- الألباني يحرّم على النساء لبس خاتم وسوار الذهب:
قال الألباني([1]): «تحريم خاتم الذهب ونحوه على النساء، واعلم أن النساء يشتركن مع الرجال في تحريم خاتم الذهب عليهن ومثله السوار والطوق من الذهب».اهـ.
الرَّدُّ:
شذ الألباني كعادته عن أهل السُّنَّة والجماعة في تحريمه الخاتم والسوار والقلائد والخلخال والعقد وحلي الأذن المحلّق من الذهب على النساء، وأتى بالغرائب والعجائب والتأويلات الباطلة ورد إجماع الأمة على جوازه.
لقد خالف الألباني في قوله هذا الأحاديث والإجماع والآثار الواردة عن الصحابة والعلماء كافة لا سيما علماء السلف، أمّا مخالفته للأحاديث فقد خالف ما رواه أبو داود([2]) والترمذي([3]) وصحَّحه والنسائي([4])، وابن ماجه([5])، وأحمد([6])، والبيهقي([7]) بألفاظ متقاربة أن رسول الله أخذ حريراً فجعله في يمينه، وأخذ ذهبًا فجعله في شماله، ثم قال: «هذانِ حرامٌ على ذكورِ أمتي حلٌّ لإناثِهم»([8]) وهو شامل للذهب المحلّق كالخاتم والسوار وغيره، ومنه أخذ علماء السلف والخلف حِلّ ما ذُكر وأبى الألباني إلا الشذوذ عنهم واتهمهم بالجهل والإعراض وترك أحاديث الرسول التي تحرم الذهب المحلق على زعمه، وصار يرد ما اتفقوا عليه بشبهات واهية تدل على إفراطه وتدليسه على الناس([9]).
وخالف الألباني أيضًا الحديثَ الذي رواه أبو داود([10])، والترمذي([11])، واللفظ له والنسائي([12])، والبيهقي([13]) بألفاظ متقاربة من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن امرأتين أتتا رسولَ الله وفي أيديهما سواران من ذهب، فقال لهما: «أتؤديانِ زكاتَه؟» قالتا: لا، فقال لهما رسولُ الله : «أتُحِبّانِ أن يُسوّرَكما اللهُ بسوارينِ من نارٍ؟» قالتا: لا، قال: «فأدّيا زكاتَه»([14])، حسّنه النووي في «المجموع»([15])، وقوّى إسناده الحافظ ابن حجر في «بلوغ المرام»([16]).
وخالف أيضًا الحديث الذي رواه الإمام أحمد([17]) من حديث أسماء بنت يزيد قالت: دخلت أنا وخالتي على النبيّ وعلينا أسورة من ذهب فقال لنا: «أتعطيانِ زكاتَه؟» قالت: فقلنا لا، قال: «أما تخافانِ أن يسوّرَكما اللهُ أسورةً من نارٍ، أدّيا زكاتَه»، فهذا الحديث والذي قبله فيهما نص صريح على جواز لبس سوار الذهب على النساء، لأن النبيّ إنما أنكر عليهما عدم إخراج زكاته، ولم ينكر عليهما لبس أسورة الذهب، وهو لا يسكت عن منكر، فلو كان لا يجوز لهما لبسهما لبادر إلى الإنكار تبيانًا للحكم الشرعي المأمور بإبلاغه عليه الصلاة والسلام من ربّه، فسكوته دلّ على مشروعية فعلهما.
وخالف أيضًا الحديث الذي رواه أبو داود([18]) واللفظ له وابن ماجه([19]) وأحمد([20]) والبيهقي([21]) وابن أبي شيبة في مصنّفه([22]) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قدِمَت على النبيّ حِلية من عند النجاشي أهداها له فيها خاتم من ذهب فيه فصٌّ حبشي، قالت: فأخذه رسول الله بعودٍ مُعْرضًا عنه أو ببعض أصابعه ثم دعا أمامة بنت أبي العاص، بنت ابنته زينب، فقال: «تحلّي بهذا يا بُنَيّةُ»([23]).
وأمّا الإجماع فقد ذكره غير واحد من العلماء ولم يلتفت الألباني إليه؛ بل ضرب به عرض الحائط، وأورد شبهات وتلبيسات لا تنهض دليلًا على ما ادعاه، وممن نقل الإجماع أبو بكر الجصاص الحنفي في كتابه «أحكام القرءان» فال ما نصّه([24]): «فصل في إباحة لبس الحليّ للنساء، ثم قال: «الأخبار الواردة في إباحته للنساء عن النبيّ أظهر وأشهر من أخبار الحظر ودلالة الآية ظاهرة في إباحته للنساء، وقد استفاض لبس الحلي للنساء منذ لدُن النبيّ والصحابة إلى يومنا هذا من غير نكير من أحد عليهن، ومثل ذلك لا يعترض عليه بأخبار الآحاد».اهـ.
وهذه الأخبار التي تفيد الحظر إما متأوَّلة أو منسوخة، كما هو مذكور في كتب العلماء، ولم يذهبوا إلى التحريم([25]).
وقال الحافظ الفقيه الشيخ محيـي الدين النووي الشافعي في «شرح صحيح مسلم» ما نصّه([26]): «باب تحريم خاتم الذهب على الرجال ونسخ ما كان من إباحته في أول الإسلام: أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء، وأجمعوا على تحريمه على الرجال».اهـ. وقال أيضًا في كتابه «المجموع» ما نصّه([27]): «فرع: أجمع المسلمون على أنه يجوز للنساء لبس أنواع الحلي من الفضة والذهب جميعًا، كالطوق والعقد والخاتم والسوار والخلخال والتعاويذ والدمالج([28]) والقلائد والمخانق([29]) وكل ما يتخذ في العنق وغيره وكل ما يعتدن لبسه، ولا خلاف في شيء من هذا».اهـ.
وقال الحافظ البيهقي الشافعي في «السنن الكبرى»([30]) ما نصّه: «فهذه الأخبار وما ورد في معناها تدل على إباحة التحلي بالذهب للنساء، واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهنّ على نسخ الأخبار الدالة على تحريمه فيهنّ خاصة».اهـ.
وممن ذكر الإجماع أيضًا ابن دقيق العيد، نقله الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»([31]) وأقره على ذلك، ونقله الحافظ السيوطي عن النووي في «شرحه على سنن النسائي»([32]) وإلكيا الهرّاسي في «أحكام القرءان»([33]).
وأما مخالفته للآثار فقد خالف ما ثبت عن الصحابة والتابعين من جواز لبس خاتم الذهب، نورد بعضها:
- ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تلبس خواتيم الذهب بعد وفاة رسول الله ، فقد قال البخاري في صحيحه([34]): «باب الخاتم للنساء وكان على عائشة خواتيم الذهب».اهـ. فلم يقتصر الألباني على مخالفة البخاري وهو أمير المؤمنين في الحديث؛ بل خالف اتفاق أهل الحديث، فليس فيهم من قال بمقولته، وهو ليس بمحدّث ولا شم رائحة علم الحديث حقيقةً. ثم أثر عائشة رضي الله عنها ذكره البخاري بصيغة الجزم عنها، وهذا يدل على ثبوته، وقد وصله ابن سعد في «طبقاته»([35]) كما ذكر الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»([36])، واعترف الألباني بثبوته لكنه حاول ردّه بأسلوبه المعتاد في التلبيس على القرّاء.
ويدل على مخالفته أيضًا ما رواه ابن أبي شيبة في مصنّفه([37]) قال: «حدثنا جرير عن عبد الملك قال: «رأى سعيد بن جبير على شاب من الأنصار خاتمًا من ذهب فقال: أمّا لك أخت؟ قال: بلى، قال: فأعطه إياها».اهـ. وسعيد بن جبير أحد علماء التابعين المشهورين الذين صحبوا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وتتلمذ على يديه.
وفي «طبقات ابن سعد»([38]) قال: «أخبرنا عارم بن الفضل حدَّثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عائشة بنت سعد قالت: أدركت ستًّا من أزواج النبي وكنت أكون معهنّ، فما رأيت على امرأة منهنّ ثوبًا أبيض، وكنت أدخل عليهن وعليّ الحليّ فلا يعبْنَ ذلك عليّ، قيل لها: ما هو؟ قالت: قلائد الذهب… فلا يعبْن ذلك عليّ».اهـ. وأخرجه([39]) من طريق ءاخر قال: «أخبرنا عفّان بن مسلم حدَّثنا وهيب حدَّثنا أيوب قال: دخلت على عائشة بنت سعد فقالت: رأيت ستًّا إلخ» فذكره.
فهذا دليل ظاهر كالشمس في رابعة النهار على جواز لبس الذهب المحلّق والقلائد للنساء، فالنسوة وعددهن ستٌ اللاتي رأينها لابسة للقلائد من الذهب ولم ينكرن عليها، وهنّ أزواج رسول الله الوليّات الصالحات والأعرف بشرع الله وأحكامه من الألباني وأتباعه الوهابية الألبانية، وكما قيل: [البسيط]
| ما ضَرَّ شمسَ الضحى في الأفْقِ طالعةً | أن لا يَرَى ضوءَها مَنْ لَيْسَ ذا بَصَرِ |
وروى الطبراني في «المعجم الكبير»([40]) من طرق متعددة عن عبد الله بن إدريس عن محمد بن عمارة الحزمي عن زينب بنت نبيط بن جابر امرأة أنس بن مالك قالت: «أوصى أبو أمامة بأمي وخالتي إلى النبيّ فأتاه حلي من ذهب ولؤلؤ يقال الرّعاث، قالت: فحلّاهن من الرعاث».اهـ. فإن قيل: هذا الأثر مرسل لقول الحافظ الهيثمي: «رجال أحدها رجال الصحيح خلا محمد بن عمارة الحزمي وهو ثقة إن كانت زينب صحابية»، يعني: الهيثمي بذلك أن زينب إن كانت صحابية فهي من شرط الصحيح وإلا فهي تابعية([41])، فحديثها حينئذٍ عن النبي مرسل. وقد ثبت حديثهما موصولًا في رواية أخرى عند الطبراني([42]) من طريق محمد بن عمرو بن علقمة حدَّثني محمد ابن عمارة بن عامر عن زينب بنت نبيط بن جابر عن أمها أو خالتها بنات أبي أمامة قالت: أوصى إليّ رسول الله ببناته يعني أبا أمامة أسعد بن زرارة، فقلن: حلّانا رسول الله رعاثًا من ذهب».اهـ. قال المحدّث ظفر أحمد التهانوي في كتابه «إعلاء السنن»([43]) بعد أن ذكر الروايتين المرسلة والموصولة: «فهذا مرسل صحيح، وحديثها عن أمها وخالتها موصول حسن، وفيه دلالة على جواز تحلّي النساء بالذهب».اهـ. ورواه البيهقي في سننه([44]) بالروايتين وفيه من الزيادة: «فقدم عليه – أي: على النبيّ – حلي ذهب ولؤلؤ يقال له الرّعاث فحلّاهنّ رسول الله من ذلك الرّعاث، قالت – أي: زينب -: فأدركت ذلك الحلى عند أهلي».اهـ.
ومعنى الرعاث في كتب اللغة: القرط، قال ابن الأثير في «النهاية»([45]): «الرعاث القرطة وهي من حلي الأذن واحدتها رَعْثة ورعَثَة -».اهـ. وقال الأزهري في «تهذيب اللغة»([46]): «قال [الليث]: وكل مِعْلاق كالقرط ونحوه يعلّق من أذن أو قلادة فهو رِعاث».اهـ. وأما القُرْط فمعناه كما قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»([47]): «الحلقة التي تكون في شحمة الأذن».اهـ. وقال الإمام المجتهد الشافعي في كتابه «الأم»([48]): «وأنهى الرجال عن ثياب الحرير، فمن صلى فيها منهم لم يعد لأنها ليست بنجسة، وإنما تعبدوا بترك لبسها، لا أنها نجسة، لأن أثمانها حلال، وأنّ النساء يلبسنها ويصلين فيها، وكذلك أنهاهم عن لبس الذهب خواتيم وغير خواتيم، ولو لبسوه فصلوا فيه كانوا مسيئين باللبس عاصين إن كانوا علموا بالنهي، ولم يكن عليهم إعادة صلاة، لأنه ليس من الأنجاس، ألا ترى أن الأنجاس على الرجال والنساء سواء والنساء يصلين في الذهب».اهـ. وقال في موضع ءاخر ما نصّه([49]): «وإذا اتخذ الرجل أو المرأة ءانية ذهب أو فضة ففيها الزكاة في القولين معًا، ولا تسقط الزكاة في واحد من القولين إلا فيما كان حليًّا يلبس، وإن كان حليًّا يلبس أو يدخر أو يعار أو يكرى فلا زكاة فيه، وسواء في هذا كثر الحليّ لامرأة أو ضوعف أو قل، وسواء فيه الفتوخ([50]) والخواتم والتاج وحلي العرائس وغيرها من الحلي».اهـ.
وقال([51]) الإمام المجتهد أحمد بن حنبل رضي الله عنه حين سأله أبو بكر الأثرم: «فالذهب للنساء ما تقول فيه؟ قال: «أما النساء فهو جائز إذا لم تظهره إلا لزوجها، قلت – القائل هو أبو بكر الأثرم -: وكيف يمكنها ألا تظهره؟ قال: تظهره لبعلها، يكون خاتم ذهب تغطي يدها إلا عند بعلها».اهـ. وقال الزرقاوي من باب ما جاء في الإحداد من شرحه على موطأ الإمام مالك ممزوجًا بالمتن ما نصّه([52]): «(ولا تلبس المرأة الحادّة على زوجها شيئًا من الحَلْي) بفتح فسكون (خاتمًا ولا خلخالًا وغير ذلك من الحَلْي) كسوار وخرص وقرط ذهبًا كان كله أو فضة».اهـ.
فالبخاري والشافعي وأحمد بن حنبل ومالك بن أنس وغيرهم ممن في مرتبتهم هم أئمة الاجتهاد وجهابذة الحفاظ وإليهم المرجع في الحديث نصوا على خلاف ما زعمه الألباني، فالعبرة بفهم العلماء لا بفهم هذا الرجل الذي أساء إلى كل هؤلاء العلماء بقوله([53]): «ولذلك رأيت أنه لا بد من حكاية تلك الشبهات([54]) والرد عليها كي لا يغتر بها من لا علم عنده بطرق الجمع بين الأحاديث فيقع في مخالفة الأحاديث الصحيحة المحكمة بدون حجة أو بيّنة».اهـ.
فنصيحتنا لك أخي المسلم أن تلزم الجماعة ولا تغتر بشبهات أهل الزيغ والضلال وانحرافهم.
- الألباني يحرّم الشرب قائمًا:
قال الألباني ما نصّه([55]): «لا يجوز الشرب قائمًا إلا لعذر».اهـ.
الرَّدُّ:
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم بعد أن ذكر أحاديث النهي عن الشرب في حالة القيام ما نصّه([56]): «الصواب فيها أن النهي فيها محمول على كراهة التنزيه، وأمّا شربه قائمًا فبيان للجواز».اهـ. وقال في «روضة الطالبين»([57]): «والمختار أن الشرب قائمًا بلا عذر خلاف الأولى».اهـ.
وما يدل على الجواز ما رواه البخاري في صحيحه([58]) عن النَّزَّال قال: «أُتي عليٌّ رضي الله عنه على باب الرَّحبةِ بماء فشرب قائمًا فقال: إن ناسًا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني رأيتُ النبي فعل كما رأيتموني فعلتُ».اهـ. وفي رواية([59]) أخرى عن النزال يحدث عن عليّ رضي الله عنه أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ثم أُتي بماء فشرب وغسل وجهه ويديه،، وذكر رأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضله وهو قائم ثم قال: إن ناسًا يكرهون الشرب قيامًا وإن النبيّ صنع مثل ما صنعتُ».اهـ. وروى البخاري أيضًا([60]) من طريق الشعبي عن ابن عباس قال: «شرب النبيّ قيامًا من زمزم».اهـ. وروى الترمذي([61]) من حديث كبشة الأنصارية، قالت: «دخل عليَّ رسول الله فشرب من فِي قربة معلقة قائمًا فقمتُ إلى فيها فقطعته([62])»، قال الترمذي: «حديث حسن صحيح». قال الحافظ ابن حجر العسقلاني بعد أن ذكر هذه الرواية([63]): «وعن كلثم نحوه أخرجه أبو موسى بسند حسن».اهـ.
