الطَّهَارَةُ وَالصَّلاةُ
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (فَصْلٌ): فَمِنَ الْوَاجِبِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ.
الشَّرْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكِمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ وَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ» [أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ] قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «ذِكْرُ اللَّهِ» أَيِ الصَّلاةُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ أَفْضَلَ الْوَاجِبَاتِ بَعْدَ الإِيـمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْوَرِقُ أَيِ الْفِضَّةُ. وَحَمْلُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الذِّكْرِ الْمُطْلَقِ تَحْرِيفٌ لِلْحَدِيثِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [سُورَةَ الْعَنْكَبُوت/45] فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اشْتِغَالَ الْمَرْءِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ بِلِسَانِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأَذْكَارِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِ الْعَبْدِ رَبَّهُ. وَقَدْ نَبَغَتْ طَائِفَةٌ تَنْتَسِبُ لِلطَّرِيقَةِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ تُفَضِّلُ طَرِيقَتَهَا عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ حَمْلًا لِلذِّكْرِ الْوَارِدِ فِي الآيَةِ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذِكْرِهِمُ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ اللَّه فِي قُلُوبِهِمْ عَدَدًا مُعَيَّنًا، وَحَصَلَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الشَّاذِلِيَّةِ وَهَذَا ضِدُّ الدِّينِ وَتَكْذِيبٌ لِقَوَاعِدِهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا.
وَلا صَلاةَ وَاجِبَةٌ غَيْرُ هَؤُلاءِ الْخَمْسِ فَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوِتْرَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَأَنَّ مَنْ تَرَكَ نَوَافِلَ الصَّلَوَاتِ كَسُنَّةِ الظُّهْرِ وَسُنَّةِ الْعَصْرِ وَغَيْرِهِمَا فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» فَمَعْنَاهُ مَنْ تَرَكَ شَرِيعَتِي أَيْ مَنْ كَرِهَ طَرِيقَتِي الَّتِي جِئْتُ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ.
كَانَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يُقَالُ لَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْوِتْرِ فَقَالَ عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ: «كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ» أَيْ أَخْطَأَ، رَوَاهُ مَالِكٌ [فِي الْمُوَطَّأِ] وَالْبَيْهَقِيُّ [فِي سُنَنِهِ] وَغَيْرُهُمَا وَاسْمُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَسْعُودُ بنُ أَوْسٍ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صَلاةَ الْوِتْرِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ حَدِيثُ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلًا ثَائِرَ الرَّأْسِ [أَيْ مُنْتَفِشَ الشَّعَرِ] جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصَّلاةِ، فَقَالَ «خَمْسُ صَلَوَاتٍ» ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الزَّكَاةِ فَعَلَّمَهُ شَرَائِعَ الإِسْلامِ، فَوَلَّى الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ بِالنُّبُوَّةِ لا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا وَلا أَنْقُصُ مِمَّا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ الرَّجُلُ إِنْ صَدَقَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ [فِي صَحِيحِهِ]. فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ الرَّجُلُ إِنْ صَدَقَ» أَيْ فِيمَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ لا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنَ النَّوَافِلِ وَلا يَتْرُكُ شَيْئًا مِمَّا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمِ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَّمَهُ مَا هُوَ فَرْضٌ وَمَا هُوَ حَرَامٌ.
فَإِذَا عُلِمَ هَذَا ظَهَرَ بُطْلانُ مَا شَاعَ عِنْدَ بَعْضِ الْعَوَامِّ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ إِنَّ الرَّسُولَ قَالَ: «مَنْ لَمْ يُصَلِّ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي»، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إِنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يُصَلِّ سُنَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِهِ قِطْعَةُ لَحْمٍ»، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ إِنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يُصَلِّ سُنَّتِي لَمْ تَنَلْهُ شَفَاعَتِي» يُرِيدُونَ بِهِ النَّوَافِلَ فَكُلُّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَى الرَّسُولِ وَضَلالٌ وَلا يَنْفَعُهُمْ قَصْدُهُمْ بِذَلِكَ حَثَّ النَّاسِ عَلَى النَّوَافِلِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الظُّهْرُ وَوَقْتُهَا إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ إِلَى مَصِيرِ ظِلِّ كُلِّ شَىْءٍ مِثْلَهُ غَيْرَ ظِلِّ الِاسْتِوَاءِ. وَالْعَصْرُ وَوَقْتُهَا مِنْ بَعْدِ وَقْتِ الظُّهْرِ إِلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ. وَالْمَغْرِبُ وَوَقْتُهَا مِنْ بَعْدِ مَغِيبِ الشَّمْسِ إِلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ الأَحْمَرِ. وَالْعِشَاءُ وَوَقْتُهَا مِنْ بَعْدِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ. وَالصُّبْحُ وَوَقْتُهَا مِنْ بَعْدِ وَقْتِ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ.
الشَّرْحُ أَنَّهُ تَجِبُ مَعْرِفَةُ أَوْقَاتِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَحْكَامِهَا الضَّرُورِيَّةِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ خِيَارَ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالأَظِلَّةَ لِذِكْرِ اللَّهِ» أَيْ لِلصَّلاةِ، حَسَّنَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الأَمَالِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ زِيَادَةُ ذِكْرِ: «النُّجُومِ»، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَيَّامِ الصَّحَابَةِ هَذِهِ الآلاتُ الْمَوْضُوعَةُ لِمَعْرِفَةِ الْوَقْتِ بَلْ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ بِالْمُرَاقَبَةِ الْعِيَانِيَّةِ.
وَفَرْضٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَةُ الْمَوَاقِيتِ الأَصْلِيَّةِ الَّتِي عَلَّمَهَا الرَّسُولُ الصَّحَابَةَ وَلا يَجُوزُ تَرْكُ تَعَلُّمِهَا اعْتِمَادًا عَلَى مَا عَمِلَهُ النَّاسُ مِنْ تَعْيِينِ مَوَاقِيتَ لِلْمُدُنِ كَالْقَاهِرَةِ وَدِمَشْقَ وَحَلَبَ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّ دُخُولَ الأَوْقَاتِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الْبُلْدَانِ.
فَالظُّهْرُ أَوَّلُ وَقْتِهَا زَوَالُ الشَّمْسِ أَيْ مَيْلُهَا عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ إِلَى جِهَةِ الْمَغْرِبِ، وَانْتِهَاءُ وَقْتِهَا أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَىْءٍ مِثْلَهُ زَائِدًا عَلَى ظِلِّ الِاسْتِوَاءِ، فَإِذَا صَارَ الظِّلُّ الْجَدِيدُ بَعْدَ طَرْحِ ظِلِّ الِاسْتِوَاءِ مِثْلَ الشَّىْءِ انْتَهَى وَقْتُ الظُّهْرِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَظِلُّ الِاسْتِوَاءِ هُوَ الظِّلُّ الَّذِي يَكُونُ حِينَ تَكُونُ الشَّمْسُ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ. وَوَسَطُ السَّمَاءِ يُعْرَفُ بِالنَّجْمِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْبُوصِلَةِ الْمُجَرَّبَةِ، فَعَلَى حَسَبِ تَحْدِيدِ الْجِهَاتِ بِالنَّجْمِ أَوْ بِالْبُوصِلَةِ يُعْرَفُ وَسَطُ السَّمَاءِ. نَجْمُ القُطْبِ مُهِمٌّ لِمَعْرِفَةِ الْجِهَاتِ الأَرْبَعِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ جِهَةَ الشَّمَالِ، يُضْبَطُ مَوْضِعُهُ فِي اللَّيْلِ وَتُغْرَزُ خَشَبَةٌ عَلَى اتِّجَاهِهِ ثُمَّ فِي النَّهَارِ يُنْظَرُ إِلَى الظِّلِّ عَلَى حَسَبِهِ.
الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَصَلَّى بِهِ الظُّهْرَ عِنْدَ الْبَيْتِ أَيْ أَمَامَ الْكَعْبَةِ حِينَ صَارَ الْفَىْءُ [وَهُوَ الظِّلُّ الَّذِي يَزِيدُ عَلَى ظِلِّ الِاسْتِوَاءِ] قَدْرَ الشِّرَاكِ [حِينَ صَارَ فَىْءُ الشَّخْصِ وَنَحْوِهِ قَدْرَ الشِّرَاكِ، مَعْنَاهُ لَمَّا كَانَ الْفَىْءُ قَلِيلًا لَمْ يَطُلْ] وَهُوَ سَيْرُ النَّعْلِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ فِي عَرْضِهَا، أَيْ حِينَ صَارَ الظِّلُّ الْجَدِيدُ قَدْرَ شِرَاكِ النَّعْلِ.
وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: إِنَّمَا يَدْخُلُ الْعَصْرُ إِذَا صَارَ ظِلُّ الشَّىْءِ مِثْلَيْهِ [أَيْ زِيَادَةً عَلَى ظِلِّ الِاسْتِوَاءِ]، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ [مُحَمَّدُ بنُ الْحَسَنِ وَأَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي] وَقَالا بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ.
وَأَمَّا وَقْتُ الْمَغْرِبِ فَيَدْخُلُ بِمَغِيبِ قُرْصِ الشَّمْسِ كُلِّهِ وَيَنْتَهِي بِمَغِيبِ الشَّفَقِ الأَحْمَرِ، وَالشَّفَقُ الأَحْمَرُ هُوَ الْحُمْرَةُ الَّتِي تَظْهَرُ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ فِي جِهَةِ الْغُرُوبِ. وَيُعْرَفُ دُخُولُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَيْضًا بِإِقْبَالِ الظَّلامِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ وَلا يُنْظَرُ إِلَى أَثَرِ ضَوْءِ الشَّمْسِ الَّذِي بَقِيَ فِي جِهَةِ الْمَغْرِبِ.
وَأَمَّا الْعِشَاءُ فَوَقْتُهَا مِنْ بَعْدِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَيْ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ الأَحْمَرِ كُلِّهِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ.
وَأَمَّا الصُّبْحُ فَوَقْتُهَا مِنْ بَعْدِ وَقْتِ الْعِشَاءِ أَيْ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ.
وَالْفَجْرُ الصَّادِقُ هُوَ الْبَيَاضُ الْمُعْتَرِضُ فِي الأُفُقِ الشَّرْقِيِّ الَّذِي يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ يَنْتَشِرُ وَيَتَوَسَّعُ. وَيَسْبِقُ الْفَجْرَ الصَّادِقَ بِنَحْوِ نِصْفِ سَاعَةٍ الْفَجْرُ الْكَاذِبُ وَهُوَ بَيَاضٌ عَمُودِيٌّ يَظْهَرُ فِي جِهَةِ الأُفُقِ الشَّرْقِيِّ، وَهَذَا لا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اقْتِرَابِ دُخُولِ وَقْتِ الصُّبْحِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَتَجِبُ هَذِهِ الْفُرُوضُ فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ طَاهِرٍ أَيْ غَيْرِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ.
الشَّرْحُ أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الأَوْقَاتِ وَإِيقَاعَ الصَّلاةِ فِيهَا لا قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا فَرْضٌ، وَفِي ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: [الطَّوِيل]
وَلا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ بِالْوَقْتِ جَاهِلًا وَلَمْ يَكُ ذَا عِلْمٍ بِمَا يَتَعَبَّدُ
فَيَجِبُ أَدَاءُ كُلٍّ مِنَ الْخَمْسِ فِي وَقْتِهَا وَلا يَجُوزُ تَقْدِيـمُهَا عَلَى وَقْتِهَا أَيْ فِعْلُهَا قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا وَلا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا بِلا عُذْرٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [سُورَةَ الْمَاعُون]، وَالْمُرَادُ بِالسَّهْوِ عَنِ الصَّلاةِ تَأْخِيرُ الصَّلاةِ عَنْ وَقْتِهَا حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلاةِ الأُخْرَى فَتَوَعَّدَ اللَّهُ مَنْ يُخْرِجُهَا عَنْ وَقْتِهَا بِالْوَيْلِ وَهُوَ الْهَلاكُ الشَّدِيدُ. وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ [فِي صَحِيحِهِ] فِي وَعِيدِ تَارِكِ الصَّلاةِ أَنَّهُ لا نُورَ لَهُ وَلا نَجَاةَ وَلا بُرْهَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَنَّهُ يَكُونُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ وَأُبَيِّ بنِ خَلَفٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَتَارِكُهَا كَسَلًا لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنَ الإِسْلامِ بَلْ هُوَ مُسْلِمٌ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مَنْ أَتَى بِهِنَّ بِتَمَامِهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ»، فَمَا وَرَدَ مِنَ الْحَدِيثِ مِمَّا ظَاهِرُهُ تَكْفِيرُ تَارِكِ الصَّلاةِ فَهُوَ مُؤَوَّلٌ وَذَلِكَ كَحَدِيثِ «بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ»، فَلَيْسَ مُرَادُ النَّبِيِّ أَنَّ الإِنْسَانَ بِمُجَرَّدِ تَرْكِ الصَّلاةِ يَصِيرُ كَافِرًا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ يُشْبِهُ الْكَافِرَ وَذَلِكَ تَعْبِيرٌ عَنْ عُظْمِ ذَنْبِهِ حَيْثُ شَبَّهَهُ بِالْكَافِرِ الَّذِي لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكِلا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ الأَوَّلُ رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ [فِي مُسْنَدِهِ] وَالثَّانِي رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ].
وَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»، يَعْنِي بِهِ أَنَّ الْكَافِرَ لا يُقَالُ لَهُ صَلِّ وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ أَسْلِمْ ثُمَّ صَلِّ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ «بَالِغٍ» أَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ بِحَيْثُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا وَهُوَ دُونَ الْبُلُوغِ وَإِنَّمَا يَجِبُ أَمْرُهُ بِالصَّلاةِ مَتَى مَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ قَمَرِيَّةً. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ «عَاقِلٍ» أَنَّ الْمَجْنُونَ لا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ، وَالْمَجْنُونُ هُوَ مَنْ فَقَدَ عَقْلَهُ فَلا يَدْرِي مَا يَفْعَلُ أَوْ يَقُولُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ «طَاهِرٍ» أَيْ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَيُقَالُ امْرَأَةٌ طَاهِرٌ وَامْرَأَةٌ حَائِضٌ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَيَحْرُمُ تَقْدِيـمُهَا عَلَى وَقْتِهَا وَتَأْخِيرُهَا عَنْهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ.
الشَّرْحُ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ قَدَّمَ الصَّلاةَ عَلَى وَقْتِهَا لا تَصِحُّ صَلاتُهُ وَمَنْ أَخَّرَهَا عَنْهُ عَصَى اللَّهَ بِتَأْخِيرِهِ، وَأَشَدُّ الْمَعْصِيَتَيْنِ مَعْصِيَةُ التَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ وَلا تَقَعُ صَلاتُهُ أَدَاءً وَلا قَضَاءً بَلْ تَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ لِيُوَافِيَ [أَيْ لِيَأْتِيَ] يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ فِي ذِمَّتِهِ، أَمَّا مَنْ أَخَّرَهَا عَنْ وَقْتِهَا أَيْ صَلَّاهَا بَعْدَ تَحَقُّقِ مَعْرِفَةِ دُخُولِ الْوَقْتِ وَخُرُوجِهِ كَانَتْ صَلاتُهُ قَضَاءً وَإِنْ كَانَ عَصَى اللَّهَ بِتَأْخِيرِهِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ بِلا عُذْرٍ، فَمَعْصِيَةُ التَّأْخِيرِ أَخَفُّ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ لِصَاحِبِهَا قَضَاءً، أَمَّا الْمُقَدِّمُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ بِالْمَرَّةِ، وَهَذَا يُقَالُ فِيهِ صَلَّى وَمَا صَلَّى أَيْ صَلَّى صُورَةً وَلَمْ يُصَلِّ حَقِيقَةً.
وَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ «لِغَيْرِ عُذْرٍ» أَخْرَجَ مَا إِذَا كَانَ التَّأْخِيرُ لِعُذْرٍ فَإِنَّهُ لا إِثْمَ فِي ذَلِكَ. وَالْعُذْرُ فِي ذَلِكَ مَا يُبِيحُ الْجَمْعَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِشُرُوطِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي تَقْدِيمِ الْعَصْرِ إِلَى الظُّهْرِ أَوْ تَقْدِيمِ الْعِشَاءِ إِلَى الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ لا إِثْمَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ التَّقْدِيمُ فِي حَالِ السَّفَرِ أَوِ الْمَرَضِ أَوِ الْمَطَرِ لِمَنْ يُصَلِّي جَمَاعَةً فِي مَسْجِدٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ مَعَ الظُّهْرِ وَتَقْدِيمُ الْعِشَاءِ مَعَ الْمَغْرِبِ لِمَشَقَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَسْجِدِ لِلصَّلاةِ الثَّانِيَةِ فِي حَالِ الْمَطَرِ، وَعِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ قَوْلٌ بِجَوَازِ الْجَمْعِ تَقْدِيـمًا وَتَأْخِيرًا لِأَيِّ عُذْرٍ مِنْ أَعْذَارِ تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الإِنْصَافِ [ ].
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ طَرَأَ مَانِعٌ كَحَيْضٍ بَعْدَمَا مَضَى مِنْ وَقْتِهَا مَا يَسَعُهَا وَطُهْرَهَا لِنَحْوِ سَلِسٍ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا.
