الواجبات القلبية بهجة النظر

الاخلاص

من مواعظ سيدي أحمد الرفاعي الكبير رضي الله عنه

يقول رضي الله عنه: “إياك والتقرب إلى أهل الدنيا، فان التقرب منهم يُقسّي القلب، واتخذِ الفقراء أصحابا وأحبابا، وعظّمهم وكن مشغولا بخدمتهم، وإذا جاءك واحد منهم فانتصب له على قدمبك واسأله الدعاء الصالح، وجاهد نفسك لكي تكون منهم وكن شبيها بهم، من تشبّه بقوم فهو منهم ومن أحب قوما حشر معهم، ولو عرف الناس ربهم حق المعرفة كما عرفه الفقراء لانقطعوا عن معاش الدنيا وأحوالها بالكُلّية، ومن علامة الفقير أنه إذا أعطى عطاءا أعطاه لوجه الله ومرضاته لا شىء ءاخر غير ذلك”.

وقال رضي الله عنه: “شرط الفقير أنه لا يعلق نظره بملبوسات الخلق وغيرها، فإنه إن علقه بذلك التبس عليه الأمر، وكلما اختلط الفقير بالخلق ظهرت عيوبه، أي أخي لا تنظر إلى عيوب الخلق فان نظرت أظهر الله فيك جميع العيوب، وإن كان فيك عيب لا تنحرف عن الطريق المستقيم، ولا تراع هوى النفس وشهواتها بل راع التقوى وأنواع الطاعة وملازمة السنة والجماعة، وإذا جلست بالخلوة فاحذر الوسواس، وصفّ خواطرك من الكدورات والرعونات البشرية، وإذا صدر من أخيك عيب فاصفح عنه الصفح الجميل واستر الستر الجليل، وعامل عباد الله بالصلاح والنصح والتقوى، وعظم أهل الخشوع والمراقبة، ومن كان لك عليه حق أو له عليك حق، فداره كي يعطيك حقك أو أن تعطيه حقه، بل إذا كان لك حق عند أحد فسامحه يُعطيك الله ويعوّض عليك، وكن مع الخلق بالأدب، وعليك ترك الدنيا ومخالفة النفس، والحذر من الهوى والهوس فإنّهما أكبر أعدائك، واعلم أن التوفيق في جميع الأحوال إنّما هو من الله سبحانه وتعالى”.

ويقول أيضا: “ومما ينبغي أن يجعل المرء نفسه قائلا بالنصائح والمواعظ، ويكون متلبسا بأفعال المعروف ممتثلا للأوامر والنواهي، واقفا مع الحق وطريق الشرع، حتى اذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر قُبل منه وامتثل له، وكان لأمره تأثير في نفس المأمور ولنهيه وإلا فلا يُقبل منه ذلك ولا يُسمع ما يقول وكان من العظيم عليه قوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون(2) كبُر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون(3)} [سورة الصف] ولهذا كانت قلوب الصالحين مهبط الأنوار، وان لم يكن القلب منورا بنور العبادة والطاعة وأفعال الخيرات كان مهبط الشيطان ويلقي صاحبه في ظلم الباطل ويجره إلى الشقاوة، فنعوذ بالله من ذلك”.

وكان يقول رضي الله عنه ناصحا وواعظا أحد مريديه: “عليك بملازمة الشرع بأمر الظاهر والباطن، وبحفظ القلوب من نسيان ذكر الله، وبخدمة الفقراء والغرباء، وبادر دائما بالسرعة للعمل الصالح من غير كسل ولا ملل، وقم في مرضاة الله تعالى، وقف في مرضاة الله تعالى، وقف في باب الله تعالى، وعوّد نفسك القيام في الليل، وسلمها من الرياء في العمل، وابك في خلواتك وجلواتك على ذنوبك الماضية، واعلم أنّ الدنيا خيال وما فيها زوال، همة أبناء الدنيا دنياهم، وهمة أبناء الآخرة ءاخرتهم.

واشغل ذهنك عن الوسواس، واحذر نفسك من مصاحبة صديق السوء فان عاقبة مصاحبته النّدامة والتأسف يوم القيامة كما قال الله تعالى مخبرا عمن هذا حاله: {ليتني لم أتّخذ فلانا خليلا(28)} [سورة الفرقان]. فبئس القرين، فاحفظ نفسك من القرين السوء.

يا ولدي إن ما أكلته تفنيه، وما لبسته تبليه، وما عملته تُلاقيه، والتوجه إلى الله حتما مقضيا، وفراق الأحبة وعدا مأتيا، والدنيا أولها ضعف وفتور، وءاخرها موت وقبور، لو بقي ساكنها ما خربت مساكنها، فاربط قلبك بالله (أي بطاعته ومحبته)، وأعرض عن غير الله، وسلم في جميع أحوالك لله، واجعل سلوكك في طريق الفقراء بالتواضع، واستقم بالخدمة على قدم الشريعة، واحفظ نيّتك من دنس الوسواس، وأمسك قلبك من الميل الى الناس، وكل خبزا يابسا وماء مالحا من باب الله، وتمسك بسبب لمعيشتك بطريق الشرع من كسب حلال، وايّاك من كسر خواطر الفقراء، وصل الأرحام، وأكرم الأقارب، واعف عمّن ظلمك، وأكثر زيارة القبور، وليّن كلامك للخلق، وكلّمهم على قدر عقولهم، وحسّن خُلقك، وأعرض عن الجاهلين، وقم بقضاء حوائج اليتامى وأكرمهم، وبادر بخدمة الأرامل، وارحم تُرحم، وكن مع الله تر الله معك، واجعل الإخلاص رفيقك في سائر الأقوال والأفعال، واجتهد بهداية الخلق لطريق الحق، ولا ترغب للكرامات وخوارق العادات فإنّ الأولياء يستترون من الكرامات كما تستتر المرأة من دم الحيض، ولازم باب الله، ووجه قلبك لرسول الله، وقم بنصيحة الإخوان، وألف بين قلوبهم، وأصلح بين الناس، واجمع الناس مهما استطعت على الله بطريقتك، وعمّر قلبك بالذكر، وجمّل قالبك بالفكر، واستعن بالله، واصبر على مصائب الله، وكن راضيا عن الله، وقل على كل حال الحمد لله، وأكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تحرّكت نفسك بالشهوة أو بالكبر فصُم تطوعا لله واعتصم بحبل الله، واجلس في بيتك ولا تكثر الخروج للأسواق ومواضع الفُرج فمن ترك الفُرج نال الفَرج، وأكرم ضيفك، وارحم أهلك وولدك وزوجتك وخادمك، واعمل للآخرة، وقل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون.

هذه نصيحتي لك ولكل من سلك طريقي ولاخواني ولجميع المسلمين والمحبين كثرهم الله، وأستغفر الله العظيم من جميع الذنوب خفيها وجليها وكبيرها وصغيرها”.

وقال أيضا: “ترك الوسواس يكون في ترك الحرام، وحسن الإخلاص يكون من خوف الله، والتجرد عن الناس يكون من ذكر الموت والأدب على أحسن قياس يكون من الندم على الماضي من الذنوب، والفكر نور العقل، والذكر نور القلب، والاخلاص نور السر، والتقوى نور الوجه”.