وروى أيضًا([64]) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كنّا أكل على عهد رسول الله ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام».اهـ. قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح».اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»([65]): «وثبت الشرب قائمًا عن عمر رضي الله عنه أخرجه الطبري، وفي «الموطأ» أن عمر وعثمان وعليًّا كانوا يشربون قيامًا، وكان سعد وعائشة لا يرون بذلك بأسًا وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين».اهـ.
وروى ابن أبي حاتم في كتابه «ءاداب الشافعي»([66]) بإسناده إلى الربيع بن سليمان قال: «قال لي الشافعي: اسقني قائمًا فإن النبيّ شرب قائمًا».اهـ.
- الألباني يحرم الوضوء بأكثر من مدّ والاغتسال بأكثر من صاع:
قال الألباني ما نصّه([67]): «والقسم الآخر ما جاء النص العملي عنه محددًا لشيء من العبادات أو مقيدًا له بصفة، ثم لم يأت ما يفيد أن خلافه مشروع وأن له فصلًا دون الذي شرعه بفعله، مثل الوضوء بالمد والاغتسال به مع الصاع، فإنه ليس في الشرع ما يدل على مشروعية الزيادة عليه» إلى قوله: «وقد قال الإمام البخاري في كتاب الوضوء من صحيحه: «وكره أهل العلم الإسراف فيه وأن يجاوزوا فعل النبي »، ولا يخفى أنه لا فرق بين أن يزيد على عدد الثلاث أو على كمية الماء إذ كله تجاوزٌ لفعل النبي ». ومما يؤيد هذا قوله : «إنه سيكونُ في هذه الأمةِ قومٌ يعتدونَ في الطهورِ والدعاءِ»([68]) إلى قوله: «فثبت أنه لا يجوز الزيادة في الماء وضوءًا وغسلًا على ما حدده الرسول»، إلى قوله: «وكيف لا يكون من زاد على هديه مخالفًا، وليس وراء هديه عليه الصلاة والسلام إلا الضلال ولهذا ذهب الشافعية وغيرهم إلى ذم الإسراف في الماء في الوضوء والغسل، وسبق ما نقله البخاري عن أهل العلم في كراهة ذلك؛ بل ذهب بعض الشافعية مثل البغوي وغيره إلى أنه حرام، (المجموع 2/190)».اهـ.
الرَّدُّ:
انظروا أيها القراء المتأملون إلى ما دلّت عليه عبارة الألباني من تحريم الزيادة في الوضوء على المد، وفي الغسل على الصاع مع المد، انظروا إلى هذا الاستنباط العجيب الذي لم يسبق به، هل سمعتم به من قبل؟ أو هل هذا استنباط محض أنتجه فكره والعياذ بالله؟!
من أين له ذلك؟ وأين حديث الرسول الذي يحرم ذلك؟ وأين المجتهد الذي ذكر ذلك؟
فإن صح ما ذهب إليه، فيا ويل الذين يزيدون على ذلك ولا يقتصرون لجميع وضوئهم على المد وهو مقدار ملء الكفين المساوي 250 غرامًا تقريبًا، ولا يقتصرون في غسلهم على خمسة أمداد المساوي كيلو غرام وربعًا تقريبًا فعلى مذهبه هذا هم ءاثمون ضالون كما اقتضت عبارته كما رأيتم.
من أين له أن الاعتداء في الطهور المذكور في الحديث هو التوضؤ بمقدار مُدَّيْ مثلًا؟!
وقد قال ملا علي القاري في «شرح المشكاة»([69]) عند شرحه لهذا الحديث ما نصّه: «والاعتداء في الطهور استعماله فوق الحاجة والمبالغة في تحري طهوريته حتى يفضي إلى الوساوس».اهـ. وذكر ذلك أيضًا المناوي في كتابه «فيض القدير»([70]) عن التوربشتي الحنفي وأقره عليه.
وقال الحافظ المحدث الفقيه اللغوي الحنفي محمد مرتضى الزبيدي في «إتحاف السادة»([71]) بعد أن ذكر هذا الحديث ما نصّه: «ويعتدون، أي: يتجاوزون وهذا هو معنى الإسراف».اهـ. والزبيدي نفسه ذكر الإجماع على جواز الزيادة في الغسل والوضوء عن المقدار الذي استعمله النبي بما لا يؤدي إلى الوسوسة، وسيأتي كل ذلك عنه إن شاء الله تعالى. وحديث الاعتداء في الطهور ذكره النووي في «المجموع»([72]) مستدلًّا به على ذم الإسراف في الماء في الوضوء والغسل وذلك بعد أن ذكر إجماع الأمة على أن ماء الوضوء والغسل لا يشترط فيه قدر معين.
وهذا الحديث رواه أبو داود في سننه([73]) تحت باب «الإسراف في الوضوء»، وكذلك ذكره الحافظ البيهقي([74]) في سننه تحت باب: «النهي عن الإسراف في الوضوء».
فاتضح بذلك معنى الاعتداء في الطهور المذكور في الحديث، وبطل ما زعمه هذا الرجل الذي يفتقر إلى فقه الحديث ومعرفة معانيه، ولقد قال الشافعي رضي الله عنه: «قد يحمل الفقه غير فقيه يكون له حافظًا ولا يكون فيه فقيهًا».اهـ. فإذا كان هذا حال بعضهم، فكيف إذا كان الشخص صحفيًّا لم يتلق العلم عن أهله عاريًا عن صفة الفقه والحفظ له؟!
فحتى يتم استدلاله بهذا الحديث على ما زعمه عليه أوَّلًا أن يثبت أن الإسراف عند العلماء هو مجرد الزيادة على الـمُد في الوضوء وعلى الصاع مع المد في الغسل ودون ذلك خَرْط القَتاد([75]).
وها أنا أنقل من كلام العلماء ما يزيف ما ذهب إليه قال البخاري في أول كتاب الوضوء([76]) قبل أن يسند شيئًا من أحاديثه ما لفظه: «وبيَّن النبي أن فرض الوضوء مرة مرة، وتوضأ أيضًا مرتين وثلاثًا ولم يزد على ثلاث، وكره أهل العلم الإسراف فيه وأن يجاوزوا فعل النبي ».اهـ.
قال شارحه الحافظ ابن حجر([77]): «قوله: «وأن يجاوزوا» إلخ يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة([78]) أيضًا عن ابن مسعود قال: «ليس بعد الثلاث شيء»، وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث وقال ابن المبارك: لا ءامن أن يأثم وقال الشافعي: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث، فإن زاد لم أكرهه أي لم أحرمه».اهـ.
فبيَّنَ الحافظ مراد البخاري بقوله: «وأن يجاوزوا فعل النبي » هو الزيادة على الثلاث، وذلك خلاف ما ذهب إليه ناصر الألباني من الاستدلال بعبارة البخاري هذه على تحريم الزيادة على المد في الوضوء.
ثم قال الحافظ عند ذكر البخاري لحديث أنس رضي الله عنه في باب الوضوء بالمد «كان النبي يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد» ما نصّه([79]): «قوله: «إلى خمسة أمداد»، أي: كان ربما اقتصر على الصاع وهو أربعة أمداد وربما زاد عليها إلى خمسة، فكأن أنسًا رضي الله عنه لم يطَّلع على أنه استعمل في الغسل أكثر من ذلك لأنه جعلها النهاية.
وقد روى مسلم([80]) من حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغتسل هي والنبي من إناء واحد هو «الفَرَق»([81]) قال ابن عيينة والشافعي وغيرهما: هو ثلاثة ءاصع، وروى مسلم([82]) أيضًا من حديثها أنه كان يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد، فهذا يدل على اختلاف الحال في ذلك بقدر الحاجة، وفيه رد على من قدَّر الوضوء والغسل بما ذكر في حديث الباب كابن شعبان من المالكية، وكذا من قال به من الحنفية مع مخالفتهم له في مقدار المد والصاع وحمله الجمهور على الاستحباب، لأن أكثر من قدَّر وضوءه وغسله من الصحابة قدَّرهما بذلك.
ففي مسلم عن سفينة (خادم رسول الله ) مثله([83])، ولأحمد وأبي داود([84]) بإسناد صحيح عن جابر مثله، وفي الباب عن عائشة وأم سلمة وابن عباس وابن عمر وغيرهم، وهذا إذا لم تدع الحاجة إلى الزيادة. وهو أيضًا في حق من يكون خلقه معتدلًا، وإلى هذا أشار المصف في أول كتاب الوضوء بقوله: وكره أهل العلم الإسراف فيه وأن يجاوزوا فعل النبي ». انتهى كلام الحافظ ابن حجر.
فقوله: «وفيه رد على من قدَّر الوضوء والغسل بما ذكر»، يعني: من قال: إن المد أقل الوضوء، والصاع أهل الغسل، وهو ابن شعبان المالكي وأبو إسحاق التونسي وبعض الحنفية ولم ينقل عنهم تحريم الزيادة المذكورة.
قال النووي([85]) الشافعي في «شرح مسلم»: «أجمع المسلمون على أن الماء الذي يجزئ في الوضوء والغسل غير مقدَّر؛ بل يكفي فيه القليل والكثير إذا وجد شرط الغسل، وهو جريان الماء على الأعضاء، قال الشافعي رحمه الله تعالى: وقد يرفق بالقليل فيكفي ويخرق بالكثير فلا يكفي». ثم قال النووي([86]): «ثم إنه وقع في هذا الحديث «ثلاثة أمداد أو قريبًا من ذلك»، وفي الرواية الأخرى كان يَغتسل من إناء واحد «هو الفَرَق»، وفي الرواية الأخرى: «فدعت بإناء قدر الصاع فاغتسلت به»، وفي الأخرى: «كان يغتسل بخمسة مَكَاكِيْك ويتوضأ بمكوك([87])»، وفي الرواية الأخرى «يغسله الصاع ويوضّئهُ المد»، وفي الأخرى «يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد»، قال الإمام الشافعي وغيره من العلماء: الجمع بين هذه الروايات أنها كانت اغتسالات في أحوال وجد فيها أكثر ما استعمله وأقله فدل على أنه لا حدَّ في قدر ماء الطهارة يجب استيفاؤه، والله أعلم».اهـ.
وروى الترمذي في سننه([88]) عن سَفينة «أن النبي كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع»، قال الترمذي ما نصّه: «وقال الشافعيُّ وأحمد وإسحاق: ليس معنى هذا الحديث على التوقيت أنه لا يجوز أكثر منه ولا أقل منه، وهو قدر ما يكفي».اهـ.
قال أبو بكر بن المنذر في «الأوسط»([89]) ما نصّه: «وقد أجمع أهل العلم على أن المدَّ من الماء في الوضوء، والصاع في الاغتسال، غير لازم للناس».اهـ.
وقال النووي([90]) أيضًا في «المجموع» ما نصّه: «أجمعت الأمة على أن ماء الوضوء والغسل لا يشترط فيه قدر معين؛ بل إذا استوعب الأعضاء كفاه بأي قدر كان، وممن نقل الإجماع فيه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري».اهـ.
وقال ابن خزيمة في صحيحه([91]) ما نصّه: «باب ذكر الدليل على أن توقيت المد من الماء للوضوء أن الوضوء بالمد يجزئ، لا أنه لا يسع المتوضئ أن يزيد على المد أو ينقص منه، إذ لو لم يجزئ الزيادة على ذلك ولا النقصان منه كان على المرء إذا أراد الوضوء أن يكيل مدًّا من ماء فيتوضأ به لا يبقى منه شيء، وقد يرفق المتوضئ بالقليل من الماء فيكفي بغسل أعضاء الوضوء ويخرق بالكثير فلا يكفي لغسل أعضاء الوضوء».اهـ.
وكلام ابن خزيمة إلزام مفحمٌ للألباني وحجة لا جواب له عنها، فما زال المسلمون من الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا يتوضؤون للصلاة ويغتسلون من الجنابة من غير أن يَرِدَ عنهم أنهم كانوا يكيلون الماء للوضوء والغسل، فدل ذلك على جواز الزيادة وما زعمه الألباني شيء غريب وعجيب لا يعرفه العلماء، وهذه المسألة من مسائله الشاذة التي ابتدعها مخالفًا للإجماع الذي ذكره النووي وابن جرير الطبري وغيرهما.
ثم قال ابن خزيمة([92]): «قوله : يجزئُ من الوضوءِ المدُّ» دلالة على أن توقيت المد من الماء للوضوء أن ذلك يجزئ، لا أنه لا يجوز النقصان منه ولا الزيادة فيه».اهـ.
وقال ابن قدامة الحنبلي في «المغني»([93]) ما نصّه: «فصل وإن زاد على المد في الوضوء والصاع في الغسل جاز» ثم قال: «ويكره الإسراف في الماء والزيادة الكثيرة فيه».اهـ. وقال ابن عابدين الحنفي في حاشيته «رد المحتار» ما نصه([94]): «في «الحلية» أنه نَقَلَ غير واحد إجماع المسلمين على أن ما يجزئ في الوضوء والغسل غير مقدّر بمقدار، وما في ظاهر الرواية من أن أدنى ما يكفي في الغسل صاع وفي الوضوء مدّ، للحديث المتفق عليه: «كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد» ليس بتقرير لازم؛ بل هو بيان أدنى القدر المسنون.اهـ. قال في «البحر»: حتى إن من أسبغ بدون ذلك أجزأه وإن لم يكفه زاد عليه؛ لأن طباع الناس وأحوالهم مختلفة، كذا في البدائع.اهـ. وبه جزم في «الأمداد» وغيره». انتهى كلام ابن عابدين.
وقال الحافظ الفقيه اللغوي محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في «إتحاف السادة»([95]) ما نصّه: «نقل أصحابنا الإجماع على عدم لزوم تقديره الماء للغسل والوضوء، لأن طباع الناس وأحوالهم تختلف فتجوز الزيادة على الصاع في الغسل وعلى المد في الوضوء بما لا يؤدي إلى الوسوسة».اهـ. وذكر الإجماع أيضًا ملا علي القاري الحنفي في «شرح المشكاة»([96]).
وقال الحطاب المالكي في «مواهب الجليل»([97]) ما نصّه: «الخامس التقليل مستحب مع الإحكام كما تقدم في الرسالة. قال الشيخ يوسف بن عمر: وقد قال في الرسالة بعد ذلك: وليس كل الناس في إحكام ذلك سواء، وإنما يراعى القدر الكافي في حق كل واحد فما زاد على قدر ما يكفيه فهو بدعة، وإن اقتصر على قدر ما يكفيه فقد أدَّى السُّنَّة.اهـ. وقال الفاكهاني بعد أن ذكر قول أبي إسحاق – التونسي – بالتحديد بالمد والصاع: وهذا لا معنى له وإنما هو على حسب حال المستعمل وعادته في الاستعمال له، الله سبحانه أمر بالغسل ولم يقيده بمقدار معين، وذلك من لطف الله تعالى بخلقه، إذ لو كان فيه حد للزم الحرج، لما عُلِمَ من اختلاف عادات الناس، فمنهم من يكفيه اليسير لرفقه، ومهم من لا يكفيه إلا الكثير لإسرافه، فلو كان فيه حد لوجب أن يفارق كل واحد عادته ويستعمل من يكفيه اليسير زيادة على ما يحتاج إليه ويقتصر من لا يتمكن من أداء الواجب إلا بالكثير على ما لا يمكنه أداء الواجب معه وهذا فاسد؛ وإذا عُلم هذا فالمستحب لم يقدر على الإسباغ بالقليل أن يقلل الماء ولا يستعمل زيادة على الإسباغ». انتهى كلام الحطاب.
فلم يفهم أحد من المجتهدين المعتبرين وأتباعهم أن وضوء رسول الله بالمد واغتساله بنحو الصاع لعدم جواز الزيادة على ذلك، قال الإمام مالك في «المدونة»([98]): «وليس الناس فيما يكفيهم من الماء سواء».اهـ. وإنما فهموا من ذلك أنه هو الأفضل مع جواز الزيادة للمحتاج إليها بلا كراهة.
