بغية الطالب ج٢ الدرس ٥٣
الصبر وبغض الشيطان وبغض المعاصي ومحبة الله والرسول والصالحين.
( قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم “مَا أُعطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيرًا وأَوسَعَ مِنَ الصّبر”رواه البخاري ومسلم والبيهقي وأحمد. لأنّ الصّبرَ أنواعٌ الصّبرُ على مَشَقّاتِ العِبادَاتِ كمَشَقّة طَلَبِ العِلم عِلمِ الدّينِ وتَحصِيلِه وسائرِ الفُرُوض التي فَرَضَها اللهُ والصّبرُ على النّفْس عن المعَاصِي هَذا الصّبرُ الواجِبُ،فالصّبرُ على أداءِ الفَرائض واجتِناب المحرّمَاتِ واجِبٌ، ثم بعدَ ذلكَ صَبرٌ ءاخَرُ لأهلِ الإرادَاتِ أي الذينَ يُريدُونَ أن يَصِيرُوا أتقياءَ صُلَحَاءَ، أولئكَ يَحتَاجُونَ إلى مَزِيدِ صَبرٍ، قالَ بَعضُهُم
ألا بالصَّبرِ تَبْلُغُ مَا تُريدُ وبالتَّقْوَى يَلِيْنُ لَكَ الحَدِيدُ.
هَذا الصّبرُ لأهلِ الخُصُوصِيّاتِ الذين يُرِيدُونَ أنْ يَترَقَّوا إلى دَرجَةِ الاستِقَامَةِ دَرجَةِ الوِلايَةِ، لا يَصِلُ الإنسَانُ إلى الوِلايَةِ إلا بَعدَ أنوَاع الصّبرِ الثّلاثَةِ الأُوَل، ثم الصَّبْرُ عن كَفِّ النّفْس عن كَثِيرٍ مِنَ المبَاحَاتِ ولا يَصِيرُ الإنسَانُ وَليّا إلا بهذه الطّريقَةِ، أمّا بمجَرّدِ لُزُوم الصّلَواتِ الخَمس وصِيامِ رمَضَانَ وكَثرَة الذِّكْر فَلا يَصِيرُ العَبدُ وَليّا مَهمَا أتْعَبَ نَفسَه، ثم العِلمُ المكتَسَبُ يَحصُل بالتّلَقّي مِنَ العُلَماءِ معَ المدَاومَةِ على الصَّبر أمَّا العِلمُ اللَّدُنّي فَهوَ عِلمٌ غَيرُ مُكتَسَبٍ، ذاكَ لا يَكونُ إلا للَوليّ أمّا الذي لا يَشتَغِلُ بعِلم الدّين الذي يُعرَفُ بهِ الحَلالُ والحَرام مُستَحِيلٌ أن يَصِلَ إلى الوِلايَةِ.)
قال المؤلف رحمه الله: وبُغْضُ الشّيطانِ.
الشرح: أنّهُ يجبُ على المكلَّفينَ بُغْضُ الشّيطانِ أي كَراهِيَتُه، لأنّ الله تعالى حَذَّرَنا في كتابِهِ منهُ تَحذيرًا بالِغًا قال الله تعالى: {فاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [سورة فاطر/6] إلى غَيرِ ذلكَ من ءاياتٍ عَدِيدَةٍ، والشّيطانُ هوَ الكافرُ منْ كُفّارِ الجِنّ، وأمَّا مؤمنُوهُم فهمْ كمؤمِني الإنسِ فيهم صُلَحاءُ وفيهم فُسَّاقٌ، ويُطلَقُ الشّيطانُ ويرادُ به إبليسُ الذي هوَ جدُّهُمُ الأعلى.
({فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} قال في البحر المحيط: أي بالمقاطَعَة والمخَالفَة واتّبَاع الشَّرع.وقال النّسفي في تفسيره: في عَقائِدِكم وأفعَالِكُم ولا يُوجَدَنَّ مِنكُم إلّا مَا يَدُلُّ على مُعَاداتِه في سِرِّكُم وجَهركم.وقال ابنُ الجوزي في تفسيره:أي أنزِلُوه مِن أَنفُسِكُم مَنزِلةَ الأعداءِ وتَجنَّبوا طَاعتَه)
قال المؤلف رحمه الله: وبُغضُ المعاصي.
الشرح: أنّهُ يجبُ كراهيَةُ المعاصي منْ حيثُ إنَّ اللهَ تبارك وتعالى حرَّمَ على المكَلَّفِينَ اقتِرافَها، فيَجبُ كراهيَةُ المعاصي وإنكارُها بالقَلبِ منْ نفسِهِ أو مِنْ غَيرهِ.
قال المؤلف رحمه الله: ومحَبَّةُ اللهِ ومحبَّةُ كلامِهِ ورسُولِهِ والصّحَابةِ والآلِ والصّالحِينَ.
الشرح: أنّهُ يجبُ على الْمُكلَّفِ محبّةُ الله (بتَعظِيمِه على ما يَلِيقُ به.) ومحبّةُ كلامِهِ ومحبّةُ رسُولِهِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وسائرِ إخوانِهِ الأنبياء، قال الله تعالى {قُلْ إنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهُ فاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [سورة ءال عمران/31]. (هَذِه الآيةُ مَعناها أنّ مَن يحِبُّ اللهَ تعالى يتَّبِعُ الرّسولَ فإنِ اتّبَعَ الرّسولَ يُحِبُّه الله، والذي يَدّعِي مَحبَّةَ الله ومَحبّةَ رسولِ الله ولا يتّبعُ شَرعَهُ فهوَ غيرُ كاملِ المحبّة. كلُّ مسلِم يحِبُّ رسولَ الله مِن حيثُ إنّه رسولُ الله لكنْ فَرقٌ بَينَ محَبّةٍ ومحَبّة، محبّةُ الله تعالى درَجاتٌ بعضُها فوقَ بَعضٍ ومحبّةُ الرّسولِ كذلكَ درَجَاتٌ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ، فالمحَبّةُ الكاملَةُ لله تَعالى لا تكُونُ إلا باتّباع الرّسولِ صلّى الله عليه وسلّم واتّباعُ الرّسول متَوقّف على ما جاءَ به رسولُ الله، لأنّ كلَّ عمَلٍ لم يُوافِق ما جاءَ بهِ رسولُ الله فهوَ مَردودٌ عندَ الله .) أي إنِ اتّبَعتُم رسولَ الله اتّباعًا كامِلًا يُحبّكُم اللهُ تعالى، عَلامَةُ حُبّ الله تعالى هو اتّباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فمَن اتّبع سيدنا محمدًا اتّباعًا كاملًا فهو من أولياء الله، مِن أحباب الله الذين لا خوف عليهم ولا هُم يَحزنون، سواءٌ كانوا رجالا أو نسَاء. “قل إن كنتم تحبّون اللهَ” أي قل يا محمّدُ إن كنتُم تُحبّونَ اللهَ “فاتّبِعوني يُحبِبْكمُ الله”، إن اتّبَعتُموني يُحبِبكُم الله، الله تعالى أرسلَ الأنبياءَ ليُطِيعَهُمُ النّاسُ فمَن أطَاعَهُم فقَد نالَ رِضى الله ومَن ترَكَ طَاعتَهُم فقد باءَ بسَخَطٍ منَ الله، علامَةُ حُبّ اللهِ إتّباعُ الرّسول، النّبيُّ يجبُ أن يُتّبَع في الاعتقادِ والشّريعة، الاعتقادُ هي العقيدةُ أمّا الشّريعة فهيَ الأحكامُ الصّلاةُ والصّيامُ والحَجّ والزكاة.)38221:14