ثم قال: “الوصول باب، والعناية مفتاح، والسخاوة سلُم، والاخلاص قوة، فإذا أخلصت صعدت الى السلم، وإذا صرت سخيا وصلت الى المفتاح وفتحت الباب باذن الفتّاح، بُنيَ الطريق على الصدق والإخلاص وحسن الخلق والكرم، والغنى بالعلم، والزينة بالحلم، والكرامة بالتقوى، والعزة بمخالفة النفس، أكثر من الدعاء المشهور، ومل عن الطريق المشهور، وتذلل للفقير المستور، وعُدّ نفسك من أهل القبور”.

“قف في باب الاستقامة، واسكن في باب المداومة، والزم الصبر على العمل، ومن طرق الباب بالخضوع، فتح له بالقبول”.

“الذكر حفظ القلب من الوسواس وترك الميل الى الناس، والتخلي عن كل قياس”.

“القلب جوهرة مظلمة مغمورة بتراب الغفلة، جلاؤها الفكر، ونورها الذكر، وصندوقها الصبر”.

“الصدق سلم العناية، والتقوى بيت الهداية، والتسليم عين الرعاية، والإخلاص حسن الوقاية، والانكسار لله هو الولاية”.

“لسان الورع يدعو إلى ترك الآفات، ولسان التعبد يدعو إلى دوام الاجتهاد”.

“الحكمة خوف الله، والرباط التوكل على الله، والتدبير التفويض إلى الله، والتسليم العمل بسر {قل كلّ من عند الله(78)}” [سورة النساء].

“انّ الصلاة عليه (أي على النبي صلى الله عليه وسلم) تسهل المرور على الصراط، وتجعل الدعاء مستجابا، وان قدرتم أعطوا الصدقة فإنها تبرد النار وتزيل غضب الله، والإحسان للوالدين وبرهم يهوّن سكرات الموت”.

“يا ولدي التصوف الإعراض عن غير الله، وعدم شغل الفكر بذات الله، والتوكل على الله، وإلقاء زمام الحال في باب التفويض، وحسن الظن به في جميع الحالات”.

“يا ولدي إذا سمعت نقلا حسنا وتعلمت علما فاعمل به، ولا تكن من الذين يعلمون ولا يعملون، ولا تضيع أوقاتك باللهو والطرب وسماع الآلات وكلمات المضحكين، واترك الفرح فإن الفرح في الدنيا جنون، والحزن فيها عقل وكمال، والخلود فيها محال، والانكباب عليها فعل الجهال، واجعل فكرك مشغولا بمن سلف قبلك من الجبابرة والسلاطين ماتوا وكأنهم ما كانوا، هم السابقون ونحن اللاحقون، فسر على منهج الصالحين لتحشر في زمرتهم ولتكون من فرقتهم”.

“اخواني ان غركم لباس الحكام والأعيان وزينتهم وضاقت صدوركم بهذا فاذهبوا إلى المقابر وانظروا ءاباءكم وءاباءهم تجدوا الكل في التراب والله أعلم بمن هو في النعيم وبمن هو في العذاب فأنتم كذلك مع هؤلاء تتساوون {وسيعلم الذين ظلموا أيّ مُنقلَب ينقلبون(227)} [سورة الشعراء].”

“يا ولدي إياك من الاشتغال بما لا يعنيك من الكلام والأعمال وغيرها، وارجع بنفسك عن طريق الغفلة، وادخل من باب اليقظة، وقف بميدان الذل والانكسار، واخرج من مقام العظمة والاستكبار فإنك مضغة ابتداؤك، وجيفة انتهاؤك، فقف بين الابتداء والانتهاء بما يليق لمقامها”.

“واياك من الحسد فان الحسد أم الخطايا، والكذب والحسد والكره سبب لطرد العبد من باب الرب، فلا تعوّد نفسك على هذه الخصال قطعا، واقطع نفسك إلى الله، واعلم بأن الرزق مقسوم، فإذا تحققت من ذلك ما تكبرت، واعلم بأنك محاسَب، فإذا تحققت من ذلك ما كذبت، واغضض طرفك عن النظر إلى أعراض الناس فضلا عن العمل الردىء فإنك كما تدين تُدان، وكما أنّ لك عينا فلغيرك عيون، وكما يولى عليك، وأمسك لسانك عن مذمة الخلق فان للخلق ألسنا، نظرك فيك يكفيك، وكما تقول بالناس قد يقولون فيك، وحاسب نفسك في كل يوم، واستغفر الله كثيرا، وكن طبيب نفسك ومرشدها، ولا تغفل عن حساب نفسك، وإياك من الاشتغال بحظ النفس، وإياك والظهور فالظهور يقصم الظهور”.

والحمدلله أولاً وءاخراً
وصلى الله على سيدنا محمّدٍ الامين

التوبة 

التوبة معناها الرجوع وهي في الغالب تكون من ذنب سبق للخلاص من المؤاخذة به في الآخرة وهي واجبة فورًا من المعصية الكبيرة وكذلك من المعصية الصيغرة، والتوبة هي الندم أي التحسر في القلب أسفًا على عدم رعاية حقِّ الله عز وجل والإقلاع عن الذنب في الحال أي ترك هذه المعصية في الحال والعزم على أن لا يعود إليها أي التصميم المؤكد أن لا يعود إلى هذه المعصية.
وإن كان الذنب ترك فرض قضاه كمن ترك صيام يوم من رمضان بلا عذر شرعي يقضيه بعد يوم العيد مباشرة، فإن كان الذنب ترك فرض قضاه أو تبعة لآدمي قضاه أو استرضاه، فقد روى البخاري في الصحيح مرفوعًا (من كان لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم).

فمن كان لأخيه المسلم عنده مظلمة في عرض أو مال كأن سبه أو أكل له ماله بغير حق فليُبرىء ذمته اليوم قبل يوم القيامة لأنه إن لم يبرىء ذمته في الدنيا قبل الآخرة، لا تردّ عنه الدراهم ولا الدنانير شيئًا فإن مات ولم يبرىء ذمته من هذه المظلمة فإن كان له حسنات أخذ له صاحب الحق من حسناته بقدر مظلمته فإن لم تكف حسناته لذلك أخذ من سيئات المظلوم فحملت على الظالم.
يقول ربنا تبارك وتعالى في القرءان (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه) عبس 34-35، (وصاحبته) أي زوجته (وبنيه) أي أبنائه.

فإن كان ظلم يفر منهم يوم القيامة لأنه يعرف أن ذلك اليوم يوم عقاب وقصاص لكن أين المفر، أما الذين عاشوا وليس بينهم تبعات وظلم يشتاق بعضهم لرؤية بعض.

توبوا إلى الله عباد الله واعلموا أن من الناس من يعاقبهم الله تعالى بسوء الخاتمة بسبب شؤم المعاصي.