ويدل على أن الرسول لم يرد به التحديد، وإنما أراد بيان الأفضل، حديث البخاري([99]) أنه توضأ فقال: «من توضأ نحوَ وضوئي هذا ثم صلى ركعتينِ لا يُحدّثُ فيهما نفسَه غفر له ما تقدَّم من ذنبِه».
- تحقيق مقدار المد والصاع الشرعي والفرق المذكور في أحاديث الوضوء والغسل:
قال الحافظ في «الفتح»([100]): «وحكى ابن الأثير أن الفرَق (بالفتح) ستة عشر رطلًا (وبالإسكان) مئة وعشرون رطلًا، وهو غريب. وأما مقداره فعند مسلم في ءاخر رواية ابن عيينة عن الزهري في هذا الحديث قال سفيان يعني ابن عيينة: الفرق ثلاث ءاصع… ونقل أبو عبيد اتفاق اللغويين على أن الفرق ثلاثة ءاصع».اهـ.
ثم ذكر أن الصحيح أن الصاع خمسة أرطال وثلث برطل بغداد وضَعَّفَ قول من قال من الشافعية: إن صاع الوضوء ثمانية أرطال، وصاع الزكاة خمسة أرطال وثلث، قال: «ويؤيد كون الفرق ثلاثة ءاصع ما رواه ابن حبان عن عائشة بلفظ: «قدر ستة أقساط» والقِسط بكسر القاف، وهو باتفاق أهل اللغة نصف صاع».اهـ.
وذكر ابن عابدين في حاشيته([101]) أن الصاع الحجازي خمسة أرطال وثلث بغدادي، وعزاه إلى الصاحبين والأئمة الثلاثة.
وقال الحافظ أيضًا في شرح حديث عائشة «كان رسول الله إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحِلاب» ما نصّه([102]): «وقوله (نحو الحلاب)، أي: إناء قريب من الإناء الذي يسمّى الحلاب وقد وصفه أبو عاصم بأنه أقل من شبر في شبر أخرجه أبو عوانة في صحيحه عنه، وفي رواية لابن حبان: «وأشار أبو عاصم بكفيه» فكأنه حلق بشبريه يصف به دوره الأعلى».اهـ.
والعجب من ناصر الألباني حيث يستدل على تحريم الزيادة المذكورة بأن البغوي من الشافعية قال: «يحرم الإسراف»، ولم يدر ما هو الإسراف عند الشافعية ليوهم أنهم معه وهو باطل، فإن الإسراف عندهم هو المبالغة في الصب ولا يُعرف لأحد منهم القول بأنه الزيادة على المد فمن ادَّعى فليأت بشاهد.
وقد صرَّح السرخسي الحنفي في «المبسوط»([103]) بذلك على حسب الحاجة وعبارته: «وإن لم يكفه المد في الوضوء زاد إلا أنه لا يسرف في صب الماء».اهـ.
فهذا صريح في أن الزيادة المذكورة لا تستلزم الإسراف وإنما الإسراف هو المبالغة في الصب وهو الموافق للّغة وغريب الحديث، قال الفيومي اللغوي([104]) وغيره: «إنه مجاوزة القصد».اهـ.
وقد مرَّ ذكر النقول عن المذاهب الأربعة في جواز الزيادة من غير تحريم مع نهيهم عن الإسراف في الماء عند الوضوء والغسل.
- بيان معنى الإسراف في المذاهب الأربعة:
قال ابن عابدين الحنفي في حاشيته([105]) «رد المحتار» ما نصه: «قوله: (والإسراف)، أي: بأن يستعمل منه فوق الحاجة الشرعية».اهـ..
وقال ملا علي القاري الحنفي في «شرح المشكاة»([106]) ما نصه: «- قوله -: (وهو يتوضأ) الجملة حال، يعني: وهو يسرف في وضوئه إما فعلًا كالزيادة على الثلاث، وإما قدرًا كالزيادة على قدر الحاجة في الاستعمال».اهـ. وقد سبق النقل عنهما الإجماع على جواز الزيادة.
وقال ابن قدامة الحنبلي في «المغني»([107]) ما نصه: «فصل وإن زاد على المد في الوضوء والصاع في الغسل جاز» ثم قال: «ويكره الإسراف في الماء والزيادة الكثيرة فيه».اهـ.
وقال الحَطَّاب المالكي في كتابه «مواهب الجليل»([108]) بعد أن ذكر ما ذُكِرَ عنه ءانفًا ما نصّه: «السادس علم من هذا أن السرف هو ما زيد بعد تيقن الواجب وهو مكروه على ما نص عليه الشيوخ»، ثم قال: «وعدَّ القاضي عياض والشيبي في مكروهات الوضوء الإكثار من صب الماء».اهـ.
وقال النووي الشافعي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات»([109]) ما نصه: «قال الأزهري وغيره: السرف مجاوزة الحد المعروف لمثله».اهـ.
فاتضحت مخالفة الألباني للعلماء، وانكشف تمويهه على القارئ، وبطل زعمه أن الإسراف هو الزيادة على المقدار الذي استعمله النبي مطلقًا.
- الألباني يتقوَّل على العلماء وينسب ما لا أصل له إليهم:
أوَّلاً: نسب للشافعية ما هم بريئون منه، وأوهم القارئ أن الشافعية يقولون بتحريم الزيادة على المد في الوضوء، وعلى الصاع مع المد في الغسل، من غير إسراف، وذلك حين قال: «ولهذا ذهب الشافعية وغيرهم إلى ذم الإسراف» وقد سبق الرد عليه وإزالة التلبيس والتشويش.
ثانيًا: أوهم القارئ مرة ثانية أن الإمام البخاريَّ معه في شذوذه، فأخفى على القارئ كلام الحافظ ابن حجر الذي بيَّن فيه أن مراد البخاري بقوله: «وأن يجاوزوا فعل النبي ».اهـ. هو الزيادة على الثلاث.
ثالثًا: أوهم القارئ مرة ثالثة أن البغوي من الشافعية معه في تحريم الزيادة، واستشهد بكتاب المجموع، ولكنه في الواقع تقوّل على البغوي وسلك سبيل التدليس والتلبيس. فالبغوي نفسه قد صرح بجواز الزيادة وذلك في كتابه «شرح السُّنَّة»([110]) ونص عبارته: «الرّفق في استعمال الماء مستحب، والإسراف مكروه وإن كان على شطّ البحر، وذِكرُ الصاع والمد ليس على معنى التقدير حتى لا يجوز أكثر منه ولا أقل، بل يَحتَرِزُ أن يدخل في حد السرف».اهـ. فكيف ينسب إليه ما هو مصرح بخلافه؟ ولماذا أخفى على القرَّاء نص البغوي؟
ألأنه يهدم بدعته أم ماذا؟ ولماذا أخفى أيضًا كلام النووي في كتابه «المجموع» قبل صحيفة واحدة من الموضوع الذي نقل عنه الألباني وأحال إليه؟!
ونص كلام النووي الشافعي كما ذكرناه سابقًا: «أجمعت الأمة على أن ماء الوضوء والغسل لا يشترط فيه قدر معين؛ بل إذا استوعب الأعضاء كفاه بأي قدر كان، وممن نقل الإجماع فيه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري».اهـ. فالنووي الشافعي شمل بكلامه هذا من كان شافعيًّا ومن كان غير شافعي، والبغوي حتمًا من هؤلاء الشافعية الذين يقولون بجواز الزيادة. فعجبًا لرجل يدعي التحقيق والتدقيق ورد الفروع إلى الأصول، ينسب إلى العلماء ما هم بريئون منه ومصرحون بخلافه، فكيف يُوْثق به وبنقله بعد ذلك أو بما يذكره تفقهًا واستنباطًا كما يزعم؟! وهذا مما يعتبر خيانة.
وكيف يستدل لكلام الفقهاء من يجهل اصطلاحهم ومرادهم فيتقوَّل عليهم وينسب لهم ما هم بريئون منه، قال الشيخ ابن عابدين([111]): «قال الإمام الحافظ العلّامة محمد بن طولون الحنفي في بعض رسائله: إن إطلاقات الفقهاء في الغالب مقيدة بقيود يعرفها صاحب الفهم المستقيم الممارس للفن، وإنما يَسكتون اعتمادًا على صحة فهم الطالب.اهـ. فهذا إذا سكتوا فكيف إذا صرح به كثير مهم». انتهى كلام ابن عابدين.
وهذه كتب الشافعية طافحة ببيان أن المسألة عندهم أن الاقتصار على القدر الوارد مستحب لا لازم، وصرح بعضهم بأن ذلك في حق معتدل الخلقة وفيما إذا لم تدع حاجة إلى الزيادة، فليراجع من أراد الاطلاع على الحقيقة مظان المسألة من كتب المذاهب الأربعة وغيرها، وليبحث هل يجد لناصر الألباني أحدًا من المجتهدين قال بذلك؟
وهل يليق بسماحة الدين إلزام الناس على اختلاف أحوالهم أن لا يزيدوا على المد([112]) في الوضوء وعلى الصاع([113]) مع المد في الغسل، وكثير من الفلاحين وبعض أصحاب الحرف المعتادين للحفي قد تحوجهم تنقية أرجلهم إلى عدة أمداد في الوضوء.
ففيما ذهب إليه الألباني تضييق لدين الله الواسع وحرج عظيم، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج: 78].
تنبيه: لا يظن ظان أن الكلام في هذه المسألة موجه إلى الأمرين: الزيادة في العدد، والزيادة في المقدار؛ بل إنما محط الإنكار تحريمه الزيادة في المقدار، فإن الزيادة في عدد الغسلات الثلاث حكمها ظاهر مشهور أن العلماء فيه ما بين محرِّم ومكرِّه، وكلٌّ له وجه من النظر لا يلزم منه تضييق ولا حرج، فلا يتوهم متوهم خلاف المقصود.
وكذلك يكفي في الرد عليه حديث ابن حبان([114]) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدَّثتني خالتي ميمونة قالت: أدنيت لرسول الله غسلَه من الجنابة، قالت: فغسل كفيه مرتين أو ثلاثًا ثم أدخل كفَّه اليمنى في الإناء فأفرغ بها على فرجه فغسله بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكًا شديدًا، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات مِلء كفيه، ثم تنحّى غير مقامه ذلك فغسل رجليه، ثم أتيته بالمنديل فردّه».اهـ. فإذا كان أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفيه، هذا لرأسه فقط. فماذا يكون جملة ما أخذه لبدنه؟
- الألباني يُبَدِّع بالسيئة استعمال السبحة للذّكر:
من جملة بدع هذا الرجل المحرَّمة ادّعاؤه أن استعمال السبحة بدعة فيها سيّئة بزعمه كونها كادت تقضي على سنة العدّ بالأصابع للذِّكْر([115]).
الرَّدُّ:
خالف الألبانيُّ السلف والخلف، فقد كان العبَّاد الصالحون من السلف الذين يقتدى بهم يستعملون السبحة، كالجنيد بن محمد البغدادي من أهل القرن الثالث، والذي قال فيه ابن تيمية المعروف بشدة عدائه لأهل السُّنَّة: «إنه إمام هدى».اهـ. ذكر ذلك في أكثر من كتاب من كتبه([116]).
ومن الدليل على جواز استعمال السبحة الحديث الذي أخرجه الترمذي([117]) وحسَّنه وابن حبّان وصحَّحه([118]) وحسَّنه الحافظ ابن حجر في أماليّه([119]) أن الرسول دخل مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه على امرأة في يدها نوى أو حصا تسبح [بها] فقال: «ألا أخبرُكِ بما هو أيسرُ عليكِ من هذا وأفضلُ: سبحانَ اللهِ عددَ ما خَلَقَ في السماءِ، وسبحانَ اللهِ عددَ ما خلقَ في الأرضِ، وسبحانَ اللهِ عددَ ما هو خالقٌ، واللهُ أكبرُ مثلَ ذلكَ، والحمدُ للهِ مثلَ ذلكَ، ولا إلـٰه إلا الله مثلَ ذلكَ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ مثلَ ذلك».
هذا سياق لفظ الحديث عند ابن حبان، وأما سياق لفظ الحديث الذي رواه الحافظ ابن حجر فهو هكذا: «سبحانَ اللهِ عددَ ما خَلَقَ في السماءِ، وسبحانَ اللهِ عددَ ما خَلَقَ في الأرضِ، وسبحانَ اللهِ عددَ ما بينَ ذلكَ، وسبحانَ اللهِ عددَ ما هوَ خالقٌ، واللهُ أكبرُ مثلَ ذلكَ، والحمدُ للهِ مثلَ ذلكَ، ولا إلـٰه إلا اللهُ مثلَ ذلك، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ مثلَ ذلكَ».
فإن قال قائل: إن هذا الحديث ضعيف، لأن أحد رواته مختلف فيه، قيل له: كلامك لا عبرة به بعد تصحيح ابن حبان وتحسين الحافظ ابن حجر له في «الأماليّ»، وأنت لست من أهل التصحيح والتضعيف، بينك وبين هذه المرتبة بَوْنٌ([120]) بعيد، فاعرف نفسك أين أنت، فإنَّ الحافظ من الحفَّاظ قد يصحّح أو يُحَسِّن حديثًا في بعض رواته من هو متكلَّم فيه لشاهدٍ أو اعتبار، أو لأن ذلك الراوي المختلف فيه ثقة عندهم، لأن كثيرًا من الرواة المختلف فيهم يعتبره بعض أهل الجرح والتعديل ثقةً، وبعض يعتبره ضعيفاً.
ولحديث سعد شاهد أخرجه الترمذي في سننه([121]) من طريق كِنانة مولى صفية رضي الله عنها قال: «سمعت صفية تقول: دخل عليَّ رسول الله وبين يديّ أربعة ءالاف نواة أُسبح بها، قال: «لقد سَبَّحْتِ بهذه؟» فقال: «ألا أعلِمُكِ بأكثرَ مما سبّحتِ»؟ فقلت: بَلَى، علمني، فقال: «قولي: سبحانَ اللهِ عددَ خلقِه»، حسَّنه الحافظ ابن حجر في «تخريج الأذكار([122]).
ونقل ابن علّان في «شرح الأذكار»([123]) عن ابن حجر الهيتمي في «شرح المشكاة» عند شرح حديث سعد رضي الله عنه السابق ما نصّه: «وهذا أصل صحيح بتجويز السبحة بتقريره – الحصا – فإنه في معناها إذ لا فرق بين المنظومة والمنثورة فيما يُعدّ به، ولا يُعد من عدّها بدعة».اهـ. ثم علماء الحديث كانوا لا يرون بأسًا في استعمال السبحة، لذلك كانوا يستعملونها في ضبط العد في التسبيح، ومن هؤلاء الحفاظ يحيـى بن سعيد القطان، قال الذهبي في «تذكرة الحفاظ»([124]): «قال ابن معين وكان له – أي: يحيـى بن سعيد – سبحة يسبح بها».اهـ. وقال أيضًا في كتابه «سير أعلام النبلاء»([125]): «قال ابن معين: وكان يحيـى يجيء معه بمِسْبَاح فيُدْخِلُ يده في ثيابه فيسبح».اهـ. ويحيـى القطان يقول فيه ابن حبان([126]): «كان من سادات أهل زمانه حفظًا وورعًا وعقلًا وفهمًا وفضلًا ودينًا وعلمًا، وهو الذي مهَّد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن الثقات وترك الضعفاء، ومنه تعلّم علم الحديث أحمد بن حنبل ويحيـى بن معين وعلي ابن المديني وسائر شيوخنا».اهـ.
وكذلك الحافظ ابن حجر كان له سبحة يسبح بها، قال تلميذه الحافظ السخاوي في كتابه «الجواهر والدرر»([127]): «وكان – أي: شيخه الحافظ ابن حجر – إذا جلس مع الجماعة بعد العشاء وغيرها للمذاكرة تكون السبحة داخل كمّه بحيث لا يراها أحد، ويستمر يديرها وهو يسبح أو يذكر غالب جلوسه، وربما تسقط من كمّه فيتأثر لذلك رغبة في إخفائها».اهـ.
وقال الحافظ النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات»([128]): «والسُّبحة – بضم السين وإسكان الباء – خرز منظومة يسبح بها معروفة تعتادها أهل الخير مأخوذة من التسبيح».اهـ.
