اعلم أن يجب تنزيه الله عن مشابهة الخلق. قال الإمام أبو منصور البغدادي الإسفراييني (429 هـ) ما نصه : “وأجمعوا- أي أهل السنة- على أنه- أي الله- لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان ” اهـ.
فالآحاديث والآيات المتشابهة لا تأخذ على الظاهر انما لها معنى يليق بالله وتفسر وتأول كما أولها المفسرون.
فمثلا تفسير قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) لا يجوز اعتقاد أن معناها أن الله جالس على العرش! انما تفسر هذه الآية بما يليق الله. كما قال سيدنا أحمد بن حنبل: استوى ما أخبر لا كما يخطر للبشر. وكما قال سيدنا مالك: الاستواء معلوم والكيف عنه مرفوع. أي الله منزه عن الكيفية والجسم والحد. ويجوز تفسيرها بالقهر كما فسره العلماء كابن الجوزي وغيره.
وتفسير (أأمنتم من في السماء) أي أهل السماء الملائكة. قال الامام القرطبي(671): في تفسيره في قول الله تعالى : “أأمنتم من في السماء ” : قيل هو إشارة إلى الملائكة، وقيل الى جبريل الموكل بالعذاب. قلت : ويحتمل أن يكون المعنى : خالق من في السماء ان يخسف بكم الارض كما خسفها بقارون.اهـ
كتاب تفسير القرطبي المجلد 9 الجزء 18 صحيفة 141.
وكذلك الأحاديث المتشابهة فلا نفسرها على الهوى انما نرجع لكلام علماء أهل السنة. فمثلا الحديث الذي رواهُ الترمذيُّ وهو:” الرَّاحمُونَ يَرحمُهُم الرّحمنُ ارْحَموا مَنْ في الأرض يرحمْكُم من في السَّماءِ ” وفي روايةٍ أخرى ” يرحمْكُم أهلُ السّماءِ “. المقصود بأهل السَّماءِ: أي الملائكة كما قال ذلك الحافظ العراقي أماليه عَقِيبَ هذا الحديث.ومعلوم عند من له أدنى مسكة من العقل أن الله لا يسمى أهل السماء. الملائكة يرحمون من في الارض: اي ان الله يأمرهم بأن يستغفروا للمؤمنين (وهذه رحمة), وينزلون لهم المطر وينفحونهم بنفحات خير ويمدونهم بمدد خير وبركة, ويحفظونهم على حَسَبِ ما يأمرهم الله تعالى.اه
قال الحافظ النووي ( 676): قال القاضي عياض المالكي (544): لا خِلافَ بين المسلمين قاطبةً فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أنّ الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى : ” أأمنتم من في السماء” ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم .اهـ
ذكره في صحيح مسلم بشرح النووي الجزء الخامس في الصيفة 22.
قال الامام الرَّازيُّ (604) : واعلم أنّ المشبهة احتجوا على اثبات المكان لله تعالى بقوله: ” أأمنتم من في السماء”. والجواب عنه أنّ هذه الاية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين لان كونه في السماء يقتضي كونَ السماء محيطاً به من جميع الجوانب فيكون أصغر من السماء والسماء أصغر من العرش بكثير, فيلزم أن يكون الله شيئاً حقيرا بالنسبة للعرش وذلك باتفاق علماءالاسلام محال, لانه تعالى قال:” قل لمن ما في السماوات والارض قل لله”. فلو كان اللهُ في السماء لوجب ان يكون مالكاً لنفسه وهذا محال, فعلمنا أنّ هذه الاية يجب صرفها عن ظاهرها الى التأويل.
كتاب التفسير الكبير ( ج15 جزء30 ص61).
والله أعلم وأحكم
Tafseer aamintum man fissama’
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيّدنا رسول الله وبعد
منذ أن نشأت الطائفة الوهابية الضالة وهي تموّه وتزوّر معاني الأقوال، فتفسّره بالمستشنع المحال،
لتغرّ الأغمار والجهال،
ولكن هذا الدين ثابت في كل حال، وله في كل ساحة فرسانٌ هم الرجال الرجال.
ومن جملةِ ما يفترونه على الأئمة تفسيرُهم قولَ الإمامِ مالكِ بن أنس رضي الله عنه “الاستواءُ معلومٌ والكيف غيرُ معقول”.
وحديثُ الإمام مالكٍ هذا مشهور عنه، رواه البيهقي في الأسماء والصفات وغيره.
المعنى واضح، أما الوهابية فيلجَئون إلى رواية لا تصح عنه وهي لفظةُ “والكيفُ مجهولٌ”،
وتفسّرها الوهابية بأن الكيف موجود لكنه مجهول لا نعرفه، والعياذ بالله.
هذا كفر فظيعٌ ومعناه أن الله متكيِّفٌ وهذه صفات المخلوقات، ولا يصح هذا الإمام مالك.
أما من أوردها من الأئمة فعلى معنى “الحقيقة”، لأنها وردت في اللغة بمعنى الحقيقة، قال الشاعر:
كيفيةُ المرءِ ليسَ المرءُ يُدركها … فكيف كيفيّةُ الجبارِ في القِدَمِ
هنا الكيفية تعني الحقيقة بلا أدنى شك، لأن المرءَ يعرفُ كيفيتهُ وإنما المراد حقيقتُه كما هو واضح.
