بُغْيَةُ الطَّالِبِ لِمَعْرِفَةِ الْعِلْمِ الدِّينِيِّ الْوَاجِبِ – الطَّبْعَةُ الثَّامِنَةُ 7

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ أَوْ كَانَ يَضُرُّهُ الْمَاءُ تَيَمَّمَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَزَوَالِ النَّجَاسَةِ الَّتِي لا يُعْفَى عَنْهَا.

   الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ فَقَدَ الْمَاءَ بِأَنْ فَقَدَهُ حِسًّا أَوْ مَعْنًى يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، أَمَّا الْفَقْدُ الْحِسِّيُّ فَهُوَ أَنْ لا يَجِدَ الْمَاءَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَجِبُ الطَّلَبُ فِيهِ مِنَ الْمِسَاحَةِ وَذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فِي مَسَافَةٍ تَبْعُدُ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَوْقَ حَدِّ الْقُرْبِ فَإِنَّهُ لا يَجِبُ طَلَبُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَحَدُّ الْقُرْبِ قُدِّرَ بِنَحْوِ نِصْفِ فَرْسَخٍ [نِصْفُ الْفَرْسَخِ عَلَى قَوْلٍ تِسْعَةُ ءَالافِ ذِرَاعٍ بِذِرَاعِ الْيَدِ الْمُعْتَدِلَةِ، وَعَلَى قَوْلٍ ثُلُثُ هَذَا أَيْ ثَلاثَةُ ءَالافِ ذِرَاعٍ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي تَحْدِيدِ الْمِيلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، سِتَّةُ ءَالافِ ذِرَاعٍ. قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: وَالْمِيلُ أَلْفَانِ وَلَكِنْ أَذْرُعُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ].

   أَمَّا مَنْ عَلِمَ وُجُودَهُ أَيْ عَلِمَ بِوُجُودِ الْمَاءِ فِي حَدِّ الْقُرْبِ فَإِنَّهُ يُعَدُّ وَاجِدًا لِلْمَاءِ فَلا يَصِحُ تَيَمُّمُهُ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَتَأَكَّدْ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ أَيْ كَانَ عِنْدَهُ احْتِمَالٌ فَقَطْ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ فِي حَدِّ الْغَوْثِ وَهُوَ الْمَسَافَةُ الَّتِي يُسْمِعُ فِيهَا رُفَقَاءَهُ لَوْ نَادَى، وَقُدِّرَتْ هَذِهِ الْمَسَافَةُ بِثَلاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ مِقْدَارُ شِبْرَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ فَهَذَا يُعَدُّ فَاقِدًا لَهُ.

   وَأَمَّا الْفَقْدُ الْمَعْنَوِيُ فَهُوَ كَأَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ سَبُعٌ أَوْ عَدُوٌّ وَكَأَنْ يَحْتَاجَ الْمَاءَ لِشُرْبِهِ فَيَصِحُّ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ.

   وَأَمَّا مَنْ تَيَمَّمَ بِدُونِ طَلَبٍ فَلا يَصِحُّ تَيَمُّمُهُ لِقُوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/6].

   وَيَجُوزُ لِرَاكِبِ الْبَحْرِ أَنْ يَتَيَمَّمَ إِذَا خَافَ مِنَ الِاسْتِقَاءِ مِنَ الْبَحْرِ الْغَرَقَ وَلا إِعَادَةَ عَلَيْهِ.

   وَأَمَّا الضَّرَرُ الَّذِي يُبِيحُ التَّيَمُّمَ فَهُوَ أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَنْ يَضُرَّهُ فِي جِسْمِهِ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، أَوْ طُولَ مَرَضِهِ، أَوْ حُدُوثَ أَثَرٍ فَاحِشٍ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ [أَيْ مَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمِهْنَةِ] كَتَغَيُّرِ لَوْنٍ أَوِ اسْتِحْشَافٍ أَيْ يُبْسٍ فِي جِلْدِهِ، أَمَّا مُجَرَّدُ الأَلَمِ مِنْ بَرْدِ الْمَاءِ فَلَيْسَ عُذْرًا إِذَا كَانَ لا يُعْقِبُ ضَرَرًا.

   وَلا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ لِلصَّلاةِ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَوْ تَيَمَّمَ لِلظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ سَلِسَ الْبَولِ لا يَصِحُّ لَهُ تَقْدِيمُ طَهَارَتِهِ عَلَى الْوَقْتِ وَالسَّلِسُ الْمَقْصُودُ بِهِ هُوَ الَّذِي يَظَلُّ الْبَوْلُ يَنِزُّ مِنْهُ وَيَأْكُلُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ الْوَقْتِ بِحَيْثُ لا يَجِدُ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرًا يَتَطَهَّرُ فِيهِ وَيُصَلِّي سَالِمًا مِنْ نُزُولِ الْبَوْلِ، وَمِثْلُهُ مَنْ كَانَ يَشْكُو سَلَسَ الرِّيحِ.

   وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ إِنْ كَانَتْ بِبَدَنِهِ فَلَوْ تَيَمَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِسَبَبِ فَقْدِ الْمَاءِ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي عَلَى حَالِهِ.

   وَأَمَّا النَّجَاسَةُ الَّتِي يُعْفَى عَنْهَا فَيَصِحُّ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِهَا كَالدَّمِ الَّذِي يُرَى مِنْ دُمَّلَةٍ أَوْ جُرْحٍ فَهَذَا لا يُؤَثِّرُ بَلْ يَتَيَمَّمُ مَعَ وُجُودِهِ دُونَ أَنْ يَغْسِلَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا مَشَى فِي طِينِ الشَّارِعِ الْمُتَنَجِّسِ بِلا حِذَاءٍ وَلَمْ يَغْسِلْ رِجْلَهُ مِنَ الْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ أَوِ الطِّينِ الْمُتَنَجِّسِ فَتَيَمَّمَ يَكْفِي.

   وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ لِلصَّلاةِ قَبْلَ التَّيَمُّمِ فَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلافِيَّةٌ اشْتَرَطَ ذَلِكَ بَعْضٌ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ بَعْضٌ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ.
   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: بِتُرَابٍ خَالِصٍ طَهُورٍ لَهُ غُبَارٌ.

   الشَّرْحُ أَنَّ التَّيَمُّمَ لا يَصِحُّ إِلَّا بِالتُّرَابِ الَّذِي لَهُ غُبَارٌ، فَالرَّمْلُ لا يَصْلُحُ لِلتَّيَمُّمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ [الْمَقْصُودُ الرَّمْلُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غُبَارٌ أَمَّا الرَّمْلُ الَّذِي لَهُ غُبَارٌ فَيَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِهِ]، أَمَّا فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلاثَةِ الأُخْرَى فَيَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِهِ. فَلا يُجْزِئُ الْحَجَرُ وَيُجْزِئُ عِنْدَ الأَئِمَّةِ الثَّلاثَةِ وَلا يُشْتَرَطُ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنَ الْحِجَارَةِ وَلا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْحَجَرُ جَافًّا فَلَوْ كَانَ مَبْلُولًا صَحَّ التَّيَمُّمُ بِهِ عِنْدَهُمْ وَفِي ذَلِكَ تَيْسِيرٌ وَفُسْحَةٌ فَيَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يُقَلِّدَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ الشَّافِعِيِّ.

   وَالأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/6] فَسَّرَهَا الشَّافِعِيُّ بِالتُّرَابِ الطَّاهِرِ الطَّهُورِ وَفَسَّرَ الأَئِمَّةُ الثَّلاثَةُ الصَّعِيدَ بِوَجْهِ الأَرْضِ وَوَجْهُ الأَرْضِ يَشْمَلُ التُّرَابَ وَالْحَجَرَ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فِي تَفْسِيرِ الصَّعِيدِ بِالتُّرَابِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ].

   وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ التُّرَابُ خَالِصًا مِنْ نَحْوِ الرَّمَادِ، وَأَنْ يَكُونَ طَهُورًا لا مُتَنَجِّسًا بِنَحْوِ بَوْلٍ وَلا مُسْتَعْمَلًا فِي تَيَمُّمٍ بِأَنْ يَكُونَ تَنَاثَرَ مِنَ الْعُضْوِ عِنْدَ التَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ اسْتُعْمِلَ لِلتَّيَمُّمِ بِأَنْ تَنَاثَرَ مِنَ الْوَجْهِ مَثَلًا فَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّيَمُّمِ مَرَّةً ثَانِيَةً.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِي الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ يُرَتِّبُهُمَا بِضَرْبَتَيْنِ بِنِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ فَرْضِ الصَّلاةِ.

   الشَّرْحُ مَحَلُّ التَّيَمُّمِ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ كَالْوُضُوءِ، يُقَدِّمُ مَسْحَ الْوَجْهِ وُجُوبًا عَلَى مَسْحِ الْيَدَيْنِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ النَّقْلُ بِنِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ فَرْضِ الصَّلاةِ، وَالنَّقْلُ مَعْنَاهُ تَحْوِيلُ التُّرَابِ إِلَى الْوَجْهِ، فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ اسْتَبَاحَ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَالْمَنْذُورَةَ وَصَلاةَ الْجِنَازَةِ. وَالنَّقْلُ يَكُونُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِلْوَجْهِ وَمَرَّةً لِلْيَدَيْنِ، وَيَصِحُّ وَلَوْ بِخِرْقَةٍ فَلَوْ وَضَعَ الْخِرْقَةَ عَلَى التُّرَابِ الَّذِي لَهُ غُبَارٌ وَلَمْ يَمَسَّ التُّرَابَ بِيَدِهِ ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ ضَرَبَ ثَانِيَةً وَأَمَرَّهُ عَلَى يَدَيْهِ كَفَى.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعَ النَّقْلِ وَمَسْحِ أَوَّلِ الْوَجْهِ.