وللحافظ السيوطي رسالة في جوازها سمَّاها «المنحة في السبحة» جاء فيها([129]): «ولم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عدّ الذّكر بالسبحة؛ بل كان أكثرهم يعدونه بها ولا يرون ذلك مكروهًا».اهـ.
فظهر أن الألباني ليس من أهل الحديث ولا يدانيهم في العلم والعمل، إنما هو مجرد صحفي اتخذ لنفسه مذهبًا جديدًا لا يعرفه أهل الحديث؛ بل أساء فهم عباراتهم فشذ عنهم وحرَّف كلامهم وأتى بأفكار غريبة عجيبة دخيلة على هذا العلم، فخلط بين مراتب الرواة، والتبس عليه تعريف الحديث الموضوع، وحكم على الحديث الضعيف بالوضع لمجرد مخالفته للسُّنَّة الصحيحة، وهذا خروج عن عمل المحدّثين واختلط عليه الشديد الضعف من غيره، وتناقضت عباراته، وغير ذلك من أخطائه الفاحشة، تجدها مبيَّنة في كتاب «التعقب الحثيث»، و«نصرة التعقب الحثيث»، كلاهما للشيخ العلامة المحدّث الفقيه الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله تعالى.
ثم من المعلوم عند المحدثين أن الضعيف يعمل به في الأذكار والدَّعوات والمناقب وفضائل الأعمال والتَّفسير، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني([130])، والسبحة المستعملة اليوم وقبل اليوم في معنى الخيط الذي كان سيدنا أبو هريرة يسبّح به وكان فيه ألفا عقدة، ثبت عنه بالإسناد الصحيح، كما قال الحافظ ابن حجر([131]) إنه كان يسبّح اثني عشر ألف تسبيحة كل يوم، وكان يقول: أسبّح الله بقدر ذنبي. وهذا من تواضع سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه، فلا فرق بين التسبيح بذلك الخيط وبين النَّوى والحصا، وهذا الألباني شوش على المسلمين بتحريم ما لم يحرّم الله.
- الألباني يحرّم الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة قيام رمضان، ويزعم أنَّها بدعة ضلالة:
ادَّعى الألباني في الاستدلال على ما ذهب إليه في تحريم الزيادة على إحدى عشرة ركعة في قيام الليل من رمضان أن «رسول الله عاش عشرين سنة وهو لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة»([132])، وقال في كتابه المسمّى «صلاة التراويح»([133]) ما نصّه: «لا يجوز الزيادة على الإحدى عشرة ركعة».اهـ. وقال([134]) مستشهدًا بكلام الصنعاني: «ولهذا صرّح الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني في «سبل السلام» أن عدد العشرين في التراويح بدعة قال [يقصد الصنعاني]: وليس في البدعة ما يمدح؛ بل كل بدعة ضلالة».اهـ.
الرَّدُّ:
لم يحرم أحد من السلف والخلف الزيادة في قيام رمضان على إحدى عشرة ركعة، وأول من حرم ذلك هو الألباني فبذلك يكون قد ضلل المسلمين حتى طائفته الوهابية فإنهم يصلون (صورةً) ثلاثًا وعشرين ركعة في الحجاز والحرمين الشريفين، فالألباني شذ عن الأمة ومن شذَّ شذَّ في النار، ويكفي في الرد عليه حديث البخاري([135]): «صلاةُ الليلِ مثنى مثنى، فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلى ركعةً واحدةً توترُ له ما قد صلى».
وأورد هنا ما ذكره الشيخ العلامة المحدث الفقيه عبد الله الهرري رحمه الله في إيضاح بطلان ما ادَّعاه الألباني، ونص عباراته([136]): «أبعد ناصر الدين الألباني في القول في الدين بغير دليل، فحرم قيام رمضان بأكثر من إحدى عشرة ركعة، واحتجَّ لذلك بقول عائشة: «ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة» رواه البخاري([137])، وليس فيه حجة له، لأن كلام عائشة هذا محمول على أن ذلك بحسب ما رأته، لأنه صح حديث أبي هريرة عن النبي : «لا توتروا بثلاثٍ تشبهوا بالمغربِ، ولكن أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسع أو بإحدى عشرةَ أو بأكثرَ من ذلك» رواه ابن حبان وابن المنذر والحاكم والبيهقي من طريق عراكٍ عن أبي هريرة([138]) رضي الله عنه كما في «التلخيص الحبير» للحافظ ابن حجر([139]).
ومما يرد على الألباني ما شاع وتواتر في عصر السلف أن أهل المدينة كانوا يقومون بستّ وثلاثين، وكان أهل مكة يقومون بثلاث وعشرين، وكانوا يطوفون بين كل أربع ركعات، فأراد أهل المدينة أن يعوّضوا عن الطواف الذي زاده أهل مكة أربع ركعات، ولم يُنكَر عليهم ذلك بتحريم ما فعله الفريقان، وعملهم هذا مستند لما فُهم من الحديث الصحيح: «صلاةُ الليلِ مثنى مثنى، فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلى ركعةً واحدةً توترُ ما قد صلى»([140]).
ومما ينقض كلام الألباني ما رواه أحمد من حديث عليّ أن النبي صلى في الليل ست عشرة ركعة([141]). وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد»([142]): «رجاله ثقات». ويرد عليه أيضًا ما رواه البخاري([143]) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: «صلاةُ الليلِ مثنى مثنى، فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلّى ركعةً واحدةً توترُ له ما قد صلَّى»، فإن فيه دليلًا صريحًا على جواز قيام رمضان بأقل من إحدى عشرة ركعة وبأكثر منها بلا تحديد وذلك حجة لما قاله الشافعي: «لا حدَّ لعدد ركعات قيام رمضان وما كان أطول قيامًا أحبُّ إليَّ».اهـ. نقل ذلك عنه الحافظ أبو زرعة العراقي في «شرح التقريب»([144])، ونقله غيره عنه. وقد كان الألباني وجماعته أحدثوا بلابل بين المسلمين بنفيهم جواز قيام رمضان إلا بإحدى عشرة ركعة في الشام وغيرها.
ثم هو افتَاتَ على أهل الحديث فقال في رواية: «إن عمر جمع الناس على قيام رمضان فكانوا يصلون ثلاثًا وعشرين ركعة»([145]) قال: إن هذه الرواية ضعيفة، والصحيحة رواية إحدى عشرة، فشذَّ بذلك وخالف قاعدةَ المحدثين أن التصحيح والتضعيف للحفاظ فقط، وهو يعرف من نفسه أنه ليس بمرتبة الحفظ ولا يقاربها، وقد اعترف بذلك في بعض مقالاته، وهذه القاعدة ذكرها السيوطي في «تدريب الراوي» وغيرُه، وقال في ألفيته([146]): [الرجز]
| وخُذْهُ حيثُ حافظٌ عليْه نصّْ | أو من مصنَّفٍ بجَمْعِه يُخَصّْ |
وشرح هذا البيت كما هو مذكور في شرحه على ألفيته أن الصحيح يعرف بتصحيح حافظ من الحفاظ، أبو بوجوده في كتاب التزم مؤلفه الحافظ الاقتصار على الصحيح.
وهذه الرواية لم يطعن في صحتها حافظ؛ بل رجَّح الحافظ ابن عبد البر رواية «ثلاث وعشرين» على رواية «إحدى عشرة»؛ بل اعتبرها وهمًا([147])، وابن عبد البر معدود في الحفاظ، فليس تضعيف الألباني رواية ثلاث وعشرين معتبرًا.
فمن عرف هذه الحقيقة عرف أن مؤلفات الألباني مدخولة لا يجوز الاعتماد عليها، فلا عبرة بتأليفه الذي سماه «الصحيحة» وتأليفه الذي سماه «الضعيفة»، فليحذر المسلمون، وهذه نصيحة أسديناها للمسلمين، كَيْ لا يكونوا أُسَرَاء التقليد الفاسد.
وليعلم ذلك أيضًا من تبعه من أتباعه ممن كتبوا على بعض المؤلفات وقلدوه تقليدًا أعمى كحمدي عبد المجيد، وقد تتابع على ذلك اقتداء به بعض من ليس من أتباعه، فليتقوا الله وليعملوا بقول أهل الحديث: التصحيح والتضعيف من خصائص الحفاظ، وهذا نشأ من قصورهم عن فهم علم الحديث درايةً كما ينبغي، لأن شرط الصحيح والحسن السلامةُ من الشذوذ والعلة، ومعرفة ذلك استقلالًا لا يقوم به إلا الحافظ، لأن مبنى ذلك على تتبع الطرق». انتهى كلام الشيخ المحدث الهرري رحمه الله.
تكملة: ما شاع في بعض كتب الشافعية أن التراويح لا تصح إلا ركعتين ركعتين إلى ثلاث وعشرين، لا يجوز حمل هذا الكلام على مطلق قيام رمضان، لأن اسم صلاة التراويح لم يرد منصوصًا عليه، إنما هو عُرفٌ طارئ حتى صارت كلمة التراويح عبارة عن ثلاث وعشرين على هذا الوجه أن تكون ركعتين ركعتين ثم ثلاث ركعات الوتر موصولةً أو مفصولةً، وقصد أولئك أن من ينوي التراويح فلا يجزئه إلا هذه الكيفية، ولا يقصدون أنه لو لم يقصد التراويح بل قصد قيام رمضان لا يصح قيامه إلا بثلاث وعشرين؛ وهذا محمل كلامهم، وأما حقيقة الأمر فهو الرجوع إلى حديث: «صلاةُ الليلِ مثنى مثنى، فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلّى ركعةً واحدةً توترُ له ما قد صلَّى»([148]) ومعناه: أن الأفضل في كيفية صلاة الليل أن تكون ركعتين ركعتين، وليس المراد حصرَ الجواز في هذه الكيفية، لأنه ثبت في الصحيح أن عائشة قالت في بيان صلاته بالليل: «يصلي أربعَ ركعاتٍ فلا تسألْ عن حسنِهن وطولِهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسألْ عن حسنِهن وطولِهن، ثم يصلي ثلاثًا» رواه البخاري([149]). هذه عظة وعبرة لمن يعتبر، كم من أناس اليوم يصححون ويضعفون وهم بعيدون من استئهال ذلك بُعد الأرض من السماء، لأن مرتبة الحفظ بعيدة المنال منهم، وهي عند أهل الحديث: أن يستحضر المحدث أغلب المتون وأغلب الرواة في ذهنه من حيث معرفة أساميهم وأحوالهم([150]). فليزنوا أنفسهم بهذا الميزان حتى يعرفوا أنهم بعيدون منه ذلك البعد.
وحديث: «صلاةُ الليلِ مثنى مثنى» أقوى من حديث عائشة المذكور إسنادًا وشهرة.
ومما يردُّ دعوى وزعم الألباني أن الرسول ما كان يزيد عن إحدى عشرة ركعة ما رواه ابن حبّان في صحيحه من روايات عن صلاة النبي بالليل فقال: «عن عائشة قالت: كان النبي يصلي من الليل تسع ركعات»([151]).
وروى ابن حبان أيضًا عن أبي سلمة، قال: أخبرتني عائشة قالت: «كان رسول الله يصلي من الليل ثماني ركعات ويوتر بواحدة ثم يركع ركعتين وهو جالس»([152]).اهـ.
وروى أيضًا عن مسروق أنه دخل على عائشة فسألها عن صلاة رسول الله بالليل فقالت: «كان يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل، ثم إنه صلى إحدى عشرة ركعة ترك ركعتين، ثم قُبِض حين قُبض وهو يصلي من الليل تسع ركعات ءاخر صلاته من الليل والوتر، ثم ربما جاء إلى فراشي هذا فيأتيه بلال فيؤذِنه بالصلاة»([153]).اهـ.
وروى ابن حبّان أيضًا عن ابن عباس أنه قال: «بِتُّ عند خالتي ميمونة ورسول الله عندها تلك الليلة فتوضأ رسول الله ثم قام يصلي ركعتين، فقمت عن يساره فأخذني فجعلني عن يمينه، فصلى في تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة، ثم نام رسول الله حتى نفخ([154]) وكان إذا نام نفخ، ثم أتاه المؤذن فخرج وصلى ولم يتوضأ، قال عمرو: حدثت بهذا بكير بن الأشج فقال: حدَّثني كريب بذلك»([155]).اهـ.
وروى ابن حبّان أيضًا عن ابن عباس أنه بات عند خالته ميمونة فقام النبي يصلي من الليل قال: «فقمت فتوضأت ثم قمت عن يساره فجرني حتى أقامني عن يمينه، ثم صلى ثلاث عشرة ركعة قيامه فيهن سواء»([156]).اهـ. وروى مسلم وغيره([157]) عن ابن عباس قال: «كان رسول الله يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة»، وروى البخاري([158]) عن ابن عباس أيضًا قال: «كانت صلاة النبي ثلاث عشرة ركعة – يعني: بالليل -».
وفي هذه الروايات دليل على أن ما رواه البخاري عن عائشة من أنه ما كان يزيد في رمضان وغيره في صلاة الليل على إحدى عشرة ركعة محمول على أنها رأت ذلك منه أوَّلًا، ثم رأت منه ما يخالف ذلك، ولا يؤخذ من رواية البخاري أنه لم يصل قطّ أكثر من إحدى عشرة ركعة في قيام الليل، كما زعم الألباني.
فإن قال الألباني: هذه الأحاديث التي ذُكر فيها أن الرسول زاد على إحدى عشرة ركعة، معارضة لحديث عائشة الذي أخرجه البخاري الذي فيه أن الرسول ما زاد في صلاة الليل في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، فما خالفه فهو ضعيف فيكون هو الرَّاجح، وتكون تلك الروايات مرجوحةً لا يحتجُّ بها.
نقول: يقول أهل العلم: التّرجيح لا يصار إليه ما أمكن الجمع بين الروايتين، وهنا الجمع ممكن سهل، وذلك بأن يقال: إن عائشة لما حدَّثت ذلك الحديث لم يكن لها اطلاع على غير ذلك القدر، فلم تشاهد النبي صلَّى أكثر من إحدى عشرة ركعة، ولا يمنع ذلك أن يكون غيرها كابن عباس شاهد منه ما يزيد على ذلك، لأن عائشة ما كانت تراه كل ليلة عند قيامه لصلاة الليل، إنما كانت تراه في ليلةٍ من بين تسع ليال في بعض الزمن الذي عاشت معه ، والدليل على ذلك أنها روت عنه أنه في ءاخر عمره كان يقوم بأقلَّ من ذلك، رأته قام بتسع ركعات.
ومما يدل على ما ذكرنا ما ذكره الحافظ ابن حجر في «التلخيص الحبير» ونصه([159]): «حديث أم سلمة: كان رسول الله يوتر بثلاث عشرة، فلما كبر وضعف أوتر بسبع»، [رواه] أحمد([160]) والترمذي([161]) والنسائي([162]) والحاكم([163]) وصححه من طريق عمرو ابن مرة عن يحيـى بن الجزار عنها، قوله: لم ينقل زيادة على ثلاث عشرة كأنه أخذه من رواية أبي داود الماضية عن عائشة ولا بأكثر من ثلاث عشرة وفيه نظر، ففي «حواشي المنذري»: قيل: أكثر ما روي في صلاة الليل سبع عشرة وهي عدد ركعات اليوم والليلة، وروى ابن حبّان وابن المنذر والحاكم([164]) من طريق عراك عن أبي هريرة مرفوعاً: «أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرةَ أو بأكثرَ من ذلك».اهـ.
ثم قال([165]): «حديث عائشة أن النبي كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في ءاخرهن»، [رواه] مسلم بلفظ: «كان يصلي من الليل ثلاث عشرة يوتر من ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخرها»، ورواه الشافعي بلفظ: «كان يوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الأخيرة منهن»، وللبخاري من حديث ابن عباس في صلاته في بيت ميمونة: «ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن».اهـ.
وهذا دليل على أن عائشة روت هذا الحديث الذي اعتمد عليه الألباني وفهمه على غير وجهه.
ويكفي في الرد على الألباني ما رواه ابن عمر عن رسول الله أنه قال: «صلاةُ الليلِ مثنى مثنى، فإذا أردتَ أن تنصرفَ فاركعْ ركعةً توتِرُ لك ما صلَّيت»([166]).
