بَابُ مَا يَقُولُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْوُضُوءِ
رَوَى مُسْلِمٌ فِى الصَّحِيحِ وَغَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ أَوْ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ». إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ إِتْمَامُهُ. وَيُسْبِغُ يُتِمُّ.
أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ: يَجِبُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي الرِّدَّةِ الْعَوْدُ فَوْرًا إِلَى الإِسْلامِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالإِقْلاعِ عَمَّا وَقَعَتْ بِهِ الرِّدَّةُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ النَّدَمُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لا يَعُودَ لِمِثْلِهِ.
الشَّرْحُ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لِمَنْ وَقَعَ فِي رِدَّةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الإِسْلامِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ تَرْكِ مَا هُوَ سَبَبُ الرِّدَّةِ أَيِ الأَمْرِ الَّذِي حَصَلَتْ بِهِ الرِّدَّةُ. وَالأَمْرَانِ الأَخِيرَانِ أَيِ النَّدَمُ وَالْعَزْمُ لَيْسَا شَرْطًا لِصِحَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى الإِسْلامِ بِشَرْطِ أَنْ لا يَعْزِمَ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ [وَلا يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ]، فَإِنَّهُ إِنْ نَوَى أَنْ يَعُودَ إِلَى ذَلِكَ فَلا تَنْفَعُهُ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كُفْرٌ فِي الْحَالِ. فَلَوْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّهُ لا يَعُودُ بَعْدَ هَذَا وَلا نَوَى الرُّجُوعَ إِلَى الْكُفْرِ أَوْ تَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ وَلا اسْتَحْضَرَ النَّدَمَ إِنَّمَا تَرَكَ ذَلِكَ الشَّىْءَ الَّذِي هُوَ رِدَّةٌ وَتَشَهَّدَ صَحَّ إِسْلامُهُ، لَكِنْ يَبْقَى عَلَيْهِ شَرْطَانِ وَاجِبَانِ لِلتَّوْبَةِ أَحَدُهُمَا: النَّدَمُ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لا يَعُودَ لِمْثِلِهِ، هَذَانِ وَاجِبَانِ لَكِنْ لَيْسَا شَرْطًا لِصِحَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى الإِسْلامِ وَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ مَعْصِيَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ الإِقْلاعُ عَنْهَا وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهَا وَالنَّدَمُ عَلَى فِعْلِهَا.
فَائِدَةٌ إِذَا رَجَعَ الشَّخْصُ عَنِ الْكُفْرِ لا يُشْتَرَطُ أَنْ يُجْرِيَ عَلَى قَلْبِهِ عِبَارَةَ نَوَيْتُ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ عِنْدَمَا يَتَشَهَّدُ إِنَّمَا الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ أَقْلَعَ عَنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ، فَإِذَا عَرَفَ أَنَّ هَذَا الَّذِي حَصَلَ مِنْهُ كُفْرٌ فَتَشَهَّدَ فَهَذَا التَّشَهُّدُ عَلَى وَجْهِ الْخَلاصِ مِنْهُ هُوَ نِيَّةُ الدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ فَلا يُشْتَرَطُ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فِي الْقَلْبِ أَيْ عِبَارَةِ نَوَيْتُ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهَا لا مَعْنًى لَهُ. وَمَنْ حَصَلَ مِنْهُ كُفْرٌ وَلَمْ يَتَشَهَّدْ فَوْرًا لِلْخَلاصِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدِ ازْدَادَ كُفْرًا بِذَلِكَ لِرِضَاهُ لِنَفْسِهِ الْبَقَاءَ عَلَى الْكُفْرِ هَذِهِ الْمُدَّةَ. وَمِنَ الْكُفْرِ أَيْضًا أَنْ يَتَمَنَّى الشَّخْصُ حِلَّ شَىْءٍ كَانَ مُحَرَّمًا فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ كَأَنْ يَقُولَ يَا لَيْتَ أَكْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا.
تَنْبِيهٌ إِذَا كَانَ شَخْصٌ يُصَلِّي فَجَاءَهُ كَافِرٌ وَقَالَ لَهُ أُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي يَعْتَقِدُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ قَالَ وَهُوَ يُصَلِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ يَفْهَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ الطَّرِيقُ لِلدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ اكْتَفَى بِذَلِكَ وَإِلَّا يَجِبُ عَلَى الَّذِي يُصَلِّي أَنْ يَقْطَعَ الصَّلاةَ فَوْرًا وَيُلَقِّنَهُ الشَّهَادَتَيْنِ، وَمَنْ قَالَ لا يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَرَ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ لَهُ شَخْصٌ: أُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ يَجِبُ عَلَيْهِ قَطْعُ الْخُطْبَةِ [أَيْ إِيقَافُ مَا كَانَ يَقُولُهُ لِيَأْمُرَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلا تَبْطُلُ الْخُطْبَةُ بِذَلِكَ] وَتَلْقِينُهُ الشَّهَادَتَيْنِ فَوْرًا وَلا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ انْتَظِرْ حَتَّى أَنْتَهِيَ مِنَ الْخُطْبَةِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الرِّضَا لَهُ بِالْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ هَذِهِ الْمُدَّةَ. أَمَّا لَوْ قَالَ شَخْصٌ لِمُسْلِمٍ أُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الإِسْلامِ فَسَكَتَ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُشِرْ إِلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ وَلَكِنَّهُ أَثِمَ إِثْمًا كَبِيرًا.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ كُفْرِهِ بِالشَّهَادَةِ وَجَبَتِ اسْتِتَابَتُهُ وَلا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا الإِسْلامُ أَوِ الْقَتْلُ بِهِ [أَيْ بِالْكُفْرِ] يُنَفِّذُهُ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ إِلَى الإِسْلامِ، وَيَعْتَمِدُ الْخَلِيفَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ عَلَى اعْتِرَافِهِ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».
الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ حَصَلَتْ مِنْهُ الرِّدَّةُ وَلَمْ يُتْبِعْهَا بِالتَّوْبَةِ أَيْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ رِدَّتِهِ وَجَبَتِ اسْتِتَابَتُهُ أَيْ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ الرُّجُوعُ إِلَى الإِسْلامِ، فَيَجِبُ عَلَى الإِمَامِ أَيِ الْخَلِيفَةِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الرُّجُوعَ إِلَى الإِسْلامِ، ثُمَّ لا يَقْبَلُ مِنْهُ الإِمَامُ إِلَّا الإِسْلامَ، فَإِنْ أَسْلَمَ تَرَكَهُ مِنَ الْقَتْلِ وَإِلَّا قَتَلَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ] أَيْ مَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلامِ إِلَى غَيْرِهِ فَاقْتُلُوهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ، وَمَنْ قَتَلَهُ دُونَ الِاسْتِتَابَةِ فَعَلَيْهِ ذَنْبٌ لَكِنَّهُ لا يُقْتَصُّ مِنْهُ أَيْ لا يُقْتَلُ بِهَذَا الْمُرْتَدِّ. وَقَدْ حَارَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَثَبَتَ أَنَّهُ قَتَلَ امْرَأَةً ارْتَدَّتْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا لَيْسَ مُتَوَّقِفًا عَلَى الْحَرَابَةِ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْكُفَّارِ لَيْسَ شَرْطًا أَنْ يَكُونُوا مُحَارِبِينَ لِلإِسْلامِ بَلْ يَجِبُ الْجِهَادُ لَكِنْ يُطْلَبُ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ أَنْ يُسْلِمُوا فَإِنْ أَسْلَمُوا فَذَاكَ الأَمْرُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا تُعْرَضُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ فَإِنْ وَافَقُوا تُرِكُوا وَلا يُقَاتَلُونَ وَإِنْ أَبَوِا الأَمْرَيْنِ قُوتِلُوا، لَكِنْ هَذَا فِي الْكُفَّارِ الأَصْلِيِّينَ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَيُطْلَبُ مِنْهُ الرُّجُوعُ إِلَى الإِسْلامِ فَإِنْ رَجَعَ وَإِلَّا قُتِلَ وَهَذَا بِالإِجْمَاعِ. وَهَذَا الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِي الْكُفَّارِ الأَصْلِيِّينَ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ لَكِنَّ أَمْرَ الْجِزْيَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ كَالْمَجُوسِ أَمَّا غَيْرُهُمْ فَلا يُعْرَضُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ.
وَاسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ تَكُونُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى.
وَيَعْتَمِدُ الْخَلِيفَةُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُرْتَدِّ بِالرِّدَّةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ هُوَ بِأَنَّهُ قَالَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ أَوْ فَعَلَ فِعْلَ الْكُفْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ عَدْلانِ. فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لا يُحْكَمُ عَلَى الشَّخْصِ بِالرِّدَّةِ لِمُجَرَّدِ شَهَادَةِ وَاحِدٍ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ عَدْلًا، وَكَذَلِكَ لا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إِذَا شَهِدَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتَانِ.
وَكَذَلِكَ لا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ لِمُجَرَّدِ الشَّكِّ أَنَّهُ حَصَلَ مِنْهُ ذَلِكَ أَمْ لا، وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا رُؤِيَ يُصَلِّي فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ سَمِعْنَاهُ يَتَشَهَّدُ فِي الصَّلاةِ وَلَوْ فِي دَارِ الإِسْلامِ نَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالإِسْلامِ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ تَشَهَّدَ بِنِيَّةِ الدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّي فَنَقُولُ إِنَّهُ مَا صَلَّى إِلَّا لِأَنَّهُ قَدْ تَشَهَّدَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَمَّا إِنْ صَلَّى فِي دَارِ الإِسْلامِ وَلَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ الشَّهَادَتَانِ فَلا يُحْكَمُ بِإِسْلامِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ الأَصْلِيُّ فَلا يُحْكَمُ بِإِسْلامِهِ بِمُجَرَّدِ الصَّلاةِ سَوَاءٌ صَلَّى فِي دَارِنَا أَوْ فِي دَارِهِمْ، وَقِيلَ إِنْ صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ حُكِمَ بِإِسْلامِهِ كَالْمُرْتَدِّ.
