براءة الملائكة مِن استنطاق الكافر بالكُفر

براءة الملائكة مِن استنطاق الكافر بالكُفر
ودفع شُبهة في سُؤال المَلَكَيْن مُنكر ونكير

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1
وبعدُ فلا خِلاف بين المُسلمين أنَّ طَلَب الكُفر والأمر أو الرِّضَا به كُفرٌ، فلو سأل رجلٌ كافرًا عن دينه وهُو مُتيقِّن أنَّ الكافر يُجيب بالكُفر: كَفَرَ السَّائلُ؛ وذلك لأنَّه يكون كمَن طَلَبَ الكُفر أو أمر به أو رضيَه.

2
أمَّا لو كان السُّؤال مِن باب الإنكار أو التَّهكُّم أو التَّبكيت أو التَّوبيخ أو التَّقريع أو التَّعنيف أو نحو ذلك ممَّا لا يُراد منه جواب: فلا يكفُر السَّائل به؛ لأنَّه لم يشتمل على استنطاقٍ بالكُفر فلا يكون رضًا بالكُفر.

3
وزعم أهل الفتنة أنَّ الملائكة تستنطق الكافر بالكُفر في سُؤالها له عن دينه، وهذا منهُم جهل وضلال بعيد نعوذ بالله تعالى منه؛ والصَّواب أنَّ الملائكة تسأل الكافر عن اعتقاده الَّذي مات عليه لا عن اعتقاده عند السُّؤال.

4
أمَّا أنَّ المرء <يُبعث على ما مات عليه> فهذا في الحُكم بكونه كافرًا وليس فيما يرضى به وقتَ السُّؤال؛ لأنَّ الكافر بعد موته تنكشف له الحقائق ويرى عاقبته بعينِ اليقين فيكون خرج مِن التَّلبُّس بإنكار الحقِّ أو الشَّك فيه.

5
وزعم الجَهَلَة أنَّ الكافر لا يُظهر النَّدم؛ وكذَبوا؛ فكيف لا يكون نادمًا وقد تيقَّن عاقبةَ ضلاله وعاين العذاب؛ والله تعالى يقول: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ..} الآيات.

6
والملائكة تعرف أنَّ الكافر حين يقول: (لا أدري) يقولُها مِن غير ضبط لسان لِمَا يُصيبه مِن فزع وخوف عظيم لأنَّه يُفيق والمَلَك الكريم قد انتهره بشدَّة فقد ورد في الحديث: <مَلَكَانِ شديدَا الانتهارِ فينتهرانِهِ> انتهى.

7
ولهذا فلا يكون سُؤال المَلَكَين استنطاقًا للكافر بالكُفر لأنَّهُما عَلِمَا أنَّه لا يقول ذلك عن اختيار بل مغلوبًا مِن شدَّة الفزع كما مرَّ وإلَّا فالكافر لا يملك ألَّا أنْ يكون مُقِرًّا بالحقِّ يومئذ مُنكرًا لِمَا كان عليه في الدُّنيا مِن الكُفر.

8
وفي الحديث القدسيِّ: <كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا> الحديث..

9
فلا يُتصوَّر أنَّ الملائكة المُكرَّمين يرضَون أنْ يتلفَّظ الكافر مُختارًا بما فيه شتمٌ لله تعالى كأنْ يقول: أنا أعتقد في الحال أنَّه لا بعث ولا حساب! أو أنْ يقول: أنا أعتقد الآنَ أنَّ للهِ ابنًا! والعياذ بالله مِن قُبح هذه المقالة.

10
وفيما يلي ردٌّ مُحكم مِن كلام عالِم عامل ثقة عدل في باب هُو أهلُه مِن أبواب العلم بالحديث والقُرآن فلا يُشقُّ عليه فيه غُبار جبان وإليه فيه يُشار بالبنان واللِّسان؛ وإنَّنا ننسخ مِن كلماته الطَّيِّبات وعباراته البيِّنات:

11
قال الإمام الشَّيخ عبدالله الهرريُّ الحبشيُّ في [الشَّرح القويم في حلِّ ألفاظ الصِّراط المُستقيم]: <فإنْ كان مُنافقًا قال: لا أدري كنتُ أسمع النَّاس يقولون شيئًا فكنت أقوله، فيقولانِ له: إنْ كُنَّا لنعلمُ أنَّك تقول ذلك، ثُمَّ يُقال للأرض التئمي فتلتئم عليه حتَّى تختلف أضلاعُه فلا يزال مُعذَّبًا حتَّى يبعثه الله تعالى مِن مَضجعه ذلك> إلخ..

12
ثُمَّ شرحه رحمه الله ورضي عنه فقال: <الشَّرح: سُؤال المَلَكَين للكافر (مَن ربُّك) وهُما يعلمانِ أنَّه سيقول (لا أدري) لأنَّهُما يعرفانِ أنَّه لا يقولُها عن اعتقاد إنَّما يقولُها عن دهشة يقولُها عن سَبْقِ لسانٍ مِن شدَّة الفزع مِن غير ضبطِ لسانِه ولا يعتقد ذلك إنَّما يُخْبِرُ عمَّا مضى له في الدُّنيا. بعض النَّاس يستشكلون يقولون إذَا كان لا يجوز أنْ يُقال للكافر “ما دينُك” مع العلم بأنَّه سيُجيب أنا يهوديٌّ أو مجوسيٌّ فكيف يجوز للمَلَكَين في القبر أنْ يسألَا الكافر وهُما يعلمانِ أنَّه سيُجيب (لا أدري). فالجواب: أنَّه يُجيب مُخْبِرًا عمَّا كان يعتقده في الماضي قبلَ الموت مِن غير أنْ يعتقد الآنَ أنَّه حقٌّ وبهذا زال الإشكال> انتهى.

13
وهكذا أخي القارئُ ترى كيف أنَّ كلام العُلماء فيه براءة الملائكة والأنبياء عليهمُ السَّلام ممَّا لا يليق بهم مِن استنطاق النَّاس بالكُفر فحاشَا الأنبياء وحاشَا الملائكة أنْ يستنطقوا خَلْقَ الله بما فيه كُفر بالله عزَّ وجلَّ.

14
وهذه نصيحة إلى أهل الفتنة ليرجعوا إلى تعظيم الأنبياء والملائكة فمَن نظر اعتبر ونفسَه زجر؛ وأَوْلى بمَن خالف أنْ يؤوب وأنْ يرجع ويتوب؛ واللهُ المُستعان على الخير هُو وراء القصد وهُو نِعم المَولى ونِعم النَّصير.

انتهى.