوا عن البغي، وبأن يُؤدِّيَ الإمام اجتهاده إلى أنَّ قَتْل قَتَلَة عُثمان لا يُؤدِّي إلى هرج عظيم وفساد شديد قد يكون فيه مثل قَتْل عُثمان أو أعظم منه، وإنَّ تأخير إقامة الحدِّ إلى وقت إمكانه وتقصِّي الحقِّ فيه أَوْلى وأصلحُ للأُمَّة وألمُّ لشعثهم وأنفى للفساد والتُّهمة عنهُم. هذه أُمور كُلُّها تُلزم الإمام في إقامة الحُدود واستخراج الحُقوق، وليس لأحد أنْ يعقد الإمامة لرجُل مِن المُسلمين بشريطة تعجيل إقامة حدٍّ مِن حُدود الله والعمل فيه برأي الرَّعيَّة) ا.ه.
أمَّا أنْ يقول (اجتهد اجتهادًا شرعيًّا على قتاله) أو (له تأويل شرعيٌّ على القتال)، فهذا أثبتَ له الأجر والعياذ بالله وإنْ لم يقُل (إنَّ له أجرًا) وكيف يكون اجتهد اجتهادًا شرعيًّا مُعتبَرًا وهُو خرج على الخليفة الشَّرعيِّ بل إنَّ مَن خرج على الخليفة وقد انعقدت له البيعة عاصٍ آثمٌ لا يختلف في ذلك عاقلانِ، على أن كثيرا من العلماء لم يذكر لفظ الأجر وعبر فقط بلفظ الاجتهاد أو التأويل فيحمل كلامه عن التعبير بهذا اللفظ أنه أراد أن أهل البغي لا يكفرون باستحلالهم لدماء أهل العدل لأنهم مجتهدون ومتأولون في ذلك لأن استحلال قتل المسلم بغير شبهة تأويل كفر لكن هذا الاجتهاد أو التأويل لا ينفي عنهم المعصية لأن هذا الاجتهاد ليس باجتهاد شرعي فلا يؤجر عليه بل يقع في ذنب إذ لا اجتهاد مع النص.
وإنْ ثبت عن الأشعريِّ لفظ الاجتهاد فمُراده أنَّه رأى رأيًا بعثه على حرب عليٍّ. فليس مُراده أنَّه اجتهد اجتهادًا مُعتبَرًا كاجتهاد المُجتهدِين بدليل أنَّ أبا الحَسَن الأشعريَّ قال إنَّ حرب مُعاوية لعليٍّ مُنكر وباطل وبغي.
فلو كان الأشعريُّ يرى أنَّ مُعاوية اجتهد اجتهادًا مُعتبَرًا يُعذر فاعله إذَا أخطأ، لم يقُل إنَّ حربه مُنكر وباطل وبغي وهذا لا يخفى على مُنصف إلَّا على مُكابر لا يرى الحقَّ حقًّا بل يرى الأمر على العكس. فإذَا ثبت بحديث الرَّسول أنَّ مُعاوية وجماعته بُغاة فكيف يُسمَّى البغي اجتهادًا؟!
فهل يقول عالم إنَّ المُجتهد اجتهادًا شرعيًّا يكون آثمًا؟ وهل يقول طالب علم إنَّ الشَّافعيَّ إذَا اجتهد اجتهادًا شرعيًّا يقع في معصية أم يُقال لو أصاب له أجرانِ ولو أخطأ له أجر؟!
وبعبارة أُخرى، فما ورد في كلام الأشعريِّ يُحمل على أحد وجهَين ولا يصحُّ الثالث، لِمَا سنُبيِّنُه:
الوجه الأوَّل: أنْ يكون الأشعريُّ أراد مُطالبتهم بدم عُثمان قبل أنْ تتمَّ البيعة لعليٍّ، بينمَا عليٌّ أراد أنْ تتمَّ البيعة أوَّلًا. فإنْ صحَّ أنَّ الأشعريَّ أراد الاجتهاد فيُحتمل أنَّه أراد هذا.
الوجه الثَّاني: أنْ يكون الأشعريُّ أراد الاجتهاد الَّذي هُو نوع من الرَّأي.