وَأَمَّا إِذَا سَمِعْنَا مِنْ شَخْصٍ كُفْرًا ثُمَّ تَرَاجَعَ عَنْ كُفْرِهِ وَلَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ الشَّهَادَةَ فَلا نُجْرِي أَحْكَامَ الإِسْلامِ عَلَيْهِ، لَكِنْ إِنْ صَدَّقَ الْقَلْبُ بِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ كُفْرِهِ وَتَشَهَّدَ أَيِ اعْتَقَدْنَا أَنَّهُ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَتَشَهَّدَ قَبْلَ الْمَوْتِ يَجُوزُ إِنْ مَاتَ أَنْ نَسْتَغْفِرَ لَهُ وَنَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لا يَجُوزُ لَنَا تَزْوِيْجُهُ بِمُسْلِمَةٍ وَلا تَوْرِيثُهُ مَا لَمْ نَسْمَعْ مِنْهُ الشَّهَادَتَيْنِ أَوْ يَشْهَدْ رَجُلانِ ثِقَتَانِ بِرُجُوعِهِ لِلإِسْلامِ.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدُخُولَ فِي الإِسْلامِ يَكُونُ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَمَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ [الَّذِي أخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ] «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ كَالنَّوَوِيِّ فِي «رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ» وَالْبُهُوتِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي «كَشَّافِ الْقِنَاعِ» وَغَيْرِهِمَا.
فَائِدَةٌ أُخْرَى قَالَ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ فِي نُكَتِهِ عَلَى الْكُتُبِ الثَّلاثَةِ التَّنْبِيهِ وَالْحَاوِي وَالْمِنْهَاجِ نَاقِلًا عَنِ التَّنْبِيهِ «فَإِنْ أَقَامَ – يَعْنِي الْمُرْتَدَّ – عَلَى الرِّدَّةِ وَجَبَ قَتْلُهُ»: مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِي شُبْهَةٌ فَأَزِيلُوهَا لَمْ يُلْتَفَتْ لِكَلامِهِ وَهُوَ الأَصَحُّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَعَلَيْهِ مَشَى الْحَاوِي وَقَالَ بِلا مُنَاظَرَةٍ بَلْ يُسْلِمُ وتُحَلُّ شُبْهَتُهُ، وَحَكَى الرُّويَّانِيُّ عَنِ النَّصِّ [أَيْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ] مُنَاظَرَتَهُ كَذَا فِي الرَّافِعِيِّ، وَعَكْسَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَجَعَلَ الأَصَحَّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ الْمُنَاظَرَةَ، وَالْمَحْكِيَّ عَنِ النَّصِّ عَدَمَهَا، وَاخْتَارَ السُّبْكِيُّ الْمُنَاظَرَةَ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ التَّسْوِيفُ وَالْمُمَاطَلَةُ» اهـ. أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ بِذَلِكَ الِاحْتِيَالَ حَتَّى لا يُعَجَّلَ بِقَتْلِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّسْوِيفَ أَيِ التَّأْخِيرَ أَيْ لا يُرِيدُ الإِسْلامَ بِقَوْلِهِ نَاظِرُونِي حَتَّى تَذْهَبَ عَنِّي الشُّبْهَةُ فَأُسْلِمَ فَلا يُنَاظَرُ بَلْ يُجْبَرُ عَلَى النُّطْقِ بِالشَّهَادَةِ ثُمَّ تُحَلُّ شُبْهَتُهُ بَعْدَ أَنْ يَتَشَهَّدَ.
ثُمَّ نَقَلَ أَبُو زُرْعَةَ عَنِ التَّنْبِيهِ «فَإِنْ كَانَ [يَعْنِي الْمُرْتَدَّ] حُرًّا لَمْ يَقْتُلْهُ إِلَّا الإِمَامُ» فَقَالَ: «كَذَا نَائِبُهُ فِي ذَلِكَ، نَعَمْ إِنْ قَاتَلَ فِي مَنَعَةٍ [أَيْ فِي عِزّ قَوْمِهِ بِحَيْثُ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مَنْ يُرِيدُهُ] قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: جَازَ أَنْ يَقْتُلَهُ كُلُّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كَالْحَرْبِيِّ قَوْلُهُ «وَإِنْ قَتَلَهُ [أَيْ قَتَلَ الْمُرْتَدَّ الَّذِي لَمْ يُقَاتِلْ فِي مَنَعَةٍ] غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عُزِّرَ» وَمَحَلُّهُ مَا إِذَا لَمْ يُكَافِئْهُ فَإِنْ قَتَلَهُ مِثْلُهُ – أَيْ فِي الرِّدَّةِ – فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ، قَوْلُهُ: «وَإِنْ قَتَلَهُ إِنْسَانٌ [بِغَيْرِ عِلْمِ الْحَاكِمِ وَإِذْنِهِ] ثُمَّ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ رَجَعَ إِلَى الإِسْلامِ فَفِيهِ قَوْلانِ:
أَحَدُهُمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ.
وَالثَّانِي لا تَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا الدِّيَةُ» وَالأَظْهَرُ الأَوَّلُ» اهـ.
ثُمَّ قَالَ: «قَوْلُهُ – يَعْنِي التَّنْبِيهَ – «وَإِنْ كَانَ عَبْدًا فَقَدْ قِيلَ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ قَتْلُهُ وَقِيلَ لا يَجُوزُ» وَالأَصَحُّ الأَوَّلُ» اهـ.