فالذين أوردوا عبارة “والكيف مجهول” من الأئمة مرادهم هذا،
وإن كان لا يصح استعمال هذه العبارة لأن ظاهرها موهم وهو وهم مدفوع بالدليل الشرعي الصحيح.
والقاعدة تقول إن الجمع بين الأدلة واجب
وإن الجمع مقدَّمٌ على الترجيح بالإجماع ما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وكما قال الحافظ العراقي في ألفيته:
وخيرُ ما فسّرتَه بالواردِ …. كالدخِ بالدخَانِ لابن صائدِ
فلا مجال لهم بالتمسك بعبارة مروية لا تصح،
ثم تفسيرها بعبارة أخرى عن الإمام مالك حرّفوا معناه وهي قوله “والكيفُ غيرُ معقول”،
يقولون يعني أن الكيف موجود لكن نحن لا نعقله، نحن لا ندركه، هكذا يفسرونها والعياذ بالله.
والرد عليهم بأن يقال:
أولا: عبارة “الكيف مجهول” لا تصح
ثانيا: عبارة “الكيف غير معقول” تعني لا يُتَصَوّر في حق الله، كما أنه لا يُعقَلُ شريكٌ لله،
فلو قال الإمام مالك: “الشريك لله غير معقول” هل كانوا يفسرونها بأن لله شريكا لكن نحن لا نعقله، نحن لا ندركه؟
ثالثا: عبارة “والكيفُ مرفوع” صحيحة عنه الإمام مالك وهي تزيل كلَّ إشكال وتُبطل حجج الوهابية،
لأنّ المرفوع معناه غير موجود، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: “رُفِعَ القلمُ عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ
فالجمع – على سبيل التنزل ومجاراة الخصم – يدل على أن المراد من كلمة “غير معقول” أي مستحيل لا يُتصوَّر غير موجود، كما تبيّنه الكلمة الأخرى “مرفوع”.
أما عبارة “والكيف مجهول” فلا داعي للخوض فيها أكثر من هذا وقد ظهر الحق، مع العلم بأنها لا تصح عن الإمام مالك.
وبالنصوصِ الآتيةِ يظهر تدليسُ الوهابيةِ المجسمةِ:
1- قول الإمام الحافظ الخطابي كما نقله عنه في الفتح:
وليس قولنا إن الله على العرش أي مماس له أو متمكن فيه أو متحيز في جهة من جهاته بل هو خبر جاء به التوقيف، فقلنا به (((ونفينا عنه التكييف))) إذ ليس كمثله شىء وبالله التوفيق.انتهى
فالتكييف ذاته منفي لا اسم الاستفهام بمعنى أنه لا نقول “كيف” كما زعمت الوهابية
2- قول الإمام الكبير البغوي كما نقله في تحفة الأحوذي:
وقال البغوي في شرح السنة: القدم والرجل المذكوران في هذا الحديث من صفات الله (((المنزهة عن التكييف والتشبيه))).انتهى
3- قول القاضي عياض:
(((واتفقوا على تحريم التكييف)))
إذن فالتكييف ممتنع بالإجماع، بخلاف ما يفترونه أن الله له كيف لكن مجهول، هذا قول هؤلاء المجسمة قاتلهم الله.
4- قول الإمام العظيم الحافظ ابن عساكر رضي الله عنه في تبيين كذب المفتري:
فإذا وجدوا – أي أتباع الإمام الأشعري – من يقول بالتجسيم (((أو التكييف من المجسمة والمشبهة))) ولقوا من يصفه بصفات المحدثات
(((من القائلين بالحدود والجهة))) فحينئذ يسلكون طريق التأويل ويثبتون تنزيهه بأوضح الدليل ويبالغون في إثبات التقديس له والتنزيه خوفا من وقوع من لا يعلم في ظلم التشبيه فإذا ءامنوا من ذلك رأوا أن السكوت أسلم وترك الخوض في التأويل إلا عند الحاجة أحزم وما مثالهم في ذلك إلا مثل الطبيب الحاذق الذي يداوي كل داء من الأدواء بالدواء الموافق فإذا تحقق غلبة البرودة على المريض داواه بالأدوية الحارة. انتهى
فالتكييف صفة المجسمة المشبهة وليس صفةَ علماء أهل السنة،
فكذبهم مكشوف والحمد لله.
5- قول الحافظ ابن حجر العسقلاني عن حديث النزول:
ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمنا به على طريق الإجمال
(((منزها الله تعالى عن الكيفية والتشبيه وهم جمهور السلف)))،
ونقله البيهقي، وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وغيرهم.انتهى
فهذا نص صريح عن السلف أنهم “نزّهوا الله” عن الكيف،
والتنزه في اللغة يعني التقدُّس والتطهّر من كذا، فالحق واضح.
6- إقرار النووي والإمام السيوطي للإجماع الذي نقله القاضي عياض على تحريم التكييف،
وهذا يدل على أنه إجماع معتبر حق.
7- وهي القاضية، قول إمامهم المحبوب ابن عبد البر في التمهيد عند ذكر حديث النزول:
” ليس نزوله بذاته بشىء “عند أهل الفهم” من أهل السنة لأن هذا كيفية.”انتهى
فظهر أنهم ليسوا من أهل السنة ولا من أهل الفهم
وقد أسفر الصبح لذي عينين والحمد لله أن قدّرنا على إتمام هذا الرد الذي لا يترك لهم شبهة واحدة.
والله تعالى أعلم وأحكم