يروى أن أحد العلماء المحدثين واسمه الفضيل بن عياض كان له تلميذ وكان هذا التلميذ يحتضر على فراش الموت فوقف الفضيل عنده وصار يلقنه الشهادتين عند الاحتضار يقول له قل لا إله إلا الله فلا يستطيع هذا التلميذ أن ينطق بها، قل لا إله إلا الله فلا ينطق حتى قال هذا التلميذ إني بريء منها ومات على الكفر والعياذ بالله، الفضيل بن عياض خاف وارتعب وصار يبكي من خشية الله، ثم رأى هذا التلميذ في المنام وإذا به يجر إلى جهنم فقال له الفضيل ويلك ماذا فعلت ؟ قال له يا أستاذي أنا كنت أستغيب إخواني وكنت أحسدهم فوصلت إلى هذه المرحلة ومت على الكفر.

اللهمّ لا تجعل مصيبتنا في ديننا وثبتنا على الإسلام، هذا وأستغفر الله لي ولكم.

إذا تاب الانسان من الذنب ولكنه عاد إليه فهل هذا يعني أن قلبك لم يتب أم أن الشيطان يغريك؟

إذا تاب الإنسان من الذنب ولكنه عاد إليه فهل هذا يعني أن قلبه لم يتب أم أن الشيطان يغريه؟ بعبارة أخرى إن نظفت قلبك من الذنب ولكن الذنب يعاودك فهل هذا يعني أن التوبة لم تكن نصوحا أم أن هذا شىء طبيعي بسبب إغراء الشيطان لك؟

الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، إن تاب توبة صادقة بشروطها يمحى ذنبه، ثم إن عاد مرة أخرى كتب عليه ذنب جديد ولكن لا يتجدد عليه الذنب الماضي الذي تاب منه، وأما التوبة النصوحة فهي أعلى درجة وهي التي لا يكرر صاحبها الذنب الذي تاب منه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم (التّائِبُ منَ الذَّنبِ كَمَنْ لا ذَنبَ له) رواه ابن ماجه في سننه، وإن المؤمن قد يرتكب صغيرةً أو كبيرةً والتوبة منهما واجبة، فمن باب أولى الكافر الذي صدّ عن دين الله وكذّب أنبياء الله فهو مع الهالكين إن لم يتب بالرجوع إلى الإسلام، فهنيئا لمن سلك طريق الصالحين وثبت على منهج الأنبياء واتبعهم اتباعا كاملا فهو في الآخرة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصّديقين والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً، فمن وجد أنه في غفلة وأراد أن يعالج ذلك، فالأمر ليس بمجرد البكاء، بل أن يتوب توبة كاملة والتوبة الكاملة هي أن يتوب المرء من كل الذنوب التي سبق وتلوث بها، وأما التوبة غير الكاملة فهي أن يتوب من بعض ويظل منغمسًا ببعض، وأما التوبة النصوح فهي أن يتوب من الذنب وﻻ يعود إليه، وأما التوبة غير النصوح فهي أن يتوب توبة حقيقية ثم يعود فيها بعد فيتلوث بالذنوب والخطايا.
الله تبارك وتعالى فتح باب التوبة وأمرنا في القرءان الكريم نحن معاشر المؤمنين بالتوبة فقال (وَتوبوا إلى الله جميعًا أيُّها المُؤمِنونَ لعلَّكم تفلحون) سورة النور31.

وشروطُ التَّوبةِ:
1) النَّدم يعني التّحَسُّرُ في القلبِ، يقولُ في قلبِهِ مثلًا يا ليْتَني لمْ أفْعَلْ، وإنْ بَكَى فهذا خيْرٌ لكنْ لا يُشْتَرَطُ البُكاءُ، والندَمُ أَسَفًا على عَدَمِ رِعَايَةِ حَقِّ اللهِ، أمَّا إِذَا نَدِمَ لأَمرٍ دُنيَوِيٍّ كَأَن يَندَمَ على قتلِهِ لِوَلدِهِ لأنَّهُ وَلدُهُ، ليسَ أَسَفًا على عَدَمِ رِعَايَةِ حَقِّ اللهِ، أَو نَدِمَ لأجلِ الفضيحَةِ بَينَ الناسِ أَو نَحوِ ذلِكَ، فهذَا لَيسَ الندَمَ الذي هو رُكنُ التوبَةِ، وَلا يَكونُ ذلِكَ توبَةً مُعتَبَرَةً أَي ليسَت هيَ تَوبَةٌ صَحيحَةٌ في حُكمِ الشرعِ.

2) وكذلكَ العَزْمُ على أنْ لا يَعودَ لِمِثْلِ هذا الذَّنْب، يَنْوي في قلبِهِ أنْ لا يَعود.

3) والأمرُ الثالثُ الإقْلاعُ، يَترُكُ هذا الذَّنبُ وإنْ كانَ هذا الذَّنبُ يتَعَلَّقُ بِحَقِّ إنسانٍ قَضاهُ أو اسْتَرْضاهُ. وإنْ كانَ يتعَلَّقُ بِتَرْكِ فرضٍ كالصّلاةِ قَضَى ما فاتَهُ مِنْ هذه الصّلَوات، هكذا تكونُ التّوبةُ.

ففي القوانين الفقهية للفقيه أبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي الغرناطي المالكي (ت 741 هـ) الْبَاب الرَّابِع فِي التَّوْبَة وَمَا يتَعَلَّق بهَا ما نصه (أما التَّوْبَة فمعناها الرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى وَهِي وَاجِبَة على كل مُكَلّف فِي كل حِين وَهِي أول مقامات السالكين وفرائضها ثَلَاثَة النَّدم على الذَّنب من حَيْثُ عصى بِهِ ذُو الْجلَال لَا من حَيْثُ أضرّ ببدن أَو مَال والإقلاع عَن الذَّنب فِي أول أَوْقَات الْإِمْكَان من غير تراخ وَلَا توان والعزم على أَن لَا يعود إِلَيْهِ أبدا وَمهما قضى عَلَيْهِ بِالْعودِ أحدث عزما مجددا….) إلى ءاخر كلامه.

التوكُل 

الحمد لله المنَزَّهِ بذاته عن إشارة الأوهام، المقدَسِ بصفاته عن إدراك العقول والأفهام، المتصفِ بالألوهية قبل كل موجود، الباقي بالنعوت الأبدية بعد كل محمود، القديمِ الذي تعالى عن مماثلة الحدثان، العظيم الذي تنَزَّه عن مماسة المكان، المتعالي عن مضاهاة الأجسام ومشابهة الأنام، القادر الذي لا يُشار إليه بالتكييف، القاهر الذي لا يسئل عن ما يفعل، العليم الذي نزّل القرءان شفاء للأرواح والأبدان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي مدّت عليه الفصاحة رواقها وشَدّت به البلاغة نِطاقها المبعوثُ بالآيات الباهرات والحجج النيّرات، الـمـُنَزَلُ عليه القرءان رحمة للناس وعلى ءاله وصحابته الطاهرين.

أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليّ القدير القائل في محكم كتابه (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىءٍ قَدْرًا) (سورة الطلاق ءايات 2 و 3).

إخوة الإيمان روى أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو عَلَيَّ هَذِهِ الآيَةَ (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) حَتَّى فَرَغَ مِنْ الآيَةِ ثُمَّ قَالَ (يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُم) قَالَ: فَجَعَلَ يَتْلُو بَهَا وَيُرَدِّدُهَا.