   الشَّرْحُ أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقْتَرِنَةً بِالنَّقْلِ أَيْ تَحْوِيلِهِ مِنَ الأَرْضِ أَوْ نَحْوِهَا كَالْهَوَاءِ إِلَى الْعُضْوِ الْمَمْسُوحِ، وَأَنْ تُسْتَدَامَ هَذِهِ النِّيَّةُ إِلَى مَسْحِ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ الْوَجْهِ فَلَوِ انْقَطَعَتْ قَبْلَهُ بَطَلَتْ، وَهَذِهِ الْمَسْئَلَةُ فِيهَا خِلافٌ فَلَوِ انْقَطَعَتِ النِّيَّةُ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْمَسْحِ لَمْ يَضُرَّ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.

   فَلَوْ سَفَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ فَاسْتَقْبَلَهُ بِكَفَّيْهِ ثُمَّ نَوَى وَاسْتَمَرَّتْ هَذِهِ النِّيَّةُ إِلَى وَضْعِهِ عَلَى الْوَجْهِ صَحَّتْ هَذِهِ النِّيَّةُ.

   حَاشِيَةٌ: التُّرَابُ الطَّهُورُ فِي الْمُدُنِ قَدْ لا يَتَيَسَّرُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُوضَعَ فِي الْبَيْتِ حَجَرٌ يُمْسَحُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُذْرِ عَلَى تَقْدِيرِ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ إِنَّ الْحَجَرَ يَقُومُ مَقَامَ التُّرَابِ عِنْدَهُمَا، وَقَدْ يَسْتَصْعِبُ الإِنْسَانُ الْخُرُوجَ إِلَى حَيْثُ يُوجَدُ التُّرَابُ مِنْ أَجْلِ الْبَرْدِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيَعْدِلُ إِلَى تَقْلِيدِ أَحَدِ الْمَذَاهِبِ الأُخْرَى.

   وَمِنْ أَحْكَامِ التَّيَمُّمِ أَنَّ مَنْ تَيَمَّمَ لِفَقْدِ الْمَاءِ فِي مَوْضِعٍ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلاةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْجَبِيرَةُ عَلَى عُضْوِ التَّيَمُّمِ تَجِبُ إِعَادَةُ الصَّلاةِ بَعْدَ إِزَالَتِهَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْجَبِيرَةُ عَلَى عُضْوِ الْوُضُوءِ غَيْرِ عُضْوَيِ التَّيَمُّمِ فَإِنْ كَانَ وَضَعَهَا عَلَى طَهَارَةٍ فَلا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَضَعْهَا عَلَى طَهَارَةٍ يُعِيدُ الصَّلاةَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ أَجْنَبَ الشَّخْصُ وَكَانَ يَضُرُّهُ الْمَاءُ وَلَكِنَّهُ يَسْتَطِيعُ غَسْلَ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ يَتَيَمَّمُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي وَيَتَيَمَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ.

  قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ: وَمَنِ انْتَقَضَ وُضُوؤُهُ حَرُمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالطَّوَافُ وَحَمْلُ الْمُصْحَفِ وَمَسُّهُ وَيُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ الصَّبِيُّ لِلدِّرَاسَةِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الْحَدَثَ الأَصْغَرَ يُحَرِّمُ الصَّلاةَ وَلَوْ صَلاةَ جِنَازَةٍ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ فَاقِدُ الطَّهُورَيْنِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَإِنَّهُ لا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ بَلْ تَجِبُ عَلَى قَوْلٍ وَتَسْقُطُ عَنْهُ عَلَى قَوْلٍ إِلَى أَنْ يَجِدَ أَحَدَ الطَّهُورَيْنِ.

   وَيُحَرِّمُ الْحَدَثُ أَيْضًا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ إِنْ كَانَ طَوَافَ الْفَرْضِ أَوْ طَوَافَ التَّطَوُّعِ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِمَنْزِلَةِ الصَّلاةِ إِلَّا أَنَّهُ يَحِلُّ فِيهِ كَلامُ النَّاسِ.

   وَيُحَرِّمُ أَيْضًا حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَكَذَلِكَ مَا كُتِبَ لِلدِّرَاسَةِ وَلا يُحَرِّمُ مَا كُتِبَ لِحِرْزٍ وَمَا يُعَلَّقُ عَلَى الْجُدْرَانِ مِنَ الْقِطَعِ لِلتَّبَرُّكِ مِثْلُ الْحِرْزِ الَّذِي يُعَلَّقُ عَلَى الصَّدْرِ وَنَحْوِهِ.