ثُمَّ قَالَ: «قَوْلُ الْمِنْهَاجِ «فَإِنْ أَسْلَمَ صَحَّ وَتُرِكَ» كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فَإِنْ أَسْلَمَا أَيِ الْمُرْتَدُّ وَالْمُرْتَدَّةُ كَمَا فَعَلَ فِي قَوْلِهِ «فَإِنْ أَصَرَّا قُتِلا». قَوْلُ التَّنْبِيهِ «وَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَ عُزِّرَ» نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ «إِلَّا أَنِّي أَرَى إِذَا فَعَلَ هَذَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى أَنْ يُعَزَّرَ». وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لا يُعَزَّرُ بِفِعْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَدْ حَكَى ابْنُ يُونُسَ الإِجْمَاعَ عَلَيْهِ فَلا يُغْتَرَّ بِمَنْ يَفْعَلُهُ مِنَ الْقُضَاةِ».
«قَوْلُ الْحَاوِي فِي قَاذِفِ النَّبِيِّ «فَلا شَىْءَ إِنْ أَسْلَمَ» قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ وَرَجَّحَهُ فِي الْوَجِيزِ [أَيِ الْغَزَالِيُّ] وَأَقَرَّهُ فِي التَّعْلِيقَةِ [التَّعْلِيقَةُ لِلْقَاضِي حُسَيْن] قَالَ: حَتَّى لَوْ كَانَ الْقَذْفُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ لا يَجِبُ. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ يُقْتَلُ حَدًّا. قَالَ الصَّيْدَلانِيُّ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ [أَيْ إِذَا رَجَعَ إِلَى الإِسْلامِ]. وَلَوْ عَرَّضَ بِالْقَذْفِ فَهُوَ كَالصَّرِيحِ قَالَهُ الإِمَامُ وَغَيْرُهُ» اهـ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي عَرَّضَ بِقَذْفِ النَّبِيِّ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّرِيحِ يُقْتَلُ حَتْمًا وَلَوْ بَعْدَ إِسْلامِهِ بِلا تَفْصِيلٍ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَبْطُلُ بِهَا صَوْمُهُ وَتَيَمُّمُهُ وَنِكَاحُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَكَذَا بَعْدَهُ إِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الإِسْلامِ فِي الْعِدَّةِ وَلا يَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ عَلَى مُسْلِمَةٍ وَغَيْرِهَا.
الشَّرْحُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُرْتَدِّ مِنَ الأَحْكَامِ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ الصِّيَامَ وَالتَّيَمُّمَ، أَمَّا الْوُضُوءُ فَلا يَنْتَقِضُ بِالرِّدَّةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ نِكَاحَهُ بَطَلَ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ، فَالرِّدَّةُ قَبْلَ الدُّخُولِ تَقْطَعُ النِّكَاحَ وَلا تَحِلُّ لَهُ وَلَوْ عَادَ إِلَى الإِسْلامِ أَوْ عَادَتْ هِيَ إِلَى الإِسْلامِ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَإِنْ عَادَ إِلَى الإِسْلامِ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْعِدَّةِ – وَهِيَ ثَلاثَةُ أَطْهَارٍ وَلِلْحَامِلِ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا – تَبَيَّنَ عَدَمُ بُطْلانِ النِّكَاحِ فَلا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدٍ، وَإِنِ انْتَهَتِ الْعِدَّةُ قَبْلَ عَوْدِ الَّذِي ارْتَدَّ مِنْهُمَا إِلَى الإِسْلامِ لا يَعُودُ النِّكَاحُ إِلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لا يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ لِمُرْتَدٍّ لا عَلَى مُرْتَدَّةٍ مِثْلِهِ وَلا عَلَى مُسْلِمَةٍ أَوْ يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ وَثَنِيَّةٍ، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ هَؤُلاءِ الشَّبَابَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَرْتَدُّونَ بِتَغَيُّرِ الْعَقِيدَةِ أَوْ بِإِطْلاقِ الأَلْفَاظِ الَّتِي هِيَ رِدَّةٌ أَوْ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ رِدَّةٌ لا يَصِحُّ لَهُمُ الزِّوَاجُ مَا لَمْ يَتَخَلَّوْا عَنْ رِدَّتِهِمْ وَلا يَكْفِيهِمُ الِانْتِسَابُ اللَّفْظِيُّ إِلَى الإِسْلامِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ وَلا يَرِثُ وَلا يُورَثُ وَلا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلا يُغَسَّلُ وَلا يُكَفَّنُ وَلا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَالُهُ فَىْءٌ أَيِ لِبَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ بَيْتُ مَالٍ مُسْتَقِيمٌ أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ تَمَكَّنَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ أَخْذِهِ وَصَرْفِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَ ذَلِكَ وَالْيَوْمَ لا يُوجَدُ بَيْتُ مَالٍ مُسْتَقِيمٌ.
الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ أَنَّهُ تَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ فَلَوْ ذَبَحَ ذَبِيحَةً فَهِيَ مَيْتَةٌ يَحْرُمُ أَكْلُهَا.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لا يَرِثُ أَيْ لا يَرِثُ قَرِيبَهُ الْمُسْلِمَ إِذَا مَاتَ بِالإِجْمَاعِ، وَلا يُورَثُ أَيْ لا يَرِثُهُ قَرِيبُهُ الْمُسْلِمُ إِذَا مَاتَ هَذَا الْمُرْتَدُّ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لا يُصَلَّى عَلَيْهِ أَيْ لا تَجُوزُ الصَّلاةُ عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ، وَلا يُغَسَّلُ أَيْ لا يَجِبُ غَسْلُهُ فَلَوْ غُسِّلَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِثْمٌ، وَلا يُكَفَّنُ فَلَوْ كُفِّنَ لَمْ يَحْرُمْ، وَلا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ أَيْ لا يَجُوزُ ذَلِكَ فَمَنْ دَفَنَهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ أَثِمَ.
وَمِنْهَا أَنَّ مَالَهُ فَىْءٌ أَيْ أَنَّ مَالَ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ مَوْتِهِ بِقَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَىْءٌ يَكُونُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ أَيْ لِبَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ بَيْتُ مَالٍ مُسْتَقِيمٌ قَالَ الْفُقَهَاءُ أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَتَوَلَّى رَجُلٌ صَالِحٌ صَرْفَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
فَائِدَةٌ الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ دُونَ الْبُلُوغِ إِنْ حَصَلَ مِنْهُ فِعْلٌ كُفْرِيٌّ أَوِ اعْتِقَادٌ كُفْرِيٌّ أَوْ قَوْلٌ كُفْرِيٌّ ثُمَّ بُيِّنَ لَهُ الصَّوَابُ فَاعْتَقَدَهُ وَبَلَغَ عَلَى الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ فَهُوَ مُسْلِمٌ لَوْ لَمْ يَتَشَهَّدْ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: «رِدَّةُ الصَّبِيِّ لا تَصِحُّ». وَمَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: «رِدَّةُ الصَّبِيِّ لا تَصِحُّ» أَنَّهُ لَوْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ وَمَاتَ – أَيْ وَهُوَ صَبِيٌّ، أَيْ دُونَ الْبُلُوغِ، أَيْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْكُفْرِ – يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُغَسَّلُ وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ وَنَحْوِهِ نَهْيُهُ وَأَمْرُهُ بِالشَّهَادَةِ لِيَتَعَوَّدَ عَلَى الشَّهَادَةِ إِذَا حَصَلَ لَهُ فِيمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ.
وَأَمَّا الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ دُونَ الْبُلُوغِ إِنْ حَصَلَ مِنْهُ فِعْلٌ كُفْرِيٌّ أَوِ اعْتِقَادٌ كُفْرِيٌّ أَوْ قَوْلٌ كُفْرِيٌّ وَلَمْ يَعْتَقِدِ الصَّوَابَ حَتَّى بَلَغَ عَلَى هَذَا الْكُفْرِ فَهُوَ كَافِرٌ وَيَلْزَمُهُ التَّشَهُّدُ لِلدُّخُولِ فِي الإِسْلامِ بَعْدَ بُلُوغِهِ.
تَنْبِيهٌ الطِّفْلُ الَّذِي هُوَ ابْنُ يَوْمِهِ الَّذِي وُلِدَ مِنْ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ نُسَمِّيهِ كَافِرًا وَتَسْمِيَتُهُ كَافِرًا إِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ مُعَامَلَتِهِ فِي الدُّنْيَا فَيُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا فَلا يُغَسَّلُ وَلا يُكَفَّنُ وَلا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلا يَرِثُهُ أَقَارِبُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَالَّذِي يُسَمِّيهِ مُسْلِمًا وَيَعْنِي بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ اعْتَقَدَ التَّوْحِيدَ وَلَمْ يَزَلْ عَلَى مُوجَبِ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْبَاطِنُ فَلا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي الْعَقِيدَةِ وَمَنْ سَمَّاهُ كَافِرًا حَقِيقَةً مُتَأَوِّلًا بِأَنَّ بَعْضَ الأَرْوَاحِ مَا اعْتَقَدَتِ التَّوْحِيدَ يَوْمَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ فَلا نُكَفِّرُهُ وَأَمَّا مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الأَرْوَاحَ كُلَّهَا اعْتَقَدَتِ التَّوْحِيدَ يَوْمَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وَاسْتَمَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ إِلَى حِينِ أَصْبَحَ طِفْلًا فَسَمَّاهُ كَافِرًا وَمُرَادُهُ حَقِيقَةً فَهَذَا يَكْفُرُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ] وَغَيْرُهُ فَمَعْنَى يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ أَيْ يَكُونُ مُسْتَعِدًّا مُتَهَيِّئًا لِقَبُولِ دِينِ الإِسْلامِ، عَلَى الْفِطْرَةِ أَيْ عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلامِ لِأَنَّهُمْ يُولَدُونَ عَلَى مُقْتَضَى اعْتِرَافِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ الَّذِي حَصَلَ يَوْمَ أُخْرِجَتِ الأَرْوَاحُ مِنْ ظَهْرِ ءَادَمَ بِنَعْمَانِ الأَرَاكِ فَإِنَّهُمْ سُئِلُوا أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا: بَلَى لا إِلَهَ لَنَا غَيْرُكَ، اعْتَرَفُوا كُلُّهُمْ بِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ. ثُمَّ لَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي جَسَدِ الْوَلَدِ نَسِيَ هَذَا وَيَبْقَى نَاسِيًا إِلَى أَنْ يَسْمَعَ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا الإِسْلامَ فَيَعُودَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ يَسْمَعَ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا الْكُفْرَ فَيَعْتَقِدَهُ فَيَكُونُ الآنَ كَفَرَ بِالْفِعْلِ. هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يَعْرِفُ أَوَّلَ مَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ الإِسْلامَ تَفْصِيلًا فَإِنَّهُ أَوَّلَ مَا يَخْرُجُ مَنْ بَطْنِ أُمِّهِ لا يَعْلَمُ شَيْئًا وَهُوَ صَرِيحُ الآيَةِ ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [سُورَةَ النَّحْل/78].