والتقوى معناها أداء الواجبات كلها واجتناب المحرمات كلها وقد جاء عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال ومن يتق الله يُنجِه في الدنيا والآخرة (1)، (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي من حيث لا يدري، فالتقوى سبب للفرج من الكربات في الدنيا والآخرة، وسبب للرزق ولنيل الدرجات العلى، أما المعاصى فهي سبب للحرمان في الدنيا وفي الآخرة، فقد روى الحاكم وابن حبان وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الرجل لَيُحْرَمُ الرّزْقَ بالذنبِ يصيبُهُ)، قال بعضهم: فيحرم من نعم في الدنيا من نحو صحة ومال أو تمحق البركة من ماله أو يستولي عليه أعداؤه، وقد يذنب الذنب فتسقط مَنْزلته من القلوب أو ينسى العلم، حتى قال بعضهم: إني لأعرف عقوبة ذنبي في سوء خلق حماري، وقال آخر: أعرفه من تغير الزمان وجفاء الإخوان.

فلا تترك أخي واجبًا مهما كان ولا تأتِ معصيةً مهما كانت صغيرة أو كبيرة ولا تخشَ في ذلك تغير الزمان بل توكَّلْ على الله فإن الأمر كما قال تعالى (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي فهو كافيه، والتوكُل أيها الأحبة معناه الاعتمادُ بالقلب على الله وحده لأنَّه سبحانه خالقُ كلّ شَىء منَ المنَافعِ والمضَارّ وسائِر ما يَدخُل في الوجُودِ فلاَ ضَارَّ ولا نافعَ على الحقيقةِ إلا الله فإذا اعتقدَ العبدُ ذلكَ ووَطَّنَ قلبَه علَيه وأدام ذُكْرَه كانَ اعتمادهُ على الله في أمُورِ الرِّزْقِ والسّلامةِ منَ المضَارّ واجتنب اللجوء إلى المعصية لا سيما عند الضيق روى الإمام أحمد وغيره (2) عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال سَمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا [أى تخرج في أول النهار وليس في بطونها أكل] وَتَرُوحُ بِطَانًا) [أي وترجع إلى أعشاشها وقد امتلأت بطونها].

والتوكل أيها الأحبة لا ينافى الأخذ بالأسباب ففي صحيح ابن حبان أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أُرْسِلُ ناقتي وأتوكل أى هل أترك ناقتي من غير أن أربطها وأتوكل على الله فقال له رسول الله (اعقلها [أى اربطها] وتوكل)، وروى البيهقيُّ في شعب الإيمان عن سيد الطائفة الصوفية الجنيد البغدادي رضى الله عنه أنه قال [ليس التوكلُ الكسبَ ولا تركُ الكسبِ، التوكلُ شىء في القلوب].

فجملةُ التوكّل تفويضُ الأمر إلى الله تعالى والثِّقةُ به مع ما قُدّرَ للعبد من التّسَبُّب أي مباشرة الأسباب ونقل البيهقي (3) عن بعضهم أنه قال اكتسب ظاهرًا وتوكّلْ باطنًا، فالعبد مع تكسبه لا يكون معتمدًا على تكسبه وإنما يكون اعتماده في كفاية أمره على الله عزّ وجلّ.

(وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىءٍ قَدْرًا * إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) أى يقضي ما يريد (4) (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) أي أجلاً ومنتهىً ينتهي إليه، قدَّر الله ذلك كلَّه فلا يقدَّم ولا يؤخر (5) فالميت قتلا والميت بسبب صدمة سيارة والميت على فراشه كلٌّ منهم ميت بأجله وكلٌّ منهم ميت بقضاء الله وقدره لا أحد يموت قبل الوقت الذي قدر له الله أن يموت فيه قال تعالى (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) (سورة الأعراف ءاية 34) وقال تعالى (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا) (سورة الحديد ءاية 22)، وقال عزّ من قائل (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) (سورة النساء ءاية 78) وفي مسند الإمام أحمد أن رَسُولُ اللهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِنَّ النُّطْفَةَ تَكُونُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى حَالِهَا لا تَغَيَّرُ فَإِذَا مَضَتْ الأرْبَعُونَ صَارَتْ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً كَذَلِكَ ثُمَّ عِظَامًا كَذَلِكَ فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُسَوِّيَ خَلْقَهُ بَعَثَ إِلَيْهَا مَلَكًا فَيَقُولُ الْمَلَكُ الَّذي يَلِيهِ أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، أَقَصِيرٌ أَمْ طَوِيلٌ، أَنَاقِصٌ أَمْ زَائِدٌ قُوتُهُ وَأَجَلُهُ، أَصَحِيحٌ أَمْ سَقِيمٌ قَالَ فَيَكْتُبُ ذَلكَ كُلَّهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: فَفِيمَ الْعَمَلُ إِذَنْ وَقَدْ فُرِغَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ سَيُوَجَّهُ لِمَا خُلِقَ لَهُ) فالمآل والعاقبة محجوبان عنا وأعمالنا علامات على ما يصير إليه حال الشخص منا لكن الخاتمة محجوبة عنا فابذل أخى جهدك وجاهد نفسك فِي عَمَل الطَّاعَة مع التوكل على الله سبحانه ولا تَتْرُك بذل الجهد معتمدًا على عفو الله ومغفرته فإن وجدت من نفسك خيرًا فاحمد الله واثبت عليه وازدد منه وإن وجدتَ غير ذلك فاتقِ الله وأصلحْ من حالك قبل فوات الأوان وقبل أن تندم عندما لا ينفع الندم.

اللهمّ حسن أحوالنا واختم بالصالحات أعمالنا واجعلنا من الفائزين الغانمين في الآخرة يارب العالمين.

هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

(1) تفسير الطبري
(2) رواه ابن ماجه والحاكم كذلك
(3) شعب الإيمان
(4) زاد المسير
(5) زاد المسير

الرضا والتسليم بقضاء الله تعالى

يقول الله تبارك وتعالى في القرءان الكريم (وما خلقتُ الجِنَّ والإنسَ إلا ليعبُدون ما أُريدُ منهم من رِزقٍ وما أُريد أن يُطعمون إن اللهَ هو الرزاقُ ذو القوةِ المتين) (سورة الذاريات/ 56-57-58).

فإذا سُئلتَ لِمَ خلقَنا اللهُ؟

فليكُنْ جوابك مستمَدا من هذه الآيةِ القرءانيةِ: لقد خلقَنا اللهُ ليأمرَنا بعبادتِه. فنحن مكلفون مأمورون بعبادةِ اللهِ وطاعتِه وذلك بأن نلتزمَ الحدودَ الشرعيةَ فلا نتعداها بل نؤدي الواجباتِ ونجتنبُ المحرماتِ.

وإذا سُئلتَ لِمَ ليس كلُ الناسِ على الإيمانِ؟

فجوابُك أيضا مستمَدٌّ من القرءانِ الكريمِ، قالَ تعالى (وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)( سورة السجدة/13).

فاللهُ سبحانه وتعالى لم يشإِ الإيمانَ لكلِ الناسِ، فالعبادُ منساقون إلى فعلِ ما يصدرُ عنهم باختيارِهم لا بالإكراهِ والجبرِ، ولو لم يشإِ اللهُ عصيانَ العصاةِ وكفرَ الكافرين وطاعةَ المطيعين لَمَا خلقَ الجنةَ والنارَ.