   وَكَذَلِكَ يُحَرِّمُ الْحَدَثُ مَسَّ الْمُصْحَفِ أَيْ وَرَقِهِ وَجِلْدِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ وَحَوَاشِيهِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ كَخَوْفِ تَنَجُّسِهِ أَوْ ضَيَاعِهِ مَعَ عَجْزِ الْمَاسِّ عَنِ الطَّهَارَةِ أَوِ اسْتِيدَاعِ مُسْلِمٍ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الصَّبِيُّ فَإِنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ مَسِّهِ وَحَمْلِهِ مَعَ الْحَدَثِ لِغَرَضِ الدِّرَاسَةِ وَالتَّعَلُّمِ فِيهِ لِمَشَقَّةِ دَوَامِ طُهْرِهِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا فَلا يُمَكَّنُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ، فَلا يَحِلُّ حَمْلُ الْخَادِمِ الصَّغِيرِ الْمُصْحَفَ لِسَيِّدِهِ [أَيْ لا يَحِلُّ لِلسَّيِّدِ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ أَمَّا هُوَ فَلَيْسَ مُكَلَّفًا] لِأَنَّ الطِّفْلَ الْمُمَيِّزَ يَحْمِلُ الْمُصْحَفَ لِحَاجَةِ تَعَلُّمِهِ لِنَفْسِهِ أَمَّا لِغَيْرِهِ فَلا يَحْمِلُ.

   وَأَمَّا حَمْلُ تَفْسِيرِ الْقُرْءَانِ فَإِنْ كَانَ التَّفْسِيرُ مَمْزُوجًا بِالْقُرْءَانِ وَلَمْ تَزِدْ حُرُوفُ الْقُرْءَانِ عَلَى حُرُوفِ التَّفْسِيرِ بَلْ حُرُوفُ التَّفْسِيرِ أَكْثَرُ فَيَجُوزُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ حَمْلُهُ، وَكَذَلِكَ الْكِتَابُ الَّذِي فِيهِ ءَايَاتٌ وَأَحَادِيثُ يُسْتَشْهَدُ بِهَا يَجُوزُ حَمْلُهُ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ حَمْلُ الْحِرْزِ الَّذِي فِيهِ ثَلاثُ سُوَرٍ أَوْ أَرْبَعٌ أَوْ ءَايَةُ الْكُرْسِيِّ مَثَلًا. وَيَجُوزُ أَنْ يُدْخَلَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْخَلاءِ وَلَكِنْ يُكْرَهُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحِرْزُ مُشَمَّعًا مَثَلًا فَلا كَرَاهَةَ عِنْدَئِذٍ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ هَذِهِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْءَانِ وَالْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ.

   الشَّرْحُ الْجُنُبُ يَزِيدُ عَلَى الْمُحْدِثِ حُرْمَةَ قِرَاءَةِ الْقُرْءَانِ وَلَوْ حَرْفًا مِنْهُ بِقَصْدِ الْقِرَاءَةِ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ غَيْرِهَا، فَإِنْ قَصَدَ الذِّكْرَ جَازَ لَهُ بِنَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [سُورَةَ الزُّخْرُف/13]، أَمَّا إِنْ قَصَدَ الِاحْتِجَاجَ بِآيَةٍ عَلَى مَسْئَلَةٍ فِي أَثْنَاءِ دَرْسٍ أَوْ مُنَاظَرَةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَيَجُوزُ قِرَاءَةُ الْقُرْءَانِ كُلِّهِ عَلَى الْقَدِيمِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ رَجَّحَهُ عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ فَمَنْ عَمِلَ بِهِ فَلا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا رَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ] وَلَهُ أَجْرٌ بِالْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ.

   وَيَزِيدُ أَيْضًا حُرْمَةَ الْمُكْثِ فِي الْمَسْجِدِ أَوِ التَّرَدُّدِ فِيهِ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنِّي لا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلا جُنُبٍ»، وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ، وَيُخَصُّ مِنْ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْجَنَابَةِ وَوَرَدَ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ حَدِيثٌ فِيهِ اسْتِثْنَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي ثُبُوتِهِ وَالأَكْثَرُونَ لَمْ يُثْبِتُوهُ. وَيُسْتَثْنَى الْكَافِرُ الْجُنُبُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مُكْثُهُ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ لِمَصْلَحَةٍ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ.