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (فَصْلٌ) يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَدَاءُ جَمِيعِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ قَالَ الْعُلَمَاءُ: الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ أَدَاءَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْمَعَاصِي وَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَيْ أَوَّلَ مَا يَبْلُغُ يَنْوِي فِي قَلْبِهِ يَقُولُ أَعْمَلُ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيَّ فَأُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ وَأَجْتَنِبُ الْمُحَرَّمَاتِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الإِتْيَانِ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ وَيَجْتَنِبَ مُبْطِلاتِهِ.
الشَّرْحُ أَنَّهُ يَجِبُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ صَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ تُفْعَلَ هَذِهِ الْفَرَائِضُ مِنْ تَطْبِيقِ الأَرْكَانِ وَالشُّرُوطِ، وَلا يَكْفِي مُجَرَّدُ الْقِيَامِ بِصُوَرِ الأَعْمَالِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ الْيَوْمَ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى صُوَرِ الأَعْمَالِ، فَأَحَدُهُمْ يَذْهَبُ إِلَى الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ الْحَجِّ وَيَكْتَفِي بِأَنْ يُقَلِّدَ النَّاسَ فِي أَعْمَالِهِمْ، هَؤُلاءِ يَدْخُلُونَ تَحْتَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ، وَرُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ [فِي صَحِيحِهِ].
وَقَوْلُهُ: «وَيَجْتَنِبَ مُبْطِلاتِهِ» يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَعْرِفَ مَا يُبْطِلُ هَذِهِ الْفَرَائِضَ حَتَّى يَجْتَنِبَهَا.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَمْرُ مَنْ رَءَاهُ تَارِكَ شَىْءٍ مِنْهَا أَوْ يَأْتِي بِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا بِالإِتْيَانِ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا.
الشَّرْحُ يَجِبُ عَلَى الشَّخْصِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ رَءَاهُ تَارِكَ شَىْءٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ بِأَدَائِهَا، وَيَأْمُرَ مَنْ رَءَاهُ يَأْتِي بِشَىْءٍ مِنَ هَذِهِ الْفَرَائِضِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ، هَذَا إِنْ كَانَ يُخِلُّ بِفَرْضٍ أَوْ يَأْتِي بِمُبْطِلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ عِنْدَ الأَئِمَّةِ، أَمَّا مَنْ رَءَاهُ يُخِلُّ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ لا يُنْكِرُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُهُ مُخِلًّا بِصِحَّةِ الْفَرْضِ فَيُنْكِرُ عَلَيْهِ كَمَا يُنْكِرُ عَلَى مَنْ أَتَى بِمُخِلٍّ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الأَئِمَّةِ. وَعَلَى هَذَا فَمَنْ رَأَى رَجُلًا كَاشِفًا فَخِذَيْهِ فِي الصَّلاةِ أَوْ غَيْرِهَا لا يُنْكِرُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا حَرَامٌ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّخْصُ الَّذِي كَشَفَ فَخِذَهُ يَعْتَقِدُ بِأَنَّ كَشْفَ الْفَخِذِ عَلَى الرَّجُلِ حَرَامٌ حِينَئِذٍ يَجِبُ الإِنْكَارُ عَلَيْهِ لِأَنَّ فَخِذَ الرَّجُلِ اخْتَلَفَ الأَئِمَّةُ فِي حُكْمِهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا الْفَخِذُ لَيْسَ عَوْرَةً وَقَالَ بِذَلِكَ ءَاخَرُونَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْهُمْ دَاوُدُ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَعَطَاءُ بنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُحَمَّدُ بنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَهْرُهُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ إِنْسَانًا لا يُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ صَحِيحَةً أَوْ يَتْرُكُهَا بِالْمَرَّةِ وَكَانَ لا يَمْتَثِلُ إِلَّا بِالْقَهْرِ يَجِبُ أَنْ يَقْهَرَهُ عَلَى ذَلِكَ أَيْ أَنْ يُرْغِمَهُ إِنِ اسْتَطَاعَ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الإِنْكَارُ بِقَلْبِهِ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْقَهْرِ وَالأَمْرِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيـمَانِ أَيْ أَقَلُّ مَا يَلْزَمُ الإِنْسَانَ عِنْدَ الْعَجْزِ.
