حَلُّ أَلْفَاظِ
الْقَوَاعِدِ الَّتِى يُعْرَفُ بِهَا الْكُفْرُ
لِفَضِيلَةِ الشَّيْخِ نَبِيل الشَّرِيف
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ)
أَىْ أَبْتَدِئُ تَأْلِيفِى لِهَذَا الْكِتَابِ بِقَوْلِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَأُثْنِى عَلَى اللَّهِ عَلَى نِعَمِهِ بِقَوْلِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَىِ الْمَالِكِ لِكُلِّ مَا دَخَلَ فِى الْوُجُودِ (لَهُ النِّعْمَةُ) أَىِ الْمَالِكُ لِكُلِّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ (وَلَهُ الْفَضْلُ) أَىِ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ شَىْءٍ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُتَفَضِّلُ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ وَفَّقَهُمْ لِلطَّاعَاتِ وَهُوَ الَّذِى يُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِى الآخِرَةِ (وَلَهُ الثَّنَاءُ) أَىِ الْمُسْتَحِقُّ لِلثَّنَاءِ (الْحَسَنِ وَصَلَوَاتُ اللَّهِ الْبَرِّ) أَىِ الْمُحْسِنِ إِلَى عِبَادِهِ (الرَّحِيمِ) بِهِمْ (وَ)صَلَوَاتُ (الْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ) عِنْدَ اللَّهِ (عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ) أَىْ أَعْظَمِ الأَنْبِيَاءِ قَدْرًا، وَالصَّلاةُ مِنَ اللَّهِ عَلَى النَّبِىِّ تَعْظِيمٌ وَرِفْعَةُ قَدْرٍ أَمَّا مِنَ الْمَلائِكَةِ فَهِىَ دُعَاءٌ لِلنَّبِىِّ فَهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ (وَعَلَى ءَالِهِ) أَىْ أَزْوَاجِهِ وَأَقْرِبَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ (وَصَحَابَتِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ) أَىِ الْمُبَرَّئِينَ مِنَ الشِّرْكِ. والصَّحَابِىُّ هُوَ مَنْ لَقِىَ النَّبِىَّ ﷺ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ مُؤْمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى الإِيمَانِ.
(أَمَّا بَعْدُ) أَىْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ (فَإِنَّ الأَمَانَةَ فِى الْعِلْمِ) أَىْ عِلْمِ الدِّينِ (أَهَمُّ مِنَ الأَمَانَةِ فِى الْمَالِ) لِأَنَّ الْعِلْمَ أَهَمُّ مِنَ الْمَالِ وَضَرَرَ الْخِيَانَةِ فِى الْعِلْمِ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ الْخِيَانَةِ فِى الْمَالِ (فَيَنْبَغِى لِلإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاطًا فِى كَلامِهِ) أَىْ يَنْبَغِى أَنْ يَلْزَمَ جَانِبَ السَّلامَةِ أَىْ أَنْ لا يَتَسَرَّعَ فِى الإِجَابَةِ وَأَنْ لا يُفْتِىَ بِغَيْرِ عِلْمٍ (وَيَنْبَغِى أَنْ يَعْمَلَ بِمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْعِلْمُ ثَلاثَةٌ) أَىْ لا بُدَّ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ مِنْ أُمُورٍ ثَلاثَةٍ (كِتَابٌ نَاطِقٌ وَسُنَّةٌ مَاضِيَةٌ وَلا أَدْرِى. يُرِيدُ بِالْكِتَابِ النَّاطِقِ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى) الْمُبَيِّنَ لِلأَحْكَامِ (وَبِالسُّنَّةِ الْمَاضِيَةِ الْحَدِيثَ) الصَّحِيحَ (الثَّابِتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ) الَّذِى عَمِلَتْ بِهِ الأُمَّةُ (وَبِقَوْلِهِ لا أَدْرِى أَنْ يُجِيبَ بِذَلِكَ حَيْثُ لا يَعْلَمُ) أَىْ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَىْءٍ لا يَعْلَمُهُ أَنْ يَقُولَ لا أَعْلَمُ (وَيَتَجَنَّبَ الْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ).
(وَعَلَيْكُمْ بِفَهْمِ السُّؤَالِ) أَىْ بِفَهْمِ مُرَادِ السَّائِلِ (عَلَى وَجْهِهِ) الصَّحِيحِ (وَعَدَمِ الِاسْتِعْجَالِ فِى الْجَوَابِ قَبْلَ فَهْمِ السُّؤَالِ) لِأَنَّ الْمَسْؤُولَ إِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَاذَا يُرِيدُ السَّائِلُ يُجِيبُهُ عَلَى خِلافِ مُرَادِهِ فَيَظُنُّ السَّائِلُ أَنَّ هَذَا هُوَ جَوَابُ سُؤَالِهِ فَيَعْتَقِدُ الْخَطَأَ وَهُوَ لا يَدْرِى، فَالتَّأَنِّى فِى هَذَا الأَمْرِ مَطْلُوبٌ (كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَفْهِمُونِى مَا تَقُولُونَ وَافْهَمُوا عَنِّى مَا أَقُولُ) لَكُمْ أَىْ حَتَّى لا تَنْقُلوا عَنِّى غَيْرَ مَا قُلْتُ بِسَبَبِ سُوءِ الْفَهْمِ أَوِ الإِفْهَامِ (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ).
(وَعَلَيْكُمْ بِكَلِمَةٍ مَنْ عَمِلَ بِهَا أَحْسَنَ الإِفَادَةَ) أَىْ نَفَعَ نَفْعًا كَبِيرًا (أَلا وَهِىَ زَيْنُ الْعِلْمِ الْحِلْمُ) أَىِ الْحِلْمُ زِينَةُ الْعِلْمِ وَالْحِلْمُ مَعْنَاهُ التَّأَنِّى وَعَدَمُ التَّسَرُّعِ أَىْ مِمَّا يَزِيدُ الْعِلْمَ زِينَةً أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْعَالِمِ حِلْمٌ وَصَبْرٌ.
(وَمِنَ الْمُهِمِّ أَيْضًا التَّفْكِيرُ فِى حَالِ الَّذِى يَدْرُسُ عَلَى الْمُدَرِّسِ) أَىْ يَنْبَغِى لِلْمُدَرِّسِ أَنْ يَنْظُرَ فِى حَالِ الطَّالِبِ وَلا يُكَلِّمُهُ بِمَا لا يَفْهَمُ.
(وَ)يَنْبَغِى لِلْمُدَرِّسِ أَنْ يُرَاعِىَ حَالَ (مَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبَتِهِ) إِذَا كَانَ لَهُ مَجَالِسُ عَامَّةٌ يَحْضُرُهَا مَنْ يَشَاءُ (هَلِ الْعِبَارَةُ الَّتِى يَذْكُرُهَا فِى أَثْنَاءِ دَرْسِهِ يَفْهَمُ الْحَاضِرُونَ مَعْنَاهَا كَمَا يَنْبَغِى أَوْ لا يَفْهَمُونَ مَا يَفْهَمُهُ هُوَ وَيُرِيدُهُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ. قَالَ الإِمَامُ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ) مَعْنَاهُ الطَّالِبُ إِنْ لَمْ يَفْهَمِ الْكَلامَ الَّذِى سَمِعَهُ مِنَ الْمُدَرِّسِ قَدْ يَظُنُّهُ كَلامًا مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ فَيُنْكِرُهُ فَيَرُدُّ حُكْمًا ثَابِتًا فِى شَرْعِ اللَّهِ.
(وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ) وَتُقَالُ لِلْمَدْحِ كَأَنَّهُ يَقُولُ مَا أَحْسَنَ قَوْلَهُ هَذَا
(اعْمَلْ لِنَفْسِكَ صَالِحًا لا تَحْتَفِلْ بِظُهُورِ قِيلٍ فِى الأَنَامِ وَقَـالِ
فَالْخَلْقُ لا يُرْجَى اجْتِمَاعُ قُلُوبِهِمْ لا بُـدَّ مِنْ مُثْنٍ عَلَيْكَ وَقَالِى)
مَعْنَاهُ تَزَوَّدْ لِآخِرَتِكَ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَاسْتَعْمِلْ أَنْفَاسَكَ فِى الْخَيْرِ وَاغْتَنِمْ مَا بَقِىَ مِنَ الْعُمُرِ فِى أَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ وَلا تَهْتَمَّ بِمَا يُقَالُ وَاعْلَمْ أَنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَكْسِبَ رِضَا النَّاسِ جَمِيعًا فَلا بُدَّ أَنْ تَجِدَ قِسْمًا مِنَ النَّاسِ يَمْدَحُكَ وَقِسْمًا يَذُمُّكَ فَإِرْضَاءُ كُلِّ النَّاسِ شِبْهُ مُسْتَحِيلٍ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْعَلامَّةُ الْهَرَرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
(وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ ق ﴿مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ بَيَّنَتِ الآيَةُ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ يَتَلَفَّظُ بِهِ الْمَرْءُ يَكْتُبُهُ الْمَلَكَانِ رَقِيبٌ وَعَتِيدٌ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ خَيْرًا أَمْ شَرًّا أَمْ مُبَاحًا) أَىْ يَكْتُبَانِ الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ وَالْمَكْرُوهَ وَالْمُبَاحَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ لَفْظَ قَوْلٍ فِى سِيَاقِ النَّفْىِ وَالنَّكِرَةُ إِذَا جَاءَتْ فِى سِيَاقِ النَّفْىِ فَهِىَ لِلشُّمُولِ ثُمَّ يُمْحَى الْمَكْرُوهُ وَالْمُبَاحُ وَتَبْقَى الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ.
(وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الإِنْسَانَ يُحَاسَبُ عَلَى نُطْقِهِ فَإِنْ نَطَقَ بِالشَّرِّ جُوزِىَ عَلَيْهِ) أَىِ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ (وَإِنْ نَطَقَ بِالْخَيْرِ كَانَ لَهُ) أَىْ أُثِيبَ عَلَيْهِ كَمَا جَاءَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ إِنَّكَ لا تَزَالُ سَالِمًا مَا سَكَتَّ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ كُتِبَ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ (وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فِى حَالِ الِاخْتِيَارِ) أَىْ (مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ وَعَمْدًا) أَىْ (مِنْ غَيْرِ سَبْقِ لِسَانٍ مَعَ كَوْنِهِ عَاقِلًا) أَىْ (غَيْرَ مَجْنُونٍ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنَ الإِسْلامِ) لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ وَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ﴾ (وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ) مِنَ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ (الْكُفْرَ إِلَى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ كُفْرٌ اعْتِقَادِىٌّ) مَحَلُّهُ الْقَلْبُ كَاعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ قَاعِدٌ فَوْقَ الْعَرْشِ (وَكُفْرٌ فِعْلِىٌّ) يَحْصُلُ بِالْجَوَارِحِ كَالسُّجُودِ لِلشَّيْطَانِ (وَكُفْرٌ لَفْظِىٌّ) يَحْصُلُ بِاللِّسَانِ كَسَبِّ اللَّهِ أَوْ نَبِىٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ (وَوَضَعُوا قَوَاعِدَ يُعْرَفُ بِهَا مَا يُخْرِجُ مِنَ الأَقْوَالِ أَوِ الأَفْعَالِ أَوِ الِاعْتِقَادَاتِ عَنِ الإِسْلامِ) لِيَجْتَنِبَهُ النَّاسُ.
(الْقَاعِدَةُ الأُولَى)
(مَنْ أَنْكَرَ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَىْ مَا عُلِمَ عِلْمًا ظَاهِرًا يَشْتَرِكُ فِى مَعْرِفَتِهِ الْعُلَمَاءُ وَالْعَامَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَفَرَ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُنْكِرُ جَاهِلًا بِأَنَّ كَلامَهُ يُخْرِجُ مِنَ الإِسْلامِ) أَىْ مَنْ أَنْكَرَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ يَشْتَرِكُ فِى مَعْرِفَتِهِ الْعُلَمَاءُ وَالْعَامَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَفَرَ (كَأَنْ قَالَ إِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ حَلالٌ بَعْدَمَا عَرَفَ حُرْمَتَهُ فِى الشَّرْعِ) فَإِنَّهُ يَكْفُرُ (وَإِنْ كَانَ يَجْهَلُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ) أَىْ وَإِنْ كَانَ لا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِإِنْكَارِهِ لِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ فِى الْوُقُوعِ فِى الْكُفْرِ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ أَىْ مَعْرِفَةُ أَنَّ مَا قَالَهُ كُفْرٌ لِأَنَّ النَّبِىَّ ﷺ حَكَمَ عَلَى قَائِلِ الْكَلِمَةِ الْكُفْرِيَّةِ بِالْعَذَابِ فِى قَعْرِ النَّارِ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُ لا يَظُنُّ فِيهَا ضَرَرًا كَمَا جَاءَ فِى حَدِيثِ التِّرْمِذِىِّ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِى بِهَا فِى النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا أَىْ مَسَافَةَ سَبْعِينَ عَامًا فِى النُّزُولِ وَذَلِكَ مُنْتَهَى جَهَنَّمَ أَىْ قَعْرُهَا وَهُوَ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ (لَكِنْ مَنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ أَىْ أَسْلَمَ مِنْ) وَقْتٍ (قَرِيبٍ أَوْ كَانَ يُشْبِهُ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالإِسْلامِ) أَىْ كَانَ مِثْلَهُ (كَأَنْ نَشَأَ فِى بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ) أَىْ نَشَأَ فِى بَلَدٍ بَعِيدٍ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ (أَوْ نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ) لَمْ يُعَلِّمْهُ أَهْلُهُ وَلا غَيْرُهُمْ أُمُورَ الدِّينِ إِلَّا الشَّهَادَتَيْنِ فَأَنْكَرَ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ لِأَنَّهُ (لَمْ يَتَرَدَّدْ عَلَى سَمْعِهِ) هَذَا (الْحُكْمُ الَّذِى أَنْكَرَهُ) كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِوُجُوبِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَأَنْكَرَ وُجُوبَهَا (فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ) أَىْ (بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِوُرُودِ الْحُكْمِ الَّذِى أَنْكَرَهُ فِى دِينِ الإِسْلامِ) لِأَنَّ هَذِهِ الأَحْكَامَ لا تُعْرَفُ إِلَّا بِالنَّقْلِ وَالسَّمَاعِ وَلا تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ. وَ(هَذَا) الْحُكْمُ فِى عَدَمِ تَكْفِيرِهِ فِى حَالِ (إِنْ لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ الَّذِى أَنْكَرَهُ نَحْوَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الشَّبِيهِ وَتَنْزِيهِهِ) عَنِ الْحَجْمِ وَالْكَمِيَّةِ وَالْمِقْدَارِ وَالْحَدِّ وَاللَّوْنِ وَالشَّكْلِ وَالْقُعُودِ وَالْجُلُوسِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَ(عَنِ التَّحَيُّزِ فِى الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ) وَعَنْ كُلِّ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ (وَ)نَحْوَ (تَبْرِئَةِ الأَنْبِيَاءِ مِنَ الْخِيَانَةِ) وَهِىَ ضِدُّ النَّصِيحَةِ وَالرَّذَالَةِ وَهِىَ صِفَاتُ الأَسَافِلِ الدُّونِ مِنَ النَّاسِ كَاخْتِلاسِ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ بِشَهْوَةٍ (وَالسَّفَاهَةِ) وَهِىَ التَّصَرُّفُ بِخِلافِ الْحِكْمَةِ أَوِ التَّلَفُّظُ بِأَلْفَاظٍ شَنِيعَةٍ تَسْتَقْبِحُهَا النَّفْسُ فَإنَّهُ لا يُعْذَرُ أَحَدٌ فِى مِثْلِ هَذَا مَهْمَا بَلَغَ الْجَهْلُ بِصَاحِبِهِ.
(وَأَمَّا مَنْ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى) الْحَجْمَ أَوِ (الْمَكَانَ أَوِ الْجِهَةَ) أَوِ الْقِيَامَ أَوِ الْقُعُودَ (أَوْ) غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ (صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ) أَنْكَرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ الْوَاجِبَةِ لَهُ إِجْمَاعًا كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَلَوْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُرُودِهَا فِى الشَّرْعِ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ تُعْرَفُ بِالْعَقْلِ. وَكَذَا إِنْ (نَسَبَ إِلَى الأَنْبِيَاءِ) الْكُفْرَ أَوِ (الْفُسُوقَ أَوِ الرَّذَالَةَ أَوِ الْخِيَانَةَ أَوِ السَّفَاهَةَ) أَوِ الْكَذِبَ (فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَلَوْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ أَوْ مُتَأَوِّلًا) أَىْ أَخْطَأَ فِى تَفْسِيرِ ءَايَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فَنَسَبَ إِلَى اللَّهِ مَا لا يَلِيقُ بِهِ أَوْ نَسَبَ إِلَى الأَنْبِيَاءِ مَا لا يَلِيقُ بِمَقَامِهِمْ (لِأَنَّ تَجْوِيزَ النَّقَائِصِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى يَنْقُضُ الإِيمَانَ بِاللَّهِ) أَىْ يُبْطِلُهُ (وَتَجْوِيزَ النَّقَائِصِ الآنِفَةِ الذِّكْرِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ يَنْقُضُ الإِيمَانَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ).
(وَأُصُولُ الدِّينِ) أَىِ الْعَقَائِدُ (عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ) يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ (مَنْ خَالَفَهُ) أَوْ شَكَّ فِيهِ (وَلَوْ مَعَ الْجَهْلِ بِوُرُودِهِ فِى الشَّرْعِ لا يَصِحُّ إِيمَانُهُ بِاللَّهِ أَوْ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَذَلِكَ كَتَنَزُّهِ اللَّهِ عَنِ الشَّبِيهِ وَالْمَثِيلِ) وَاعْتِقَادِ وُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقِدَمِهِ أَىْ أَنَّهُ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ وَبَقَائِهِ وَقِيَامِهِ بِنَفْسِهِ أَىْ أَنَّهُ لا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَحَيَاتِهِ وَكَلامِهِ وَاعْتِقَادِ نُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ (وَتَنَزُّهِ الأَنْبِيَاءِ عَنِ) الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَعَنِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ كَالْكَذِبِ وَالْخِسَّةِ وَ(الدَّنَاءَةِ) وَالسَّفَاهَةِ (وَالرَّذَالَةِ فَمَنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ هَذَا الْقِسْمِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالإِسْلامِ أَمْ لا نَشَأَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ لا مُتَأَوِّلًا) لِآيَةِ أَوْ حَدِيثٍ خَطَأً (أَمْ لا).
(وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِى) مِنْ أُصُولِ الِاعْتِقَادِ (فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ أَيْضًا الْقِسْمُ الأَوَّلُ مَا كَانَ مِنَ الأُصُولِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةٍ) أَىْ يَشْتَرِكُ فِى مَعْرِفَتِهِ الْعُلَمَاءُ وَالْعَامَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (كَالإِيمَانِ بِعَذَابِ الْقَبْرِ فَيُكَفَّرُ مُنْكِرُهُ وَالشَّاكُّ فِيهِ وَالثَّانِى مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ) أَىْ لا يَشْتَرِكُ فِى مَعْرِفَتِهِ الْعُلَمَاءُ وَالْعَامَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعَوَامِّ (وَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَالإِيمَانِ بِالْحَوْضِ) الَّذِى يَشْرَبُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبْلَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ (فَلا يُكَفَّرُ مُنْكِرُهُ وَالشَّاكُّ فِيهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ الْعِنَادُ وَالْجُحُودُ) أَىْ مَا لَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُ عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ.