ومِن الباطل أنْ يزعُم قوم أنَّه أراد الاجتهاد الشَّرعيَّ. وهذا مردُود لأنَّ الأشعريَّ حينما ذكر اجتهاد مُعاوية على الخُصوص سمَّاه خطأ وباطلاً ومنكرًا وبغيًا يعني حرامًا يعني إثمًا.
ونحن نقول لك: التَّأسِّي بقول نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام في وصف البُغاةِ والقولُ بما يقولُه القُرآن الكريم فيمَن يخرُج على وليِّ الأمر: مِن الدِّين.
ومَن قال مِن العُلماء إنَّه اجتهد فهذا محمول على ما ذكرنا.. ونحن لا نُكفِّره على ذلك كما يدَّعي الخصم.
وما يقوله بعضهم مِن أنَّ مُعاوية له أجر على قتله المُسلمين هذا لا يقوله مُسلم يخاف الله.. قتل المُسلمين بغير حقٍّ لا يكون اجتهادًا لصاحبه فيه أجر.. أعوذ بالله.
جماعة الشَّيخ عبدالله رحمه الله ورضي عنه هُم مِن أهل السنة وليس في مرجعيَّاتهم إلَّا عُلماء أهل السُّنَّة فهُم لم يقولوا بقول جديد لم يقُل به أهل السُّنَّة والجماعة ولكنَّهُم أهل تحقيق وتدقيق وتمحيص وفحص لقُرب عهد إمامهم بهم وهُو عالِم أُصوليٌّ كبير. فقد قال الإمام المُلَّا عليٌّ القاري في شرحه للشِّفا: “وأمَّا مُعاوية وأتباعه فيجوز نسبتُهُم إلى الخطإ والبغي والخُروج والفساد” انتهى. وهذا عين ما نقول به وقاله غيره مِنَ العُلماء.
فنحن لا نُحبُّ ما فعله مُعاوية مِن خُروجه على أمير المُؤمنين وقتاله له وقتله عددًا مِن الصَّحابة وغير ذلك ممَّا صحَّت به الأخبار.. كُلُّ ذلك فعله بحُجَّة المُطالبة بدم عُثمان وهُو ما لم يذكُره بعد تولِّيه الخلافة عندما تنازل له عنها الحَسَن رضي الله عنه لأجل حقن الدِّماء فقد قال القُرطُبيُّ في التَّذكرة ما نصُّه: “وكذلك فعل مُعاوية حين تمَّت له الخلافة ومَلَك مصر وغيرها بعد أنْ قُتِلَ عليٌّ رضي الله عنه لم يحكُم على واحد مِن المُتَّهَمِين بقتل عُثمان بإقامة قصاص، وأكثر المُتَّهَمِين مِن أهل مصر والكُوفة والبصرة وكُلُّهم تحت حُكمه وأمره ونهيه وغلبته وقهره، وكان يدَّعي المُطالبة بذلك قبل مُلكه ويقول: لا نُبايع مَن يُؤوي قَتَلَة عُثمان ولا يقتصُّ منهُم، والَّذي كان يجب عليه شرعًا أنْ يدخُل في طاعة عليٍّ رضي الله عنه حين انعقدت خلافته في مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ومهبط وحيه ومقرِّ النُّبُوَّة وموضع الخلافة بجميع مَن كان فيها مِن المُهاجرين والأنصار بطَوع منهُم وارتضاء واختيار” انتهى.