وفيه دليل على أن صلاة الليل ليس لها عدد بركعاتٍ محدودة، وهذا أيضًا ناقض لقول الألباني بتحريم ما زاد على إحدى عشرة ركعة أو نقص، فعنده إذا لم يثبت عن رسول الله إلا هذا فما نقص وما زاد فهو حرام، فبهذا ونحوه خرج الألباني من الأمة لأنه ضلل الأمة، ومن ضلل الأمة فليس منهم». انتهى كلام الشيخ العلامة المحدث الهرري رحمه الله تعالى.
انفرد الألباني عن طائفته بإبطال كل قول يخالف قوله، ويميل إليه قلبه، في المسائل الفقهية في الطهارات والصلوات والزكوات وجواز تحلّي النساء بحلي الذهب المحلَّق، والألباني يعلم أن الأئمة المجتهدين من الصحابة ومن بعدهم اختلفوا في مسائل الطهارة والوضوء والغسل والتيمم والصلاة وفي مسائل النكاح والطلاق والجنايات إلى غير ذلك، وقد يكون اختلافهم في بعض المسائل على وجهين، وفي بعض على ثلاثة أوجه، وفي بعض يزيد على ذلك إلى نحو سبع أو أكثر، فالألباني بذلك عمل قاعدة لنفسه وهي قوله([167]): «الحق لا يتعدد»، يُريد بذلك أن كل من سواه على باطل، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
ومعنى هذا الكلام: أنا الرجل المهتدي ومن مشى معي لا غير، أنا الذي على الحق ومن تبعني، ومن سواي على باطل، فكأنه يقول بهذا: أنا المهتدي ومن وافق رأيي فقط.
وقد وصف عبد المنعم مصطفى حليمة الألباني في أثناء ردّه عليه بقوله([168]): إنه جهمي جلد. وهو موافقه في عقيدة التجسيم، لكنه لما انحرف انحرافات لا تقول بها فرقته الذين منهم هذا الرادّ عليه وصفه بأنه جهمي، أي: يوافق الجهمية في بعض عقائدها.
ومن أعجب شذوذ الألباني ما ادعاه في فتاويه بقوله([169]): «ثم ما هي البدعة، البدعة فيما تذهبون إليه من قوله : «كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ»([170]) ما هي البدعة؟ أليس هي الزيادة على ما جاء به الرسول من طاعة وعبادة؟! إن كان كذلك فإن الجواب الذي قلته ءانفًا بأن الأصل في العبادات المنع إلا لنص».اهـ. ثم قال: «فأنا أقول: إن عجبني يكاد لا ينتهي من مثل هذا القول، أصلاة مائة ركعة طاعة أم غير طاعة؟ إن كانت طاعة كيف غفل عنها رسول الله؟ لماذا لم يسن ولو مرة واحدة في حياته؟ هل صلى مائة ركعة مرة واحدة في هذه الفترة الطويلة جدًّا؟!».اهـ.
الرَّدُّ:
هذا القول يرده الحديث الذي صححه ابن حبّان ووافقه عليه الحافظ ابن حجر([171]): «الصلاةُ خيرٌ موضوعٌ، استكثَر أوِ استقلَّ»، وحديث البخاري ومسلم([172]): «صلاةُ الليلِ مثنى مثنى» فيه ترك التحديد بعدد فيشمل سبع ركعات وتسعًا وإحدى عشرة وثلاث عشرة إلى عشرين إلى أربعين إلى مائة إلى أكثر من ذلك، كل هذا شيء موافق، وليس الرسول فعل كل ما رغَّب فيه، فظن الألباني أن أي عمل من أعمال الدين لم يفعله الرسول بعينه باطل، جهلًا منه، فالله تبارك وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِين ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [سورة الأحزاب: 41] فيشمل العشرة والمائة والألف والألفين وما فوق ذلك، مع أنه لم يُنقل عن الرسول في الأحاديث الواردة أنه كان يستغفر مائتي استغفار أو ألفًا، إنما الوارد عنه أنه قال([173]): «إني لأستغفرُ اللهَ في اليوم مائةَ مرةٍ»، وقال([174]): «ربِّ اغفرْ لي وتبْ عليَّ إنك أنت التوابُ الرحيمُ» مائة مرة، فهل يفهم من هذا وأمثاله أنه لا يجوز الزيادة على هذا القدر، أليس ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يسبح اثني عشرة ألف تسبيحة كل يوم ويقول: «أسبح بقدر ذنبي؟!»، فعلى قول الألباني إن أبا هريرة رضي الله عنه عصى الله، وأهل المدينة الذين كانوا يقومون في رمضان بستة وثلاثين ركعة ضالون على زعم الألباني وأتبعوا أنفسهم فيما هو معصية لله. وحديث أبي هريرة رواه ابن سعد وصححه الحافظ ابن حجر([175]).
ومن أدلة أهل الحديث والفقهاء وسائر العلماء على جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة ما رواه البيهقي وغيره([176]) من طريق ابن أبي ذئب عن يزيد بن خُصَيْفة عن السائب بن يزيد قال: «كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة»، قال: «وكانوا يقرؤون بالـمِـئِين([177])، وكانوا يتوكؤون على عصيهم في عهد عثمان بن عفان([178]) رضي الله عنه من شدة القيام». صحح إسناده من الحفاظ النووي في «المجموع»([179])، وأبو زرعة العراقي ابن الحافظ زين الدين العراقي في «طرح التثريب»([180]) والزَّيلعي في «نصب الراية»([181])، والسيوطي في «المصابيح»([182]) ومن المحدثين التهانوي في «إعلاء السنن»([183])، ورجال إسناده كلهم ثقات([184]).
وقد تابع يزيد بن خُصَيفة على رواية العشرين ركعة محمد بن يوسف أخرجها عبد الرزاق في مصنّفه([185]) قال: «عن داود وغيره عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر جمع الناس في رمضان على أبيّ بن كعب، وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة يقرؤون بالـمِئِين، وينصرفون عند فروع الفجر [أوائله]».اهـ.
وهذا إسناد رجاله ثقات([186]) مما يزيد رواية يزيد بن خُصيفة قوة. وحكم الألباني على هذه الرواية أي رواية ابن خصيفة بالشذوذ مخالف لقواعد أهل الحديث، واتباع للهوى، وإخضاع الأحاديث لرأيه، فما وافقه رأيه قبله، وما خالف رأيه رده، وإن كان صحيحًا كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وثبت من وجه ءاخر من طريق يزيد بن خُصَيفة عند البيهقي في «المعرفة»([187]) قال: «أخبرنا أبو طاهر الفقيه، قال: أخبرنا أبو عثمان البصري، قال: حدَّثنا أبو محمد بن عبد الوهاب، قال: أخبرنا خالد بن مَخْلَد، قال: حدَّثنا محمد بن جعفر، قال: حدَّثني يزيد بن خُصَيْفة عن السائب بن يزيد قال: كنا نقوم في زمان عمر بن الخطاب بعشرين ركعة والوتر».اهـ. وإسناده ثقات([188]) محتج بهم.
وقد أخذ علماء أئمة المذاهب الأربعة الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد بفعل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإليك نقل نصوصهم:
قال البيهقي الشافعي في «المعرفة»([189]) ما نصّه: «قال الشافعي: وليس في شيء من هذا ضيق ولا حد ينتهي إليه، لأنه نافلة، فإن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن وهو أحبّ إليّ، وإن أكثروا الركوع والسجود فحسن. قال الشافعي: أخبرنا مالك عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد قال: أمرَ عمرُ بن الخطاب أُبيَّ بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما بالناس بإحدى عشرة ركعة».اهـ. وقال المزني في «مختصره»([190]): «قال – يقصد الشافعي – فأمّا قيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحب إليّ منه، ورأيتهم بالمدينة يقومون بتسع وثلاثين وأحبّ إليّ عشرون، لأنه روي عن عمر، وكذلك يقومون بمكة ويوترون بثلاث».اهـ.
قال ابن قدامة الحنبلي في «المغني»([191]) ما نصّه: «فصل: والمختار عند أبي عبد الله رحمه الله فيها عشرون ركعة، وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي، وقال مالك: ست وثلاثون».اهـ.
وفي «المدوّنة» للإمام مالك([192]) وكتاب «العُتْبيّة»([193]) على مذهب الإمام مالك ما نصّه: «وسمعت مالكًا، وذكر أن جعفر بن سليمان أرسل إليه يسأله أن ينقص من قيام رمضان قال: فنهيته عن ذلك، فقيل له: أفتكره ذلك؟ قال: نعم وقد قام الناس هذا القيام، فقيل له: فكم القيام عندكم؟ قال: تسع وثلاثون ركعة بالوتر». قال محمد بن رشد الجد المالكي في شرحه على العُتبيّة المسمّى «البيان والتحصيل»([194]) ما نصّه: «وسمعت مالكًا – وذكر أن جعفر بن سليمان أرسل إليه يسأله أن ينقص من قيام رمضان، قال: فنهيته عن ذلك؛ فقيل له: أفتكره ذلك؟ قال: نعم – وقد قام الناس هذا القيام، فقيل له: فكم القيام عندكم؟ قال: تسع وثلاثون ركعة بالوتر. لما كان قيام رمضان مرغبًا فيه، لقوله : «من قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبِه»([195])، وكان للجميع فيه أصل للسُّنَّة، وكان العمل قد استمر فيه على هذا العدد من يوم الحرة إلى زمنه، وذلك أن عمر بن الخطاب كان أمر أبيَّ بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، فكانا يطيلان القيام، حتى لقد كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام وما كانوا ينصرفون إلا في فروع الفجر [أوائله]، فشكوا ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمرهما أن يزيدا في عدد الركوع وينقصا من طول القيام، فكانا يقومان بالناس بثلاث وعشرين ركعة، وكان القارئ يقرأ بسورة البقرة في ثماني ركعات، فإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة، رأى الناس أنه قد خفف فكان الأمر على ذلك إلى يوم الحَرَّة، ثم شكوا ذلك لما اشتد عليهم فنقصوا من طول القيام وزادوا في عدد الركوع حتى أتموا تسعًا وثلاثين ركعة بالوتر ومضى الأمر على ذلك من يوم الحرة، وأمر عمر بن عبد العزيز أن يقوموا بذلك، وأن يقرؤوا في كل ركعة بعشر ءايات فكره مالك أن ينقص من ذلك، إذ لا ينبغي أن يحمل الناس على انتقاص الخير وإنما ينبغي أن يرغبوا في الازدياد فيه ويحملوا على ذلك إن أمكن، وكان بالناس عليه طاقة وإليه نشاط، وبالله تعالى التوفيق».اهـ. وقال الزرقاني في «شرحه على الموطأ»([196]) ما نصّه: «وذكر ابن حبيب أنها كانت أوّلًا إحدى عشرة، كانوا يطيلون القراءة، فثقل عليهم فخففوا القراءة وزادوا في عدد الركعات، فكانوا يصلون عشرين ركعة، غير الشفع والوتر، بقراءة متوسطة، ثم خففوا القراءة وجعلوا الركعات ستًّا وثلاثين، غير الشفع والوتر، ومضى الأمر على ذلك، وروى محمد بن نصر عن داود بن قيس قال: أدركت الناس في إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز، يعني: بالمدينة، يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث، وقال مالك: هو الأمر القديم عندنا».اهـ.
ومذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه عشرون ركعة، كما في «المبسوط»([197]) للسرخسي قال: «عدد الركعات فإنها عشرون ركعة سوى الوتر».اهـ.
فبعد هذا البيان لا يسع المنصف إلا القبول بثبوت صلاة التراويح عشرين ركعة منذ عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى يومنا هذا، خلافاً للألباني الذي يجهل الفقه وأصوله ولا يعرف الحديث كما عرفه أهله، فشذ عنهم وخالف ما كان عليه المسلمون، ولا يزال شرقًا وغربًا في مختلف الأزمان وسائر الأقطار، وردّ الصحيح الثابت من الروايات، تارة بالافتراء على الأئمة، وتارة بالاحتجاج بالضعيف، وتارة بالتدليس على الناس، كما سيتضح لك أيها القارئ إن شاء الله تعالى.
وقد استدل الألباني على ردّ رواية يزيد بن خُصيفة بأمور منها:
أولًا: أورد الألباني([198]) رواية الإمام مالك رضي الله عنه([199]) عن شيخه محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: «أمر عمر بن الخطاب أُبيّ بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة» ثم قال([200]): «لا يجوز أن تعارض هذه الرواية الصحيحة بما رواه عبد الرزاق من وجه ءاخر عن محمد بن يوسف بلفظ: «إحدى وعشرين» لظهور خطأ هذا اللفظ من وجهين، الأول: مخالفته لرواية الثقة المتقدمة بلفظ: «إحدى عشرة»، الثاني: أن عبد الرزاق قد تفرَّد بروايته على هذا اللفظ، فإن سلم ممن بينه وبين محمد بن يوسف، فالعلة منه، أعني: عبد الرزاق، لأنه وإن كان ثقة حافظًا ومصنّفًا مشهورًا، فقد كان عمي في ءاخر عمره فتغير»، ثم قال: «وقال [ابن الصلاح]: «والحكم فيهم (يعني: المختلطين) أنه يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط، ولا يقبل حديث من أخذ عنهم بعد الاختلاط، أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده»، قلت [أي: الألباني]: وهذا الأثر من القسم الثالث، أي: لا يدري حدّث به قبل الاختلاط أو بعده فلا يقبل، وهذا لو سلم من الشذوذ والمخالفة فكيف يقبل معها؟» انتهى كلام الألباني.
الرَّدُّ:
- ردّ الألباني رواية محمد بن يوسف بلفظ: «إحدى وعشرين» لمخالفتها لفظ «إحدى عشرة»، مخالفًا ما جرى عليه أهل الحديث من الجمع بين الأحاديث إن أمكن، وهذا ما يعرف بمخْتَلِف الحديث، ومعناه: كما قال الحافظ النووي في «التقريب»([201]): «أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهرًا، فيوفّق بينهما أو يرجح أحدهما، وإنما يَكْمَلُ له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه والأصوليّون الغوّاصون على المعاني» ثم قال([202]): «والمختلف قسمان: أحدهما: يمكن الجمع بينهما فيتعيَّن ويجب العمل بهما، والثاني: لا يمكن بوجه فإن علمنا أحدهما ناسخًا قدَّمناه، وإلا عملنا بالراجح كالترجيح بصفات الرواة وكثرتهم في خمسين وجهًا».اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في «شرح النخبة»([203]) ما نصّه: «ثم المقبول ينقسم أيضًا إلى معمول به وغير معمول به، لأنه إن سَلِمَ من المعارضة، أي: لم يأت خبرٌ يضاده فهو المحكم وأمثلته كثيرة، وإن عُورِضَ فلا يخلو إمّا أن يكون مُعارِضُه مقبولاً مثلَه أو يكون مردودًا، فالثاني لا أثر له لأنَّ القوي لا يؤثّر فيه مخالفة الضعيف، وإن كان المعارضة بمثله فلا يخلو إمّا أن يمكن الجمع بين مدلوليهما بغير تعسّف أو لا، فإنْ أمكن الجمع فهو النوع المسمَّى مختَلِف الحديث، وإن لم يمكن الجمع فلا يخلو إمّا أن يعرف التاريخ أو لا، فإن عُرِف وثبت المتأخّر به أو بأصرح منه فهو الناسخ والآخر المنسوخ»، ثم قال([204]): «فصار ما ظاهره التعارض واقعًا على هذا الترتيب الجمع إن أمكن، فاعتبار الناسخ والمنسوخ، فالترجيح إن تعيّن، ثم التوقف على العمل بأحد الحديثين».اهـ.
كذلك ذكر السخاوي في «فتح المغيث»([205]) أنه كالترجيح بكثرة الرواة أو بصفاتهم في خمسين وجهًا من وجوه الترجيحات وأكثر.