الشَّرْحُ أَنَّ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهِ الْمَانِعُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ كَأَنْ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِي أَثْنَاءِ وَقْتِ الظُّهْرِ، أَوْ اُصِيبَ شَخْصٌ بِالْجُنُونِ أَوِ الإِغْمَاءِ [اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلِ الإِغْمَاءُ مُسْقِطٌ لِلْقَضَاءِ أَمْ لا] بَعْدَمَا مَضَى مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الصَّلاةِ مَا يَسَعُ الصَّلاةَ مَعَ طُهْرِهَا لِمَنْ لا يُمْكِنُهُ تَقْدِيمُ طُهْرِهِ عَلَى الْوَقْتِ كَسَلِسِ الْبَوْلِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْضِيَهَا بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ أَيْ بَعْدَ ذَهَابِ الْحَيْضِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَائِضِ، وَبَعْدَ زَوَالِ غَيْبُوبَةِ الْعَقْلِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وَمِثْلُ السَّلِسِ فِي هَذَا الْحُكْمِ نَحْوُهُ كَالْمُسْتَحَاضَةِ فَإِنَّ هَذَا لا يَصِحُّ أَنْ يُقَدِّمَ طُهْرَهُ عَلَى الْوَقْتِ بَلْ لا يَصِحُّ طُهْرُهُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لِذَلِكَ لا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَضَى مِنْ وَقْتِ الصَّلاةِ مَا يَسَعُهَا وَطُهْرَهَا قَبْلَ طُرُوءِ الْمَانِعِ. وَالْمَقْصُودُ بِالطُّهْرِ هُنَا الْوُضُوءُ أَوِ التَّيَمُّمُ لِمَنْ كَانَ مَرِيضًا لا يُمْكِنُهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ وَنَحْوَهُ [أَيْ نَحْوَ الْمَرِيضِ كَمَنْ فَقَدَ الْمَاءَ] وَالطُّهْرُ عَنِ النَّجَاسَةِ الَّتِي لا يُعْفَى عَنْهَا وَالِاسْتِنْجَاءُ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَوْ زَالَ الْمَانِعُ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ تَكْبِيرَةٍ لَزِمَتْهُ، وَكَذَا مَا قَبْلَهَا إِنْ جُمِعَتْ مَعَهَا فَيَجِبُ الْعَصْرُ مَعَ الظُّهْرِ إِنْ زَالَ الْمَانِعُ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةٍ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَالْعِشَاءُ مَعَ الْمَغْرِبِ بِإِدْرَاكِ قَدْرِ تَكْبِيرَةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ.
الشَّرْحُ إِنْ زَالَ الْمَانِعُ الّذِي هُوَ الْحَيْضُ أَوِ الْجُنُونُ أَوِ الإِغْمَاءُ وَكَانَ الْقَدْرُ الَّذِي بَقِيَ قَدْرَ مَا يَسَعُ تَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ فَقَطْ وَجَبَتْ تِلْكَ الصَّلاةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا إِنْ كَانَتْ تُجْمَعُ مَعَهَا أَيْ فِي السَّفَرِ وَنَحْوِهِ كَأَنْ كَانَتْ تِلْكَ الصَّلاةُ الْعَصْرَ لِأَنَّ الْعَصْرَ تُجْمَعُ فِي السَّفَرِ مَعَ مَا قَبْلَهَا وَهِيَ الظُّهْرُ وَكَذَلِكَ الْعِشَاءُ لِأَنَّهَا تُجْمَعُ مَعَ مَا قَبْلَهَا وَهِيَ الْمَغْرِبُ.
وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الْعَصْرِ بِمَا يَسَعُ قَدْرَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ ثُمَّ امْتَدَّتِ السَّلامَةُ مِنَ الْمَانِعِ قَدْرَ مَا يَسَعُ تِلْكَ الصَّلاةَ أَيِ الْعَصْرَ وَيَسَعُ الظُّهْرَ وَالْمَغْرِبَ لَزِمَتْهُ كُلُّهَا، وَإِذَا امْتَدَّتْ قَدْرًا يَسَعُ الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ فَقَطْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ، وَأَمَّا لَوِ امْتَدَّتِ السَّلامَةُ مَا يَسَعُ قَدْرَ الْمَغْرِبِ وَلا يَسَعُ صَلاةَ الْعَصْرِ لَزِمَتْهُ صَلاةُ الْمَغْرِبِ وَلا تَلْزَمُهُ صَلاةُ الْعَصْرِ، أَمَّا لَوْ بَلَغَ ثُمَّ جُنَّ قَبْلَ مَا يَسَعُ ذَلِكَ فَلا يَجِبُ الْقَضَاءُ.
فَائِدَةٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْئَلَةِ مَا إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَ أَنْ صَلَّى فِي الْوَقْتِ فِي أَثْنَائِهِ هَلْ يُعِيدُ أَمْ لا فَذَهَبَ كَثِيرُونَ إِلَى أَنَّهُ لا يُعِيدُ وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى وُجُوبِ الإِعَادَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَلا يُعْرَفُ فِيهِ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (فَصْلٌ): يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ الْمُمَيِّزَيْنِ أَنْ يَأْمُرَهُمَا بِالصَّلاةِ وَيُعَلَّمَهُمَا أَحْكَامَهَا بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ.
الشَّرْحُ هَذَا الْفَصْلُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الصِّبْيَانِ وَالصَّبِيَّاتِ عَلَى الأَبِ وَالأُمِّ [الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ دَاخِلانِ تَحْتَ قَوْلِنَا: «الأَبِ وَالأُمِّ»، فَإِذَا اجْتَمَعَ الأَبُ وَالأُمُّ وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ فَقَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ كَفَى، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ وَجَبَ عَلَى الآخَرِ، وَإِنْ تَرَكَ الْكُلُّ أَثِمُوا كُلُّهُمْ] وَكَذَا الْوَصِيُّ [الَّذِي يُوصِيهِ الأَبُ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ ابْنِهِ وَالتَّصَرُّفِ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. يَقُولُ إِذَا مِتُّ فَفُلانٌ وَصِيٌّ عَلَى أَوْلادِي يَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ فَإِنْ كَانَ دَيِّنًا يَقُومُ مَقَامَ الأَبِ، يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِ أَبِيهِمُ الَّتِي تَرَكَهَا لِنَفَقَاتِهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ وَعِلْمِ الْمَعِيشَةِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّلاةِ لِسَبْعٍ وَيَضْرِبُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرَ سِنِينَ] وَالْقَيِّمُ [الْقَيِّمُ هُوَ الَّذِي يُعَيِّنُهُ الْقَاضِي لِلنَّظَرِ فِي أَمْرِ الْيَتِيمِ] وَمَالِكُ الْعَبْدِ وَالْمُسْتَعِيرُ لِلْعَبْدِ وَالْمُلْتَقِطُ [إِنْ كَانَ لَقِيطًا فَعَلَى اللاَّقِطِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُسْتَعَارًا فَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ] وَالْحَاكِمُ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنَ الأَبِ وَالأُمِّ وَالْجَدِّ وَالْجَدَّةِ وَلا وُجِدَ الْقَاضِي وَلا الْوَصِيُّ الَّذِي يُوصِيهِ الأَبُ وَلا الْقَيِّمُ يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ أَنْ يَأْمُرَهُمْ. فَإِنْ كَانَ غُلامٌ لَيْسَ تَحْتَ رِعَايَةِ أَبِيهِ وَلا جَدِّهِ وَلا وَصِيٍّ وَلا قَيِّمٍ وَلا قَاضٍ شَرْعِيٍّ وَجَبَ عَلَى مَنْ يَسْكُنُ فِي مَحَلَّتِهِ وَعَلِمَ بِحَالِهِ أَنْ يَأْمُرَهُ عَلَى وَجْهِ الْكِفَايَةِ.
وَإِنَّمَا يَجِبُ الأَمْرُ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ أَيْ بَعْدَ تَمَامِ سَبْعِ سِنِينَ عَلَى الْفَوْرِ إِنْ حَصَلَ التَّمْيِيزُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَفْهَمَ الْخِطَابَ وَيَرُدَّ الْجَوَابَ، فَلَوْ سُئِلَ رَمَضَانُ كَمْ مَرَّةً يَأْتِي فِي الْعَامِ وَكَمْ شَهْرًا السَّنَةُ وَكَمْ يَوْمًا الأُسْبُوعُ وَفِي أَيِّ جِهَةٍ الْقِبْلَةُ مَثَلًا يَعْرِفُ الإِجَابَةَ. وَبَعْضُهُمْ فَسَّرَ التَّمْيِيزَ بِالاِسْتِقْلالِ بِالأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالِاسْتِنْجَاءِ. وَيَكُونُ الأَمْرُ بِالصَّلاةِ بَعْدَ تَعْلِيمِ أَحْكَامِهَا وَأُمُورِهَا فَإِنَّ تَعْلِيمَهُمَا أُمُورَهَا بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ وَاجِبٌ، وَيَكُونُ الأَمْرُ بِتَشْدِيدٍ لَيْسَ بِطَرِيقَةٍ لا تُشْعِرُهُمَا بِأَهَمِيَّةِ أَدَاءِ فَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ.