فنحن نُجلُّ الصَّحابة جُملة ونقول رضي الله عن الصَّحابة أجمعين ولا زال مشايخُنا يستعملونها بعد ذكر الصَّحابة رضي الله عنهم. فأين الطَّعن في الصَّحابة هل البُخاريُّ ومُسلم وكُلُّ مَن شرح حديثًا فيه ذكر معصية لصحابيٍّ يكون طعن فيهم! فرق شاسع بين الطَّعن وبين بيان حُكم الشَّرع وليس فيهم أحد معصوم لذلك قال العلَّامة سعد الدِّين التَّفتازانيُّ الحنفيُّ في كتابه [شرح المقاصد] المُجلَّد الخامس: (يعني ما وقع بين الصَّحابة مِنَ المُحاربات والمُشاجرات على الوجه المسطور في كُتُب التَّواريخ والمذكور على أَلْسِنَة الثِّقات يدُلُّ بظاهره على أنَّ بعضهُم قد حاد طريق الحقِّ، وبلغ حدَّ الظُّلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللَّداد وطلب المُلك والرِّياسة والمَيل إلى اللَّذَّات والشَّهوات، إذ ليس كُلُّ صحابيٍّ معصومًا ولا كُلُّ مَن لقي النَّبيَّ صلَّى الله عليه آله وسلَّم بالخير موسومًا..) هذا كلام العلَّامة سعد الدِّين التَّفتازانيِّ.
فمَن ترضَّى على مُعاوية لمظنَّة توبته في قوله (ذنبي كالتُّراب) كما في التَّذكرة للقُرطبيِّ فهذا لا نعترض عليه. نحن كما قدَّمت لك لا نقول هُو في النَّار بل نقول كما قال الأشعريُّ: (وأمَّا خطأ مَن لم يُبشِّره رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالجنَّة في أمره فإنَّه مُجوَّز غُفرانه والعفو عنه” انتهى. مع أنَّ كثيرًا مِن العُلماء أثبت عدم توبته وذلك باستخلافه يزيد مع علمه بحاله بل ونصح الصَّحابةُ له بعدم استخلافه فقد قال الحافظ ابن حجر العسقلانيُّ في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثَّمانية ما نصُّه: قال –أي عمرو بن حزم الأنصاريُّ-: لعمري لقد أصبح يزيد بن مُعاوية واسط الحسب في قُريش غنيًّا عن المال غنيًّا عن كُلِّ خير وإنِّي سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: “إنَّ الله تعالى لم يسترع عبدًا رعيَّة إلَّا وهُو سائله عنها يوم القيامة كيف صنع فيها” وإنِّي أُذكِّرُك الله يا مُعاوية في أُمَّة مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم مَن تستخلف عليها قال: فأخذ مُعاوية ربو ونفس في غداة قُرٍّ حتَّى عرق وجعل يمسح العرق عن وجهه مليًّا ثُمَّ أفاق فحمد الله وأثنى عليه ثُمَّ قال: أمَّا بعدُ فإنَّك امرؤ ناصح قلتَ برأيك بالغًا ما بلغ، وإنَّه لم يبقَ إلَّا ابني وأبناؤُهُم فابني أحقُّ مِن أبنائهم، حاجتُك؟ قال: ما لي حاجة، قال: قُم، فقال له أخوه: إنَّما جئنا مِن المدينة نضرب أكبادها مِن أجل كلمات، قال: ما جئت إلَّا للكلمات، قال: فأمر لهُم بجوائزهم وأمر لعمرو بمثلَيها” انتهى.
ولكنَّنا مع هذا لا ننهى عن التَّرضي عن مُعاوية من ظنَّ ثُبوت توبته لكنَّنا لا نُوافق أبدا على مَن زعم أنَّ لمُعاوية أجرًا في قَتْلِه للصَّحابة بغير حقٍّ ولا في قتاله لسيِّدنا عليٍّ بغير حقٍّ بل هُو في ذلك آثم باغٍ كما قال نبيُّنا عليه الصَّلاة والسَّلام لا نشُكُّ في ذلك أبدًا.
فافهم المسألة يا طالب الحقِّ فإنَّها ليست مُجرَّد حكاية غِيبة في رجُل مُسلم؛ وإنَّما بيان حُكم شرعيٍّ معلوم مِن الدِّين بالضَّرورة يقول بتحريم قتل المُسلم بغير حقٍّ والخروج على الخليفة العادل بغير سبب شرعيٍّ وينقُضُه اليوم أهل الفتنة الَّذين انحرفوا عمَّا سمعوه عن العارف الثِّقة في مسألة ورد فيها النَّصُّ بالطَّريق المُتواتر عن رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام بقوله: (ويح عمَّار تقتُلُه الفئة الباغية) انتهى.
والحمد لله رب العالمين

