فضيحة جديدة مِن فضائح الجَهَلَة المُتصولحة
أهل الفتنة لم يترُكوا تصحيفًا في كتاب إلَّا اعتقدُوه!
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
1
وبعدُ فإنَّ أهل الفتنة جَهَلَة مُتصولحة يتَّبعون الصُّحُف بما احتوت عليه مِن صحيح وسقيم؛ فلا يُميِّزون بين النَّصِّ السَّالم من التَّحريف والتَّصحيف وبين غيره؛ ولا يُحقِّقون مذهبًا.. وكيف يُحقِّقون والجاهل لا تحقيق عنده!
2
ولأنَّ الأمر كذلك فقد خلط الجَهَلَة المُتصولحة على عادتهم بين مذاهب العُلماء ونسبوا إلى الإمام أبي الحَسَن الأشعريِّ كلام غيره وقالوا إنَّه نصُّه في مسألة العصمة ونصُّه في بيان معنَى الزَّلَّة الَّذي (حرَّفناه) نحن في زعمهم!
3
فقال الجَهَلَة المُتصولحة إنَّ العلاء البُخاريَّ نقل عن الإمام (أبي الحسن الأشعريِّ) أنَّه قال في الزَّلَّة: (معناها الزَّلل عن الأفضل إلى الفاضل والأصوب إلى الصَّواب) إلخ.. وهذا مِن الجَهَلَة أخذ بالتَّحريف في أوضح صُورة.
4
فعبدالعزيز البُخاريُّ إنَّما نقل ذلك في [كشف الأسرار] عن (أبي الحسن البشاغريِّ) كما في الطَّبعة الأُولى لدار الكُتُب العلميَّة 1997 جـ/3 صـ/297 بتحقيق عبدالله محمود مُحمَّد عُمر، وكما في غيرها مِن الطَّبعات.
5
وحرَّف الجَهَلَة (البشاغريَّ) إلى (الأشعريِّ) انتصارًا لدعواهُمُ الباطلة ومُحاولة لترسيخ إجماعهِمُ المكذوب! علمًا أنَّ عبدالعزيز البُخاريَّ نقل عن البشاغريِّ مِن كتاب [عصمة الأنبياء] ولا يُعرف للأشعريِّ كتاب بهذا الاسم!
6
ويحتمل أنَّ الجَهَلَة المُتصولحة نسخوا مِن (المكتبة الشَّاملة) دُون تحقيق المطبوع والمخطوط، لأنَّه قيل إنَّ في (المكتبة) المذكورة خطأ في الطِّباعة لم ينتبه له الجَهَلَة المُتصولحة.. والله تعالَى يفضح الجَهَلَة على أيدينا والحمدلله.
7
ولو كان الجَهَلَة المُتصولحة على شيء مِن دراية أو علم أو فهم أو تحقيق؛ لَمَا افتُضحوا هذه الفضيحة؛ وقد صدق إمامُنا الشَّافعيُّ رضي الله عنه عندما قال: <مَن سَامَ بِنَفسِهِ فَوقَ مَا يُسَاوِي.. رَدَّهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى قِيمَتِهِ> انتهَى.
8
وحقيقة المسألة أنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام معصومون مِن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة قبل النُّبُوَّة وبعدها؛ وقال الجُمهور: يجوز وُقوعُ صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء (عمدًا) لكن يتُوبون منها قبل أن يُقتدَى بهم فيها.
9
قال سعد الدِّين التَّفتازانيُّ في [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمدًا عِندَ الجُمهُورِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشتَرَطُوا أَن يُنَبَّهُوا عَلَيهِ فَيَنتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعدَ الوَحيِ> انتهَى باختصار.