وَلَوْ مَيَّزَ الْوَلَدُ قَبْلَ سَبْعِ سِنِينَ لا يَجِبُ أَمْرُهُ بِالصَّلاةِ وَلَكِنْ أَمْرُهُ بِذَلِكَ أَحْسَنُ، وَأَمَّا قَبْلَ التَّمْيِيزِ فَلا يُقَالُ لَهُ «صَلِّ» إِنَّمَا يُقَالُ لَهُ «انْظُرْ كَيْفَ الصَّلاةُ».
ثُمَّ فِي أُمُورِ الشَّرْعِ الأَشْهُرُ وَالسُّنُونَ الْقَمَرِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الأَحْكَامُ. فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ الأَهِلَّةِ لِتَطْبِيقِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْعِدَّةِ الَّتِي يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى تَرَائِي الْهِلالِ. فِي الْمَاضِي كَانَتِ الْحُكُومَاتُ هِيَ تُرَاعِي هَذِهِ الأَشْيَاءَ فَكَانُوا يَتَرَاءَوْنَ الْهِلالَ كُلَّ شَهْرٍ حِفْظًا لِهَذِهِ الأَحْكَامِ وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ.
وَالصَّبِيُّ يُؤْمَرُ بِالْقَضَاءِ كَمَا يُؤْمَرُ بِالأَدَاءِ، وَكَذَلِكَ يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ إِنْ كَانَ يُطِيقُهُ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَضْرِبَهُمَا عَلَى تَرْكِهَا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ كَصَوْمٍ أَطَاقَاهُ.
الشَّرْحُ يَجِبُ عَلَى الأَبِ وَالأُمِّ ضَرْبُ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ عَلَى تَرْكِ الصَّلاةِ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ [فِي سُنَنِهِ].
وَفِي حَوَاشِي الرَّوْضَةِ لِلْبُلْقِينِيِّ: «فَائِدَةٌ بَلْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بِبُلُوغِ سَبْعِ سِنِينَ لِحَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بنِ الرَّبِيعِ بنِ سَبُرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ إِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَفِيهَا «إِذَا بَلَغَ أَوْلادُكُمْ سَبْعَ سِنِينَ فَفَرِّقُوا بَيْنَ فُرُشِهِمْ». وَعُمْدَةُ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ حَدِيثُ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَلَفْظُهُ مُحْتَمِلٌ وَالتَّرْجَمَةُ [أَيْ هَذَا الإِسْنَادُ] مُتَكَلَّمٌ فِيهَا وَالشَّافِعِيُّ لا يَحْتَجُّ بِهَا كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ» اهـ.
فَالشَّافِعِيُّ لا يَعْتَبِرُ أَحَادِيثَ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ صَحِيحَةً وَقَدْ أَجَادَ الْبُلْقِينِيُّ فِي هَذَا فَالتَّفْرِيقُ فِي الْمَضَاجِعِ يَكُونُ مِنْ بُلُوغِ سَبْعِ سِنِينَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الأُخْرَى يَجِبُ بَعْدَ عَشْرٍ لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ حَدِيثُ سَبْعِ سِنِينَ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ أَبُو زُرْعَةَ الْعِرَاقِيُّ فِي كِتَابِهِ الأَجْوِبَةُ الْمَرْضِيَّةُ مَا نَصُّهُ: «مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ أَمَرَ زَوْجَتَهُ بِالصَّلاةِ فَامْتَنَعَتْ وَأَصَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ تَكَاسُلًا فَهَلْ يَلْحَقُهُ إِثْمُهَا بِالإِصْرَارِ وَهَلْ يَلْزَمُهُ طَلاقُهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَكَذَلِكَ الأَوْلادُ وَالْخَدَمُ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ هَلْ يَلْحَقُهُ شَىْءٌ مِنْهُمْ فِي الآخِرَةِ؟ فَأَجَبْتُ: إِذَا أَمَرَ بِالصَّلاةِ وَزَجَرَ عَنْ تَرْكِهَا وَتَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ فَعَلَ مَا أَمْكَنَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِثْمٌ إِذَا لَمْ يَفْعَلُوا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [سُورَةَ طَه/132] فَلَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ تَعَالَى بِسِوَى الأَمْرِ، قَالَ تَعَالَى ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/82]. وَيَنْبَغِي عِنْدَ الإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ هِجْرَانُهُمْ إِلَّا لِضَرُورَةٍ شَدِيدَةٍ. وَطَلاقُ الْمُصِرَّةِ عَلَى تَرْكِ الصَّلاةِ أَرْجَحُ مِنَ الْمُقَامِ مَعَهَا فَإِنَّهَا كَافِرَةٌ عِنْدَ مَنْ يُكَفِّرُ بِتَرْكِ الصَّلاةِ وَفَاسِقَةٌ مُرْتَكِبَةٌ إِثْمًا عَظِيمًا عِنْدَ مَنْ لا يُكَفِّرُ بِذَلِكَ لَكِنْ يُوجِبُ الْقَتْلَ بِهِ وَكَذَا عِنْدَ مَنْ لا يُوجِبُ إِلَّا التَّعْزِيرَ، وَلَكِنَّهُ لَوْ لَمْ يُطَلِّقْ لَمْ يَكُنْ مَأْثُومًا بَعْدَ الْقِيَامِ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الأَمْرِ وَالزَّجْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ» انْتَهَى كَلامُ الْعِرَاقِيِّ.
فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا عَدَمُ وُجُوبِ ضَرْبِ الزَّوْجَةِ عَلَى تَرْكِ الصَّلاةِ كَمَا يَجِبُ ضَرْبُ الصَّبِيِّ الَّذِي بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ.
وَالصِّيَامُ الَّذِي يُطِيقُهُ الصَّبِيُّ وَالصَّبِيَّةُ كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ وَمَنْ ذُكِرَ الأَمْرُ بِهِ لِسَبْعٍ وَضَرْبُهُمَا عَلَيْهِ بَعْدَ إِكْمَالِ عَشْرِ سِنِينَ، وَالْعِبْرَةُ بِالسِّنِينَ الْقَمَرِيَّةِ لا بِالسِّنِينَ الشَّمْسِيَّةِ، أَمَّا إِنْ كَانَا لا يُطِيقَانِ الصِّيَامَ فَلا يَجِبُ الأَمْرُ بِالصِّيَامِ.
وَهَذَا الضَّرْبُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَرِّحٍ أَيْ غَيْرَ مُؤَدٍّ إِلَى الْهَلاكِ لِأَنَّ الضَّرْبَ الْمُؤَدِّيَ لِلْهَلاكِ حَرَامٌ عَلَى الْوَلِيِّ وَكَذَا الزَّوْجُ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّوْجَةِ النَّاشِزَةِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا تَعْلِيمُهُمَا مِنَ الْعَقَائِدِ وَالأَحْكَامِ يَجِبُ كَذَا وَيَحْرُمُ كَذَا وَمَشْرُوعِيَّةَ السِّوَاكِ وَالْجَمَاعَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ حِفْظِ الْعِلْمِ: الْوَلَدُ إِنْ صَارَ مُمَيِّزًا فَإِنَّ أَوَّلَ مَا يُعَلَّمُ شَىْءٌ فِي الْعَقِيدَةِ ثُمَّ شَىْءٌ فِي الطَّهَارَةِ ثُمَّ شَىْءٌ مِنَ الْقُرْءَانِ.