وإذا سُئلتَ لِمَ جعلَ اللهُ مؤمنين مثابين متنعمين في جنةِ الخُلدِ ولِمَ جعلَ كفارا مخلدين في السعيرِ؟

فليكن جوابُك أيضا من القرءانِ الكريمِ قولَه تعالى (وما ربُّك بظلّامٍ للعبيدِ) وقولَه تعالى (فَعَّالٌ لِمَا يُريدُ)، وقلْ للسائلِ إياك أن تذهبَ مذهبَ الهالكين المتنطعين وتكونَ من جماعةِ إبليسَ المعترضين على اللهِ المطرودين من رحمةِ اللهِ في الآخرة فإنّ اللهَ عزّ وجل يقولُ (لا يُسألُ عمّا يفعلُ وهم يُسألون) فالعبادُ هم الذين يُسألون

يقولُ اللهُ تعالى في القرءان الكريم (وإذ قلنا للملائكةِ اسجُدُوا لآدمَ فسَجَدُوا إلا إبليسَ أبى واستكبرَ وكانَ من الكافرين). (سورة البقرة/34).

اللهُ تعالى أمرَ الملائكةَ أن يسجُدُوا لآدمَ عليه السلام سجودَ تحيةٍ لا سجودَ عبادةٍ، فسَجدوا إلا إبليسَ الذي كانَ من الجنِ (ولم يكن ملكًا لأن الملائكةَ لا يعترضون على الله) أبى واستكبرَ واعترضَ على الله فصارَ من الكافرين الخاسرين باعتراضِه على الله.

فلا شك إخوة الإيمان والإسلام أن المعترضَ على حكمِ الله تعالى خارجٌ من الإسلامِ وهو خاسرٌ خاسرٌ خاسرٌ، فالحذرَ الحذرَ من الاعتراضِ على ربِ العزةِ عند نزولِ المصائبِ والبلايا فإن هذا هلاكٌ وضلالٌ والعياذ بالله.

إخوةَ الإيمانِ إن الدنيا لو كانت هي دارَ جزاءٍ ما أُصيبَ نبيٌ من الأنبياءِ ، البلاءُ على الأنبياءِ في الدنيا أكثرُ من غيرِهم. رجلٌ قالَ لرسولِ الله إني أُحبُك، فقالَ له صلى الله عليه وسلم (انظُرْ ماذا تقول)، قالَ: إني أُحبُك. قالَ: انظُرْ ماذا تقول قالَ: إني أحبك. قال: انظر ماذا تقول فإن البلاءَ أسرعُ إلى من يُحبُني من السَّيلِ إلى منتهاه.

وتذكر أخي المؤمنَ أن هذه الدنيا دارُ بلاءٍ وعملٍ واستعدادٍ لِما بعد الموت، فإذا ابتُليت بمصيبةٍ قل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإياك والاعتراضَ على اللهِ فإن من اعترضَ على الله خرجَ عن دين الله والعياذ بالله. من أصابته فاقةٌ من فقرٍ واعترضَ على حكمِ الله فإنّ كفرَه هذا لا يُقرّب له رزقا بعيدا.

ومن أصابَه مرضٌ واعترضَ على حكمِ اللهِ فإنّ مرضَه لا يزولُ بكفرِه، ومن ماتَ له عزيزٌ أو قريبٌ واعترضَ على حكمِ اللهِ فإنّ الميتَ لا يعودُ بكفرٍه. فيكون هذا الإنسانُ المعترضُ على اللهِ قد أهلكَ نفسَه والعياذُ باللهِ من الاعتراضِ على اللهِ وعلى قضائِه وحُكْمِه.

أما إذا إنسانٌ مسلمٌ ابتُلي فصبرَ وقالَ الحمد ُلله على كلِ حالٍ, للهِ ما أعطى وللهِ ما أخذَ، إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حولَ ولا قوة إلا بالله، اللهم لا تجعلْ مصيبتي في ديني فله أجرٌ عظيم عند الله.

قالَ اللهُ تعالى (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (سورة ق/18)

أي أنّ كلَ ما يتلفَّظُ به العبدُ من الجدِ والهزلِ والغضبِ يُسجلُه الملكان فهل يسرُّ العاقل أن يرى في كتابِه حين يُعرض عليه يومَ القيامة هذه الكلماتِ الخبيثةَ؟

بل يسوؤه ذلك ويُحزنُه حين لا ينفعُ الندم ! فليعتنِ بحفظِ لسانِه من الكلامِ بما يسوؤه إذا عُرِضَ عليه في الاخرة، وقد قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (أكثرُ خطايا ابنِ آدمَ من لسانِه) رواه الطبراني.

ومما يساعدُ على الرضا بقضاءِ الله أن يعملَ الواحدُ بما وردَ في صحيحِ البخاري رحمة الله عليه أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال (إذا نظرَ أحدُكم إلى مَن فُضِّلَ عليه في المالِ والخَلقِ فلينظُرْ إلى من هو أسفلُ منه)، فالنبيُ صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن من نظرَ إلى من هو فوقَه في المالِ أو الجسمِ فلينظرْ إلى من هو أسفلَ منه أي إلى من هو أقلُ منه

إن كثرةَ الدخولِ على الأغنياء تزيدُ النفسَ رغبةً وتعلقًا بالمالِ وزخارفِ الدنيا ومباهجَها.

ومن تعلَّقَ قلبُه بحبِ الدنيا، يجُرُه هذا إلى محاولةِ جمعِ الأموالِِ من غيرِ تمييزٍ بَيْنَ الحلالِ والحرامِ ويصيرُ همُه تكديسَ الأموالِ ولو عن طريقِ السرقةِ أو الاحتيالِ غيرَ مبالٍ بما يترتَّبُ على ذلك من مظالمَ، ورسولُ الله محمدٌ صلى الله عليه وسلم يدلنا على سبيلِ الوقايةِ قبلَ أن تقعَ قلوبُنا في حبِ الدنيا وقبل أن تصيرَ قاسيةً كقساوةِ الحجرِ وقبل أن تنشغلَ بالدنيا عن الاستعدادِ للآخرة والتزودِ لها وذلك بأن ننظرَ إلى من هو أقلُ منا في أمرِ الدنيا، فإذا كانَ الشخصُ يجدُ كفايتَه فقط فلينظُرْ إلى من لا يجدُ كفايتَه. وإذا كانَ يسكنُ بيتا صغيرا فلينظُرْ إلى من لا يجدُ ما يأوي إليه، وإذا كانَ يلبسُ ثوبا رَثًّا فلينظُرْ إلى من لا يجدُ ثوبا يستُرُه أو من البردِ يقيه، وإذا كانَ لا يأكلُ اللحمَ إلا قليلا فلينظر إلى من لا يجدُ كِسرةَ خبزٍ أو شَربةَ ماءٍ ترويه.