10
وقال الأرمويُّ الهنديُّ في [نهاية الوُصول] في الذَّنب الصَّغير غير المُنفِّر: <أَحَدُهَا: جَوَازُ صُدُورِهِ مِنهُم عَمدًا وَسَهوًا ((وَعَلَيهِ الأَكثَرُونَ مِنَّا)) وَمِنَ المُعتَزِلَةِ. وَثَانِيهَا: عَدَمُ جَوَازِ صُدُورِهِ مِنهُم عَمدًا وَسَهوًا وَهُوَ مَذهَبُ الرَّوَافِضِ> انتهَى.
11
وأمَّا الحنفيَّة فخالفوا الجُمهور ومنعوا وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عمدًا، وقالوا بجواز الزَّلَّة وفسَّر بعضُهُم الزَّلَّة بأنَّ القصد فيها يكون إلى مُباح فيلزم مِن ذلك معصية لكنَّ الحنفيَّة لم يُجمعوا على هذا التَّفسير.
12
قال الكمال بن الهُمام في [التَّحرير] بعد أن ذكر امتناع الكبائر وصغائر الخسَّة: <وَجَازَ تَعَمُّدُ غَيرِهَا بِلَا إِصرَارٍ عِندَ الشَّافِعِيَّةِ وَالمُعتَزِلَةِ؛ وَمَنَعَهُ الحَنَفِيَّةُ وَجَوَّزُوا الزَّلَّةَ فِيهِمَا بِأَن يَكُونَ القَصدُ إِلَى مُبَاحٍ فَيَلزَمُ مَعصِيَةٌ> انتهَى.
13
وهؤُلاء الحنفيَّة لم يُفرِّقوا بين الزَّلَّة وبين المعصية الصَّغيرة كما قال الماتُريديُّ في [شرح الفقه الأكبر]: <وَغَيرُ مَعصُومِينَ عَنِ الصَّغَائِرِ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَثبَتَ لَهُم مَقَامَ الشَّفَاعَةِ فَلَو عُصِمُوا عَنِ الصَّغَائِرِ لَوَقَعَ الضَّعفُ فِي مَقَامِ الشَّفَاعَةِ لِأَنَّ مَن لَم يُبتَلَ بِبَلِيَّةٍ لَم يَرِقَّ عَلَى المُبتَلَى فَهَذَا هُوَ الحِكمَةُ فِي زَوَالِ العِصمَةِ عَنِ الأَنبِيَاءِ فِي الصَّغَائِرِ وَبَعضُ أَصحَابِنَا لَم يَلفِظِ الصَّغَائِرَ وَإِنَّمَا يُسَمُّونَهَا الزَّلَلَ وَلَا فَرقَ بَينَ اللَّفظَتَينِ فِي الحَقِيقَةِ> انتهَى.
14
وبعض الحنفيَّة حملوا الزَّلَّة على ترك الأَولَى والأفضل وقالوا: إنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام لمَّا ترك بعضُهُم الأفضل مرَّة ومالوا إلى الفاضل أي المُباح جاءت تسمية فعلهم هذا في نصِّ الشَّرع بالمعصية مِن باب المجاز لا حقيقة.
15
قال جمال الدِّين الغزنويُّ الحنفيُّ فِي [أُصول الدِّين]: <وَقَالَ بَعضُ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ بِأَنَّ الزَّلَلَ لَا يَكُونُ مِنَ الأَنبِيَاءِ إِلَّا بِتَركِ الأَفضَلِ وَهَذَا القَولُ وَإِن كَانَ حَسَنًا مِن حَيثُ الصُّورَةُ لَكِنَّهُ غَيرُ سَدِيدٍ مِن وَجهٍ آخَرَ لِأَنَّ الأَفضَلَ يَقتَضِي فَاضِلًا فِي مُقَابَلَتِهِ فَيَقتَضِي أَن يَكُونَ أَكلُ الشَّجَرَةِ مِن آدَمَ عَلَيهِ السَّلَامُ فَاضِلًا مَعَ كَونِهِ مَنهِيًّا عَنهُ مَعَ قَولِهِ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وَقَالَ بَعضُ أَهلِ السُّنَّةِ هُم مَعصُومُونَ عَنِ الكَبَائِرِ دُونَ الصَّغَائِرِ لِأَنَّهُ أَثبَتَ لَهُم مَقَامَ الشَّفَاعَةِ وَلِأَنَّ مَن لَم يُبتَلَ بِالبَلِيَّةِ لَا يَرِقُّ عَلَى المُبتَلَى بِهَا> انتهَى.