الشَّرْحُ أَنَّ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى الأَبَوَيْنِ نَحْوَ أَوْلادِهِمَا تَعْلِيمَ الصَّبِيِّ وَالصَّبِيَّةِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ أَيْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ مِنْ وُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقِدَمِهِ وَبَقَائِهِ وَقِيَامِهِ بِنَفْسِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِلْحَوَادِثِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ أَيْ أَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ لا يُشْبِهُ الضَّوْءَ وَالظَّلامَ وَالإِنْسَانَ وَالنَّبَاتَ وَالْجَمَادَاتِ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِهَا وَأَنَّهُ لَيْسَ جِسْمًا، وَأَنَّ لِلَّهِ قُدْرَةً وَإِرَادَةً وَسَمعًا وَبَصَرًا وَعِلْمًا وَحَيَاةً وَكَلامًا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَأَنَّهُ خَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُ عَرَبِيٌّ وَأَنَّهُ وُلِدَ بِمَكَّةَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ أَنْبِيَاءَ أَوَّلُهُمْ ءَادَمُ وَأَنَّهُ أَنْزَلَ كُتُبًا عَلَى الأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً وَأَنَّهُ سَيُفْنِي الْجِنَّ وَالإِنْسَ وَالْمَلائِكَةَ وَكُلَّ ذِي رُوحٍ ثُمَّ يُعَادُونَ إِلَى الْحَيَاةِ، وَأَنَّ الْجِنَّ وَالإِنْسَ يُجْزَوْنَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَعَلَى سَيِّئَاتِهِمْ بِالْعَذَابِ الأَلِيمِ، وَأَنَّ الْكَافِرَ حَرَامٌ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ وَأَنَّ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَافِرٌ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ دَارًا يَتَنَعَّمُونَ فِيهَا تُسَمَّى الْجَنَّةَ وَلِلْكَافِرِينَ دَارًا تُسَمَّى جَهَنَّمَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُهُمْ حُرْمَةَ السَّرِقَةِ وَالْكَذِبِ وَلَوْ مَزْحًا وَالزِّنَى وَهُوَ إِدْخَالُ الذَّكَرِ فِي فَرْجِ الْمَرْأَةِ غَيْرِ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ، وَاللِّوَاطِ وَهُوَ إِدْخَالُ الذَّكَرِ فِي الدُّبُرِ أَيْ دُبُرِ غَيْرِ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ [وَجِمَاعُ الزَّوْجَةِ فِي دُبُرِهَا حَرَامٌ لَكِنْ لا يُسَمَّى لِوَاطًا]، وَتَعْلِيمُهُمْ حُرْمَةَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَضَرْبِ الْمُسْلِمِ ظُلْمًا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الظَّاهِرَةِ.
وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُهُمْ أَنَّ اسْتِعْمَالَ السِّوَاكِ سُنَّةٌ، وَأَنَّ صَلاةَ الْجَمَاعَةِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ عَلَى وُلاةِ الأَمْرِ قَتْلُ تَارِكِ الصَّلاةِ كَسَلًا إِنْ لَمْ يَتُبْ.
الشَّرْحُ يَجِبُ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وَالسُّلْطَانِ الَّذِي وَلَّاهُ الإِمَامُ [السُّلْطَانُ فَوْقَ الأَمِيرِ، وَالْخَلِيفَةُ فَوْقَ السُّلْطَانِ] وَالْقَاضِي أَنْ يَقْتُلَ تَارِكَ الصَّلاةِ كَسَلًا بَعْدَ إِنْذَارِهِ أَنَّهُ إِنْ تَرَكَ الظُّهْرَ مَثَلًا إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ يَقْتُلُهُ فَإِذَا لَمْ يُصَلِّهَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ [وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الصَّلاةُ الثَّانِيَةُ تُجْمَعُ مَعَهَا لِلْعُذْرِ فَإِذَا مَضَى وَقْتُ الصَّلاةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يُصَلِّهَا قَضَاءً يُقْتَلُ وَإِلَّا فَإِلَى انْقِضَاءِ وَقْتِهَا هِيَ، فَفِي الصُّبْحِ يُقْتَلُ بَعْدَ تَوَعُّدِهِ عَلَى تَرْكِهَا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِالْقَضَاءِ]، وَيَكُونُ هَذَا الْقَتْلُ كَفَّارَةً لَهُ أَيْ تَطْهِيرًا لَهُ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ حَيْثُ إِنَّهُ لا يُنْكِرُ فَرْضِيَّةَ الصَّلاةِ. وَأَمَّا تَارِكُهَا جُحُودًا فَهُوَ مُرْتَدٌّ فَيُطَالِبُهُ السُّلْطَانُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الإِسْلامِ فَإِنْ رَجَعَ وَإِلَّا قَتَلَهُ لِكُفْرِهِ لا لِلْحَدِّ.
وَقَوْلُهُ: «إِنْ لَمْ يَتُبْ» أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ إِنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ تُرِكَ مِنَ الْقَتْلِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَحُكْمُهُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ.
الشَّرْحُ أَنَّ الَّذِي يَتْرُكُ الصَّلاةَ كَسَلًا إِذَا قَتَلَهُ الإِمَامُ أَوْ مَنْ وَلَّاهُ حَدًّا لِتَطْهِيرِهِ يُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ، فَيَجِبُ تَجْهِيزُهُ بِالْغَسْلِ وَالتَّكْفِينِ وَالصَّلاةِ عَلَيْهِ وَالدَّفْنِ، وَلا يَجُوزُ قَتْلُهُ لِغَيْرِ الإِمَامِ وَمَنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الإِمَامُ الأَمْرَ. وَمَعْنَى يُقْتَلُ حَدًّا لِتَطْهِيرِهِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُهُ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ الَّذِي أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِيهِ. وَهَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ الْحُدُودِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ «الْحُدودُ كَفَّارَاتٌ».
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَمْرُ أَهْلِهِ بِالصَّلاةِ.
الشَّرْحُ الْمُرَادُ بِهَذَا الْوُجُوبُ الْكِفَائِيُّ، وَبِالأَهْلِ أَوْلادُهُ وَزَوْجَتُهُ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ فَهَذَا إِنْ كَانَ عَالِمًا بِنَفْسِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أَوْ يُمَكِّنَهُمْ مِنَ التَّعَلُّمِ عِنْدَ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ عِنْدَئِذٍ مَنْعُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ لِلتَّعَلُّمِ، حَتَّى الزَّوْجَةُ لا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ لِلتَّعَلُّمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ عَالِمًا بِذَلِكَ أَوْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ لَكِنَّهُ أَهْمَلَ التَّعْلِيمَ وَلَمْ يَأْتِهَا بِمَنْ يُعَلِّمُهَا. وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [سُورَةَ التَّحْرِيم/6]، قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: «عَلِّمُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمُ الْخَيْرَ» أَيْ أُمُورَ الدِّينِ -رَوَاهُ الْحَاكِمُ [فِي الْمُسْتَدْرَكِ] – فَمَنْ تَعَلَّمَ لِنَفْسِهِ ضَرُورِيَّاتِ عِلْمِ الدِّينِ وَعَلَّمَ أَهْلَهُ فَقَدْ حَفِظَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِمْ.
الشَّرْحُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمَةِ الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ صَلاةٍ وَصِيَامٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، مَعَ تَعْلِيمِ مَنْ يُسْتَطَاعُ تَعْلِيمُهُ أَحْكَامَهَا الضَّرُورِيَّةَ إِنْ كَانُوا لا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وُجُوبًا كِفَائِيًا فِي حَقِّ غَيْرِ أَهْلِهِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ.
فَرَائِضُ الْوُضُوءِ
تَرْجَمَةٌ فِي فَضْلِ الْوُضُوءِ
رَوَى مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ] مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ خَرَجَتْ مِنْهُ خَطَايَاهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظَافِرِهِ»
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ [فِي صَحِيحِهِ] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ تَوَضَّأَ كَمَا أُمِرَ وَصَلَّى كَمَا أُمِرَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
فَالْوُضُوءُ فِيهِ فَائِدَةٌ كَبِيرَةٌ لِمَنْ أَحْسَنَهُ أَيْ لِمَنْ أَتْقَنَهُ أَيْ تَوَضَّأَ وُضُوءًا يُوَافِقُ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ أَوَّلُ مَقَاصِدِ الطَّهَارَةِ، فُرِضَ عِنْدَمَا فُرِضَتِ الصَّلاةُ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ بَلْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ فَإِنَّهُمَا مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ، لِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ]، أَيْ أَنَّهُمْ بِإِطَالَةِ الْغُرَّةِ أَيْ زِيَادَةِ شَىْءٍ مِمَّا حَوْلَ الْوَجْهِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ فِي وُضُوئِهِمْ، وَزِيَادَةِ شَىْءٍ مِمَّا فَوْقَ الْمِرْفَقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ فِي غَسْلِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ تُنَوَّرُ لَهُمْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَعْرِفُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مِنْ أُمَّتِهِ بِهَذِهِ الْعَلامَةِ. وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ فَمَنْ فَقَدَ الْمَاءَ قَبْلَ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الأُمَمِ مَا كَانَ يَتَيَمَّمُ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (فَصْلٌ): وَمِنْ شُرُوطِ الصَّلاةِ الْوُضُوءُ.
الشَّرْحُ وَالشَّرْطُ فِي اصْطِلاحِ الْفُقَهَاءِ غَيْرُ الرُّكْنِ وَهُوَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الشَّىْءِ وَلَيْسَ جُزْءًا مِنْهُ كَالطَّهَارَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلاةِ، وَأَمَّا الرُّكْنُ فَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الشَّىْءِ وَيَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الشَّىْءِ عَلَيْهِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفُرُوضُهُ سِتَّةٌ.