قال أهل العلم: والجمع بينهما ممكن، فلذلك لم يحكم الحافظ على رواية العشرين ركعة بالشذوذ والمخالفة، فقد قال الحافظ البيهقي في سننه([206]): «ويمكن الجمع بين الروايتين، فإنهم كانوا يقومون بإحدى عشرة، ثم كانوا يقومون بعشرين ويوترون بثلاث».اهـ. ونقله عنه الحافظ النووي في «المجموع»([207]) ووافقه على هذا الجمع، وكذلك فعل الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»([208]) ونص عبارته: «تكميل: لم يقع في هذه الرواية عدد الركعات التي كان يصلي بها أُبيّ بن كعب، وقد اختلف في ذلك، ففي «الموطأ» عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنها إحدى عشرة، ورواه سعيد بن منصور من وجه ءاخر وزاد فيه: «وكانوا يقرؤون بالمائتين ويقومون على العصي من طول القيام» ورواه محمد بن نصر المروزي من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن يوسف فقال: «ثلاث عشرة»، ورواه عبد الرزاق من وجه ءاخر عن محمد بن يوسف فقال: «إحدى وعشرين»، وورى مالك من طريق يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد «عشرين ركعة»، وهذا محمول على غير الوتر، وعن يزيد بن رومان قال: «كان الناس يقومون في زمان عمر بثلاث وعشرين» وروى محمد بن نصر من طريق عطاء قال: «أدركتهم في رمضان يصلون عشرين ركعة وثلاث ركعات الوتر»، والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس، وبذلك جزم الداودي وغيره، والعدد الأول موافق لحديث عائشة المذكور بعد هذا الحديث في الباب والثاني قريب منه، والاختلاف فيما زاد عن العشرين راجع إلى الاختلاف في الوتر، وكأنه كان تارة يوتر بواحدة وتارة بثلاث، وروى محمد بن نصر من طريق داود بن قيس قال: «أدركت الناس في إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز، يعني: بالمدينة يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث، وقال مالك: هو الأمر القديم عندنا. وعن الزعفراني عن الشافعي: «رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين، وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق» وعنه قال: «إن أطالوا القيام واقلوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحب إليَّ». وقال الترمذي: «أكثر ما قيل فيه أنها تصلى إحدى وأربعين ركعة»، يعني: بالوتر، كذا قال. وقد نقل ابن عبد البر عن الأسود بن يزيد: «تصلى أربعين ويوتر بسبع، وقيل: ثمان وثلاثين ذكره محمد بن نصر عن ابن أيمن عن مالك، وهذا يمكن رده إلى الأول بانضمام ثلاث الوتر، لكن صرح في روايته بأنه يوتر بواحدة، فتكون أربعين إلا واحدة، قال مالك: «وعلى هذا العمل منذ بضع ومائة سنة، وعن مالك ست وأربعين وثلاث الوتر، وهذا هو المشهور عنه، وقد رواه ابن وهب عن العمري عن نافع قال: «لم أدرك الناس إلا وهم يصلون تسعًا وثلاثين يوترون منها بثلاث»، وعن زرارة بن أبي أوفى أنه كان يصلي بهم بالبصرة أربعًا وثلاثين ويوتر، وعن سعيد بن جبير أربعًا وعشرين، وقيل: ست عشرة غير الوتر».اهـ.
فهل سلك الألباني مسلك أهل الحديث؟ لا، بل أغار على تضعيف رواية العشرين من طريق محمد بن يوسف، لأنها خالفت رأيه. ثم ابن يوسف روى مرة بإحدى عشرة وهي رواية «الموطأ»، ومرة بإحدى وعشرين، وهي رواية عبد الرزاق، ورواتها ثقات كما قدمنا، وردّها الألباني بقوله: «لمخالفتها لرواية الثقة»، يا ليت شعري أي ثقة خالفت والراوي لِكِلا الروايتين واحد وهو محمد بن يوسف!
فإذا قال قائل: ذكرتَ الجمع بين الروايتين، لكن رواية الإحدى عشرة هي أرجح. أقول: قال العلماء: الترجيح لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع، كما ذكر أهل الحديث الذين بيَّنوا وجه هذا الجمع، ويقال أيضًا: إن المرجّحات التي أورها المحدثون في مصنّفاتهم تُرجّح رواية العشرين، لأنها أقوى، فراويها محمد بن يوسف الثقة الثبت([209]) وتابعه يزيد بن خُصيفة وهو ثقة([210]) أيضًا، ويزيدها ترجيحًا وقوةً أن المسلمين كانوا على ممر العصور منذ زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلون التراويح بعشرين ركعة، ومنهم يصليها أكثر مع وجود العلماء غير منكرين عليهم؛ بل هم يفتون بجواز ذلك، فظهر شذوذ الألباني ومخالفته لأهل السُّنَّة.
- قول الألباني: «إن عبد الرزاق قد تفرد بروايته على هذا اللفظ».
قد سبق بيان الجمع بين روايته ورواية الموطأ فلا يضره حينئذٍ التفرد لا سيما وهو ثقة حافظ مشهور، ثم عبد الرزاق لم ينفرد بلفظ العشرين؛ بل رواها أيضًا علي بن الجعد ومن طريقه البيهقي والفريابي كما مرّ من طريق يزيد بن خصيفة، فأوهم الألباني بأسلوب التدليس على القارئ ليدفع رواية العشرين بغير حجة.
- قول الألباني([211]): «فإن سَلِم ممن بينه وبين محمد بن يوسف» دليل على أنه لم يقف على رواية عبد الرزاق في مصنّفه، فعجبًا له كيف يتكلم على رواية إسنادها صحيح ولم يقف على سندها، مع زعمه أنه يتتبع الروايات ويجمعها ويدّعي زورًا بقوله([212]) في الصحيفة السابقة: «لم أر من سبقني إلى جمعها»!
- قوله: «فإن سلم ممن بينه وبين محمد بن يوسف فالعلة منه، أعني: عبد الرزاق» إلى ءاخر كلامه.
إن الطعن في مرويات هذا الإمام، بحجة أنه أُضِرَّ ببصره فصار يتلقن، كما زعمه الألباني تحت ستار نصرة السُّنَّة النبوية، لَدليلٌ واضح ظاهر على انحرافه عن أهل الحديث وحبّه الخروج على ما توارد عليه المسلمون خلفًا عن سلف في سائر أمصار الإسلام الذين يحتجون بما رواه عبد الرزاق في مصنّفه، فطعن وردّ ما رواه في مصنّفه بحجة أنه عمي وأضر ببصره طعن بهذا الديوان العظيم الضخم الذي حوى الآلاف من الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين وغيرهم. ولكن التعصب للهوى المخالف للسُّنَّة، ونصرة الرأي المخالف لهدي النبي هو الذي دفع هذا الرجل لرد رواية عبد الرزاق في مصنّفه لـمّا ارتسم في مخيلته وأوهامه أنه لا يجوز الزيادة على إحدى عشرة ركعة، والذي جهله الألباني، وهو يجهل فن الحديث رغم زعمه أنه مضى عليه عشرات السنين في هذا العلم، أنّ الأثرم روى عن الإمام أحمد: «من سمع منه – أي: من عبد الرزاق – بعدما عمي فليس بشيء، وما كان في كتبه فهو صحيح، وما ليس في كتبه فإنه كان يُلقَّن فيتلَقّن».اهـ. ذكره الحافظ ابن حجر في «هدي الساري»([213])، ورواية عبد الرزاق في مصنّفه حجة ولا مطعن فيها، فظهر قصور باع الألباني وقلة اطّلاعه وعدم معرفته بعلم الحديث درايةً وروايةً.
ثانيًا: بعد أن أورد الألباني رواية ابن خصيفة المتقدمة قال([214])” «وظاهر إسناده الصحة، ولهذا صححه بعضهم، ولكن له علة، بل علل تمنع القول بصحته وتجعله ضعيفًا منكرًا، وبيان ذلك من وجوه: الأول: أن ابن خصيفة هذا وإن كان ثقة، فقد قال الإمام أحمد في رواية عنه «منكر الحديث»، ولهذا أورده الذهبي في «الميزان»([215])، ففي قول أحمد هذا إشارة إلى أن ابن خصيفة قد ينفرد بما لم يروه الثقات، فمثله يرد حديثه إذا خالف من هو أحفظ منه يكون شاذًّا… الثاني: أن ابن خصيفة اضطرب في روايته العدد، فقال إسماعيل ابن أمية: إن محمد بن يوسف أخبره عن السائب بن يزيد أنه قال: «أمر عمر بن الخطاب أُبيّ بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال إسماعيل: قلت: أو إحدى وعشرين؟ قال [محمد بن يوسف]: لقد سمع ذلك من السائب بن يزيد – ابن خصيفة، فسألت [السائل هو إسماعيل بن أمية]: يزيد بن خصيفة؟ فقال: حسبت أن السائب قال: إحدى وعشرين». قلت [القائل هو الألباني]: وسنده صحيح. فقوله في هذه الرواية «إحدى وعشرين» على خلاف الرواية السابقة «عشرين»، وقوله: «حسبت»، أي: ظننت دليل على اضطراب ابن خصيفة في رواية هذا العدد، وأنه كان يرويه على الظن لا على القطع، لأنه لم يكن قد حفظه جيدًا، فهذا وحده كاف لإسقاط الاحتجاج بهذا، فكيف إذا اقترن به مخالفته لمن هو أحفظ منه، الثالث: أن محمد بن يوسف هو ابن أخت السائب بن يزيد، فهو لقرابته للسائب أعرف بروايته وأحفظ، فما رواه من العدد أولى مما رواه مخالفة ابن خصيفة، ويؤيده أنه موافق لما روته عائشة في حديثها المتقدم أن النبيّ كان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة، وحمْل فعل عمر رضي الله عنه على موافقة سننه خير وأولى من حمله على مخالفتها».اهـ.
الرَّدُّ:
- أوهم الألباني القارئ أن قول الإمام أحمد في يزيد بن خصيفة منكر الحديث أنه ضعيف عنده، وليس الأمر كذلك؛ بل الإمام أحمد وثَّقه كما في «تهذيب الكمال»([216])، وليس قوله هذا تضعيفًا له، وإنما هو اصطلاح له يطلقه على بعض الرواة لتفرده عن أقرانه ببعض ما يرويه كما في «هدي الساري»([217]) للحافظ ابن حجر، ونصّ عبارته: «قال ابن معين: ثقة حجة ووثَّقه أحمد في رواية الأثرم وكذا أبو حاتم والنسائي وابن سعد، وروى أبو عبيد الآجري عن أبي داود عن أحمد أنه قال: منكر الحديث، قلت: هذه اللفظة يطلقها أحمد على من يغرب على أقرانه بالحديث، عُرف ذلك بالاستقراء من حاله، وقد احتج بابن خصيفة مالك والأئمة كلهم».اهـ.
فإذا ثبت ذلك عُلم أنه لا يضره تفرده لأنه ثقة حجة، وتمسكه بقول الإمام أحمد دليل جهله باصطلاح هذا الإمام، وكم له من هفوات شنيعة أدَّت به إلى الزلل بسبب جهله وعناده عن قبول الحق، ثم ابن خصيفة لم ينفرد برواية العشرين؛ بل وافقه على ذلك الثقة الثبت محمد بن يوسف، فكيف يقال بعد ذلك: إنّ ابن خصيفة تفرد بهذا اللفظ؟! فتبيّن أن ابن خصيفة لم يغلط في رايته كما زعم الألباني.
- قوله: «ولهذا أورده الذهبي في «الميزان»، وقوله في الهامش: «ومن المعلوم أنه إنما يذكر فيه من تكلم فيه من الرواة».
هذه محاولة أخرى من أساليب تدليس الألباني للغمز من قناة ابن خصيفة بلا حجة ونسب ذلك إلى الذهبي وهو بريء مما نسبه إليه، إذ صغار طلبة العلم يعرفون أن مجرد إيراد الذهبي للراوي في ميزانه لا يدل على تضعيفه كما زعم الألباني، مع أن الذهبي ذكر شرطه في كتابه فقال في مقدمته([218]): «وفيه من تُكلّم فيه مع ثقته وجلالته بأدنى لين وبأقل تجريح فلولا أنّ ابن عدي أو غيره من مؤلفي كتب الجرح ذكروا ذلك الشخص لما ذكرته لثقته، ولم أر من الرأي أن أحذف اسم أحد ممن له ذكْر بتليين مما في كتب الأئمة المذكورين خوفًا من أن يُتعقَّب عليّ لا أني ذكرته لضعف فيه عندي».اهـ. وقال في ءاخر كتابه «الميزان»([219]): «تم الكتاب… فأصله وموضوعه في الضعفاء، وفيه خَلْق كما قدمنا في الخطبة من الثقات ذكرتهم للذَّبِّ عنهم، ولأن الكلام فيهم غير مؤثر ضَعْفًا».اهـ. فلأي معنى إذًا ذكر الألباني أن الذهبي أورده في «الميزان» الذي حوى الثقات والضعفاء!، ولماذا أخفى عن القراء شرط الذهبي في ميزانه؟ هل خوفًا من أن يفتضح أمام محبيه والمعجبين به؟! وهل من الأمانة العلمية أن ينسب إلى الذهبي خلاف ما نصّ عليه في مقدمته وخاتمة ميزانه؟!
- قوله: «ففي قول أحمد هذا إشارة إلى أن ابن خصيفة قد ينفرد بما لم يروه الثقات».
أيُّ ضرر في هذا طالما أن الرجل ثقة احتج به الأئمة كلهم.
- قوله: «فمثله يرد حديثه إذا خالف من هو أحفظ منه يكون شاذًّا».
مرّ سابقًا أن الحفاظ ومنهم النووي والبيهقي وابن حجر وغيرهم لم يحكموا على رواية ابن خصيفة بالشذوذ، فالعبرة بحكمهم لا بحكم المتطفلين على الحديث وأهله، ومرّ أيضًا أن ابن خصيفة لم يتفرد بها؛ بل وافقه محمد بن يوسف، ويعضدها عمل الأئمة بها في صلاة التراويح، فانتفى الشذوذ.
وزيادة على ما تقدم أورد نص الحافظ ابن حجر في مقدمة «فتح الباري»([220]) لبيان أنه لا يحكم على الروايات المخالفة إلا عند تعذر الجمع بينها، ونصّ عبارته: «وأما المخالفة وينشأ عنها الشذوذ والنكارة، فإذا روى الضابط والصدوق شيئًا فرواه من هو أحفظ منه أو أكثر عددًا بخلاف ما روى بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدّثين فهذا شاذ وقد تشتد المخالفة أو يضعف الحفظ فيحكم على ما يخالف فيه بكونه منكرًا».اهـ. هذا ما عليه أهل الحديث، أما الألباني فقد لجأ إلى رد الروايات بعللٍ غير قادحة، لأن الرأي عنده أولًا والحديث ثانيًا، فإذا كان رأيه مخالفًا للحديث يرده بحجج أَوْهَى من بيت العنكبوت، وبتمويهات يخدع بها العامة. نسأل الله السلامة.
- قوله: «إن ابن خصيفة اضطرب في روايته العدد، فقوله في هذه الرواية «إحدى وعشرين» على خلاف الرواية السابقة «عشرين».
لا اضطراب في رواية ابن خصيفة؛ بل الاضطراب من قبل الألباني لجهله معنى الاضطراب عند أهل الحديث، وكان عليه أن يراجع معنى الاضطراب في كتب المصطلح ليعرف حظه من هذا العلم وبُعده عنه وجهله به.
ولا بأس بذكر بعض أقوال علماء المصطلح في بيان معنى الاضطراب ليكون القارئ على بينة من أمره.