   فَائِدَةٌ الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لَمَّا كَانَ فِي الْعِرَاقِ، بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَجَّحَ بَعْضَ مَا فِيهِ عَلَى الْجَدِيدِ لَكِنَّ هَذَا نَادِرٌ جِدًّا، ذَاكَ كَانَ بِاجْتِهَادٍ مُعْتَبَرٍ وَالْجَدِيدُ كَذَلِكَ كَانَ بِاجْتِهَادٍ مُعْتَبَرٍ لَكِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: لا ءَاذَنُ بِأَنْ يُنْسَبَ إِلَيَّ الْقَدِيمُ، وَمَعَ هَذَا رَجَّحَ أَصْحَابُهُ نَحْوَ سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْئَلَةً قَالَهَا الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ عَلَى مَا قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ «إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي»، هَؤُلاءِ الَّذِينَ رَجَّحُوا الْقَدِيمَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَجَدُوا الْقَدِيمَ مُوَافِقًا لِلْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّ عِنْدَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ ظَهَرَ لِلشَّافِعِيِّ صِحَّتُهُ فَرَجَّحُوا الْقَدِيـمَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ هَذَا، وَكَانَ كُلٌّ عَنِ اجْتِهَادٍ أَيِ الْقَدِيمُ وَالْجَدِيدُ لِأَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُسْتَكْمِلًا لِشُرُوطِ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْقَدِيمِ، أَمَّا هَذَانِ اللَّذَانِ ظَهَرَا فِي هَذَا الزَّمَنِ سَيِّد سَابِق وَالْقَرَضَاوِيُّ الْمِصْرِيَّانِ فَإِنَّهُمَا تَعَدَّيَا طَوْرَيْهِمَا وَادَّعَيَا مَا لَيْسَ لَهُمَا فَشَبَّهَا أَنْفُسَهُمَا بِالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ سَيِّد سَابِق أَنَا أَقُولُ قَوْلًا ثُمَّ أَقُولُ خِلافَهُ كَمَا كَانَ الشَّافِعِيُّ لَهُ مَذْهَبٌ قَدِيمٌ وَمَذْهَبٌ جَدِيدٌ وَالثَّانِي يَتَصَرَّفُ عَلَى نَحْوِ هَذَا، وَكِلاهُمَا مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ مِنْ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُمَا لا يُمَيِّزَانِ بَيْنَ كَلامِ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ وَبَيْنَ حَدِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمَا وَأَمْثَالُهُمَا مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَرْتَبَةِ الِاجْتِهَادِ الْقَرَضَاوِيُّ افْتَرَى عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّهُ قَالَ مَنْ ءَاذَى ذِمِيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ اهـ وَهَذَا لا يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ الْقَرَضَاوِيُّ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى الْحَلالُ وَالْحَرَامُ، وَالآخَرُ جَعَلَ هَذَا الْكَلامَ الْمَشْهُورَ السَّاكِتُ عَنِ الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ حَدِيثًا وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلامِ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَاقِ مِنْ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ.

   ثُمَّ ذَاكَ سَيِّد سَابِق مِنْ شِدَّةِ جَهْلِهِ اسْتَدَلَّ لِقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتِ الْكُفْرِ لا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَارِحًا صَدْرَهُ وَنَاوِيًا وَمُعْتَقِدًا وَقَاصِدًا الْخُرُوجَ مِنَ الإِسْلامِ إِلَى غَيْرِهِ بِحَدِيثِ «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الْحَدِيثَ وَارِدٌ فِي الأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ كَالصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ هَذِهِ الأَعْمَالَ لا تَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ أَمَّا خُلُوصُ النِّيَّةِ لَيْسَ شَرْطاً لِلصِّحَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْخَلاصِ مِنْ مَعْصِيَةِ الرِّيَاءِ. وَسَبَبُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ الْهِجْرَةَ حِينَ كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً إِلَى الْمَدِينَةِ وَنِيَّتُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ لَمْ تَكُنْ نِيَّتُهُ الْقِيَامَ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بِلادِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُؤَازِرُوا الرَّسُولَ حَتَّى تَقْوَى الدَّعْوَةُ بِكَثْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَلِذَلِكَ قَالَ الرَّسُولُ «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» وَأَيْنَ هَذَا مِنَ النُّطْقِ بِكَلِمَاتِ الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، هَذَا سَيِّد سَابِق يُوهِمُ مَنْ طَالَعَ كِتَابَهُ فِقْهَ السُّنَّةِ أَنَّهُ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَلَيْسَ لَهُ حَظٌّ مِنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ إِنَّمَا يَعْتَمِدُ عَلَى كِتَابٍ لِلشَّوْكَانِيِّ يَنْقُلُ عِبَارَتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْسُبَهَا إِلَيْهِ فَيُوهِمُ مَنْ يُطَالِعُ كِتَابَهُ أَنَّهُ عَلَى اطِّلاعٍ وَاسِعٍ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، وَكِتَابُ الشَّوْكَانِيِّ هَذَا يُسَمَّى نَيْلَ الأَوْطَارِ وَالشَّوْكَانِيُّ إِنَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى كِتَابِ التَّلْخِيصِ الْحَبِيرِ لِابْنِ حَجَرٍ.