الشَّرْحُ أَنَّ فُرُوضَ الْوُضُوءِ سِتَّةٌ، أَرْبَعَةٌ عُرِفَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاثْنَانِ بِالسُّنَّةِ، فَغَسْلُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ هَذِهِ الأَرْبَعَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا النِّيَّةُ وَالتَّرْتِيبُ فَبِالْحَدِيثِ. أَمَّا حَدِيثُ النِّيَّةِ فَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ] وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا التَّرْتِيبُ فَبِحَدِيثِ «إِبْدَأُوا بِمَا بَدأَ اللَّهُ بِهِ» [أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ]، فَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ وَارِدًا فِي السَّعْيِ لِلْبَدْءِ بِالصَّفَا فَإِنَّهُ عَامُّ الْمَعْنَى لَهُ وَلِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الأَوَّلُ: نِيَّةُ الطَّهَارَةِ لِلصَّلاةِ، أَوْ غَيْرُهَا مِنَ النِّيَّاتِ الْمُجْزِئَةِ عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ أَيْ مُقْتَرِنَةً بِغَسْلِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَتَكْفِي النِّيَّةُ إِنْ تَقَدَّمَتْ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ بِقَلِيلٍ عِنْدَ مَالِكٍ.
الشَّرْحُ الْفَرْضُ الأَوَّلُ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ النِّيَّةُ وَلا بُدَّ فِيهِ لِصِحَّتِهِ مِنْ نِيَّةٍ مُجْزِئَةٍ كَأَنْ يَنْوِيَ الطَّهَارَةَ لِلصَّلاةِ بِقَلْبِهِ فَلا يَكْفِي التَّلَفُّظُ بِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْضَارِهَا بِقَلْبِهِ، وَيَكْفِي أَنْ يَنْوِيَ فَرْضَ الْوُضُوءِ أَوِ الْوُضُوءَ فَقَطْ، أَوْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ مُفْتَقِرٍ إِلَى وُضُوءٍ كَأَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاةِ أَوِ اسْتِبَاحَةَ مَسِّ الْمُصْحَفِ، فَمَنْ تَوَضَّأَ بِنِيَّةِ شَىْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ اسْتَبَاحَ الصَّلاةَ وَغَيْرَهَا أَيْ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى الطَّهَارَةِ. وَلا تُجْزِئُ نِيَّةُ اسْتِبَاحَةِ مَا تُسْتَحَبُّ لَهُ الطَّهَارَةُ كَقِرَاءَةِ الْقُرْءَانِ، فَمَنْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ قِرَاءَةِ الْقُرْءَانِ لَمْ تُجْزِئْ نِيَّتُهُ، وَكَذَلِكَ تُجْزِئُ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ وَنِيَّةُ الطَّهَارَةِ عَنْهُ إِلَّا لِسَلِسِ الْبَوْلِ أَوْ مُسْتَحَاضَةٍ لِأَنَّ هَذَيْنِ لا يَرْتَفِعُ حَدَثُهُمَا فَلا تُجْزِئُ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ فِيهِمَا فَهُمَا يَنْوِيَانِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاةِ.
وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ النِّيَّةُ فِي مَذْهَبِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ أَيْ مُقْتَرِنَةً بِغَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الْوَجْهِ أَيْ عِنْدَ إِصَابَةِ الْمَاءِ لِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ الْوَجْهِ فَإِذَا قَرَنَ النِّيَّةَ بِأَوَّلِ غَسْلِ الْوَجْهِ كَفَتْ تِلْكَ النِّيَّةُ، فَلَوْ غَسَلَ جُزْءًا مِنْ وَجْهِهِ قَبْلَ هَذِهِ النِّيَّةِ ثُمَّ نَوَى فِي أَثْنَاءِ غَسْلِ الْوَجْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ غَسْلِ ذَلِكَ الْجُزْءِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الثَّانِي غَسْلُ الْوَجْهِ جَمِيعِهِ مِنْ مَنَابِتِ شَعَرِ رَأْسِهِ إِلَى الذَّقَنِ وَمِنَ الأُذُنِ إِلَى الأُذُنِ شَعَرًا وَبَشَرًا لا بَاطِنَ لِحْيَةِ الرَّجُلِ وَعَارِضَيْهِ إِذَا كَثُفَا.
الشَّرْحُ الْفَرْضُ الثَّانِي مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ غَسْلُ الْوَجْهِ جَمِيعِهِ، وَالأَحْسَنُ أَنْ يَبْدَأَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ مِنْ أَعْلاهُ وَالْمُرَادُ بِالْغَسْلِ مَا يَشْمَلُ الِانْغِسَالَ كَأَنْ يَقِفَ الشَّخْصُ تَحْتَ الْمِيزَابِ فَيُصِيبَ الْمَاءُ وَجْهَهُ فَهَذَا يُسَمَّى انْغِسَالًا لا غَسْلًا، وَيَحْصُلُ الْفَرْضُ بِالِانْغِمَاسِ فِي بِرْكَةٍ بِدَلْكٍ وَمِنْ غَيْرِ دَلْكٍ لِأَنَّ الدَّلْكَ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ. وَالْمُرَادُ غَسْلُ ظَاهِرِ الْوَجْهِ فَلا يَجِبُ غَسْلُ بَاطِنِ الْعَيْنِ وَالْفَمِ وَالأَنْفِ. وَحَدُّ الْوَجْهِ مِنْ مَنَابِتِ شَعَرِ الرَّأْسِ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ إِلَى الذَّقَنِ، وَالذَّقَنُ هُوَ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ وَهُمَا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ أَسْفَلَ الأُذُنِ يَجْتَمِعَانِ فِي أَسْفَلِ الْوَجْهِ فَيُسَمَّى مُجْتَمَعُهُمَا الذَّقَنَ هَذَا حَدُّ الْوَجْهِ طُولًا، وَأَمَّا حَدُّهُ عَرْضًا فَهُوَ مِنَ الأُذُنِ إِلَى الأُذُنِ أَيْ مِنْ وَتِدِ الأُذُنِ إِلَى وَتِدِ الأُذُنِ وَلا يَدْخُلُ الْوَتِدُ فِيمَا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَلا يَدْخُلُ الأُذُنَانِ فِي الْوَجْهِ وَلا يَجِبُ غَسْلُهُمَا إِنَّمَا الَّذِي يَجِبُ غَسْلُهُ مَا بَيْنَهُمَا، فَمَا كَانَ ضِمْنَ هَذَا مِنْ شَعَرٍ وَبَشَرٍ أَيْ جِلْدٍ فَغَسْلُهُ فَرْضٌ [قَالَ الْجُوَيْنِيُّ أَيْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَبْدُ الْمَلِكِ: يُمَدُّ خَيْطٌ مِنْ مَنَابِتِ شَعَرِ الرَّأْسِ عَادَةً إِلَى رَأْسِ الأُذُنِ فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا الْخَيْطِ إِلَى جِهَةِ الْوَجْهِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ. وَالْمُرَادُ بِرَأْسِ الأُذُنِ الْجُزْءُ الْمُحَاذِي لِأَعْلَى الْعِذَارِ قَرِيبًا مِنَ الْوَتِدِ]. فَمِمَّا يَجِبُ غَسْلُهُ الْغَمَمُ وَهُوَ الشَّعَرُ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَى الْجَبْهَةِ لِأَنَّ هَذَا خِلافُ غَالِبِ النَّاسِ، قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ لِامْرَأَتِهِ: [الطَّوِيل]
فَلا تَنْكِحِي إِنْ فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا أَغَمَّ الْقَفَا وَالْوَجْهِ لَيْسَ بِأَنْزَعَا
مَعْنَاهُ أَنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي لَهُ شَعَرٌ عَلَى مُؤَخَّرِ عُنُقِهِ وَيَنْزِلُ شَعَرُ رَأْسِهِ إِلَى جَبْهَتِهِ هَذَا لا تَتَزَوَّجِيهِ، وَهَذَا كَانَ مِنْ عَلامَاتِ اللُّؤْمِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنْ يَنْبُتَ الشَّعَرُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالْقَفَا، فَهُمْ يَمْدَحُونَ الَّذِي تَكُونُ جَبْهَتُهُ مَكْشُوفَةً وَاسِعَةً أَيِ الأَنْزَعَ وَيَذُمُّونَ الأَغَمَّ. فَهَذَا الْغَمَمُ يَجِبُ غَسْلُهُ مَعَ الْوَجْهِ لِأَنَّهُ نَبَتَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَلا يَجِبُ غَسْلُ مَا يَنْحَسِرُ عَنْهُ الشَّعَرُ كَالنَّاصِيَةِ فَمَنْ كَانَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ انْحَسَرَ عَنْهُ الشَّعَرُ فَلا يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُهُ مَعَ الْوَجْهِ.