قال الحافظ السخاوي في «فتح المغيث»([221]) ممزوجًا بمتن الحافظ زين الدين العراقي: «(مضطرب الحديث ما قد وردا) حال كونه (مختلفًا من) راو (واحد) بأن رواه مرة على وجه وأخرى على ءاخر مخالف له (فأزيدا) بأن يضطرب فيه كذلك راويان فأكثر (في) لفظ (متن أو في) صورة (سند) رواته ثقات، إمّا باختلاف في وصل وإرسال أو في إثبات راو وحذفه أو غير ذلك، وربما يكون في السند والمتن معًا، هذا كله (إن اتضح فيه تساوي الخلف)، أي: الاختلاف في الجهتين أو الجهات، بحيث لم يترجح منه شيء ولم يمكن الجمع». إلى أن قال: «وكذا لا اضطراب إن أمكن الجمع بحيث يمكن أن يكون المتكلم معبرًا باللفظين فأكثر عن معنى واحد ولو لم يترجح شيء».اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة «فتح الباري»([222]): «فالتعليل بجميع ذلك من أجل مجرد الاختلاف غير قادح، إذ لا يلزم من مجرد الاختلاف اضطراب يوجب الضعف».اهـ. وقال فيه أيضًا([223]): «إن الاختلاف على الحفاظ في الحديث لا يوجب أن يكون مضطربًا إلا بشرطين: أحدهما: استواء وجوه الاختلاف، فمتى رُجّحَ أحد الأقوال قُدّم، ولا يُعَلُّ الصحيح بالمرجوح، ثانيهما: مع الاستواء أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين، ويغلب على الظن أن ذلك الحافظ لم يضبط ذلك الحديث بعينه، فحينئذٍ يحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب».اهـ.
وقال الحافظ ابن دقيق العيد في «الاقتراح»([224]): «الثامن عشر: المضطرب وهو ما روي من وجوه مختلفة… فإن أمكن الجمع بين تلك الوجوه بحيث يمكن أن يكون المتكلم معبّرًا باللفظين الواردين عن معنى واحد فلا إشكال».اهـ.
هذا الذي يعرفه علماء مصطلح الحديث، ودعوى الاضطراب في رواية يزيد بن خصيفة بورودها تارة بلفظ: «إحدى وعشرين» وتارة بلفظ: «عشرين» لا يقبلها طلاب العلم فضلًا عن علمائهم، وهي دعوى باطلة مردودة ما دام الجمع ممكنًا بما بيّنه الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»([225]) بقوله: «والاختلاف فيما زاد عن العشرين راجع إلى الاختلاف في الوتر».اهـ.
ومن تناقضات الألباني أنه ذكر قبل ذلك في كتابه «صلاة التراويح»([226]) الاختلاف على محمد بن يوسف في العدد الوارد في قيام رمضان في عهد عمر وهي رواية «الموطأ»، فذكر أن جماعة رووا عن محمد بن يوسف «إحدى عشرة ركعة» إلا راويًا منهم تفرد برواية «ثلاث عشرة ركعة».
وعند عبد الرزاق «إحدى وعشرين» كما مرّ، ومع ذلك لم يحكم الألباني باضطراب لفظ «إحدى عشرة ركعة» كما يقتضي مذهبه، في حين ضعَّف رواية ابن خصيفة، ففي روايتي ابن خصيفة وابن يوسف الاختلاف في العدد، فلماذا قَبِل الثانية وتأولها على حمل الركعتين الزائدتين على أنهما ركعتا الفجر، وَرَدّ الأولى من غير تأويل؟ أليس هذا تحكُّمًا واتباعًا للهوى! فتبيَّنَ أن مجرد الاختلاف في العدد يوجب الاضطراب والضعف عند الألباني، هذا ما توصل إليه بعد أن مضى عليه عشرات السنين في تحقيق الأحاديث على زعمه، بينما المبتدئ في دراسة علم الحديث دراسة معتبرة يعرف معنى الاضطراب، وأن مثل هذا الاختلاف لا يجعل الحديث ضعيفًا.
ويقال إن يزيد بن خصيفة وصفه ابن معين بأنه ثقة حجة، فإذا روى روايتين مع اختلاف بينهما في ذكر العدد، فإن مجرد ذلك لا يعتبر ذلك تضعيفًا ولا اضطرابًا عند أهل الحديث؛ بل طريقتهم هي الجمع بين الروايات مهما أمكن، ولا يخفى ذلك على طلاب العلم، وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا في كتب السُّنَّة التي زعم المردود عليه أنه من روّادها والمنفردين بجمع الطرق وتحقيقها علميًّا!
ويقال أيضًا: إن رواية عبد الرزاق السابقة في مصنّفه تدحض زعم الألباني، وتكشف قصور باعه وتهوّره ومجانبته للصواب في كثير من مباحثه التي لا تقوم على الأسس العلمية التي وضعها العلماء من أصول الفقه وضوابطه وعلم الحديث وقواعده وعلم العقيدة وغيرها. ولا بأس بذكرها ثانية فقد قال عبد الرزاق: «عن داود بن قيس وغيره عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر جمع الناس في رمضان على أُبيّ بن كعب، وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة»، وهذا إسناد صحيح ظاهر ظهور الشمس في رابعة النهار، فالراوي محمد بن يوسف الثقة الثبت وافقت روايته الإحدى والعشرين ركعة راية الثقة الحجة يزيد بن خصيفة، فهل هذا يكون اضطرابًا!
ويقال له ولأتباعه أيضًا إن رواية إسماعيل بن أمية عن محمد بن يوسف التي صحح سندها الألباني حجة عليه، لأن فيها إثبات إحدى وعشرين ركعة، أي: الزيادة على إحدى عشرة ركعة، والألباني إنما زعم أن الاضطراب حصل بين العدد عشرين والعدد إحدى وعشرين، والرواة جازمون بالعشرين، لكن حصل الشك إن سلّمْنا به بين العدديين المذكورين، فما دَنْدَنَ حوله هذا المخالف للسُّنَّة من الانتصار لقوله بتحريم الزيادة على إحدى عشرة ركعة، ومناقشة أدلة أهل السُّنَّة ورده عليها كمثل التي نقضت غزلها من بعد إبرامه!
- قوله: «وقوله في هذه «حسبت»، أي: ظننت، دليل على اضطراب ابن خصيفة، في رواية هذا العدد، وأنه كان يرويه على الظن لا على القطع، لأنه لم يكن قد حفظه جيدًا، فهذا وحده كافٍ لإسقاط الاحتجاج بهذا العدد». انتهى كلام الألباني.
الرَّدُّ:
يكفي في الرد عليه من كلامه، ففي بعض مؤلفاته([227]) عند كلامه على رواية محمد بن كعب قال: «أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرًا وقد رحلت راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل فقلت: سُنَّة، قال: سُنَّة ثم ركب»، وفي رواية: «فلا أحسبه إلا قال: نعم». قال الألباني: «هذا الذي لم يجزم لم ينف بل إنه أثبت ولكن بدون جزم، فهذه الرواية – يقصد الرواية الثانية – في الحقيقة مؤيدة لرواية الإثبات – يقصد الرواية الأولى – ومقوية لها، فكيف يصح أن تجعل معلة لها؟».اهـ. لقد أسفر الصبح لذي عينين، فرواية إحدى وعشرين لا تنفي رواية عشرين؛ بل تؤيدها، والركعة الزائدة هي ركعة الوتر.
ثالثًا: قال الألباني لرد رواية عشرين ركعة ما نصه([228]): «محمد بن يوسف هو ابن أخت السائب بن يزيد، فهو لقرابته أعرف بروايته من غيره وأحفظ، فما رواه من العدد أولى مما رواه مخالفة ابن خصيفة».اهـ.
الرَّدُّ:
إن يزيد بن خصيفة كذلك من قرابة السائب بن يزيد ففي «تهذيب الكمال»([229]) للمزّي في ترجمة السائب عند ذكر الرواة عنه ما نصّه: «وروى عنه ابن أخته يزيد بن عبد الله بن خصيفة».اهـ. وقال([230]) في ترجمة يزيد بن عبد الله بن خصيفة: «وقد ينسب إلى جده، ومنهم من يقول: ابن خصيفة بن يزيد، ويقول: إن خصيفة بن يزيد والسائب بن يزيد أخوان».اهـ. فكيف خفي ذلك على المحدث الكبير والحافظ الجهبذ بزعم أتباع الألباني، في حين أن الرجل العامي يستطيع أن يعرف ذلك من خلال قراءة ترجمتهما! وقال الذهبي في كتابه «سير أعلام النبلاء»([231]): «يزيد بن عبد الله بن خصيفة وخصيفة هو أخو السائب ابني يزيد بن سعيد».اهـ.
ثم مجرد القرابة لا تكفي لتعليل وَرَدّ رواية ابن خصيفة، فقد يكون غير القريب أحفظ وأتقن، نعم قد يؤخذ ذلك بعين الاعتبار إذا ما روى شيئًا مما يختص به كصلاته وتهجده بالليل ونحو ذلك مما لا يطلع عليه غير ذوي القربى أو من يلازمه بحسب العادة، وأمّا الرواية هذه فليست من هذا القبيل، فابن خصيفة يروي ما سمعه من الصحابي السائب بن يزيد وهي رواية صحيحة كما بيّنّا، فتمسَّك بها ولا تغتر بتمويهات المشوشين.
رابعًا: بعد أن بيَّنّا بالأدلة الساطعة صحة رواية عشرين ركعة، ودحضنا شبهات المخالفين ذكر الألباني بأسلوبه المعروف والمعتاد التمويه على القارئ أن من العلماء من هو موافق له في دعواه، فنحن نذكرها مع بيان بطلانها باختصار.
- قال الألباني([232]): «تضعيف الإمام الشافعي والترمذي لعدد العشرين عن عمر، هذا وقد أشار الترمذي في سننه إلى عدم ثبوت عدد العشرين عن عمر وغيره من الصحابة فقال: «رُوي عن علي وعمر وغيرهما من أصحاب النبي »، وكذلك قال الشافعي في العشرين عن عمر، ما نقله صاحبه المزني من مختصره».اهـ.
الرَّدُّ:
- بَتَرَ الألباني كلام الحافظين الشافعي والترمذي وتعمّد عدم ذكر كلام الشافعي، وكذلك تعمّد أخذ قطعة من كلام الترمذي وحذف باقيه، لأنه حجة عليه ولا جواب عنده.
قال المزني في مختصره([233]): «قال – يقصد الشافعي -: فأما قيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحبّ إليّ منه، ورأيتهم بالمدينة يقومون بتسع وثلاثين وأحبّ إلي عشرون، لأنه روي عن عمر، وكذلك يقومون بمكة ويوترون بثلاث».اهـ.
وأمّا عبارة الترمذي في سننه فهي([234]): «واختلف أهل العلم في قيام رمضان، فرأى بعضهم أن يصلي إحدى وأربعين ركعة مع الوتر، وهو قول أهل المدينة والعمل على هذا عندهم بالمدينة، وأكثر أهل العلم على ما روي عن عمر وعلي وغيرهما من أصحاب النبيّ عشرين ركعة، وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي، وقال الشافعي: وهكذا أدركت ببلدنا بمكة يصلون عشرين ركعة، وقال أحمد: روي في هذا ألوان ولم يُقض فيه بشيء، وقال إسحاق: بل نختار إحدى وأربعين ركعة على ما رُوي عن أُبيّ بن كعب». انتهى بحروفه.
انظروا وتأملوا أيها القرَّاءُ، هل كل هؤلاء الأئمة على الخطأ والضلال والإثم عند الألباني، لا يعرفون دينهم حتى طلع علينا من أحضان الفرقة الحرّانية المجسمة المبتدعة أتباع ابن تيمية منْ يريدون أن يعلّموا أهل السُّنَّة دينهم وأحكام شريعتهم؟! علماءُ مكة والمدينة وأهلهما منذ الصدر الأول من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى يومنا هذا يصلون أكثر من إحدى عشرة ركعة، ألا يكفي هذا حجة للمنصف ومن معه مُسْكة من العقل، بلى والله، إنها حجة وأيّ حجة، حذار حذار أيها المسلمون، انظروا عمن تأخذون دينكم، هل يُترك قول هؤلاء الجهابذة الحفاظ أئمة الحديث كالترمذي والشافعي وابن المبارك والثوري وإسحاق بن راهويه شيخ البخاري والإمام أحمد، ويؤخذ بقول الألباني النكرة في الحديث وعلومه والفقه وأصوله والعقيدة وحججها وغيرها من العلوم؟ ربنا احشرنا مع أئمتنا تحت لواء نبيك محمد عليه الصلاة والسلام، ولا تجعلنا من الضالين المضلّين الذين يتبعون أهواءهم، إنك على ما نسألك قدير.
- لو سلّمنا على سبيل الفَرْض أن الشافعي والترمذي يضعفان رواية العشرين عن عمر، لكنهما لا يقولان بشذوذها أيضًا، فالشافعي رضي الله عنه ثبت عنه كما تقدّم وكما ذكر الترمذي هنا أنه يقول بصلاة عشرين ركعة، وأما الترمذي فبعد أن حكى الاختلاف في عدد القيام لم يتعقبهم فهو موافق لهم في الجملة من حيث الزيادة على إحدى عشرة ركعة، ويؤيد ذلك الوجه التالي.
- إن الحديث الضعيف إذا تلقته الأمة بالقبول يرتفع إلى درجة الصحة كما في مصطلح الحديث، قال الحافظ السيوطي في «تدريب الراوي»([235]): «قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح». قال ابن عبد البر في «الاستذكار»([236]) لـمّا حكى عن الترمذي أن البخاري صحَّح حديث البحر «هو الطهورُ ماؤُه»: «وأهل الحديث لا يصححون مثل إسناده، لكن الحديث عندي [صحيح]، لأن العلماء تلقَّوه بالقبول»، وقال في «التمهيد»([237]): «روى جابر عن النبي : «الدينارُ أربعةٌ وعشرونَ قيراطًا»، قال: [وهذا الحديث وإن لم يصح إسناده] ([238]) ففي قول جماعة العلماء وإجماع الناس على معناه غنًى عن الإسناد فيه». انتهى كلام السيوطي.
وقال الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه «الفقيه والمتفقه»([239]) ما نصّه: «إن أهل العلم قد تقبّلوه([240]) واحتجوا به فوقفنا بذلك على صحته عندهم، كما وقفنا على صحة قول رسول الله : «لا وصيةَ لوارثٍ»([241])، وقوله([242]) في البحر: «هو الطهورُ ماؤُه الحِلُّ ميتتُه»، وقوله([243]): «إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعةُ قائمةٌ تحالفا وترادَّا البيعَ»، وقوله([244]): «الديةُ على العاقلةِ»؛ وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، لكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعًا غنوا عن طلب الإسناد له».اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح ما نصّه([245]): «من جملة صفات القبول التي لم يتعرض لها شيخنا – يقصد زين الدين العراقي – أن يتّفق العلماء على العمل بمدلول حديث، فإنه يقبل حتى يجب العمل ه، وقد صرَّح بذلك جماعة من أئمة الأصول، ومن أمثلته قول الشافعي رضي الله عنه: وما قلت من أنه إذا غيّر طعم الماء وريحه ولونه يروى عن النبيّ من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله، ولكنه قول العامة، لا أعلم بينهم فيه خلافًا، وقال([246]) في حديث: «لا وصيةَ لوارثٍ»: لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولكن العامة تلقته بالقبول وعملوا به حتى جعلوه ناسخًا لآية الوصية للوارث».اهـ.
ولا شك أن القيام في التراويح بعشرين ركعة متلقًّى بالقبول عند السلف والخلف، فلو لم يكن إلا هذا التلقي بالقبول لحديث يزيد بن خصيفة لكان كافيًا في تصحيحه، فكيف إذا اجتمع مع هذا التلقي صحة السند كما تقدّم.
- نسب الألباني إلى الشافعي والترمذي تضعيف حديث عمر لتعبيرهما بصيغة «روي»، وهي صيغة التضعيف، كما هو معروف عند أهل الحديث.
الرَّدُّ:
لم يرد الشافعي والترمذي بذلك تضعيف الحديث، لوجود قرينة تدل على ذلك، وهي قول الشافعي في عبارته: «وأحبّ إليّ عشرون لأنه روي عن عمر»، وفي عبارة الترمذي قوله: «وأكثر أهل العلم على ما رُوي عن عمر وعلي وغيرهما من أصحاب النبيّ عشرين ركعة، وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي»، فقولهما قاطع بعدم التضعيف، على أن الأئمة قد يستعملونها لغرض ءاخر غير التضعيف، قال الحافظ العراقي في نكته على ابن الصلاح ما نصه([247]): «والبخاري رحمه الله حيث علّق ما هو صحيح إنما يأتي به بصيغة الجزم، وقد يأتي به بغير صيغة الجزم لغرض ءاخر غير الضعف، وهو إذا اختصر الحديث وأتى به بالمعنى عبَّر بصيغة التمريض».اهـ. هذا وقد أشار ابن الصلاح في مقدمته([248]) هذه الصيغة تستعمل للصحيح والضعيف، وقد يستعملونها رَوْمًا للاختصار. فاندفع بذلك ما تمسك به الألباني، لا سيما وأنه لا يتم له مراده إلا إذا أثبت انهما أي الشافعي والترمذي قصدا التضعيف بقولهما «روي»، ودون ذلك خرط القتاد.