أيها الإِخوة الأحباب، أما في أمرِ الدينِ فالمطلوبُ منا أن ننظرَ إلى من هو فوقَنا، فلا ينبغي للواحدِ منا أن يغترَّ بنفسِه وينظرَ إليها بعينِ الإعجابِ والتعظيمِ، وينسى نعمةَ الله عليه الذي أقدرَه أي أعطاه القدرةَ على النطقِ والمشي والبصر، والمطلوبُ من كلِ واحدٍ أن ينظرَ إلى من هو أكثرُ طاعاتٍ منه وأكثرُ اجتهادا وأكثرُ نشاطا وهمةً كي يجتهدَ مثلَه لأن علوَ الهمةِ في الدينِ أمرٌ مطلوبٌ.

اللهم لا تجعلْ مصيبَتنا في دينِنا وتوفَّنا وأنت راضٍ عنا يا أرحمَ الراحمين هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخُطبةُ الثانيةُ (التحذير من الاعتراض على الله)

الحمدُ للهِ نحمَدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونستهْدِيهِ ونشكُرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيّئاتِ أعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِي لهُ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ محمّدٍ.

عبادَ اللهِ، أُوصِيْ نفسِيَ وإيّاكمْ بتقْوَى اللهِ العَليّ العظيمِ فاتقوه واعلموا إخوة الإيمان والإسلام أنّ المعترض على حكم الله تعالى خارج من الإسلام ولا شكّ وهو خاسر خاسر خاسر.

يقول الله تعالى (لا يُسئلُ عمّا يفعل وهم يُسئلون). سورة الأنبياء /الآية 23.

الله ءامر ناهٍ ولا ءامر ولا ناهي له، هؤلاء الذين ينتقدون حكم الله ويعتبرون أنفسهم من أهل الفهم والمعرفة، هؤلاء كأنَهم ما عرفوا أصل خلقتهم.

سيّدنا علي رضي الله عنه قال: ما لابن ءادم والفخر أوله نطفة وءاخره جيفة، معناه لا ينبغي لابن ءادم أن يترفّع، الله خلقه من تلك النطفة التي هي قدر بزقة ثم يعيده إلى التراب.

فالحذر الحذر من الاعتراض على ربِّ العزّة عند نزول المصائب والبلايا فإنّ هذا هلاك وضلال والعياذ بالله، واسمعوا معي قصة فاطمة الزبَيْريّة التي كانت تقيّة صالحة حجّت ثُمّ زارت الرسول صلى الله عليه وسلم ثُمّ نوت الإقامة في مكّة فصار لَها شهرة بالتقوى والصلاح والعلم، ثُمّ عَمِيت سنتين، ثُمّ ذات ليلة أرادت أن تتوضّأ لصلاة الليل فتَزحلقت على درج فانكسر ضلعان من أضلاعها، ومع ذلك تكلّفَتْ فتوضّأت وصلّت، لم تعترض على الله، لم تتسخّط على الله، لم تتخلَّ عن طاعة الله، لم تلجأ إلى المعاصي عند نزول البلاء توضّأت وصلّت، وفي تلك الليلة رأت حبيبها، رأت بدر الكون الأنور، رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر مقبلين من جهة الكعبة، هي باب بيتها كان مواجها للكعبة، فجاء الرسول فبصق على طرف ردائه وقال لَها امسحي به عينيك، فأخذت الرداء فمسحت به عينيها فأبصرت، ثم وضعته على موضع الكسر فتعافى، ثم استيقظت مبصرة، وجاءت خادمتها فرأتها مبصرة فقصّت عليها قصتها، هذه المرأة الصالحة كثير من النساء استفدن منها في الزهد والعلم والتقوى، كانت حنبلية، فاطمة بنت احمد بن عبد الدائم الزبَيرية.

الصبر

الصبر عادة الأنبياء والمتقين، وحلية أولياء الله المخلصين، وهومن أهم ما نحتاج إليه نحن في هذا العصر الذي كثرت فيه المصائب وتعددت، وقلّ معها صبر الناس على ما أصابهم به الله تعالى من المصائب، والصبر ضياء، بالصبر يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم وبين ذوي الجبن والضعف والخور.

والصبر ليس حالة جبن أو يأس أو ذل بل الصبر حبس النفس عن الوقوع في سخط الله تعالى وتحمل الأمور بحزم وتدبر, والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب، قال الله تعالى (أُوْلَـئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـٰماً) [الفرقان:75]، وقال تعالى عن أهل الجنة (سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ) [الرعد:24]، هذا هو الصبر، المحك الرئيسي، لصدق العبد في صبره، واحتسابه مصيبته عند الله.

وفي كتاب الله ءاية عظيمة كفى بها واعظة، عند وقوع المصائب، قال الله تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ٱلاْمَوَالِ وَٱلاْنفُسِ وَٱلثَّمَرٰتِ وَبَشّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ ٱلَّذِينَ إِذَا أَصَـٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].

(إنا لله وإنا إليه راجعون) علاج ناجع لكل من أصيب بمصيبة دقيقة أو جليلة ومصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، لابد أن يخلف في الدنيا يوما ما وراء ظهره، ويدخل قبره فردا كما خلق أول مرة بلا أهل ولا عشيرة ولا حول ولا قوة ولكن بالحسنات والسيئات، فمن صبر واحتسب إيماناً ورضى بقضاء الله يجد الثواب الجزيل والخير العميم في ذلك اليوم.

روى مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبة وأخلفه خيرا منها)، قالت: ولما توفي أبو سلمة؛ قلت: ومن خير من أبي سلمة صاحب رسول الله, فقلتها. قالت: فتزوجت رسول الله.

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي قال (ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه ).

وليعلم المصاب علم اليقين أنّ الله تعالى قال (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَـٰكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد:22، 23].

فوطن نفسك على أن كل مصيبة تأتي إنما هي بإذن الله عز وجل وقضائه وقدره فإن الأمر له، فإنه كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض .

واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك أو يضروك فلن يحصل ذلك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، واستعن على الصبر: بالاستعانة بالله، والاتكال عليه، والرضا بقضائه.

وعن أبي يحيى صهيب بن سنان قال: قال رسول الله (عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) رواه مسلم.

ويقوي على الصبر العلم بتفاوت المصائب في الدنيا، ومن حصل له الأدنى من المصائب يتسلى بالأعلى والأعظم من المصائب التي أصيب بها غيره والعلم بأن النعم زائرة وأنها لا محالة زائلة، والصبر أنواع فمنه الصبر على طاعة الله فيصبر المسلم على الطاعة؛ لأنه يعلم أن الله خلقه لعبادته، قال الله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56] فيصبر على العبادة صبرَ المحبِّ لها الراغب فيها الذي يرجو بصبره ثواب الله؛ شاكراً لله نعمتَه وفضله عليه؛ صابراً على صومه وحجه صابراً على بره بأبويه، ولا سيما عند كبرهما وضعف قوتهما، فهو يصبر على برهما صبر الكرام، تذكراً أعمالهما الجميلة وأخلاقهما الفاضلة، وتذكراً لمعروفهما السابق، فهو يصبر على برهما، قال الله تعالى (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا) [الإسراء:22، 23]، فلا يضجر منهما، ولا يستطيل حياتهما، ولا يسأم منهما ويرى فضلهما ومعروفهما سابقاً قبل ذلك؛ صابر ومحتسب على ما قد يناله من أذية من الخلق، فهو يصبر صبر الكرام، (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ) [الشورى:43].