   وَهَذَانِ الرَّجُلانِ سَيِّد سَابِق وَالْقَرَضَاوِيُّ يَحْرُمُ اسْتِفْتَاؤُهُمَا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا فِي دَرَجَةِ الْمُجْتَهِدِ وَلا فِي دَرَجَةِ الْمُفْتِي لِأَنَّ الْمُفْتِيَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِمَسَائِلِ مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِ الأَئِمَّةِ فَمَنْ بَلَغَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ يَجُوزُ اسْتِفْتَاؤُهُ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ مَعَ وُجُودِ صِفَةِ الْعَدَالَةِ فِيهِ وَإِلَّا حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ وَحَرَامٌ عَلَى مَنْ عَلِمَ حَالَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ، هَذَا شَرْطُ الإِفْتِاءِ وَالِاسْتِفْتَاءِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ هَذِهِ وَالصَّوْمُ قَبْلَ الِانْقِطَاعِ وَتَمْكِينُ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ قَبْلَ الْغُسْلِ وَقِيلَ لا يَحْرُمُ إِلَّا الْجِمَاعُ.

   الشَّرْحُ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ يَحْرُم عَلَيْهِمَا مَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ وَتَزِيدَانِ تَحْرِيْمَ الصَّوْمِ قَبْلَ الِانْقِطَاعِ أَمَّا بَعْدَ الِانْقِطَاعِ فَيَحِلُّ لَهُمَا وَلَوْ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَتَزِيدَانِ تَحْرِيْمَ تَمْكِينِ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ أَيْ سَيِّدِ الأَمَةِ الْمَمْلُوكَةِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ بِلا حَائِلٍ أَمَّا بِحَائِلٍ فَيَجُوزُ، وَيُسَمَّى هَذَا مُبَاشَرَةً أَيْضًا، وَالْمُبَاشَرَةُ تَكُونُ بِحَائِلٍ وَبِدُونِ حَائِلٍ فَالَّتِي تَكُونُ بِحَائِلٍ لا تَحْرُمُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاشَرَهَا وَهِيَ حَائِضٌ الْمُرَادُ بِهِ مَسُّ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَوْقَ الْحَائِلِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى مَا ظَنَّهُ بَعْضٌ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ الْجِمَاعُ أَوْ إِلْصَاقُ الْجِسْمِ بِلا حَائِلٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لَهَا تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الْجِمَاعَ فَلا يَجُوزُ لَهَا تَمْكِينُهُ مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ الْغُسْلِ وَهَذَا الْقَوْلُ يَسْتَنِدُ إِلَى حَدِيثِ مُسْلِمٍ [فِي صَحِيحِهِ] «اصْنَعُوا كُلَّ شَىْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ»، وَتَحْرِيْمُ جِمَاعِ الْحَائِضِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ.

   وَأَمَّا الْمُرُورُ فِي الْمَسْجِدِ كَأَنْ كَانَ لِلْمَسْجِدِ بَابَانِ يُدْخَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيُخْرَجُ مِنَ الآخَرِ مِنْ دُونِ تَوَقُّفٍ وَلا تَرَدُّدٍ فَيَجُوزُ إِلَّا أَنْ تَخَافَا تَلْوِيثَهُ بِالدَّمِ، فَإِنْ أَمِنَتَا التَّلْوِيثَ كُرِهَ الْمُرُورُ.

   تَنْبِيهٌ: إِنَّ مِمَّا يَحْرُمُ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وَهِيَ فِي حَالِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ [وَيَقَعُ الطَّلاقُ].

   فائدة قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الأَوْسَطِ مَا نَصُّهُ:

   «بَابُ ذِكْرِ مَسِّ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الْمُصْحَفَ وَالدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ.

   اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَسِّ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ الْمُصْحَفَ فَكَرِهَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعْدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُثْمَانَ أَخْبَرَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ

   قَالَ أَبُو بَكْرٍ – يَعْنِي ابْنَ الْمُنْذِرِ – أَعْلَى مَا احْتَجَّ بِهِ مَنْ كَرِهَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ غَيْرُ الطَّاهِرِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾، وَحَدِيثُ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ لِعَمْرٍو «لا يُمَسُّ الْقُرْءَانُ إِلَّا عَلَى طُهُورٍ» [أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ]. وَرَخَّصَ بَعْضُ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِنَا [وَيَعْنِي بِذَلِكَ الْبَعْضِ بَعْضَ الْمُجْتَهِدِينَ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لا يَعْتَدُّ بِقَوْلِ مُقَلِّدٍ إِلَّا الْمُجْتَهِدَ] لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ فِي مَسِّ الْمُصْحَفِ وَلُبْسِ التَّعْوِيذِ [وَهُوَ الْحِرْزُ أَيْ مَا فِيهِ الْمُعَوِّذَتَانِ وَشِبْهُهُمَا مِمَّا يُعَلَّقُ لِلْحِفْظِ] وَمَسِّ الدَّرَاهِمِ  وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَقَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ الْمَلائِكَةُ، كَذَلِكَ قَالَ أَنَسٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ. انْتَهَى، وَهَؤُلاءِ الْمَذْكُورُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ مُجْتَهِدٌ كَالأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَأَكْثَرُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ.

   رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُعَلِّقُونَ عَلَى أَطْفَالِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا شَيْئًا يُكْتَبُ وَهُوَ «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونَ»، يُعَلِّقُونَهُ عَلَى صُدُورِ الأَطْفَالِ، أَمَّا الْبَالِغُ فَيُعَلِّمُونَهُ حَتَّى يَقُولَهُ أَمَّا عِنْدَ الْوَهَّابِيَّةِ فَهَذَا يَعْتَبِرُونَهُ شِرْكًا، مُجَرَّدُ تَعْلِيقِ الْحِرْزِ يَعْتَبِرُونَهُ كُفْرًا، فِي الْمَدِينَةِ إِذَا رَأَى الْحَرَسُ الَّذِي عِنْدَ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ الْحِرْزَ عَلَى صَدْرِ شَخْصٍ يُحَاوِلُونَ قَطْعَهُ وَيَقُولُونَ شِرْكٌ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ التَّمَائِمَ الَّتِي نَهَى عَنْهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ هَذِهِ الَّتِي يُعَلِّقُهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى صُدُورِهِمْ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ تِلْكَ التَّمَائِمَ إِنَّمَا تِلْكَ خَرَزَاتٌ يُعَلِّقُهَا الْمُشْرِكُونَ عَلَى صُدُورِهِمْ، تِلْكَ سَمَّاهَا الرَّسُولُ شِرْكًا وَلَيْسَ الْقُرْءَانَ وَذِكْرَ اللَّهِ لِأَنَّ تِلْكَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا تَحْفَظُ الشَّخْصَ بِدُونِ مَشِيئَةِ اللَّهِ. فَإِنْ قَالَتِ الْوَهَّابِيَّةُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الرُّقَى وَالتَّمَائِمِ وَالتِّوَلَةِ، فَقُولُوا لَهُمْ هُنَاكَ حَدِيثٌ ءَاخَرُ صَحِيحٌ وَهُوَ «نَهَى عَنِ الرُّقَى وَالتَّمَائِمِ إِلَّا بِالْمُعَوِّذَاتِ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ. 

   هَذَا وَقَدْ ثَبَتَ وَاشْتَهَرَ أَنَّ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ كَتَبَ لِتِلْمِيذِهِ أَبِي بَكْرٍ الْمَرْوَرُّوذِيِّ لَمَّا حُمَّ رُقْعَةً كَتَبَ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/69] الآيَةَ لِيَسْتَشْفِيَ بِهَا مِنَ الْحُمَّى.
   وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي ذِكْرِ حُجَّةِ مَنْ أَجَازَ مَسَّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ: «وَقَوْلُهُ ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ خَبَرٌ بِضَمِّ السِّينِ وَلَوْ كَانَ نَهْيًا لَقَالَ لا يَمَسَّهُ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ قَالَ «الْمُؤْمِنُ لا يَنْجُسُ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ] وَالأَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ الأَوَّلِ. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ إِلَّا رِجْلَيْهِ ثُمَّ أَخَذَ الْمُصْحَفَ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا كَانَا لا يَرَيَانِ بَأْسًا أَنْ تُمَسَّ الدَّرَاهِمُ [أَيِ الَّتِي فِيهَا شَىْءٌ مِنَ الْقُرْءَانِ] عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ يَقُولانِ بِحِلِّ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ لِعَائِشَةَ «أَعْطِينِي الْخُمْرَةَ» [الْخُمْرَةُ بِضَمِّ الْخَاءِ هِيَ السَّجَّادَةُ يَسْجُدُ عَلَيْهَا الْمُصَلِّي] قَالَتْ إِنِّي حَائِضٌ، قَالَ «إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ] وَبِقَوْلِ عَائِشَةَ «كُنْتُ أَغْسِلُ رَأْسَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ وَأَنَا حَائِضٌ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ]. قَالَ فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَائِضَ لا تُنَجِّسُ مَا تَمَسُّ إِذْ لَيْسَ جَمِيعُ بَدَنِهَا بِنَجِسٍ وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ بَدَنَهَا غَيْرُ نَجِسٍ إِلَّا الْفَرْجَ ثَبَتَ أَنَّ التَّنَجُّسَ فِي الْفَرْجِ بِكَوْنِ الدَّمِ فِيهِ وَسَائِرُ الْبَدَنِ طَاهِرٌ» اهـ.

   ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ [الأَوْسَط]:

«ذِكْرُ دُخُولِ الْجُنُبِ الْمَسْجِدَ

   اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي دُخُولِ الْجُنُبِ الْمَسْجِدَ فَكَرِهَتْ – أَيْ حَرَّمَتْ – طَائِفَةٌ ذَلِكَ وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِدِ.

   فَمِمَّنْ رَخَّصَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَمُرَّ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَالَ جَابِرٌ: «كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ جُنُبٌ».

   حَدَّثَنَا عَلِيٌّ أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ جُنُبٌ».

   حَدَّثَنَا عَلِيٌّ أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/43] [هذا الهامش ما قرأ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/43] أَيْ لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ سُكَارَى وَلا جُنُبًا أَيْ وَلا تُصَلُّوا جُنُبًا غَيْرَ عَابِرِي سَبِيلٍ أَيْ جُنُبًا مُقِيمِينَ غَيْرَ مُسَافِرِينَ أَيْ لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ غَيْرُ مُغْتَسِلِينَ حَتَّى تَغْتَسِلُوا إِلَّا أَنْ تَكُونُوا مُسَافِرِينَ عَادمين الماء مُتَيَمِمِينَ، عَبَّرَ عَنِ الْمُتَيَمِّمِ بِالْمُسَافِرِ لِأَنَّ غَالِبَ حَالِهِ عَدَمُ الْمَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ» أَيْ مَوَاضِعَ الصَّلاةِ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ «وَلا جُنُبًا» أَيْ وَلا تَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ إِلَّا مُجْتَازِينَ فِيهِ] قَالَ: «إِلَّا وَأَنْتَ مَارٌّ فِيهِ».

   حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيْمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُرَخِصُّ لِلْجُنُبِ أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِدِ مُجْتَازًا وَلا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ ﴿وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، وَقَالَ عَمْرُو بنُ دِينَارٍ «يَمُرُّ الْجُنُبُ فِي الْمَسْجِدِ»، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: «إِذَا لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا غَيْرَهُ مَرَّ فِيهِ»، وَقَالَ مَالِكٌ: «لا يَدْخُلُ الْجُنُبُ الْمَسْجِدَ إِلَّا عَابِرَ سَبِيلٍ»، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ «تَمُرُّ الْحَائِضُ فِي الْمَسْجِدِ وَلا تَقْعُدُ فِيهِ»، وَقَالَ مَالِكٌ: «الْحَائِضُ لا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ».

   وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: «لا يَمُرُّ الْجُنُبُ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا أَنْ لا يَجِدَ بُدًّا فَيَتَيَمَّمُ وَيَمُرُّ فِيهِ»، وَكَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بنُ رَاهَوَيْه. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ [كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ] فِي الْجُنُبِ الْمُسَافِرِ يَمُرُّ عَلَى مَسْجِدٍ فِيهِ عَيْنُ مَاءٍ: «يَتَيَمَّمُ الصَّعِيدَ وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَسْتَقِي ثُمَّ يُخْرِجُ الْمَاءَ مِنَ الْمَسْجِدِ».

   وَرَخَّصَتْ طَائِفَةٌ لِلْجُنُبِ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَذَهَبَتْ إِلَى أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ مُسَافِرِينَ لا يَجِدُونَ مَاءً فَيَتَيَمَّمُونَ. رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ بنِ مُسْلِمِ بنِ يَنَاقٍ وَقَتَادَةَ.

   حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ مُوسَى عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ ﴿وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ قَالَ: «لا يَقْرَبُ الصَّلاةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ فَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ».

   حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ شَبِيبٍ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ لاحِقِ بنِ حُمَيْدٍ وَهُوَ أَبُو مِجْلَزٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَتَأَوَّلُهَا ﴿وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ يَقُولُ: «أَنْ لا يَقْرَبَ الصَّلاةَ وَهُوَ جُنُبٌ إِلَّا وَهُوَ مُسَافِرُ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ فَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ». وَقَالَ زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ: «كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ يَمْشُونَ وَهُمْ جُنُبٌ فِي الْمَسْجِدِ». وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الْجُنُبِ: «إِذَا تَوَضَّأَ لا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ فِي الْمَسْجِدِ» وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ» انْتَهَى كَلامُ ابْنِ الْمُنْذِرِ رَحِمَهُ اللَّهُ.