قالَ اللهُ تعالى:يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا
يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ في القرءانِ الكريم: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ﴾. اللهُ تعالى أمرَنا أنْ نَتزوَّدَ مِنْ هذهِ الدُّنيا بالتَّقوَى للآخرة، لماذا؟ لأنَّ التَّقوَى سبيلُ النَّجاة، وطريقُ المُتَّقين، لأنَّ التَّقوَى درجةٌ عاليةٌ مَنْ ماتَ عليها كانَ مِنَ السُّعداء الآمِنينَ المُطمئِنِّينَ في الآخِرةِ الذين يدخلونَ الجنَّةَ بلا سابِقِ عذاب، لا يُعذَّبونَ بالمَرَّة، لا في القبرِ ولا في مواقفِ القيامة ولا يَدخلونَ النار، بل يكونُ لهم مَرتبة عالية في الجنَّة، لا يكونونَ من عوامِّ المُؤمنين، الأتقياءُ لهم درجة، لهم منزِلة، لهم رُتبةٌ خاصَّةٌ. اللهُ ماذا قالَ في القرآنِ ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا﴾ هؤلاء وفودُ الرَّحمن، ما معنى وفودُ الرَّحمن؟ يعني الوفود الذين يُكرِمُهم الرَّحمن، الأتقياءُ الذين يَرَوْنَ الهنَاء والسَعادة والنَّعيم فلا يُصيبُهم نَكدٌ ولا يُصيبُهم همٌّ ولا يُصيبُهم غَمٌّ، ولا يُصيبُهم انزعاجٌ ولا يُصيبُهم ألمٌ، إنَّما يكونونَ في نعيمٍ وسعادةٍ مِنْ وقتِ أنْ يُدفَنوا إلى أنْ يدخلوا الجنَّة ثمَّ في الجنَّةِ لهم منَ النَّعيم أكثر، في الجنةِ لهم من المَقاماتِ أكثر، لهم منَ السعادةِ أكثر. اللهُ عزَّ وجلَّ خصَّهُم بالذِّكرِ في هذه الآية: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا﴾. انظر! انتبه! اسمعوا! وانتبهي ولننتَبِهْ جميعًا لولا أنَّ لهم تلك المَنزلِة العظيمَة العاليَة الخاصَّة لماذا بيَّنَ أنَّهم وفودُ الرَّحمن، فلا يَلقونَ شيئًا من المُنغصات، لا يرونَ شيئًا منَ المُزعجات، لا يرونَ شيئًا منَ المُكدِرات، لا يرونَ شيئًا منَ العذاب، إنَّما هم في نعيمٍ وسعادةٍ. وفوُدُ الرَّحمن أي الوفودُ الذينَ يُكرِمُهم الرَّحمن.
غـزوةُ الأحْـزاب
الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِنا محمَّدٍ الصادقِ الوعدِ الأمين،
أمَّا بعدُ؛ في السنةِ الرابعةِ للهجرةِ حصَلت غزوةُ الخَندقِ أي الأحزابِ وكانَ مِنْ خبرِها أنَّ نفرًا من اليهودِ من زعماءِ بني النَّضِير الذينَ أجْلاهُمْ رسولُ اللهِ ﷺ عن المدينةِ خرجوا حتى قدِموا مكةَ ودعَوا المُشرِكينَ من قريشٍ إلى حربِ رسولِ اللهِ والمسلمينَ وتواعَدوا لذلك.
ثم خرجَ اليهودُ حتى جاءوا إلى قبائلِ العربِ منَ المشركينَ ودعوهُم إلى ما دَعَوا إليه قريشًا منْ قِتالِ رسولِ اللَّهِ ﷺ والمسلمينَ في المدينة، وتمَّ لهم مع هؤلاءِ جميعًا تواعُدٌ في الزمانِ والمكانِ لحربِ الرسولِ في المدينةِ المنوَّرة.
ووصلَ الخبرُ إلى الرسولِ فجمعَ أصحابَه وأخبرَهمْ بخبرِ العدوِّ وشاورَهمْ في الأمرِ فأشارَ عليه سلمانُ الفارسيُّ بحفرِ الخندقِ فأُعجِبَ الرسولُ بذلكَ ﷺ.
وخرجَ النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام مع صحابتِه من المدينةِ وعَسْكَر بهِم في سفحِ جبلٍ جعلوهُ خلفهُم.