(وَالأَحْكَامُ مِنْ وُجُوبٍ وَمَشْرُوعِيَّةٍ وَكَرَاهَةٍ وَتَحْرِيمٍ وَإِبَاحَةٍ) أَىْ أَنَّ الأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْوَاجِبَ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْمَنْدُوبَ أَىِ الْمَسْنُونَ كَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَالْمَكْرُوهَ كَالأَكْلِ بِالْيَدِ الْيُسْرَى وَالْحَرَامَ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْمُبَاحَ كَشُرْبِ الْحَلِيبِ بَدَلَ الشَّاىِ هَذِهِ الأَحْكَامُ (كُلُّهَا تُعْلَمُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِالشَّرْعِ لا بِالْعَقْلِ وَهِىَ تَنْقَسِمُ كَذَلِكَ إِلَى قِسْمَيْنِ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ) أَىْ مَعْلُومٍ عِنْدَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (وَغَيْرِ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ) أَىْ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ (فَالْقِسْمُ الأَوَّلُ كَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْهُ كَفَرَ) لِأَنَّهُ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِلدِّينِ (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ أَىْ أَسْلَمَ مِنْ وَقْتٍ قَرِيبٍ أَوْ (نَحْوَ حَدِيثِ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ) أَىْ مِثْلَهُ (أَوْ مُتَأَوِّلًا) لِآيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ عَلَى خِلافِ الْمَعْنَى الصَّحِيحِ (تَأَوُّلًا يَدْفَعُ عَنْهُ الْكُفْرَ كَتَأَوُّلِ مَانِعِى الزَّكَاةِ فِى زَمَنِ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْضَ ءَايَاتِ الْقُرْءَانِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهَا) أَىْ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ فَظَنُّوا أَنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِمْ دَفْعُ الزَّكَاةِ بَعْدَ مَوْتِهِ ﷺ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِى أُمِرَ بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ وَبِالصَّلاةِ عَلَيْهِمْ أَىْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ (فَأَنْكَرُوا لِذَلِكَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَإِنَّهُمْ مَعَ خَطَئِهِمْ فِى التَّأْوِيلِ) لِلآيَةِ (دَفَعَ عَنْهُمْ تَأْوِيلُهُمُ الْحُكْمَ بِالتَّكْفِيرِ فَلَمْ يُكَفِّرْهُمُ الصَّحَابَةُ مَعَ أَنَّهُمْ قَاتَلُوهُمْ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ) أَىْ لِامْتِنَاعِهِمْ عَنْ دَفْعِ الزَّكَاةِ (كَمَا قَاتَلُوا الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلامِ).
(وَلا يَدْخُلُ فِى هَذَا الْقِسْمِ مَنْ تَأَوَّلَ بَعْضَ الآيَاتِ أَوِ الأَحَادِيثِ عَلَى غَيْرِ مَعَانِيهَا فَحَمَلَهَا عَلَى مَا فِيهِ مُنَاقَضَةٌ وَتَكْذِيبٌ لِلشَّهَادَتَيْنِ أَوْ لِإِحْدَاهُمَا كَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ بِسَبَبِ سُوءِ فَهْمِهِ لِآيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ) فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَلا عُذْرَ لَهُ لِأَنَّ الَّذِى يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ مَا عَرَفَ اللَّهَ وَلا أَقَرَّ بِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ إِنَّمَا نَسَبَ الأُلُوهِيَّةَ إِلَى هَذَا الْجِسْمِ الَّذِى تَصَوَّرَهُ وَهُوَ غَيْرُ اللَّهِ قَطْعًا فَلا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَنَا مَحْدُودٌ فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِى الْحِلْيَةِ. وَالْمَحْدُودُ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّوْحِيدِ مَا لَهُ حَجْمٌ إِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا وَقَالَ الإِمَامُ النَّسَفِىُّ فِى تَفْسِيرِهِ وَمِنَ الإِلْحَادِ (أَىِ الْكُفْرِ) تَسْمِيَّةُ اللَّهِ بِالْجِسْمِ وَالْجَوْهَرِ وَالْعَقْلِ وَالْعِلَّةِ وَقَالَ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ فِى كِتَابِهِ النَّوَادِرِ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ فَهُوَ غَيْرُ عَارِفٍ بِرَبِّهِ وَإِنَّهُ كَافِرٌ بِهِ وَقَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ الْمُجَسِّمُ كَافِرٌ رَوَاهُ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ فِى الأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ مَنْ قَالَ اللَّهُ جِسْمٌ لا كَالأَجْسَامِ كَفَرَ رَوَاهُ الْحَافِظُ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِىُّ فِى كِتَابِهِ تَشْنِيفُ الْمَسَامِعِ (وَكَذَلِكَ) يَكْفُرُ (مَنْ تَأَوَّلَ ءَايَةً أَوْ حَدِيثًا عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُمَا فَاعْتَقَدَ أَنَّ شَيْئًا فِى هَذَا الْعَالَمِ يَحْصُلُ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ) كَالْقَدَرِيَّةِ أَىِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَحْصُلُ فِى مِلْكِ اللَّهِ خِلافُ مُرَادِهِ وَأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ لَيْسَتْ نَافِذَةً فِى كُلِّ مُرَادَاتِهِ فَجَعَلُوا اللَّهَ مَغْلُوبًا وَغَيْرَهُ غَالِبًا فَكَذَّبُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ وَرَوَى ابْنُ أَبِى حَاتِمٍ فِى تَفْسِيرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَلا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ وَقَالَ نَزَلَتْ فِى أُنَاسٍ مِنْ أُمَّتِى يَكُونُونَ فِى ءَاخِرِ الزَّمَانِ يُكَذِّبُونَ بِقَدَرِ اللَّهِ. وَمِمَّنْ تَبِعَ الْقَدَرِيَّةَ فِى هَذَا الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ مُحَمَّد رَاتِب النَّابُلُسِى فَإِنَّهُ يَقُولُ وَلَكِنْ هَذِهِ الأَعْمَالُ الَّتِى تَقْتَرِفُونَهَا لَيْسَتْ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ بَلْ هِىَ مِنِ اخْتِيَارِكُمْ أَنْتُمْ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَيَقُولُ إِنِ اعْتَقَدْتَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنْكَ مِنْ فِعْلٍ بِإِرَادَتِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ فَهَذَا عَيْنُ الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ شَيْئًا يَحْصُلُ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ (أَوْ أَنَّ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى يَخْلُقُ ذَاتًا مِنَ الذَّوَاتِ أَوْ فِعْلًا مِنَ الأَفْعَالِ) كَفَرَ (لِأَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ مِثْلَ هَذَا الِاعْتِقَادِ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ تَعَالَى فَكَيْفَ يَكُونُ مُؤْمِنًا) بِهِ. وَخُلاصَةُ مَا مَضَى أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ فِى اللَّهِ الْجِسْمِيَّةَ أَوْ جَعَلَ لِلَّهِ شَرِيكًا فِى التَّخْلِيقِ أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْصُلُ فِى مِلْكِهِ مَا لا يَشَاءُ أَوْ أَنْكَرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ الْوَاجِبَةِ لَهُ إِجْمَاعًا كَفَرَ (وَسَوَاءٌ فِى هَذَا الْحُكْمِ مَنْ كَانَ لَمْ يَتَعَلَّمِ الصَّوَابَ فِى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَأَخْطَأَ لِجَهْلِهِ وَمَنْ كَانَ تَعَلَّمَ الصَّوَابَ ثُمَّ نَسِيَهُ) أَوْ تَغَيَّرَ اعْتِقَادُهُ (وَلِذَلِكَ رَدَّ ابْنُ الْجَوْزِىِّ فِى كِتَابِهِ أَخْبَارِ الصِّفَاتِ وَغَيْرُهُ قَوْلَ ابْنِ قُتَيْبَةَ بِعَدَمِ تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ بِسَبَبِ جَهْلِهِ وَقَالَ أَىِ ابْنُ الْجَوْزِىِّ إِنَّ إِنْكَارَ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ كُفْرٌ بِالإِجْمَاعِ وَنَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ) فِى فَتْحِ الْبَارِى (وَغَيْرُهُ وَأَقَرُّوهُ) عَلَى ذَلِكَ أَىْ وَافَقُوهُ وَلَمْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْهِ.
(وَالْقِسْمُ الثَّانِى) مِنَ الأَحْكَامِ (مَا لَيْسَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ) أَىْ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ (سَوَاءٌ كَانَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ) بَيْنَ الأَئِمَّةِ كَحُرْمَةِ مُصَافَحَةِ الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ بِلا حَائِلٍ (أَمْ غَيْرَ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ) كَكَوْنِ فَخِذِ الرَّجُلِ عَوْرَةً (فَمَنْ أَنْكَرَ حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْقِسْمِ لَمْ يُكَفَّرْ وَسَوَاءٌ فِى ذَلِكَ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ وَالْوُجُوبُ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ) أَىْ سَوَاءٌ كَانَ الأَمْرُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ تَحْلِيلِهِ أَوْ وُجُوبِهِ أَوْ مَشْرُوعِيَّتِهِ (إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَيَرُدَّهُ) أَىْ إِلَّا إِذَا كَانَ يَعْلَمُ حُكْمَهُ فِى الشَّرْعِ وَيَقُولُ بِخِلافِهِ فَعِنْدَئِذٍ يَكْفُرُ لِتَكْذِيبِهِ شَرْعَ اللَّهِ تَعَالَى (وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَأْثَمُ إِثْمًا كَبِيرًا) أَىْ وَإِنْ كَانَ لا يَكْفُرُ لَكِنَّهُ وَقَعَ فِى ذَنْبٍ كَبِيرٍ (لِخَرْقِهِ إِجْمَاعَ الأُمَّةِ وَذَلِكَ كَالَّذِى يَسْتَحِلُّ مُصَافَحَةَ الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ بِلا حَائِلٍ) كَمَا تَقَدَّمَ (أَوْ) يَسْتَحِلُّ (الْخَلْوَةَ بِهَا لِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ لِجَهْلِهِ بِأَنَّ الشَّرْعَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ).