16
وقد أردتُ مِن هذا المقال بيان أنَّ جواز وُقوع صغيرة لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام مسألة خلافيَّة ولا يُخالف هذا إلَّا مُتكبِّر لا زال التَّنطُّع يصفعُه على نُقرة قفاه حتَّى يشتهر بسُوء ما انطوت عليه سريرتُه والعياذ بالله.
17
ولا زال الجَهَلَة المُتصولحة يُنكرون هذا الخلاف المشهور والَّذي شُحنت الكُتُبُ بذكره وتفصيله حتَّى تجرَّأوا -والعياذ بالله- على تكفير مَن جوَّز وُقوع صغيرة لا خسَّة فيها مِن الأنبياء؛ فصار جُمهور عُلماء الأُمَّة عندَهُم كُفَّارًا مُرتدِّين!
18
واعلم أخي القارئ أنَّ الحنفيَّة خالفوا جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة في هذه المسألة ولكنَّهُم لم يُضلِّلُوهُم ولم يُكفِّرُوهُم ولم يُفسِّقُوهُم كما فعل أهل الفتنة الَّذين ادَّعَوُا الإجماع المكذُوب المُفترَى على الشَّرع وعلى أئمَّة المُسلمين.
19
وأهل الفتنة يسلُكون مسلك الافتراء فلو انبرَى لهُم بعض أهل العلم فنقل لهُم أقوال عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بقصد ردِّ إجماعهمُ المكذوب في مسألة العصمة اتَّهمُوه بأنَّه يُريد تنقيص الأنبياء والعياذ بالله مِن المكر وأهله!
20
والجَهَلَة المُتصولحة أوجعتهُم مقالاتُنا العلميَّة فاختلقوا حسابات وهميَّة تسُبُّهُم وتُكفِّرهُم بُغية التَّمظهر بالمظلوميَّة فذكَّروني كيف فجَّر الصَّـ ـهاينة بُيُوت اليـ ـهُود في البُلدان العربيَّة بقصد تهجيرهم إلى فلسطين المُحتلَّة.
21
وفي ختام هذا المقال أنصح مَن لا زال مع أهل الفتنة بأن يرجع إلى رُشده فإنَّ للسَّابق إلى الخير ما ليس لغيره وإنَّ الجاهل المُتصولح أحمقُ مِن لاعق الماء ومُشاكلة الأحمق سُبَّة ومَن ذا الَّذي يرتضي مثل ذلك على نفسه!
22
مُلاحظة:
اعلم أنَّ نور الدِّين الصَّابونيَّ المُتوفَّى 580 للهجرة صرَّح في كتابه [المُنتقَى مِن عصمة الأنبياء] أنَّه انتقاه مِن كتاب [كشف الغوامض في أحوال الأنبياء] للبشاغريِّ <واسمُه المشهور فيما بين النَّاس عصمة الأنبياء> وهذا يدُلُّ على خطإ بعض أهل التَّراجم في تاريخ وفاة البشاغريِّ حيث قال بعضُهُم إنَّه كان حيًّا سنة 838 للهجرة! والصَّابونيُّ ينقُل عن البشاغريِّ التَّصريح بالسَّماع مِن الرُّستُفَغنيِّ (وقيل: الرُّستُغفنيِّ) المُتوفَّى في أواسط القرن الرَّابع للهجرة وهُو مِن كبار أصحاب أبي منصور الماتُريديِّ رضي الله عنه وعن كُلِّ عُلمائِنا العاملين آمين.
نهاية المقال.