ثمّ هبَّ المسلمونَ جميعًا ومعهم الرسولُ ﷺ يحفرونَ هذا الخندقَ بينَهم وبينَ عدوِّهِم، وكان عددُ المسلمينَ ثلاثةَ ءالافٍ وعددُ ما اجتمعَ منْ مُشرِكي قريشٍ والأحزابِ الكافرةِ حوالَي عشَرةِ ءالاف.
وصارَ الرسول ﷺ يعملُ بكدٍ وتعبٍ معَ أصحابِه ويُشَجِّعُهم على حفرِ هذا الخندقِ وأخذَ ينقلُ التُرابَ مع الصحابةِ حتى غطّى الترابُ جِلدةَ بطنِه. ثم إنّ أصحابَ الرسولِ ﷺ من مهاجرين وأنصارٍ صاروا يُردِّدون: نحن الذين بايعوا محمَّدًا على الجهادِ ما بقينا أبدًا.
وعندما يسمعُ النَّبيُّ ﷺ هذا النداء كان يجيبُهم وهو الرَّءوفُ الرَّحيمُ بأمَّتِه “اللهُمَّ إنَّه لا خيرَ إلَّا خيرُ الآخرة فبارِكْ في الأنصارِ والمُهاجِرة”.
ثم تابع ﷺ حفرَ الخندقِ مع أصحابِه حولَ المدينةِ وبطنُه معصوبٌ بحجرٍ من الجوع، فرأى الصحابيُّ جابرُ بنُ عبد الله هذا المشهد فهبَّ مُسرعًا إلى بيتِه علَّه يقدِّم شيئًا للرسولِ وأصحابِه، وطلب من زوجتِه أن تُحضِّر له طعامًا ففعَلتْ،
وعندما قاربَ الطعامُ القليلُ أنْ ينضُجَ، ذهب جابرٌ إلى رسول الله ﷺ وقال له قمْ أنت يا رسولَ اللهِ ورجلٌ أو رجلان وأخبرَه بما صنَع من طعام.
وفي بيتِ جابرٍ ظهرَتْ معجزةٌ عظيمةٌ باهرةٌ منَ المُعجزاتِ الكثيرةِ التي أيّدَ اللَّهُ بها نبيَّهُ إذ نادى الرسولُ في المهاجرين والأنصار وهو يقول لهم: “قوموا”، ويُخبرُهم بأنَّ جابرًا صنع طعامًا،
ويُسرعُ جابرٌ إلى امرأتِه ويقولُ لها جاءَ النَّبيُّ ﷺ بالمهاجرينَ والأنصار ومَنْ معهمْ فتقولُ له: هل سألكَ كمْ طعامُك؟! فيقولُ لها: نعم، فتقولُ له: اللَّهُ ورسولُه أعلم.
فدخلَ رسولُ اللهِ ﷺ مع الصحابةِ إلى بيتِ جابرٍ وأخذ يكسرُ الخبزَ ويجعلُ اللحمَ ثم يُغطِّي القِدرَ الذي فيه الطعام وهو على النار، ثم صارَ يأخذُ منهُ ويُقرِّبُ إلى أصحابِه ثم ينزِعُ وهكذا لم يزلْ رسولُ اللهِ ﷺ يكسرُ الخبزَ ويَغرِفُ ويُعطي أصحابَهُ حتى شبِعوا كلُّهم وبقيَ بقيةٌ منَ الطعام.
فقال رسول الله ﷺ لامرأةِ جابرٍ: “كُلي هذا وأهْدي فإنَّ الناسَ أصابَتْهم مَجاعة”.
رجعَ رسول الله ﷺ مع أصحابِه من بيتِ جابرٍ ليُتابِعوا ما بدَأُوا بهِ مِنْ حفرِ هذا الخندق، ولما انتهَوا منْ حفرِه وصلَ المشركونَ ومَنْ معهُم منَ الأحزابِ وفوجِئوا بهذا الخندقِ العظيمِ يَحُولُ بينَهمْ وبينَ المدينةِ فعسْكَروا حولَهُ يُحاصِرونَ المسلمينَ والغيظُ يمْلأُ قلوبَهم.
ثم إنَّ رسولَ الله ﷺ أرسلَ رجلًا كان مُشركًا ثم أسلمَ ليفرِّقَ ما بين اليهودِ الذينَ نقَضوا العهدَ وبينَ بقيةِ الأحزابِ المُجتمعة لحربِ الرسولِ والمسلمينَ على بعض، وحتى ينزِعَ الثقةَ مما بينَهم، وتم ذلك بمشيئةِ اللهِ الواحدِ القهار، وحذِرَ الكفارُ بعضُهم من بعضٍ وأصبح كلُّ فريقٍ منهم يتهمُ الآخرَ بالغدرِ والخيانة.