(وَأَمَّا مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ بَيْنَ الأَئِمَّةِ) الْمُجْتَهِدِينَ (مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْقِسْمِ فَمَنْ أَخَذَ مِنَ الْعَامَّةِ) أَىِ الَّذِينَ لَمْ يَصِلُوا إِلَى دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ (بِقَوْلِ أَىِّ إِمَامٍ مِنْهُمْ دُونَ قَوْلِ إِمَامٍ ءَاخَرَ فَلا يَكْفُرُ وَ)لا إِثْمَ عَلَيْهِ بَلْ (ذَلِكَ) جَائِزٌ (كَالْعُمْرَةِ) فَقَدْ (قَالَ بَعْضُ الأَئِمَّةِ إِنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِىُّ وَأَحْمَدُ (وَقَالَ بَعْضٌ بِعَدَمِ فَرْضِيَّتِهَا) وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ (فَمَنْ أَخَذَ بِأَىٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ فَلا حَرَجَ عَلَيْهِ) أَىْ لا إِثْمَ عَلَيْهِ (إِلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِإِيجَابِهَا وَيُنْكِرَهُ مَعَ ذَلِكَ أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بِعَدَمِ إِيجَابِهَا وَيُوجِبَهَا مَعَ ذَلِكَ) أَىْ إِلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ بِوُجُوبِهَا فِى الشَّرْعِ وَيُنْكِرَ وُجُوبَهَا أَوْ يَعْتَقِدَ عَدَمَ وُجُوبِهَا فِى شَرْعِ اللَّهِ وَيَقُولَ بِوُجُوبِهَا (فَإِنَّهُ يَكْفُرُ عِنْدَئِذٍ لِتَكْذِيبِهِ الشَّرِيعَةَ، ذَلِكَ أَنَّ السَّبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ فُرُوعِ الأَحْكَامِ) أَىِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ (إِنَّمَا هُوَ السَّمَاعُ وَالنَّقْلُ) أَىْ نَقْلُ الثِّقَاتِ عَنِ النَّبِىِّ ﷺ (لَيْسَ غَيْرُ لِأَنَّ الْحَسَنَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ وَالْقَبِيحَ مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ لَمَا وَجَبَ عَلَيْنَا مِنْهَا شَىْءٌ) وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ قَبْلَ أَنْ تُوجَبَ عَلَيْهِمْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ (وَلَوْ لَمْ يُحَرِّمِ) اللَّهُ (شَيْئًا مِنَ الْـمُحَرَّمَاتِ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْنَا مِنْهَا شَىْءٌ وَلا كَانَ أَىٌّ مِنْهَا سَبَبًا لِلْعَذَابِ فِى الآخِرَةِ) وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِى شُرْبِ الْخَمْرِ إِثْمٌ قَبْلَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا (فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَحْكُمُ) فِى خَلْقِهِ (بِمَا يُرِيدُ) أَىْ يَفْرِضُ مَا يَشَاءُ وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ (وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لا حَامِلَ لَهُ وَلا مُلْجِئَ) أَىْ لا شَىْءَ يَحْمِلُهُ عَلَى فِعْلِ شَىْءٍ وَلا مُكْرِهَ لَهُ (فَمَنِ اعْتَقَدَ وُرُودَ حُكْمٍ فِى الشَّرْعِ وَأَنْكَرَهُ مَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ سَوَاءٌ كَانَ مُتَأَوِّلًا أَمْ لا وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَمْ لا مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَمْ لا).
(وَأَمَّا مَنْ) نَشَأَ فِى بَيْتٍ لا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ بِأُمُورِ الدِّينِ فَلَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْ أَهْلِهِ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يُخَالِطْ مَنْ يَعْلَمُ أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَلا كَانَ فِى مَدْرَسَةٍ تُعَلِّمُ عِلْمَ الدِّينِ لِذَلِكَ (خَفِىَ عَلَيْهِ حُكْمُ الشَّرْعِ فِى أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ أَىْ لَمْ يَعْلَمْ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِ فَاعْتَقَدَ أَنَّ حُكْمَهُ فِى الشَّرْعِ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ حَقِيقَةً أَوْ قَالَ خِلافَ الصَّوَابِ لِجَهْلِهِ بِالْحُكْمِ وَظَنَّ أَنَّ مَا يَقُولُهُ هُوَ حُكْمُ الشَّرْعِ لا لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ يُعَانِدَهُ) كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِصَلاةِ الصُّبْحِ فَلَمْ يَعْتَقِدْ لِذَلِكَ وُجُوبَهَا أَوْ خَفِىَ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَلَمْ يَعْتَقِدْ فَرْضِيَّتَهُ أَوْ خَفِىَ عَلَيْهِ وُجُوبُ سَتْرِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ لِشَعَرِهَا أَمَامَ الأَجَانِبِ فَاعْتَقَدَ جَوَازَ كَشْفِهَا لَهُ أَمَامَهُمْ (فَإِنَّهُ لا يُكَفَّرُ) لِأَنَّهُ لَيْسَ رَافِضًا لِلدِّينِ وَلا مُعَانِدًا لِلشَّرْعِ. (وَمِثْلُهُ مَنْ كَانَ تَعَلَّمَ الْحُكْمَ فِى الشَّرْعِ ثُمَّ نَسِىَ فَظَنَّهُ عَلَى خِلافِ مَا هُوَ فِى الْوَاقِعِ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ فِى الأَصْلِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَمْ لا) كَأَنْ تَعَلَّمَ حُرْمَةَ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مَعَ الزِّيَادَةِ فِى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الآخَرِ بِالْوَزْنِ ثُمَّ نَسِىَ الْحُكْمَ فَظَنَّ جَوَازَهُ أَوْ سَمِعَ بِنُبُوَّةِ إِلْيَاسَ ثُمَّ نَسِىَ فَلَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ فَلا يُكَفَّرُ إِنَّمَا يُعَلَّمُ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ)
اعْلَمْ أَنَّ (كُلَّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ فِيهِ اسْتِخْفَافٌ بِاللَّهِ أَوْ رُسُلِهِ) أَىْ أَنْبِيَائِهِ (أَوْ كُتُبِهِ) الَّتِى أَنْزَلَهَا عَلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ (أَوْ مَلائِكَتِهِ أَوْ أَحْكَامِهِ) أَىْ أَحْكَامِ شَرْعِهِ الَّذِى أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ (أَوْ وَعْدِهِ) لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ وَمَا أَعَدَّ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ (أَوْ وَعِيدِهِ) لِلْكَافِرِينَ وَالْعُصَاةِ بِالنَّارِ وَمَا أَعَدَّ فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ الأَلِيمِ (أَوْ شَعَائِرِهِ أَىْ مَعَالِمِ دِينِهِ) أَىْ مَا كَانَ مَشْهُورًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ كَالصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالأَذَانِ وَالْكَعْبَةِ وَالطَّوَافِ وَرَمْىِ الْجِمَارِ (أَوْ ءَايَاتِهِ فَهُوَ كُفْرٌ) فَلِيَعْمَلِ الإِنْسَانُ غَايَةَ مُسْتَطَاعِهِ عَلَى تَجَنُّبِ مَا يُخْرِجُ مِنَ الإِسْلامِ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ.
(وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ اللَّفْظَ الْمُكَفِّرَ إِلَى ظَاهِرٍ وَصَرِيحٍ فَالظَّاهِرُ) فِى الْكُفْرِ هُوَ (مَا كَانَ لَهُ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ وَجْهَانِ فَأَكْثَرَ وَلَكِنَّهُ إِلَى الْمَعْنَى الْكُفْرِىِّ أَقْرَبُ) أَىْ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ فَأَكْثَرَ بَعْضُهَا كُفْرٌ وَبَعْضُهَا لَيْسَ كُفْرًا وَلَكِنِ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ لِلَّفْظِ أَىْ أَوَّلُ مَعْنًى يَخْطُرُ فِى الذِّهْنِ عِنْدَ سَمَاعِ اللَّفْظِ فِيهِ كُفْرٌ (وَأَمَّا الصَّرِيحُ) فِى الْكُفْرِ (فَلَيْسَ لَهُ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ إِلَّا وَجْهٌ وَاحِدٌ كُفْرِىٌّ) أَىْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ كُفْرٌ (قَالُوا) أَىْ أَهْلُ الْعِلْمِ (مَنْ تَكَلَّمَ بِلَفْظٍ ظَاهِرٍ) فِى الْكُفْرِ أَىْ (لَهُ مَعْنَيَانِ فَأَكْثَرَ أَحَدُهُمَا مُتَبَادِرٌ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالآخَرُ غَيْرُ مُتَبَادِرٍ لا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مُرَادُهُ) أَىْ لا يَجُوزُ تَكْفِيرُهُ حَتَّى يُعْرَفَ مِنْهُ الْمَعْنَى الَّذِى أَرَادَ فَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ أَمَّا إِنْ لَمْ يُرِدِ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ فَلا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ (وَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فِى الْكُفْرِ فَيُكَفَّرُ وَلا يُسْأَلُ عَنْ مُرَادِهِ وَلا يُقْبَلُ لَهُ تَأْوِيلٌ) لِأَنَّ اللَّفْظَ لا يَحْتَمِلُ مَعْنًى غَيْرَ كُفْرِىٍّ يُصْرَفُ إِلَيْهِ وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ (إِلَّا) أَنَّ الْعُلَمَاءَ اسْتَثْنَوْا حَالَةً وَهِىَ (أَنْ يَكُونَ) الْمُتَلَفِّظُ بِالْكُفْرِ (لا يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَعْنَاهُ صَرِيحٌ فِى الْكُفْرِ بَلْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ مَعْنًى ءَاخَرَ غَيْرَ كُفْرِىٍّ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ عِنْدَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ حُكْمُ الصَّرِيحِ) أَىْ أَنَّهُ لا يُكَفَّرُ لِمُجَرَّدِ تَلَفُّظِهِ بِهِ إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ وَيُعَلَّمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَهُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ كُفْرٌ وَلَيْسَ لَهُ مَعْنًى ءَاخَرَ (مِثَالُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ مَا فِى الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ أَوْ لا مَوْجُودَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ هُوَ الْكُلُّ) يَعْنُونَ بِهِ اللَّهَ (فَإِنَّ هَذِهِ الأَلْفَاظَ مِنْ صَرِيحِ الْكُفْرِ بِحَسَبِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِىِّ لِأَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ الْعَالَمَ هُوَ اللَّهُ) وَهَذَا مِنْ أَشَدِّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ (لَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ لا يَفْهَمُونَ مِنْهَا هَذَا الْمَعْنَى بَلْ يَظُنُّونَ) لِضَعْفِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْعَرَبِيَّةِ (أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّهَ هُوَ مُدَبِّرُ كُلِّ شَىْءٍ) وَأَنَّهُ لا يَخْرُجُ شَىْءٌ فِى هَذَا الْعَالَمِ عَنْ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ (فَهُؤَلاءِ لا يُكَفَّرُونَ إِذَا قَالُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَإِنَّمَا يُنْهَوْنَ عَنْهَا وَيُبَيَّنُ لَهُمْ فَسَادُ مَعْنَاهَا بِخِلافِ) أَهْلِ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ (الَّذِينَ وَضَعُوا هَذِهِ الْكَلِمَاتِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ) أَىِ أَحْدَثُوهَا (وَكَانُوا يَفْهَمُونَ) مَعْنَاهَا أَىْ (هَذَا الْـمَعْنَى) الْبَاطِلَ (الَّذِى هُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالْعَالَمِ أَىْ جَعْلُ اللَّهِ وَالْعَالَمِ شَيْئًا وَاحِدًا فَإِنَّهُمْ يُكَفَّرُونَ وَهَؤُلاءِ كَانُوا مِنْ مَلاحِدَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِسْلامِ وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ بَعْضِ فَلاسِفَةِ الْيُونَانِ) الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ جُمْلَةَ الْعَالَمِ هُوَ اللَّهُ بِمَا فِيهِ مِنْ ذَوِى الأَرْوَاحِ وَالْجَمَادِ (فَسَرَتْ مِنْهُمْ هَذِهِ الأَلْفَاظُ إِلَى أَسْمَاعِ بَعْضِ الْعَوَامِّ) مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَىِ انْتَقَلَتْ إِلَى أَسْمَاعِهِمْ فَصَارُوا يَقُولُونَهَا (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفُوا مَعْنَاهَا) بَلْ ظَنُّوا أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّهَ مُسَيْطِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ (ثُمَّ مُنْذُ نَحْوِ قَرْنٍ ظَهَرَ مِنْ أُنَاسٍ يَنْتَسِبُونَ لِلشَّاذِلِيَّةِ الْيَشْرُطِيَّةِ) وَهِىَ فِرْقَةٌ مُنْحَرِفَةٌ (الْقَوْلُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ مَعَ اعْتِقَادِ مَعْنَاهَا الَّذِى هُوَ كُفْرٌ وَهُوَ الْمَعْنَى الأَصْلِىُّ لَهَا وَهَؤُلاءِ تَارَةً يَقُولُونَ اللَّهُ حَالٌّ فِى كُلِّ شَخْصٍ وَتَارَةً يَقُولُونَ بِاتِّحَادِ اللَّهِ فِى الأَشْخَاصِ) وَهَذَا مِنْ أَشْنَعِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَأَشَدِّهِ.
(كَذَلِكَ إِنْ ظَنَّ شَخْصٌ لِجَهْلِهِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِىِّ أَنَّ الْكَلِمَةَ الصَّرِيحَةَ فِى الْكُفْرِ) أَىِ الَّتِى لَهَا مَعْنَى وَاحِدٌ كُفْرِىٌّ (تَحْمِلُ فِى اللُّغَةِ وَجْهَيْنِ) أَىْ مَعْنَيَيْنِ (أَحَدُهُمَا كُفْرِىٌّ وَالآخَرُ لَيْسَ فِيهِ كُفْرٌ وَنَطَقَ بِهَا وَمُرَادُهُ غَيْرُ الْمَعْنَى الْكُفْرِىِّ) أَىْ وَهُوَ يَقْصِدُ الْمَعْنَى الَّذِى لَيْسَ فِيهِ كُفْرٌ (فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ) لِأَنَّهُ حِينَ نُطْقِهِ بِالْكَلِمَةِ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ لَهَا مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا كُفْرٌ وَالآخَرُ لَيْسَ كُفْرًا وَهُوَ لَمْ يَقْصِدِ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ (بِخِلافِ مَنْ عَرَفَ أَنَّ) هَذِهِ (الْكَلِمَةَ صَرِيحَةٌ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ وَوَلَّدَ مَعْنًى ءَاخَرَ لَهَا بِزَعْمِهِ) أَىْ أَنْشَأَ لَهَا مَعْنًى مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ (فَقَصَدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ الْمَعْنَى الأَصْلِىَّ لَهَا) الَّذِى هُوَ كُفْرٌ (لَكِنْ تَلَفَّظَ بِهَا عَمْدًا مَعَ فَهْمِهِ لِلْمَعْنَى الأَصْلِىِّ) فَإِنَّهُ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ عِلْمِهِ بِمَعْنَاهَا (وَذَلِكَ كَقَوْلِ بَعْضِ السُّفَهَاءِ) لِمَنْ يُخَاطِبُهُ (أُخْتَ رَبِّكَ أَوْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ يَا ابْنَ اللَّهِ فَهُؤَلاءِ يَكْفُرُونَ مَعَ أَنَّهُمْ لا يَقْصِدُونَ الْمَعْنَى) وَلا يَعْتَقِدُونَهُ (وَهَؤُلاءِ قِسْمٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ بِالْعَامِيَّةِ يَا إِبِنْ أَلَّا بِدُونِ هَاءٍ مِنْ لَفْظِ الْجَلالَةِ وَهُمْ يَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ اللَّهَ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ) لَفْظَ الْجَلالَةِ (اللَّه بِالْهَاءِ وَ)لَفْظَ (أَلَّا بِلا هَاءٍ وَاحِدٌ) فَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلِمَةِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ نِسْبَةُ الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. (فَمَنْ تَلَفَّظَ بِالصَّرِيحِ مِنْ أَلْفَاظِ الرِّدَّةِ) أَىِ الْكُفْرِ (نَظَرْنَا فِى حَالِهِ هَلْ يَفْهَمُ الْمَعْنَى) أَىْ هَلْ يَعْرِفُ أَنَّ اللَّفْظَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَعْنَى وَاحِدٌ هُوَ كُفْرٌ (أَوْ يَجْهَلُهُ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَعْنَاهَا شَىْءٌ ءَاخَرُ) لَيْسَ كُفْرًا (فَإِنْ كَانَ يَجْهَلُهُ فَإِنَّنَا لا نُكَفِّرُهُ فِى هَذِهِ الْحَالِ بَلْ نُعَلِّمُهُ) أَنَّ (مَعْنَى الْكَلامِ) الَّذِى قَالَهُ كُفْرٌ (وَنَنْهَاهُ عَنْهُ، حَتَّى لَوْ نَطَقَ بِالصَّرِيحِ) أَىْ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ فِى الْكُفْرِ (وَهُوَ نَاسٍ لِلْمَعْنَى الْكُفْرِىِّ الَّذِى كَانَ يَعْرِفُهُ قَبْلًا وَلَمْ يَكُنْ يَفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ النُّطْقِ) بِهِ (إِلَّا مَعْنًى لَيْسَ فِيهِ كُفْرٌ فَلا يَكْفُرُ. وَيُعْلَمُ مِنْ هُنَا أَنَّهُ لا يَنْبَغِى التَّسَرُّعُ فِى إِطْلاقِ التَّكْفِيرِ عَلَى شَخْصٍ نَطَقَ بِكَلامٍ غَيْرِ صَرِيحٍ بِالْكُفْرِ وَلَكِنَّهُ ظَاهِرٌ فِى الْمَعْنَى الْكُفْرِىّ قَبْلَ الْعِلْمِ بِمُرَادِهِ) كَأَنْ كَانَ لَهُ مَعْنَيَانِ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ لِلَّفْظِ فِيهِ كُفْرٌ (وَلا إِطْلاقِ التَّكْفِيرِ عَلَى مَنْ نَطَقَ بِالصَّرِيحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى اللَّفْظِ وَيَعْرِفَ كَوْنَهُ صَرِيحًا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِذَا كَانَ لِلْكَلِمَةِ سَبْعُونَ مَعْنًى هِىَ كُفْرٌ وَمَعْنًى وَاحِدٌ لَيْسَ كُفْرًا لا يُكَفَّرُ الْـمُتَلَفِّظُ بِهَا إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ أَرَادَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِى الَّتِى هِىَ كُفْرٌ، وَيُنْسَبُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا إِلَى أَبِى حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكٍ وَلا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْهُمَا) أَىْ لا يَصِحُّ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِمَا (لَكِنِ الْمَعْنَى صَحِيحٌ وَلَوْ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الإِمَامَيْنِ) أَمَّا مَا يَنْسُبهُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَيْهِمَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِى الْمَسْئَلَةِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ قَوْلًا بِالتَّكْفِيرِ وَقَوْلٌ وَاحِدٌ بِعَدَمِ التَّكْفِيرِ يُؤْخَذُ بِهَذَا الْقَوْلِ الْوَاحِدِ فَلا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ فَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى الإِمَامَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ (وَالتَّعْبِيرُ الْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِى إِثْبَاتِ حُكْمِ الرِّدَّةِ هُوَ قَوْلُهُمْ إِنْ كَانَ لِلْكَلِمَةِ وُجُوهٌ تَقْتَضِى الْكُفْرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ لا يَقْتَضِى الْكُفْرَ لا يُكَفِّرُهُ الْمُفْتِى إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ وَمُرَادُهُمْ بِالْوُجُوهِ الْمَعَانِى) أَىْ إِذَا كَانَ لِلْكَلِمَةِ عِدَّةُ مَعَانٍ كُلُّهَا كُفْرٌ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا لَيْسَ كُفْرًا لا يَحْكُمُ الْمُفْتِى بِكُفْرِهِ إِلَّا إِذَا قَصَدَ الْقَائِلُ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ (فَإِنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ يَكُونُ لَهَا بِضْعَةَ عَشَرَ مَعْنًى) فِى اللُّغَةِ (كَكَلِمَةِ الْيَدِ فَمَن نَسَبَ الْيَدَ إِلَى اللَّهِ وَأَرَادَ بِهَا الْجَارِحَةَ أَىِ الْعُضْوَ الَّذِى هُوَ مِنَ الإِنْسَانِ أَوْ غَيْرِهِ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ لِأَنَّهُ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ) كَالْوَهَّابِيَّةِ أَدْعِيَاءِ السَّلَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لِلَّهِ يَدٌ لا كَأَيْدِينَا وَفِى الِاعْتِقَادِ يَعْتَقِدُونَ الْجِسْمَ الَّذِى تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَيَقُولُونَ لِلَّهِ يَدٌ لا كَأَيْدِينَا عَلَى مَعْنَى الصِّفَةِ كَمَا فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ أَىْ بِقُوَّةٍ (وَمَنْ نَسَبَ الْيَدَ إِلَى اللَّهِ وَأَرَادَ بِهَا الْقُدْرَةَ أَوِ النِّعْمَةَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِى الَّتِى لَيْسَ فِيهَا تَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ فَلا يُكَفَّرُ فَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يُحْكَمُ عَلَى مَنْ يُفَسِّرُ الْيَدَ الْمُضَافَةَ إِلَى اللَّهِ فِى الْقُرْءَانِ) فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ﴾ (وَعَلَى مَنْ يُفَسِّرُ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ الْوَارِدَ فِيهِ) فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (وَالْمَجِىءَ الْوَارِدَ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ﴾. فَإِنْ فَسَّرَ الْيَدَ بِالْجَارِحَةِ أَوِ الِاسْتِوَاءَ بِالْجُلُوسِ أَوِ الِاسْتِقْرَارِ) أَوِ الْمُحَاذَاةِ أَىْ كَوْنِ الشَّىْءٍ فِى مُقَابِلِ شَىْءٍ (أَوْ عُلُوِّ الْمَكَانِ وَالْمَسَافَةِ أَىْ فَسَّرَ) الِاسْتِوَاءَ (الْوَارِدَ) فِى الْقُرْءَانِ (بِالْمَعْنَى الْحِسِّىِّ الَّذِى هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ أَوْ فَسَّرَ الْمَجِىءَ بِأَنَّهُ كَمَجِىءِ الإِنْسَانِ وَالْمَلائِكَةِ بِالِانْتِقَالِ وَالْحَرَكَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ). أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ فَقَدْ فَسَّرَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ بِقَوْلِهِ جَاءَتْ قُدْرَتُهُ أَىْ ءَاثَارُ قُدْرَتِهِ مِنَ الأُمُورِ الْعِظَامِ الَّتِى تَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَجَرِّ الْمَلائِكَةِ لِجُزْءٍ كَبِيرٍ مِنْ جَهَنَّمَ إِلَى الْمَوْقِفِ حَتَّى يَرَاهُ الْكُفَّارُ فَيَفْزَعُوا وَشَهَادَةِ الأَيْدِى وَالأَرْجُلِ بِمَا كَسَبَهُ الْكُفَّارُ مَعَ الْخَتْمِ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ.
(بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ نَقُولُ لَوْ سَمِعْنَا شَخْصًا يَقُولُ مَثَلًا الصَّلاةُ عَلَى النَّبِىِّ مَكْرُوهَةٌ فَلا يَنْبَغِى التَّسَرُّعُ فِى تَكْفِيرِهِ بَلْ يُسْأَلُ عَنْ مُرَادِهِ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُطْلِقُونَ كَلِمَةَ النَّبِىِّ عَلَى الأَرْضِ الْمُرْتَفِعَةِ الْمُحْدَوْدِبَةِ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى الأَرْضِ الْمُحْدَوْدِبَةِ مَكْرُوهَةٌ لِكَوْنِ هَذِهِ الصَّلاةِ لا خُشُوعَ فِيهَا فَكَلامُهُ صَحِيحٌ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى النَّبِىِّ مُحَمَّدٍ مَكْرُوهَةٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَفِى) كِتَابِ (الْقَامُوسِ) الْمُحِيطِ لِلْفَيْرُوزَابَادِىُّ (وَغَيْرِهِ) كَلِسَانِ الْعَرَبِ لِابْنِ مَنْظُورٍ (أَنَّ كَلِمَةَ النَّبِىَّ) فِى اللُّغَةِ (لَهَا هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ) أَىْ تَأْتِى بِمَعْنَى الأَرْضِ الْمُحْدَوْدِبَةِ وَتَأْتِى بِمَعْنَى مَنْ أُوحِىَ إِلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ.
(وَيَتَبَيَّنُ لَنَا أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُفْتِى أَنْ يُفْتِىَ فِى هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ لِسَانَ أَهْلِ الْبَلَدِ فِى مَا يَسْتَعْمِلُونَ مِنَ الأَلْفَاظِ أَىْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُفْتِى أَنْ يُفْتِىَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالأَلْفَاظِ) أَىْ فِى حُكْمِ مَا يَقُولُهُ النَّاسُ مِنَ الأَلْفَاظِ (إِلَّا أَنْ يَعْرِفَ اصْطِلاحَاتِ أَهْلِ الْبَلَدِ).
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ)
(مَنِ اعْتَقَدَ مَا هُوَ كُفْرٌ بِالإِجْمَاعِ أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ كُفْرًا أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ صَرِيحَةٍ مُجْمَعٍ عَلَى كَوْنِهَا كُفْرًا لا يَنْفَعُهُ التَّشَهُّدُ مَعَ الشَّكِّ فِى الْحُكْمِ) أَىْ مَعَ شَكِّهِ فِى كَوْنِ مَا حَصَلَ مِنْهُ كُفْرًا لِأَنَّهُ لا يَعْرِفُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ (بَلْ لا بُدَّ أَنْ يَتَشَهَّدَ لِلتَّبَرُّؤِ مِنَ الْكُفْرِ مَعَ جَزْمِهِ بِأَنَّ مَا وَقَعَ فِيهِ) هُوَ (كُفْرٌ) أَىْ لا بُدَّ أَنْ يَجْزِمَ بِقَلْبِهِ أَنَّ مَا حَصَلَ مِنْهُ هُوَ كُفْرٌ وَيَتَخَلَّى عَنْهُ وَيَنْطِقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ (وَلا يُفِيدُهُ التَّشَهُّدُ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَنِ الْكُفْرِ) أَىْ مَا لَمْ يَجْزِمْ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ وَقَعَ فِى الْكُفْرِ وَيَتَخَلَّى عَنْهُ (كَمَا يَحْصُلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِأَلفَاظٍ كُفْرِيَّةٍ) صَرِيحَةٍ فِى الْكُفْرِ أَوْ غَيْرِ صَرِيحَةٍ لَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِهَا الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ (ثُمَّ يَتَشَهَّدُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْهَا أَىْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّهَا كُفْرٌ فَيَتَبَرَّأُوا مِنْهَا فِى قُلُوبِهِمْ فَتَشَهُّدُهُمْ هَذَا لا يَنْفَعُهُمْ).