الشَّرْحُ أَنَّ الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْهَرَ أَوْ يَنْهَى الشَّخْصَ الَّذِي يَتْرُكُ بَعْضَ الْفَرَائِضِ أَوْ يَأْتِي بِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا بِأَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُصَلِّي صَلاةً فَاسِدَةً أَوْ يَصُومُ صِيَامًا فَاسِدًا أَوْ يَحُجُّ حَجًّا فَاسِدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ أَيِ الْكَرَاهِيَةُ لِفِعْلِ هَذَا الإِنْسَانِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ بِقَلْبِهِ فَإِنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ سَلِمَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا أَضْعَفُ الإِيـمَانِ أَيْ أَقَلُّهُ ثَمَرَةً أَيْ فَائِدَةً.
وَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَدِيثِ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ» إِلَى ءَاخِرِهِ [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ] الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْمُنْكَرِ لا خُصُوصُ الرُّؤْيَةِ بِالْبَصَرِ فَإِنَّ الْعَرَبَ يُطْلِقُونَ الرُّؤْيَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا الْعِلْمَ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ إِذَا عَلِمَ بِمَعْصِيَةٍ مِنْ إِنْسَانٍ وَلَوْ كَانَ غَائِبًا أَنْ يَكْرَهَ بِقَلْبِهِ فِعْلَ ذَلِكَ الإِنْسَانِ لِهَذِهِ الْمَعْصِيَةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ الإِنْكَارَ بِالْيَدِ أَوِ الْقَوْلِ فَلا يَكْفِيهِ الإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ، فَهَذِهِ الْكَرَاهِيَةُ لا تُخَلِّصُهُ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ. فَالَّذِي يَحْضُرُ الْمَعْصِيَةَ وَلا يُنْكِرُهَا وَالَّذِي يَعْلَمُ بِهَا وَلا يَحْضُرُهَا فَلا يُنْكِرُهَا بِالْقَلْبِ سَوَاءٌ فِي الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَالسَّالِمُ مَنْ أَنْكَرَ إِنِ اسْتَطَاعَ بِيَدِهِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ.
وَمِنَ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَجِبُ إِزَالَتُهُ الْكُفْرُ فَلِذَلِكَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْجِهَادَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَقَاتِلُوهُم حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/193]، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ] عَنِ الْمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ لِكُفَّارِ الْفُرْسِ «أَمَرَنَا نَبِيُّنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ». وَهَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ وَلَيْسَ تَخْيِيرًا فَإِنَّهُ تَجِبُ دَعْوَةُ الْكُفَّارِ إِلَى الإِسْلامِ فَإِنْ قَبِلُوا فَذَاكَ الأَمْرُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ دَفْعُ الْجِزْيَةِ فَإِنْ قَبِلُوا تُرِكُوا وَإِلَّا وَجَبَ قِتَالُهُمْ هَذَا إِنِ اسْتَطَاعَ الْمُسْلِمُونَ.
وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرَاتِ الْفِعْلِيَّةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ… » إِلَى ءَاخِرِهِ وَلَمْ يَزَلِ الأَئِمَّةُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ الِاعْتِقَادِيَّةِ مِنْ مُعْتَزِلَةٍ وَمُشَبِّهَةٍ وَغَيْرِهِمْ فَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمُ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ وَصَنَّفَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ رَسَائِلَ.
وَزَادَ الْمُؤَلِّفُ إِيضَاحًا لِذَلِكَ قَوْلَهُ:
وَيَجِبُ تَرْكُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ وَنَهْيُ مُرْتَكِبِهَا وَمَنْعُهُ قَهْرًا مِنْهَا إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ.
الشَّرْحُ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمُنْكَرَاتُ نَحْوَ ءَالاتِ الْمَلاهِي وَالصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ فَبِتَكْسِيرِهَا لِمَنِ اسْتَطَاعَ وَإِنْ كَانَتْ خُمُورًا فَبإِرَاقَتِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ لا يُؤَدِّيَ فِعْلُهُ إِلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ وَإِلَّا فَلا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَكُونُ عُدُولًا عَنِ الْفَسَادِ إِلَى الأَفْسَدِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ «وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ». وَقَدْ حَصَلَ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْهِجْرِيِّ بِنَاحِيَةِ نَيْسَابُورَ فِي بِلادِ فَارِسَ الإِسْلامِيَّةِ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ وَهُمْ سَلَفُ الْوَهَّابِيَّةِ الْمُشَبِّهَةِ ظَهَرَتْ وَقَوِيَ أَمْرُهَا حَتَّى صَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَهْرُبُونَ مِنْ فِتْنَتِهِمْ إِلَى الْجِبَالِ فَتَصَدَّى لإِطْفَاءِ هَذِهِ الثَّائِرَةِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الأَسْفَرَايِينِيُّ الَّذِي كَانَ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ جَبَلًا مِنْ جِبَالِ الْعِلْمِ وَلا سِيَّمَا فِي عِلْمِ الْعَقِيدَةِ وَالنِّضَالِ عَنْهَا فَصَارَ يَقُولُ لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَوَوْا إِلَى الْجِبَالِ: «يَا أَكَلَةَ الْحَشِيشِ تَتْرُكُونَ دِينَ مُحَمَّدٍ تَلْعَبُ بِهِ الذِّئَابُ»، صَارَ يُوَبِّخُهُمْ وَيُعَيِّرُهُمْ مَعْنَاهُ لِمَ لَمْ تَثْبُتُوا بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى تُدَافِعُوا عَنِ الإِسْلامِ.