فالصبرعلى الطاعات عنوان الاستقامة والثبات على الحق، قال الله تعالى (إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ) [فصلت:30،31].

والنوع الثاني من الصبر صبر المسلم عن معاصي الله، يصبر عن الأمور التي حرمها الله عليه، يكفُّ نفسه عنها، ويُلزمها الصبرَ والتحمُّل، يصبر عن مشتهيات النفس التي تدعو إلى المخالفة، يصبر فيغضّ بصره، يصبر فيحصِّن فرجه، يصبر فيمتنع عن الحرام وكل المغريات التي تدعوه إلى المخالفة، فهو يصبر عنها، صابر في مكاسبه فيلزم الحلال وإن قلَّ، ويبتعد عن الحرام وإن كثر، قال الله تعالى (قُل لاَّ يَسْتَوِى ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ) [المائدة:100].

المؤمن صابر في كونه يؤدي الأمانة، يؤدي الحقوق إلى أهلها، صابر في أمانته، صابر في حسن تعامله مع الناس بالخلق الحسن وبين الزوج وزوجته, الزوجان لا بد من مشاكل في الغالب بينهما، فصبرُ الرجل على امرأته وتحمُّله المتاعب عونٌ له على استمرار الحياة الزوجية، وضجره ومعاتبتُه مما يقلِّل تحمله ويفسد الثقةَ بينهما. وكذلك صبر المرأة على زوجها مما يسبِّب صفاءَ الحال وتعاونَ الجميع على الخير والتقوى.

وصبرالرجل على أولاده، ومحاولة جمع كلمتهم، والصبر على ما قد يناله منهم فيه خيرٌ كثير، ولهذا نُهي المسلم أن يدعو على نفسه أو ولده، فلعلها أن توافق ساعةَ إجابة، بل يصبر على الأبناء والبنات، يرجو من الله الفرج والتيسير، ولا يحمله الضجر على الدعاء عليهم، فربما حلّت بهم عقوبة يندم عليها ولا ينفع الندم.

فالصبر عون للعبد على كل خير، صبرٌ يعينه على الاستقامة على الطاعة، وصبر يعينه على الكفّ عن المعاصي، وصبر يعينه على تحمل الأقدار والرضا بها والطمأنينة، والنوع الثالث الصبر على البلاء النازل بالإنسان سواء بجسده أو تلف ماله أو موت عزيز عليه فلا بد من الصبر على قضاء الله وقدره، يؤمن حقَّ الإيمان بأن الله على كل شيء قدير، وأن الله علم الأشياء قبل كونها، وكتبها، وشاءها، وقدرها، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، يؤمن بقضاء الله وقدره، فالصابرون المحتسبون يتلقون المصائب بالصبر والتحمل، يتلقونها أولاًَ بالصبر عليها، ثم ثانياً يتلقونها بالرضا، فلاتحمل نفوسهم تسخطاً على قضاء الله وقدره، ولايتلفظون بألفاظ الإعتراض الكفرية كمسبة الله أو القدر أو نسبة الظلم إلى الله تعالى والتسخط فهذا عمل الكافرين المعترضين على قدرالله وحكمته , والتسليم والرضى والصبر عمل أهل الإيمان، فيصبرون ويحتسبون، ولا يظهر منهم ضجر ولا تسخط على قضاء الله وقدره.

فصبر المسلم على المصائب إنما هو من ثمرات الإيمان الصادق بأن الله حكيم عليم فيما يقضي ويقدر، وأن هذا التقدير تقدير الحكيم العليم، حكيم عليم فيما يقضي ويقدر، فلا اعتراض ولا ملامة، ولكن صبرٌ واحتساب ورضا عن الله، وأكمل المؤمنين من جمع بين الصبر على المصيبة والرضا عن الله تعالى يرجو ما عند الله من الثواب الذي وعد به الصابرين الصادقين، قال الله تعالى (إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].

وما أحوجنا في هذه الظروف الصعبة إلى الصبر والإتكال على الله وعدم اليأس وأن نرجو دفع البلاء بالطاعة والصلاة والعبادة وحبس الألسن عن الإعتراض على الله تعالى فلله الأمر في الأولى والأخرة وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد الذي تنفرج به الكرب وتحل به العقد وتقضى به الحوائج وحسن الخواتيم.

من القصص التي تُظهر أبواب الشيطان وتمويهاته وتُبين أهمية تعلم العقيدة الإسلامية والتسلح بها

من القصص التي تُظهر أبواب الشيطان وتمويهاته، وتُبين أهمية تعلم العقيدة الإسلامية والتسلح بها في مواجهة وساوس الشيطان وتلبيساته، ما رواه ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب ومفاده أن الشيخ موسى روى عن والده الشيخ عبد القادر الجيلاني أنه خرج في بعض سياحاته إلى البرية فمكث أيامًا لا يجد ماء حتى اشتد به العطش، فأظلته سحابة ونزل عليه منها شىء يشبه الندى، فحاول الشيطان أن يغويه فموه على عيني الشيخ فرأى في الأفق نورًا قويًا وصورة عظيمة، وناداه الشيطان بقوله يا عبد القادر أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات، فقال الشيخ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اخسأ يا لعين، فإذا بالنور قد صار ظلامًا والصورة دخانًا، ثم خاطبه الشيطان قائلًا يا عبد القادر نجوت مني بعلمك، وقد أضللتُ بهذه الواقعة سبعين من أهل الطريق.

لقد كانت هذه القصة مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (وفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد)، إذ أن العلم بالله هو الذي جعل الشيخ عبد القادر الجيلاني يعلم أن هذه الصورة وهذا الضوء وهذا الكلام المخلوق الذي سمعه من صفات المخلوقات التي تستحيل على الله الذي ليس كمثله شىء، أي أن الله موجود لا كالموجودات، لا يشبه النور ولا الظلام موجود بلا جهة ولا مكان وكلامه تعالى أزلي أبدي ليس بحرف ولا صوت ولا لغة.

هو الإمام العارف بالله عبد القادر الجيلاني من أشياخ الخرقة وقادة الطريقة وسادات فرسان الحقيقة الإمام العارف الرباني والغوث الكبير الباز الأشهب والطراز المذهب الجامع لأشتات المعاني شيخ الإسلام أبو محمد محيي الدين عبد القادر بن أبي صالح بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن أمير المؤمنين علي عليه السلام رضوان الله عليهم أجمعين.
وذكر أبو الفضل أحمد بن صالح الجيلي أن مولد الشيخ محيي الدين المذكور سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، وأنه دخل بغداد سنة ثمان وثمانين وأربع مائة وله ثماني عشرة سنة.
أخذ العلوم الشرعية والفنون الدينية حتى فاق أهل زمانه وتميز من بين أقرانه، ولد بجيل، وهي بلاد متفرقة وراء طبرستان.
كان نحيف البدن، ربع القامة، عريض الصدر، عريض اللحية، طويلا أسمر، مقرون الحاجبين (أي متصل الحاجبين)، ذا صوت جهوري، وسمت بهي(أي هيئة حسنة)، وقدْر عليّ، وعلم وفيّ، رضي الله عنه.