وَمِمَّا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْوَجْهِ مَا يَظْهَرُ مِنْ حُمْرَةِ الشَّفَتَيْنِ عِنْدَ إِطْبَاقِ الْفَمِ بِخِلافِ مَا لا يَظْهَرُ عِنْدَ الإِطْبَاقِ فَإِنَّهُ لا يَجِبُ غَسْلُهُ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ بَاطِنُ لِحْيَةِ الرَّجُلِ الْكَثِيفَةِ وَبَاطِنُ عَارِضَيْهِ أَيْ شَعَرِ الْعَارِضَيْنِ الْكَثِيفِ [أَيِ الشَّعَرِ النَّابِتِ عَلَى الْعَظْمَيْنِ جَانِبَيِ الْوَجْهِ الْمُلْتَقِيَيْنِ فِي أَسْفَلِهِ. فَالْعَارِضَانِ جَانِبَا الْوَجْهِ]، وَالْكَثِيفُ هُوَ مَا لا تُرَى الْبَشَرَةُ مِنْ خِلالِهِ فَإِنْ خَفَّ شَعَرُ اللِّحْيَةِ وَالْعَارِضَيْنِ وَجَبَ غَسْلُ بَاطِنِهِ. قَالَ الْفُقَهَاءُ يَجِبُ غَسْلُ جُزْءٍ مِنْ سَائِرِ جَوَانِبِ الْوَجْهِ لِلتَّحَقُّقِ مِنَ اسْتِيعَابِ الْوَجْهِ [وَهَذَا يَحْصُلُ وَلَوْ بِقَدْرِ قُلامَةِ ظُفْرٍ]
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الثَّالِثُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ وَمَا عَلَيْهِمَا.
الشَّرْحُ أَنَّ الْفَرْضَ الثَّالِثَ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَلَوْ كَانَتْ زَائِدَةً الْتَبَسَتْ بِالأَصْلِيَّةِ [كِلْتَاهُمَا نَبَتَتْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَالْتَبَسَتَا فَلَمْ تُعْرَفِ الْزَائِدَةُ مِنَ الأَصْلِيَّةِ فَيَغْسِلُ كِلَيْهِمَا] مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ وَيُقَالُ الْمَرْفِقَيْنِ وَهُمَا مُجْتَمَعُ عَظْمَيِ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/6] أَيْ مَعَ الْمَرَافِقِ. فَإِذَا تُرِكَ الْمِرْفَقَانِ لَمْ يَصِحَّ الْوُضُوءُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ مِرْفَقَيْهِ وَلا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا قَبْلَهُمَا كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ]. وَلا خِلافَ فِي الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خِلافٌ فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَهُمْ لَوْ تَرَكَ غَسْلَ الْمِرْفَقِ صَحَّ الْوُضُوءُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَدَلِيلُهُمْ ظَاهِرُ الآيَةِ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ الْمَرَافِقُ مَا دَخَلَتْ لِأَنَّ الأَصَحَّ فِي إِلَى عَدَمُ إِدْخَالِ الْغَايَةِ قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ [رَجَزٌ]
وَفِي دُخُولِ الْغَايَةِ الأَصَحُ لا تَدْخُلُ مَعْ إِلَى وَحَتَّى دَخَلا
مَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ أَنَّ عُلَمَاءَ النَّحْوِ اخْتَلَفُوا هَلْ تَدْخُلُ الْغَايَةُ أَيْ مَا بَعْدَ حُرُوفِ الْغَايَةِ كَإِلَى وَحَتَّى مَعَ مَا قَبْلَهَا أَمْ لا تَدْخُلُ فَالأَصَحُّ أَنَّ مَا بَعْدَ إِلَى لا يَدْخُلُ فِي حُكْمِ مَا قَبْلَهَا وَهُنَاكَ قَوْلٌ ءَاخَرُ بِدُخُولِ الْغَايَةِ مَعَ إِلَى أَيْ مَعَ مَا قَبْلَهَا، أَمَّا فِي حَتَّى فَالأَمْرُ بِالْعَكْسِ إِذَا قُلْتَ أَكَلْتُ السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسَهَا فَالرَّأْسُ دَاخِلٌ فِي الْمَأْكُولِ.
فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ شَخْصٌ ذَهَبْتُ مِنْ هُنَا إِلَى الْبَيْتِ فَالِاحْتِمَالُ الأَقْوَى أَنْ لا يَكُونَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ وَهُوَ الِاحْتِمَالُ الأَضْعَفُ أَمَّا لَوْ قَالَ ذَهَبْتُ حَتَّى الْبَيْتَ فَمَعْنَاهُ دَخَلَهُ.
وَنَحْنُ لَوْلا الْحَدِيثُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَؤُلاءِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا.
وَلَوْ قُطِعَ بَعْضُ مَا يَجِبُ غَسْلُهُ وَجَبَ غَسْلُ مَا بَقِيَ.
وَيَجِبُ أَيْضًا غَسْلُ مَا عَلَيْهِمَا مِنْ شَعَرٍ وَلَوْ كَانَ كَثِيفًا طَوِيلًا، وَيَجِبُ غَسْلُ الظُّفْرِ أَيْضًا، وَأَمَّا الْوَسَخُ الَّذِي تَحْتَ الظُّفْرِ قَالَ بَعْضُهُمْ يُعْفَى عَنْهُ فِي الْوُضُوءِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ لا يُعْفَى عَنْهُ.
وَيَجِبُ غَسْلُ الشَّقِّ أَيْ إِذَا كَانَ فِي يَدِهِ شُقُوقٌ يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهَا، أَمَّا الشَّوْكَةُ فَإِنِ اسْتَتَرَتْ وَتَجَاوَزَتِ الْجِلْدَ فَلا يَجِبُ إِخْرَاجُهَا لِغَسْلِ مَوْضِعِهَا، أَمَّا إِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً لَمْ تَسْتَتِرْ فَيُخْرِجُهَا. وَيَكْفِي غَسْلُ قِشْرِ الْجُرْحِ وَلا يَجِبُ رَفْعُهُ وَإِزَالَتُهُ، فَلَوْ أَزَالَهُ بَعْدَ إِتْمَامِ الْوُضُوءِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُ مَا ظَهَرَ.
وَقَوْلُهُ «وَمَا عَلَيْهِمَا» أَيْ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ سِلْعَةٌ يَجِبُ غَسْلُهَا، وَالسِّلْعَةُ قِطْعَةُ لَحْمٍ زَائِدَةٌ نَبَتَتْ عَلَى يَدِهِ [السِّلْعَةُ هِيَ اللَّحْمَةُ الزَّائِدَةُ وَقَدْ تَكُونُ فِي السَّاعِدِ أَوْ فِي الأَصَابِعِ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجِسْمِ].
فَائِدَةٌ.
فِي كِتَابِ «مَوَاهِبُ الْجَلِيلِ عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيل» لِلشَّيْخِ الْحَطَّابِ الْمَالِكِيِّ مَا نَصُّهُ: «لَمَّا تَحَدَّثَ ابْنُ رُشْدٍ عَلَى الْخَاتَمِ فِي رَسْمِ مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ ذَكَرَ فِيمَنْ تَوَضَّأَ وَقَدْ لَصِقَ بِظُفْرِهِ أَوْ بِذِرَاعِهِ الشَّىْءُ الْيَسِيرُ مِنَ الْعَجِينِ أَوِ الْقِيرِ أَوِ الزِّفْتِ قَوْلَيْنِ وَقَالَ: الأَظْهَرُ مِنْهُمَا تَخْفِيفُ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ أَبُو زَيْدِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْعُتْبِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بنُ دِينَارٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ خِلافَ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَقَوْلِ أَشْهَبَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْعُتْبِيَّةِ، قُلْتُ لا خَفَاءَ أَنَّ هَذَا فِي الْيَسِيرِ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَأَمَّا ابْتِدَاءً [أَيْ إِنْ تَعَمَّدَ التَّلَوُّثَ بِهِ] فَلا بُدَّ مِنْ إِزَالَتِهِ وَكَوْنُ ابْنِ رُشْدٍ ذَكَرَ هَذَا الْفَرْعَ عِنْدَ الْكَلامِ عَلَى الْخَاتَمِ مِمَّا يُؤَيِّدُ مَا حَمَلْنَا عَلَيْهِ لَفْظَ الْمُؤَلِّفِ» انْتَهَى. وَالْقِيرُ هُوَ شَىْءٌ أَسْوَدُ يُشْبِهُ الزِّفْتَ تُدْهَنُ بِهِ السُّفُنُ وَفِي هَذَا فُسْحَةٌ لِمَنِ ابْتُلِيَ بِمِهْنَةٍ يُزَاوِلُ فِيهَا الزِّفْتَ وَنَحْوَهُ، فَمَنْ أَرَادَ الْعَمَلَ بِهِ فَلْيُقَلِّدِ الْقَائِلِينَ بِهِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الرَّابِعُ مَسْحُ الرَّأْسِ أَوْ بَعْضِهِ وَلَوْ شَعْرَةً فِي حَدِّهِ.