ثمّ إنَّ اللَّهَ تعالى أرسلَ ريحًا هوْجاءَ مخيفةً في ليلةٍ مظلمةٍ شديدةِ البردِ جاءت على المشركينَ فقَلَبتْ قُدورَهم واقتَلعتْ خيامَهمْ ونشرَت الرُّعبَ بينَ صفوفِهم فوَلَّوْا مُدبِرينَ مذعورينَ في صباحِ اليومِ الثاني إلى مكةَ وقد خابَ أملُهم في قتالِ الرسولِ وأصحابِه وعادَ الرسولُ ﷺ وكلُّهُ ثقةٌ باللهِ تعالى المُدبِّرِ لكل شىءٍ مُنتصِرًا مع أصحابِه إلى المدينة، وقد كفاهُمُ اللَّهُ تعالى شرَّ هؤلاءِ الأحزابِ الكافرينَ من مُشرِكي قريشٍ واليهود.
ثم بعدَ الخندقِ فورًا حارب رسولُ الله ﷺ يهود بني قُريْظة الذين نقَضُوا العهْدَ وغدروا بالمسلمين، فحاصَرهم في حُصونهم ثمَّ قهَرَهمْ واسْتَوْلى على حصونِهم وأراضِيهم التي كانت حول المدينة، وبذلك زالَ خطرُهم وانقطعَ ضررُهم وخلَتْ تلكَ البقاعُ مِنْ أدرانِهم وخُبْثِهم.
سُئِلَ الإمامُ عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ عنِ القَدَرِ؛ فقالَ: سِرُّ الله
سُئِلَ سيِّدي عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ عنِ القَدَرِ فقالَ للسائِل: “سِرُّ اللهِ فلا تَتَكَلَّف”، القَدَرُ سِرُّ الله. اللهُ تعالى ما أطلَعَ أحدًا مِنْ خلْقِهِ على سِرِّ القَدَر، ما أطلَعَ الملائكِة على حقيقةِ القَدرِ، ما أطلَعَ الأنبياء، ما أطلَعَ الأولياء. قالَ له سيِّدُنا عليٌّ: “سِرُّ اللهِ فلا تَتَكَلَّف”، فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهِ السائِل قالَ له: “أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لا جَبْرٌ وَلا تَفْوِيضٌ”، لستَ مجبورًا لا إرادة لكَ ولا مَشيئَة، ولستَ مُستقِلًّا عنِ اللهِ، بل لكَ مَشيئَة تحتَ مَشيئَةِ الله، لذلك قالَ الحسنُ رضيَ اللهُ عنه: “لو أنَّ اللهَ أجبرَ الخَلْقَ على فعلِ الطَّاعَةِ لأسقَطَ عنهم الثَّوابَ، ولو أجبَرَهُم على فعلِ المَعصيةِ لأسقطَ عنهم العِقاب، ولو أهمَلَهُم لكانَ ذلكَ عَجزًا في القدُرَةِ، ولكن له فيهم المَشيئَة التي غيَّبَها عنهم”. قال سيِّدي رسولُ اللهِ ﷺ مُعلِّمًا بعضَ بناتِهِ أنْ تقولَ كلَّ صباحٍ ثم هذا الحديثُ انتَشَرَ واستَفَاضَ بين الأُمَّةِ:”ما شاءَ اللهُ كان وما لمْ يَشأْ لم يَكُن”. ما شاءَ اللهُ في الأزلِ أنْ يكونَ لا بُدَّ أنْ يكونَ وما لمْ يَشأ اللهُ تعالى وجودَهُ لا يُوجَد. ولوِ اجتَمَعَ الخَلقُ الإنسُ والجِنُّ على أن يَنفَعُوكَ بشىءٍ لا يَنفَعُوكَ إلَّا بشىءٍ قدْ كتبهُ اللهُ لكَ، ولو اجتَمَعوا على أنْ يَضُرُّوكَ بشىءٍ لا يَضرُّوكَ إلا بشىءٍ قدْ كتَبهُ اللهُ عليكَ. ما شاءَ اللهُ كانَ وما لمَ يَشأ لم يَكُن، ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا بالله. لا حولَ عنْ معصيةِ اللهِ إلَّا بِعِصمَةِ الله، ولا قوَّةَ على طاعَةِ اللهِ إلَّا بِعَونِ الله.