وروى البخاريُّ ومسلم (أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان: باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين.) بإسنادٍ صحيحٍ مِن حَديثِ أنَسٍ رضيَ الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يؤمِنُ أحَدُكُم حتى أكونَ أحَبَّ إليهِ مِنْ والِدِهِ ووَلَدِهِ والنّاسِ أجمَعِين”
( معنَاه لا يكونُ إيمانُهُ كامِلًا، لا يَصِيرُ مِنَ الأولياء، والمرادُ هُنَا محَبَّةُ الميْل لا مَحبّة التعظيم. الْمَيلُ نَوعَانِ مَيلٌ طَبِيعِيٌّ ومَيلٌ سبَبُه استِحسَانُ حَالِ الشّخصِ لحُسْنِ حَالِه أو لِكَثرَةِ مَا يُسْدِيْهِ مِنَ الْمَنفَعَةِ، كُلُّ هَذا مَيلٌ لكنّ الأحكَامَ تَختَلِفُ، الميلُ الطَّبِيعيُّ هوَ خِلقِيٌّ في الإنسَان، الإنسَانُ لَهُ مَيْلٌ إلى أبيهِ وأُمِّه ووَلَدِه، والأمُّ كذَلك لها مَيلٌ إلى ولَدِها هذا لا يؤاخَذُ بهِ الإنسَانُ، أمّا الْمَيلُ الذي يكونُ لأجْلِ حَالِ شَخصٍ فمِنهُ مَذمُومٌ ومِنهُ مَحمُودٌ،، إنْ مالَ إليهِ لحُسنِ دِينِه فَهذا مَحمُودٌ أمّا إنْ مالَ إليه لموافقَةِ الهَوى فهوَ مَذمُومٌ كذَلكَ إنْ كانَ لأجْل موافَقَتِهِ على سِيرَتِه الخَبِيثَةِ أو عَقِيدَتِه الخَبِيثَةِ فَهذا مَذمُومٌ، والمحبَّةُ كذلكَ تُوجَدُ مَحبَّةٌ طَبِيعِيَّةٌ هيَ مَيلٌ طَبِيعِيٌّ وتُوجَدُ محَبَّةٌ مَعنَويَّةٌ أيْ لأَجْلِ أنّ هَذا الإنسَانَ سِيرَتُه حَسَنَة أو لأنّ لهُ فَضلًا في الدِّين.
عمرُ بنُ الخطاب لما قال للرّسول صلى الله عليه وسلم “أنتَ أحَبُّ إليَّ إلا مِن نفسي” مرادُ عمر المحبّةَ الطّبِيعيّة، الميلَ الطّبيعيّ، لا يعني الميلَ الذي هو محبّةٌ لحُسن الحال. وعمرُ قالَ هَذا قَبلَ أنْ يصلَ إلى النّهاية في محبّة رسول الله، ثم بعد ذلك تَغيّر حالهُ فوصَل إلى الغايةِ في محبَّة الرسول صلى الله عليه وسلم. بعدَ ذلك عمر قال للرسولِ صلى الله عليه وسلم: أنت أحب إلي من نفسي ومالي وولدي، فقال له رسول الله “الآنَ الآنَ يا عُمَر” معناه الآنَ بلَغتَ النّهايةَ في كمَالِ المحبَّة)
( عن عبدِ الله بنِ هِشَامٍ القُرَشيّ التّيْمِيّ قال : كنّا مع النّبي صلى الله عليه وسلم وهو آخِذٌ بيَدِ عمرَ بنِ الخطّاب ، فقال عمرُ : واللهِ لأنتَ يا رسولَ اللهِ أحَبُّ إليَّ مِن كُلِّ شَيءٍ إلّا نَفسِي ، فقال النَّبيّ : « لا والذي نَفسِي بِيَدِه ، حتى أكُونَ أحَبَّ إلَيكَ مِن نَفسِكَ » ، فقال عمرُ : فأنتَ الآنَ أحَبُّ إليَّ مِن نَفسِي ، فقال النّبيّ : « الآنَ يا عُمَر » رواه البزار والطبراني).