(وَلَوْ تَشَهَّدَ شَخْصٌ لِلتَّبَرُّؤِ مِنْ كُلِّ كُفْرٍ إِنْ كَانَ حَصَلَ مِنْهُ) لِكَوْنِهِ خَافَ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ فِى الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَبِهَ (ثُمَّ بَعْدَ فَتْرَةٍ) مِنْ تَشَهُّدِهِ (تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ حَصَلَ مِنْهُ قَبْلَ تَشَهُّدِهِ كُفْرٌ فَهَلْ يَلْزَمُهُ تَشَهُّدٌ ثَانٍ أَوْ يَكْفِيهِ التَّشَهُّدُ الأَوَّلُ الْحُكْمُ هُنَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ حَالِهِ فَإِنْ كَانَ حِينَ تَشَهُّدِهِ بِنِيَّةِ التَّبَرُّؤِ مِنَ الْكُفْرِ عَالِمًا بِحُكْمِ الْمَسْئَلَةِ الَّتِى) حَصَلَتْ مِنْهُ وَ(تَذَكَّرَهَا فِيمَا بَعْدُ كَفَاهُ تَشَهُّدُهُ الأَوَّلُ) لِأَنَّهُ كَارِهٌ لِلْكُفْرِ بِقَلْبِهِ وَمُتَبَرِّئٌ مِنْهُ وَيُرِيدُ الْخَلاصَ مِنْهُ (وَإِلَّا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَشَهَّدَ مِنْ جَدِيدٍ) أَىْ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ (لِلْخُرُوجِ مِنَ) هَذَا (الْكُفْرِ) بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّ مَا حَصَلَ مِنْهُ هُوَ كُفْرٌ.
(وَإِذَا رَجَعَ الشَّخْصُ عَنِ الْكُفْرِ وَتَشَهَّدَ) لِلْخَلاصِ مِنْهُ (لا يُشْتَرَطُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ فِى قَلْبِهِ عِنْدَ ذَلِكَ عِبَارَةً بِعَيْنِهَا مِنْ نَحْوِ نَوَيْتُ الدُّخُولَ فِى الإِسْلامِ بَلِ اشْتِرَاطُ اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ لا مَعْنًى لَهُ بَلْ إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ كَفَرَ فَرَجَعَ) عَنِ الْكُفْرِ أَىْ تَخَلَّى عَنْهُ (وَتَشَهَّدَ لِيَخْلُصَ مِنَ الْكُفْرِ فَهَذَا) الْقَصْدُ (هُوَ نِيَّةُ الدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِنَا لِلْكَافِرِ تَشَهَّدْ بِنِيَّةِ الدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ أَىِ اعْلَمْ أَنَّكَ كَافِرٌ وَأَقْلِعْ عَنِ الْكُفْرِ) أَىِ اتْرُكْهُ (وَتَشَهَّدْ لِتَصِيرَ مُسْلِمًا فَلا ضَرَرَ فِى هَذَا) إِذْ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَخِّرْ دُخُولَكَ فِى الإِسْلامِ بَلْ مَعْنَاهُ لِيَكُنْ تَشَهُّدُكَ بِقَصْدِ الْخَلاصِ مِنَ الْكُفْرِ وَالدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ.
(تَنْبِيهٌ) لِأَمْرٍ (مُهِمٍّ) وَهُوَ أَنَّ (مَنْ كَفَرَ ثُمَ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الإِسْلامِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لا يَنْفَعُهُ قَوْلُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ شَيْئًا) أَىْ لا يَرْجِعُ إِلَى الإِسْلامِ بِقَوْلِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كَمَا نَقَلَ الإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بنُ الْمُنْذِرِ فِى كِتَابَيْهِ الإِشْرَافِ وَالإِجْمَاعِ (بَلْ يَزْدَادُ) إِثْمًا وَ(كُفْرًا لِأَنَّهُ يَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ) مِنَ اللَّهِ (وَهُوَ عَلَى الْكُفْرِ وَاللَّهُ لا يَغْفِرُ كُفْرَ الْكَافِرِ وَلا ذُنُوبَهُ وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾.
(تَنْبِيهٌ) مُهِمٌّ (ءَاخَرُ) وَهُوَ أَنَّهُ (مَنْ وَقَعَ فِى كُفْرٍ) وَ(لَمْ يَعْرِفْ كَوْنَهُ كُفْرًا ثُمَّ عِنْدَمَا تَعَلَّمَ الْحُكْمَ أَنَّهُ كُفْرٌ) كَرِهَهُ لَكِنَّهُ (لَمْ يَتَذَكَّرْ وُقُوعَهُ فِيهِ) وَلَوْ تَذَكَّرَ لَتَشَهَّدَ فَوْرًا لِأَنَّهُ لا يُرِيدُ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْكُفْرِ (وَصَارَ بَعْدَ ذَلِكَ) أَىْ بَعْدَ أَنْ تَعَلَّمَ الْحُكْمَ (يَتَلَفَّظُ بِالشَّهَادَتَيْنِ دُونَ اسْتِحْضَارٍ لِمَا حَصَلَ مِنْهُ مِنَ الْكُفْرِ عَلَى عَادَتِهِ) أَىْ صَارَ يَتَلَفَّظُ بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ (لا بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلَفُّظِ بِهِمَا) كَأَنْ كَانَ لَهُ عَادَةٌ أَنْ يَتَشَهَّدَ إِذَا ضَايَقَهُ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ طَلَبَ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الإِسْلامِ بِنُطْقِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ. فَإِذَا تَشَهَّدَ (ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ تَذَكَّرَ أَنَّهُ وَقَعَ فِى ذَلِكَ الْكُفْرِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَشَهَّدَ بِنِيَّةِ الْخَلاصِ مِنَ الْكُفْرِ لِكَوْنِهِ كَانَ غَيْرَ ذَاكِرٍ وُقُوعَهُ فِيهِ فَشَهَادَتُهُ الَّتِى كَانَ تَشَهَّدَهَا عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ نَفَعَتْهُ وَلا) يَحْتَاجُ أَنْ (يُعِيدَ التَّشَهُّدَ لِأَنَّهُ نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ فِى حَالِ كَوْنِهِ مُتَرَاجِعًا عَنِ الْكُفْرِ غَيْرَ مُعَانِدٍ). أَمَّا إِذَا تَشَهَّدَ بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ كَأَنْ صَلَّى ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ عَلَى الإِسْلامِ وَأَنَّ صَلاتَهُ صَحِيحَةٌ مَقْبُولَةٌ فَتَشَهَّدَ فِى الصَّلاةِ لا يَرْجِعُ إِلَى الإِسْلامِ لِأَنَّهُ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُمَا جُزْءٌ مِنْ عِبَادَةٍ فَاسِدَةٍ وَقَدْ نَصَّ الْمَاوَرْدِىُّ عَلَى أَنَّ الدُّخُولَ فِى الإِسْلامِ لا يَكُونُ بِالصَّلاةِ مَعَ كَوْنِهَا مُتَضَمِّنَةً لِلشَّهَادَتَيْنِ.
(وَإِذَا تَلَفَّظَ امْرُؤٌ بِكَلامٍ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ مَعْنًى وَبَعْضُ مَعَانِيهِ كُفْرٌ دُونَ الْبَعْضِ الآخَرِ وَشَكَّ هَلْ قَصَدَ عِنْدَ نُطْقِهِ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ أَوْ غَيْرَهُ) أَىْ صَارَ عِنْدَهُ احْتِمَالٌ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ فِى الْكُفْرِ (فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ) عِنْدَئِذٍ (التَّشَهُّدُ احْتِيَاطًا عَلَى الْفَوْرِ) أَىْ يَجِبُ عَلَيْهِ فَوْرًا أَنْ يَنْطِقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِأَجْلِ أَنْ يَخْلُصَ مِنَ الْكُفْرِ فِى حَالِ كَانَ قَدْ حَصَلَ مِنْهُ (وَكَذَا إِذَا عَلِمَ حُكْمَ عِبَارَةٍ أَنَّهُ كُفْرٌ وَشَكَّ هَلْ حَصَلَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ مِنْهُ أَوْ لَمْ تَحْصُلْ) أَىْ صَارَ عِنْدَهُ احْتِمَالٌ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا فِى الْكُفْرِ وَلَيْسَ مُجَرَّدَ خَاطِرٍ (فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّشَهُّدِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ وَيَنْفَعُهُ هَذَا التَّشَهُّدُ) لِلْخَلاصِ مِنَ الْكُفْرِ (فِى حَالِ كَانَ قَدْ وَقَعَ فِى الْكُفْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ).
(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ)
اعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمُتَوَاتِرَ هُوَ الَّذِى ثَبَتَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ أَىْ صَحَّ عَنْهُ وَرَوَاهُ جَمْعٌ عَنْ جَمْعٍ يَسْتَحِيلُ عَادَةً اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَهُوَ حُجَّةٌ مِثْلُ الْقُرْءَانِ لَكِنْ (لا يَكْفُرُ مُنْكِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ) لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا أَنْكَرَ لَفْظًا وَكَانَ إِنْكَارُهُ يُؤَدِّى إِلَى تَكْذِيبِ أَمْرٍ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (إِنَّمَا يَكْفُرُ إِنْ أَنْكَرَ مَعْنَاهُ وَكَانَ) الْمَعْنَى (مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ) كَإِنْكَارِ حُرْمَةِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَإِنَّهُ رَدٌّ لِلْحَدِيثِ الْمُتَوَاتِرِ مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ (بِخِلافِ مَنْ أَنْكَرَ) وَلَوْ (حَرْفًا) وَاحِدًا (مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عِنَادًا) أَىْ كَانَ إِنْكَارُهُ عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ (وَلَوْ لَمْ يُفْسِدْ إِنْكَارُهُ الْمَعْنَى).
(وَالأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُهُمْ خَمْسُونَ وَقَالَ ءَاخَرُونَ غَيْرَ ذَلِكَ).
(الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ)
(مَنْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ فِى الْمُسْتَقْبَلِ) كَأَنْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَكْفُرَ بَعْدَ سَنَةٍ (أَوْ تَرَدَّدَ فِيهِ) أَىْ تَرَدَّدَ هَلْ يَكْفُرُ أَوْ لا (أَوْ عَلَّقَ كُفْرَهُ بِحُصُولِ أَمْرٍ كَأَنْ قَالَ إِنْ تَلِفَ مَالِى أَوْ هَلَكَ وَلَدِى تَهَوَّدْتُ) أَىْ أَدِينُ بِالْيَهُودِيَّةِ (أَوْ أَنْتَقِلُ إِلَى دِينٍ) ءَاخَرَ (غَيْرِ دِينِ الإِسْلامِ كَفَرَ فِى الْحَالِ وَكَذَا) يَكْفُرُ (مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْكُفْرِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ لِتَمْرِينِ الطِّفْلِ عَلَى الْكَلامِ فَيَقُولُونَ لَهُ سُبَّ لِهَذَا رَبَّهُ فَإِنَّ مَنْ أَمَرَ الطِّفْلَ الَّذِى لا يَفْهَمُ الْمَعْنَى بِهَذَا الْكَلامِ يَكْفُرُ كَمَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ كَبِيرٍ سُبَّ لِهَذَا رَبَّهُ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ) وَكَذَا يَكْفُرُ مَنْ يَسْأَلُ الْكَافِرَ سُؤَالًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيُجِيبُ بِالْكُفْرِ فَهَذَا كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ اكْفُرْ. (وَيَكْفُرُ مَنْ أَكْرَهَ إِنْسَانًا عَلَى الْكُفْرِ) كَأَنْ قَالَ لَهُ اكْفُرْ بِاللَّهِ وَإِلَّا قَتَلْتُكَ.
(وَمِثْلُ ذَلِكَ) أَىْ وَمِثْلُ الْعَزْمِ عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّرَدُّدِ فِيهِ وَالإِكْرَاهِ عَلَيْهِ وَالأَمْرِ بِهِ وَتَعْلِيقِهِ بِحُصُولِ أَمْرٍ الإِعَانَةُ عَلَى الْكُفْرِ كَإِيصَالِ الْكَافِرِ إِلَى مَكَانِ عِبَادَتِهِ أَوْ إِعَانَتِهِ بِمَالٍ لِيَسْتَعْمِلَهُ فِى الْوُصُولِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْصِدُهُ لِيَكْفُرَ فِيهِ (فَهُوَ) كُفْرٌ بِالإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَهِىَ مَعْصِيَةٌ (كَبَيْعِ الْعِنَبِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُ مِنْهُ الْخَمْرَ وَذِلَك مَحْظُورٌ) شَرْعًا (وَ)فِيهِ (إِعَانَةٌ عَلَى) فِعْلِ (الشَّرِّ وَمُشَارَكَةٌ فِيهِ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يَعْصُونَ اللَّهَ بِهِ فَذَلِكَ حَرَامٌ كَبَيْعِ الْعِنَبِ مِنَ الْخَمَّارِ) الَّذِى يَعْصِرُهُ خَمْرًا وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ (وَإِنَّمَا الْخِلافُ فِى الصِّحَّةِ) أَىْ صِحَّةِ الْبَيْعِ.
وَ(اسْتِحْسَانُ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِهِ) كُفْرٌ كَمَنْ يَسْتَحْسِنُ دِينًا غَيْرَ دِينِ الإِسْلامِ أَوْ يَضْحَكُ لِكُفْرِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الرِّضَى وَالِاسْتِحْسَانِ (أَمَّا مَنْ ضَحِكَ لِلتَّهَكُّمِ بِمَنْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ) أَىْ لِلِاسْتِهْزَاءِ بِهِ (أَوْ مَغْلُوبًا فَلا يَكْفُرُ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِالْكُفْرِ وَلا مُسْتَحْسِنٌ لَهُ).
(وَ)أَمَّا (إِذَا عَزَمَ الْكَافِرُ عَلَى أَنْ يُسْلِمَ) بَعْدَ وَقْتٍ (وَلَمْ يُسْلِمْ بِالْفِعْلِ فَلا يَجْعَلُهُ ذَلِكَ مُؤْمِنًا حَتَّى يَنْطِقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ عَنْ عَزْمٍ وَجَزْمٍ فَيَكُونَ مُسْلِمًا) فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ بِهِمَا مَاتَ كَافِرًا وَأَمَّا مَنْ عَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فِى الْحَالِ فَفَجَأَهُ الْمَوْتُ وَمَنَعَهُ مِنَ النُّطْقِ بِهِمَا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنٌ نَاجٍ.
(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ)
(كُلُّ فِعْلٍ) أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ (لا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ كَافِرٍ فَهُوَ كُفْرٌ وَمِثَالُ ذَلِكَ رَمْىُ الْمُصْحَفِ فِى الْقَاذُورَاتِ) أَوْ دَوْسُهُ أَوِ الْبَوْلُ عَلَيْهِ وَكِتَابَةُ الْقُرْءَانِ بِالْبَوْلِ أَوْ بِدَمِ الْحَيْضِ وَلَوْ لِغَرَضِ الِاسْتِشْفَاءِ (وَالسُّجُودُ لِصَنَمٍ أَوْ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ شَيْطَانٍ) أَوْ نَارٍ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِبَادَتَهَا وَكَذَا السُّجُودُ لِإِنْسَانٍ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُ كَسُجُودِ أَتْبَاعِ فِرْعَوْنَ لَهُ أَوْ تَعْلِيقُ شِعَارِ الْكُفْرِ عَلَى نَفْسِهِ لِاعْتِقَادِ وُجُودِ الْبَرَكَةِ فِيهِ أَوْ عَلَّقَهُ تَعْظِيمًا لَهُ أَوْ جَوَّزَ تَعْلِيقَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَشِعَارُ الْكُفْرِ هُوَ مَا اتَّخَذَهُ الْكُفَّارُ عَلامَةً دِينِيَّةً خَاصَّةً بِهِمْ.
(الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ)
(مَنْ تَمَنَّى) بِقَلْبِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ (حِلَّ أَمْرٍ كَانَ مُحَرَّمًا فِى جَمِيعِ الشَّرَائِعِ) الَّتِى أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ (مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ) أَىْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَانَ حَرَامًا فِى كُلِّ الشَّرَائِعِ (كَفَرَ كَأَنْ تَمَنَّى حِلَّ الزِّنَى أَوْ أَكْلِ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَأَكْلِ مَا رُفِعَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ ذَبْحِهِ) أَىْ سُمِّىَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ ذَبْحِهِ كَقَوْلِ بِاسْمِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى أَوْ تَمَنَّى حِلَّ الظُّلْمِ أَوِ الرِّبَا أَوْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ (فَإِنَّ هَذِهِ الأُمُورَ حُرِّمَتْ فِى جَمِيعِ الشَّرَائِعِ مِنْ شَرِيعَةِ ءَادَمَ إِلَى شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ بِخِلافِ مَنْ تَمَنَّى حِلَّ أَمْرٍ كَانَ حَلالًا فِى بَعْضِ الشَّرَائِعِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ فِى النِّكَاحِ أَوْ تَمَنَّى حِلَّ أَمْرٍ كَانَ مُحَرَّمًا فِى جَمِيعِ الشَّرَائِعِ لَكِنَّهُ جَهِلَ ذَلِكَ) أَىْ جَهِلَ حُرْمَتَهُ فِى كُلِّ الشَّرَائِعِ وَظَنَّ حِلَّهُ فِى بَعْضِهَا (فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ).
(الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ)
(مَنْ كَفَّرَ مُسْلِمًا بِلا تَأْوِيلٍ) كَأَنْ قَالَ لَهُ يَا كَافِرُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَلا يَعْلَمُ عَنْهُ شَيْئًا يَعْتَقِدُهُ كُفْرًا (كَفَرَ) الْقَائِلُ (كَمَا صَحَّ فِى حَدِيثِ مُسْلِمٍ مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا (أَىْ كَانَ الْوِزْرُ عَلَى أَحَدِهِمَا) فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ (أَىْ إِنْ كَانَ كَافِرًا حَقِيقَةً خَارِجًا مِنَ الإِسْلامِ فَالْوِزْرُ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ كَفَّرَهُ) وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ (أَىْ وَإِلَّا كَانَ الْوِزْرُ عَلَى مَنْ كَفَّرَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنْ كَفَّرَهُ وَلا يَعْلَمُ عَنْهُ شَيْئًا يَعْتَقِدُهُ كُفْرًا كَفَرَ الْقَائِلُ (وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعَلَ الإِسْلامَ الَّذِى عَلَيْهِ هَذَا الشَّخْصُ الْمُسْلِمُ كُفْرًا وَأَمَّا إِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا) أَىْ كَفَّرَهُ لِأَنَّهُ رَأَى مِنْهُ مَعْصِيَةً ظَنَّهَا كُفْرًا (كَأَنْ كَفَّرَهُ لِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ لِلزِّنَى أَوْ لِقَتْلِهِ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ ظَنَّ لِجَهْلِهِ أَنَّ شُرْبَهُ لِلْخَمْرِ أَوْ زِنَاهُ أَوْ مُجَرَّدَ انْتِحَارِهِ كُفْرٌ فَكَفَّرَهُ لِذَلِكَ فَلا يُكَفَّرُ إنَّمَا يُفَسَّقُ) أَىْ عَلَيْهِ ذَنْبٌ كَبِيرٌ. (وَكَذَلِكَ لَوْ) شَبَّهَهُ بِالْكَافِرِ كَأَنْ (قَالَ لَهُ يَا كَافِرُ مُرِيدًا أَنَّ حَالَكَ وَسِيرَتَكَ لِشِدَّةِ سُوئِهِمَا يُشْبِهَانِ حَالَ وَسِيرَةَ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ) لَكِنْ عَلَيْهِ ذَنْبٌ كَبِيرٌ بِخِلافِ مَا لَوْ قَالَ أَنَا كَافِرٌ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَلا تَأْوِيلَ لِكَلامِهِ.