وَمِمَّنْ كَانَ لَهُ عِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي تَقْرِيرِ عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ كَانَ مَشْهُورًا بِذَلِكَ. كَانَ يَتَصَدَّى لِكَسْرِ الْمُلْحِدِينَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِسْلامِ وَغَيْرِهِمْ بِالأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ حَتَّى شُهِرَ وَعُرِفَ بِذَلِكَ وَصَارَ كَنَارٍ عَلَى عَلَمٍ، وَكَانَ مِنْ شِدَّةِ عِنَايَتِهِ بِالنِّضَالِ عَنِ الدِّينِ يُسَافِرُ مِنْ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ سَافَرَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً لِكَسْرِ هَؤُلاءِ، لِذَلِكَ كَثُرَتِ الْعِنَايَةُ فِي أَتْبَاعِهِ بِعِلْمِ الْعَقِيدَةِ. ثُمَّ بَعْدَ انْتِشَارِ بِدْعَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ قَيَّضَ اللَّهُ تَعَالَى لِلأُمَّةِ إِمَامَيْنِ جَلِيلَيْنِ هُمَا أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ رَضِيَّ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَامَا بِإِيضَاحِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِيرَادِ أَدِلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ مَعَ رَدِّ شُبَهِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُمْ فِرَقٌ عَدِيدَةٌ بَلَغَ عَدَدُهُمْ عِشْرِينَ فِرْقَةً، فَقَامَا بِالرَّدِّ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْفِرَقِ أَتَمَّ الْقِيَامِ بِرَدِّ شُبَهِهِمْ وَإِبْطَالِهَا فَنُسِبَ إِلَيْهِمَا أَهْلُ السُّنَّةِ فَصَارَ يُقَالُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَشْعَرِيُّونَ وَمَاتُرِيدِيُّونَ.
وَلْيُحْذَرْ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى دِينِهِ اللَّهُ يُعِينُهُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ لَهُمْ وَتَرْكُ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَّنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/105] مَعْنَاهُ أَنَّهُ لا يَجِبُ إِنْكَارُ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْغَيْرُ إِذَا كَانَ الشَّخْصُ هُوَ يَتَجَنَّبُهَا وَأَنَّهُ يَكْفِيهِ ذَلِكَ، كَيْفَ وَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ كَالْبِدَعِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْمُنْكَرَاتِ الْفِعْلِيَّةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ… » إِلَى ءَاخِرِهِ وَلَمْ يَزَلِ الأَئِمَّةُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ الِاعْتِقَادِيَّةِ مِنْ مُعْتَزِلَةٍ وَمُشَبِّهَةٍ وَغَيْرِهِمْ. رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ وَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْ مَنْ يَفْعَلُهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا» فَالآيَةُ مَعْنَاهَا أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى افْعَلُوا مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ وَكُفُّوا عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ، هَذَا مَعْنَى الآيَةِ.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ الْمُحَرَّمِ فَلا يَكُونُ الْمَرْءُ قَائِمًا بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَعَ تَرْكِ نَهْيِ الْغَيْرِ عَنِ الْمُنْكَرِ الِاعْتِقَادِيِّ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْحَرَامُ مَا تَوَعَّدَ اللَّهُ مُرْتَكِبَهُ بِالْعِقَابِ وَوَعَدَ تَارِكَهُ بِالثَّوَابِ وَعَكْسُهُ الْوَاجِبُ.
الشَّرْحُ هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْحَرَامِ أَيْ أَنَّ الْحَرَامَ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَجْتَنِبُوهُ مَعْنَاهُ مَا فِي ارْتِكَابِهِ عِقَابٌ فِي الآخِرَةِ وَفِي تَرْكِهِ ثَوَابٌ، وَالْوَاجِبُ بِمَعْنَى الْفَرْضِ مَا فِي فِعْلِهِ ثَوَابٌ وَفِي تَرْكِهِ عِقَابٌ.
فَائِدَةٌ قَدْ يُطْلَقُ الْوَاجِبُ عَلَى السُّنَّةِ أَيْ نَوَافِلِ الطَّاعَاتِ كَحَدِيثِ «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ [فِي صَحِيحَيْهِمَا]، وَقَدْ تُطْلَقُ السُّنَّةُ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَيِ الْعَقِيدَةِ وَالأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ كَحَدِيثِ «سِتَّةٌ لَعَنْتُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَكُلُّ نَبِيٍّ مُجَابٍ» [أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ] فَفِي ءَاخِرِهِ «وَالتَّارِكُ لِسُنَّتِي»، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ شَهْيدٍ» [أَيْ يُشْبِهُ أَجْرَ شَهِيدٍ] رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «وَالتَّارِكُ لِسُنَّتِي» ظَاهِرٌ أَنَّهُ فِيمَنْ تَرَكَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الِاعْتِقَادِ إِلَى غَيْرِهِ وَهُمْ أَهْلُ الأَهْوَاءِ. فَتَخْصِيصُ السُنَّةِ بِمَا يُقَابِلُ الْفَرْضَ عُرْفٌ لِلْفُقَهَاءِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْفَرْضِ سُنَّةٌ أَيْ أَنَّهُ مِنَ شَرْعِ الرَّسُولِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ سَالِمٍ مِنْ إِيهَامِ السَّامِعِ أَنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا.