الخطر الداهم هو الجهل بالدِّين

الجهل يفتك بصاحبه كما يفتك السم بمن يتناوله

كثير من الناس لا يعرفون الخطر الا اذا صار في بيوتهم وأهلهم اما ان يحصنوا انفسهم منه قبل ان يصلهم فلا يعرفون.

ايها الكرام اجيبوني لماذا يقدمون للاطفال الطعم بالابر ضد الامراض وهو طفل صغير اليس حتى لا يصاب بالامراض؟

وعلم الدين والعمل به حصن حصين ضد الامراض الفتاكة التي تستهدف دين المسلم واعماله وهي اخطر بكثير من امراض الجسد لان المؤمن المريض بجسده العارف بدينه لا تستطيع الشياطين اخراجه عن دينه باذن الله لانه يعرف حقيقة هذا الدين وعظمته ولو أغروه بالمال وزخارف الدنيا.

فلو مات وهو مسلم صابر ينتفع بعد موته بجنة موضع السوط فيها خير من الدنيا وما عليها. لذلك اشد الناس خشية من الله العلماء العاملون قال الله تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) واخشاهم نبينا عليه الصلاة والسلام لذلك قال لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا، فالعلم يورث الخشية والخشية تورث الخوف من الله تعالى ومن خاف الله خاف عقابه ومن خاف عقابه خاف ان يقرب ما نهى الله عنه ليسلم بنفسه من وعيد الله بالعذاب.

اما الجاهل اذا سلب شياطين الانس والجن دينه واغرته الدنيا بزخارفها وزينتها ومات مسلوب الايمان فماذا ينفعه بعد ذلك، لا ينفعه شىء الا ان يكون في نار وقودها الناس والحجارة، لا ينفعه مال ولا صحة ولا غير ذلك خسر الدنيا وخسر الآخرة.

وقد روي ان احد الصالحين دخل اللص داره فسرقها فقيل له في ذلك فقال الحمد لله ان الشيطان لم يدخل قلبي فيسرق ايماني.

لذلك اعظم سلاح للمؤمن علم الدين والعمل به.

قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا).

قولُ الله تعالى (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)

قال الله تعالى (رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (سورة يوسف آية 101).

إنَّ يوسفَ عليهِ السلامُ لَما رأى نعمةَ اللهِ عليهِ قد تـمَّتْ وشَـمِلَهُ مَعَ أَبيهِ وأَهلِهِ قد اجتمَعَ وفَتَحَ عليهِ مِنْ خَزائنِ رحـمتِهِ ما فَتحَ، مِنْ بعدِ ما أَفسدَ الشيطانُ بينَهُ وبينَ إِخوتِهِ بـما فعلوا مِنْ تلكَ الأفاعيلِ الخسيسةِ، أثنى على ربِّهِ بما هو أَهلُهُ واعترفَ لهُ بعظيمِ إِحسانِهِ وفضلِهِ إذ أخرجَهُ مِنَ السجنِ بعدَ الـهَمِّ والضيقِ والحُزنِ وجعلَهُ مَلِكًا وحاكِمًا نافِذَ الكلمةِ وسألَهُ أنْ يتوفَّاهُ ويُـمِيتَهُ على الإسلامِ الذي فيهِ السعادةُ الأَبديةُ في الآخرةِ، سألَ اللهَ تباركَ وتعالى (رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (سورة يوسف آية 101).

(رَبِّ) أي يا ربُّ خالقِي ورازقِي ومالكَ أَمْرِي ومعبودِي الذي ليسَ لي معبودٌ سِواهُ،

(قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) و(مِن) فيهِما للتبعيضِ إذ لم يُؤْتَ إلا بعضَ مُلكِ الدُّنيا إذ أصبحَ ملِكًا لـمصرَ فقط،

وبعضَ (تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) أي تعبيرِ الرُّؤَى،

(فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) أي خالقَهُما على غَيرِ مِثالٍ سابِقٍ،

(أَنْتَ وَلِيِّي) أي مُتَوَلِّي أَمْرِي فِي الدَّارَينِ (الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)،

ثُمَّ طلبَ الوفاةَ على حالِ الإسلامِ (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا) أي إذا حانَ أجلي اقْبِضْنِي إليكَ مُسْلِمًا، اجْعَلْنِي مُسْتَمِرًّا على الإسلامِ إلى ءاخِرِ لحظةٍ في حياتي،

(وَأَلْحِقْنِى بالصالحِينَ) معناهُ واجعَلْ لَحاقِي بصالحِ ءابائِي إبراهيمَ وإسحاقَ ومَنْ قبلَهُم مِنْ أَنبيائِكَ ورُسُلِكَ عليهِمُ السلامُ.

فقولُ يُوسُفَ عليهِ السلامُ (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا) كقولِ يَعقُوبَ عليهِ السلامُ لولدِهِ (وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (سورة البقرة 132) وإنما دعا بِهِ يُوسُفُ عليهِ السلام ليقتدِيَ بِهِ قَوْمُهُ ومَنْ بعدَهُ مـمن ليسَ بـمأمونِ العاقبةِ، لـهذا الغرضِ طلبَ مِنَ اللهِ أنْ يَتَوَفَّاهُ مُسلمًا مَعَ أَنَّهُ شَىءٌ لا شَكَّ فيهِ، كما نقولُ في كُلِّ صلاةٍ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (سورة الفاتحة 6).

ثُمَّ أَلَيسَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يقولُ في كُلِّ صلاةٍ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (سورة الفاتحة 6) مع أنَّهُ كانَ مُهْتَدِيًا قَبلَ ذلكَ قبلَ نزولِ الفاتحةِ؟! ومعنى قولِهِ (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (سورة الفاتحة 6) أَكْرِمْنَا باستدامةِ الهدايةِ على الإسلامِ، هو الرسولُ عليهِ السلامُ كانَ مُؤْمِنًا مِنْ أَوَّلِ نشأَتِهِ إنـما الـمرادُ الثباتُ على الهُدى، وإنما التَثبيتُ على الشىءِ الحاصلِ وليسَ على شىءٍ لم يَحصُلْ، كما كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يقولُ مَعَ أَنَّهُ مَأْمُونٌ عَليهِ ولكِنْ لِيُعَلِّمَ أُمَّتَهُ (اللَّهمَّ يا مُقَلبَ القَلوبِ ثَبِّتْ قُلوبَنا على دِينِكَ) رواهُ البيهقيُّ.

واستجابَ اللهُ تعالى دُعاءَ يُوسُفَ عليهِ السلامُ فلَمْ يَلْبَثْ إلا قليلًا حتى وافاهُ الأَجلُ فارْتَحَلَ والْتَحَقَ بآبائِهِ وصالحِي إِخوانِهِ فسلامُ اللهِ عليهِ وعلَيهِم وعلى كُلِّ المرسَلِينَ والحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ.

اللَّهُمَّ إنَّا ءَامَنَّا بِكَ وبملائِكَتِكَ وبِرُسُلِكَ فَثَبِّتْنا على الصراطِ المستقِيمِ والهَدْيِ القَوِيمِ.