الشَّرْحُ الْفَرْضُ الرَّابِعُ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَالْوَاجِبُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَسْحُ شَىْءٍ مِنَ شَعَرِ الرَّأْسِ وَلَوْ بَعْضَ شَعْرَةٍ أَوْ جُزْءًا مِنَ الرَّأْسِ لا شَعَرَ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الشَّعَرِ أَنْ يَكُونَ فِي حَدِّ الرَّأْسِ [وَحَدُّ الرَّأْسِ مِنْ مَنْبِتِ الشَّعَرِ غَالِبًا إِلَى النُّقْرَةِ، وَنُقْرَةُ الْقَفَا حُفْرَةٌ فِي ءَاخِرِ الدِّمَاغِ، كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ]، فَلَوْ مَسَحَ الْقَدْرَ الَّذِي يَخْرُجُ عِنْ حَدِّ الرَّأْسِ عِنْدَ مَدِّهِ لِجِهَةِ نُزُولِهِ فَلا يَكْفِي، وَلَوْ وَضَعَ يَدَهُ الْمُبْتَلَّةَ أَوْ خِرْقَةً مُبْتَلَّةً بِالْمَاءِ فَوَصَلَ الْبَلَلُ مِنْهَا إِلَى الرَّأْسِ كَفَى ذَلِكَ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْخَامِسُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ أَوْ مَسْحُ الْخُفِّ إِذَا كَمَلَتْ شُرُوطُهُ.
الشَّرْحُ الْفَرْضُ الْخَامِسُ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ وَمَا عَلَيْهِمَا مِنْ شَعَرٍ وَسِلْعَةٍ وَشُقُوقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا فِي غَيْرِ لابِسِ الْخُفِّ أَمَّا مَنْ لَبِسَ الْخُفَّ الْمُسْتَوْفِيَ لِلشُرُوطِ فَيَكْفِيهِ مَسْحُ الْخُفِّ بَدَلًا عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْخُفُّ طَاهِرًا لا نَحْوَ جِلْدِ مَيْتَةٍ، سَاتِرًا لِمَحَلِّ غَسْلِ الْفَرْضِ مِنَ الْقَدَمَيْنِ، يُمْكِنُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ بِلا نَعْلٍ لِحَاجَاتِ الْمُسَافِرِ عِنْدَ الْحَطِّ وَالتَّرْحَالِ أَيِ الرَّحِيلِ بَعْدَ الِاسْتِرَاحَةِ فِي السَّفَرِ وَنَحْوِهِمَا وَأَنْ يَبْتَدِئَ لُبْسَهُمَا بَعْدَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْخُفُّ مَانِعًا لِنُفُوذِ الْمَاءِ. وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَلا يَكْفِي الْمَسْحُ فَإِنَّ الَّذِي ثَبَتَ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُبُوتًا قَطْعِيًا هُوَ غَسْلُهُمَا أَوِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ، وَلا حُجَّةَ لِلاِكْتِفَاءِ بِالْمَسْحِ عَلَى نَفْسِ الْقَدَمِ بِقِرَاءَةِ ﴿وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/6] بِالْجَرِّ لِأَنَّ هَذَا الْجَرَّ لِلْجِوَارِ أَيْ لِمُجَاوَرَةِ الرُّءُوسِ، فَكَلِمَةُ «أَرْجُلِكُمْ» تُقَدَّرُ عَلَيْهَا فَتْحَةٌ لِأَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ حُكْمًا وَفِي ذَلِكَ تَوْفِيقٌ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ قِرَاءَةِ النَّصْبِ وَقِرَاءَةِ الْجَرِّ الثَّابِتَتَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَجَازَ الإِمَامُ أَحْمَدُ الْمَسْحَ عَلَى الْجَوْرَبِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ لَوْنِ الْجِلْدِ مِنْ تَحْتِهِ وَلَوْ كَانَ لا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْمَاءِ. وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبِ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنْ يَعُمَّ أَغْلَبَ ظَاهِرِ الْقَدَمِ. وَيَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ وَابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ يُحْدِثُ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ فَإِنْ مَسَحَ فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ أَوْ مَسَحَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَقَامَ أَتَمَّ مَسْحَ مُقِيمٍ وَيَبْطُلُ الْمَسْحُ بِثَلاثَةِ أَشْيَاءَ بِخَلْعِهِمَا وَانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ الْخُفُّ عَنْ صَلاحِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ لِضَعْفِهِ أَوْ لِتَخَرُّقِهِ.
فَإِذَا كَانَ الْخُفُّ مُسْتَوْفِيًا لِلشُّرُوطِ كُلِّهَا نَابَ الْمَسْحُ عَنِ الْغَسْلِ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ رُخْصَةٌ، وَيُسَنُّ لِمَنْ وَجَدَ ثِقَلًا فِي نَفْسِهِ لِعَدَمِ إِلْفِهِ أَيْ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ خِلافُ الأَصْلِ وَهُوَ الْغَسْلُ فَهَذَا لِيَكْسِرَ نَفْسَهُ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ حَتَّى يَكُونَ اتَّبَعَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الرَّسُولَ مَسَحَ، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ يُسَنُّ الْمَسْحُ بَدَلَ الْغَسْلِ. أَمَّا فِي الأَصْلِ الْغَسْلُ أَفْضَلُ لَكِنْ مَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ نُفُورًا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ يُسَنُّ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِيُزِيلَ أَثَرَ ذَلِكَ النُّفُورِ.
وَلا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِلْخُفِّ نَعْلٌ يَقِيهِ بَلْ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ الَّذِي يُمْشَى بِهِ فِي الشَّوَارِعِ فِي الطِّينِ لِأَنَّ طِينَ الشَّوَارِعِ الْمُتَنَجِّسَ يُعْفَى عَنْهُ، فَقَدْ رَوَى مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَمْشُونَ فِي الطِّينِ حُفَاةً ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلا يَغْسِلُونَ أَرْجُلَهُمْ».
وَقَدْ يَجِبُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ وَذَلِكَ كَأَنْ يَضِيقَ الْوَقْتُ عَلَى الرَّجُلِ لإِدْرَاكِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بِحَيْثُ يَفُوتُهُ إِنْ غَسَلَ رِجْلَيْهِ وَكَانَ لُبْسُهُ لِلْخُفِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ لِعُذْرٍ إِنْ كَانَ رَجُلًا لِأَنَّ الرَّجُلَ حَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يَلْبَسَ الْخُفَّ وَقْتَ الإِحْرَامِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الأَوَّلِ. كَذَلِكَ إِنْ ضَاقَ وَقْتُ الْفَرِيضَةِ وَاضْطُرَّ لإِنْقَاذِ نَحْوِ غَرِيقٍ [كَأَنْ يَكُونَ يَلْحَقُ الْوَقْتَ إِنْ مَسَحَ وَأَنْقَذَ الْغَرِيقَ. أَيْ إِنْ كَانَتْ تَفُوتُهُ الصَّلاةُ إِنْ لَمْ يَمْسَحْ وَكَانَ وَقْتُ الصَّلاةِ ضَيِّقًا فَلَوِ اشْتَغَلَ بِالْغَسْلِ بَعْدَ إِنْقَاذِ الْغَرِيقِ فَاتَتْهُ الصَّلاةُ]، كَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ يَكْفِيهِ لَوْ مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ وَلا يَكْفِيهِ إِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ فَيَجِبُ الْمَسْحُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَيْضًا.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: السَّادِسُ التَّرْتِيبُ هَكَذَا.
الشَّرْحُ الْفَرْضُ السَّادِسُ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ أَنْ يَبْدَأَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ الْمَقْرُونِ بِالنِّيَّةِ ثُمَّ الْيَدَيْنِ ثُمَّ مَسْحِ الرَّأْسِ ثُمَّ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فَلَوْ تَرَكَ التَّرْتِيبَ بِأَنْ قَدَّمَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى مَا قَبْلَهُ لَمْ يَصِحَّ مَا قَدَّمَهُ، فَلَوْ غَسَلَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ كُلَّهَا فِي لَحْظَةٍ ارْتَفَعَ حَدَثُ الْوَجْهِ فَقَطْ. أَمَّا إِنْ حَصَلَ التَّرْتِيبُ تَقْدِيرًا فَيَكْفِي ذَلِكَ كَأَنْ غَطَسَ فِي مَاءٍ مَعَ النِّيَّةِ فَخَرَجَ وَلَمْ يَمْكُثْ زَمَنًا يُمْكِنُهُ التَّرْتِيبُ الْحَقِيقِيُّ فِيهِ.