ومما يؤيد ما سبق وينسف قول هذا المدّعي الألباني أن الترمذي قال: «وقال أحمد: روي في هذا ألوان ولم يقض فيه بشيء».اهـ. وقد حذفه الألباني من كلام الترمذي كما تقدم بيانه لأنه حجة عليه، فالإمام أحمد قال: «روي»، وهذه من صيغ التضعيف، فهل يقول الألباني بأن أحمد بن حنبل ضعّف رواية إحدى عشرة ركعة؛ لأن كلامه شملها في معرض ذكر ما ورد في قيام رمضان أم ماذا يفعل؟!
وكذلك أخفى الألباني عن القراء ما قاله الإمام الشافعي بعد عدة أسطر مما أورده عنه المزني في مختصره([249]) حين سأل الشافعي عن الوتر فقال: «قلت للشافعي: أيجوز أن يوتر واحدة ليس قبلها شيء؟ قال: نعم، والذي أختار ما فعل رسول الله كان يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، والحجة في الوتر بواحدة السُّنَّة والآثار، روى عن رسول الله أنه قال: «صلاةُ الليلِ مثنى مثنى، فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلى ركعةً توترُ له ما قد صلى».اهـ. وهذا اللفظ بعينه في الصحيحين([250]) إلا أن عندهما «صلى ركعةً واحدةً توترُ» بزيادة «واحدةً»، وكذلك قال الشافعي قبل عدة أسطر ما نصه([251]): «وروي عن ابن عمر أن رسول الله قال: «صلاةُ الليلِ مثنى مثنى».اهـ. فانكشف تلبيس الألباني وتدليسه.
خامسًا: افتراء الألباني على العلماء واحتجاجه بالضعيف زاعمًا أنهم موافقون له فقال([252]): «ذكر من أنكر الزيادة من العلماء» ثم قال([253]): «لم نستجز القول بالزيادة، وسلفنا في ذلك أئمة فحول، في مقدمتهم الإمام مالك في أحد القولين عنه، فقال السيوطي في «المصابيح في صلاة التراويح»: «وقال الجوري([254]): من أصحابنا عن مالك أنه قال: الذي جمع عليه الناس عمر بن الخطاب أحب إليّ وهو إحدى عشرة ركعة» ثم قال: «ولا أدري من أين أحدث هذا الركوع الكثير؟!»، وقال الإمام ابن العربي في «شرح الترمذي»([255]): والصحيح أن يصلي إحدى عشرة ركعة صلاة النبي وقيامه، فأما غير ذلك من الأعداد فلا اصل له ولا حد فيه، فإذا لم يكن بد من الحد فما كان النبي يصلي، ما زاد النبي في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، وهذه الصلاة هي قيام الليل، فوجب أن يقتدى فيها بالنبي ».اهـ.
الرَّدُّ:
- إن هذا النقل في غاية الانقطاع، فإنَّ مالكًا توفي سنة تسع وسبعين ومائة من الهجرة، واقرب الثلاثة الذين ذكرهم الألباني توفي في القرن الرابع للهجرة أي بعد الثلاثمائة من الهجرة فعجبًا للألباني كيف ينتقد على غيره الاحتجاج بالضعيف ثم يخالف ذلك فيحتج بالضعيف!
- إن الذي ثبت عن مالك في قيام رمضان قوله: «تسع وثلاثون ركعة بالوتر».اهـ. كما تقدّم، فلماذا يتمسك الألباني بالضعيف ويترك الثابت، لا سيما وأن مذهب المالكية مذهب إمامهم، ومن شاء فليطالع كتبهم فإن فيها ما ذكرنا.
- وأما قول ابن العربي المالكي فليس نصًّا صريحًا في تحريم الزيادة على إحدى عشرة ركعة، وهذا الذي يُظنُّ به، لا سيما وأن مذهب إمامه وهو الإمام مالك وسائر المالكية على الجواز، ويحمل قوله: «فلا أصل له ولا حدّ فيه»، أي: عن النبيّ أي لم يقل النبي لأمّته صلوا كذا وكذا من العدد في قيام رمضان لا إحدى عشرة ركعة ولا أكثر من ذلك ولا اقل، لم يحدد لهم بقول منه، ويؤيد ذلك قوله: «فإن لم يكن بد من الحد فما كان النبي يصلي»، فلو كان عنده أي ابن العربي نص من قول النبي لَـمَا قال: «فإذا لم يكن بد من الحد» ولا قال في أول كلامه: «وليس في قدر ركعتها حد محدود، أما صلاة النبيّ فلم يكن لها حدّ» على أن عبارته الأخيرة هذه تعارض قوله: «والصحيح أن يصلي إحدى عشرة ركعة صلاة النبي وقيامه فأما غير ذلك من الأعداد فلا أصل له ولا حد، فإذا لم يكن بد من الحد فما كان النبي يصلي ما زاد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة»، فكيف يقول صلاة النبيّ لم يكن فيها حد ثم يقول حدّها إحدى عشرة ركعة؟ ويعارض قوله أيضًا في كتابه «القبس في شرح موطأ الإمام مالك بن أنس» ونصه([256]): «فغاية الفرائض سبع عشرة ركعة وإلى هذا العدد انتهى النبي بالنوافل في صلاة الليل مثنى مثنى».اهـ. وهذا بيت القصيد فجوَّز هنا صلاة سبع عشرة ركعة فبطل ادعاء الألباني!
وأخيرًا أنقل كلام ابن تيمية المجسم، وهو عمدة الألباني والوهابية وإليه مرجعهم وعليه يعوّلون في أمور دينهم، فقد قال في كتابه «مجموع الفتاوى»([257]) كلامًا متناقضًا مع كلام الألباني، ما نصّه: «إن نفس قيام رمضان لم يوقّت النبيّ فيه عددًا معينًا؛ بل كان هو لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة لكن كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر على أُبيّ بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من الركعات، لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث، وءاخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث، هذا كله سائغ، فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن. والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبيّ يصلي لنفسه في رمضان غيره هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل، هو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين، وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك، وقد نصّ على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره. ومن ظنّ أنّ قيام رمضان فيه عدد موقّت عن النبي لا يزاد فيه ولا ينقص فقد أخطأ».اهـ.
وقال ابن تيمية في موضع ءاخر ما نصّه([258]): «والصواب أن ذلك جميعه حسن كما قد نصّ على ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه، وأنه لا يتوقت في قيام رمضان عدد، فإن النبيّ لم يوقّت فيها عددًا».اهـ.
فانظر أخي المنصف كيف خالف الألباني بهذا ابن تيمية والذي يسميه شيخ الإسلام! وقد ظهر بما نقلته عن العلماء جواز قيام رمضان بأكثر من إحدى عشرة ركعة، وأن الألباني شذ عن السلف والخلف، فتمسك أيها المسلم بما عليه الجماعة تكن من الفائزين بإذن الله ربّ العالمين.
- الألباني يحرّم قراءة القرءان على أموات المسلمين:
قال الألباني في كتابه «أحكام الجنائز» ما نصّه([259]): «قول الناس اليوم في بعض البلاد: «الفاتحة على روح فلان» مخالف للسُّنَّة المذكورة، فهو بدعة بلا شك، لا سيما والقراءة لا تصل إلى الموتى على القول الصحيح».اهـ. وقال أيضًا([260]): «قال ابن تيمية في «الاختيارات العلمية»([261]): والقراءة على الميت بعد موته بدعة».اهـ. وقال أيضًا([262]) تحت عنوان «بدع الجنائز»: «حمل المصحف إلى المقبرة والقراءة منه على الميت».اهـ.
الرَّدُّ:
استدل العلماء على جواز قراءة القرءان للميت المسلم بحديث الطبراني في معجمه الكبير([263]) من طريق مبشر بن إسماعيل حدَّثني عبد الرحمـٰن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه قال: «قال لي أبي: يا بُنيَّ إذا أنا متّ فألحدني، فإذا وضعتني في لحدي فقل: بسم الله وعلى مِلَّة رسول الله، ثم سنَّ عليّ الثرى سنًّا، ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها، فإني سمعتُ رسولَ الله يقول ذلك».اهـ.
وقال البيهقي في سننه([264]): «أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد قال: سألت يحيـى بن معين عن القراءة عند القبر؟ فقال: حدَّثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي عن عبد الرحمـٰن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه قال لبنيه: «إذا أدخلتموني في قبري فضعوني في اللحد وقولوا: بسم الله وعلى سُنَّة رسول الله ، وسُنُّوا علي التراب سَنًّا واقرؤوا عند رأسي أول البقرة وخاتمتها، فإني رأيت ابن عمر يستحب ذلك».اهـ. حسَّنه النووي في كتابه «الأذكار» فقال([265]): «وروينا في سنن البيهقي بإسناد حسن أنّ ابن عمر استحب أن يقرأ على القبر بعد الدفن أول سورة البقرة وخاتمتها».اهـ. وكذلك حسَّنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في «تخريج الأذكار» فقال: «هذا موقوف حسن أخرجه أبو بكر الخلال»، ذكره المحدّث ابن علّان الصديقي في «شرح الأذكار»([266]).
وقال المحدّث عبد الله الغماري في كتابه «الرد المحكم المتين»([267]): «العلاء بن اللجلاج تابعي وأبوه اللجلاج صحابي وليس بين هذه الرواية – يقصد رواية البيهقي – ورواية اللجلاج – يقصد رواية الطبراني – تناقض كما قد يُتوهم، لأن اللجلاج روى ما سمعه من النبيّ كما رواه ابن عمر، والعلاء روى ما سمع ابن عمر يوصي به، وإنّما نبّهت على هذا مع وضوحه لئلا يدّعي جاهل متناطع ضعف الحديث واضطرابه».اهـ.
هذا وقد عقد أبو بكر الخلال في كتابه «الأمر بالمعروف»([268]) بابًا خاصًّا في جواز قراءة القرءان على قبور المسلمين كما هو مذهب الإمام أحمد، وهو حجة على الوهابية الذين يحرّمون ذلك، وهم يزعمون أنهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وأحمد منهم بريء، قال أبو بكر أحمد بن محمد الخلال ما نصّه: «باب القراءة عند القبور:… أنا العباس بن محمد الدُّوري قال: حدَّثنا يحيى بن مغيرة قال: حدثنا مبَشِّر الحلبي قال: حدَّثني عبد الرحمـٰن بن العلاء بن اللَّجْلاج عن أبيه قال: قال أبي: إذا أنا متّ فضعني في اللحد وقل: بسم الله وعلى سُنَّة رسول الله ، وسنَّ عليَّ الترابَ سَنًّا، واقرأ عند رأسي بفاتحة الكتاب وأول البقرة وخاتمتها، فإني سمعت عبد الله بن عمر يقول هذا…
وأخبرني العباس بن محمد بن أحمد بن عبد الكريم قال: حدَّثني أبو شعيب عبد الله بن الحسين بن أحمد بن شعيب الحراني من كتابه قال: حدَّثني يحيى بن عبد الله الضحاك البابلتي، حدَّثنا أبو أيوب بن نُهيْك الحلبي الزهري، مولى ءال سعيد بن أبي وقاص قال: سمعت عطاء بن أبي رباح المكي قال: سمعت ابن عمر قال: سمعت النبيّ يقول: «إذا مات أحدُكم فلا تجلسوا واسرعوا به إلى قبرِه، وليقرأْ عند رأسِه بفاتحةِ البقرةِ وعند رجليهِ بخاتمتِها في قبرِه»([269]).
وأخبرني الحسن بن أحمد الوراق قال: حدَّثني علي بن موسى الحداد، وكان صدوقًا، وكان ابن حماد المقرئ يرشد إليه، فأخبرني قال: كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة، فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر، فقال له أحمد: يا هذا، إنّ القراءة عند القبر بدعة، فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله ما تقول في مبشِّر الحلبي؟ قال: ثقة، قال: كتبت عنه شيئًا؟ قلت: نعم، قال: فأخبرني مبشر عن عبد الرحمـٰن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك، فقال أحمد: ارجع فقل للرجل يقرأ.
وأخبرنا أبو بكر بن صدقة قال: سمعت عثمان بن أحمد بن إبراهيم الموصلي قال: كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل في جنازة ومعه محمد بن قدامة الجوهري، قال: فلما قبِر الميت جعل إنسان يقرأُ عنده، فقال أبو عبد الله لرجل: تمرّ إلى ذلك الرجل الذي يقرأُ فقل له: لا تفعل، فلما مضى قال له محمد بن قدامة: مبشر الحلبي كيف هو؟ فذكر القصة بعينها.
أخبرني العباس بن محمد بن أحمد بن عبد العزيز قال: حدَّثنا جعفر بن محمد بن الحسن النيسابوري عن سلمة بن شبيب قال: أتيت أحمد بن حنبل يصلي خلف ضرير يقرأ على القبور.
أخبرني روح بن الفرج قال: سمعت الحسن بن الصبَّاح الزعفراني يقول: سألت الشافعي عن القراءة عند القبور فقال: لا بأس به.
أخبرني أبو يحيى الناقد قال: حدثنا سفيان بن وكيع([270]) قال: حدَّثنا حفص عن مجالد عن الشعبي قال: كانت الأنصار إذا مات لهم ميت اختلفوا إلى قبره يقرؤون عنده القرءان. أخبرني إبراهيم بن هاشم البغوي قال: حدَّثنا عبد الله بن سنان المروزي أبو محمد قال: حدَّثنا الفضل بن موسى الشيباني عن شريك عن منصور، عن المرِّي، أن إبراهيم قال: لا بأس بقراءة القرءان في المقابر.
أخبرني أبو يحيى الناقد قال: سمعت الحسن الجروي يقول: مررت على قبر أخت لي فقرأت عندها «تبارك»، لما يذكر فيها، فجاءني رجل فقال: إني رأيت أختك في المنام تقول: جزى الله أخي عني خيرًا فقد انتفعتُ بما قرأ.
أخبرني الحسن بن الهيثم قال: كان خطَّاب يجيئني ويده معقودة ويقول: إذا وردت المقابر فاقرأ «قل هو الله أحد»، واجعل ثوابها لأهل المقابر.
أخبرني الحسن بن الهيثم قال: سمعت أبا بكر الأطروشي ابن بنت أبي نصر التمار يقول: كان رجل صالح يجيء إلى قبر أمه يوم الجمعة فيقرأ سورة «يـٰس»، فجاء في بعض أيامه فقرأ سورة «يـٰس» ثم قال: اللَّهُمَّ إن كنتَ قسمت لهذه السورة ثوابًا فاجعله في أهل هذه المقابر، فلما كان يوم الجمعة التي تليها جاءت امرأة فقالت: إن ابنة لي ماتت فرأيتها في النوم جالسة على شفير قبرها، فقلت لها: ما أَجلسك ههنا؟ قالت: إن فلانًا ابن فلان جاء إلى قبر أمه فقرأ سورة «يـٰس» وجعل ثوابها لأهل المقابر، فأصابنا من رَوْح [رحمة] ذلك أو غفر لنا أو نحو ذلك».اهـ. كلام أبي بكر الخلال.
وفي كتاب «المقصد الأرشد» ما نصّه([271]): «قال محمد بن أحمد الـمَرْوَرُّذِي: «سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: إذا دخلتم المقابر فاقرأوا ءاية الكرسي و{قُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ} ثلاث مرات، ثم قولوا: اللَّهُمَّ اجعل فضله لأهل المقابر». روى أبو بكر في الشافي قال محمد بن أحمد الـمَرْوَرُّذِي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا دخلتم المقابر فاقرأوا فاتحة الكتاب والمعوذتين و{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر، فإنه يصل إليهم».اهـ.
وقال ابن قدامة الحنبلي في كتابه «المغني»([272]): «قال الخلال: حدَّثني أبو علي الحسن بن الهيثم البزار شيخنا الثقة المأمون قال: رأيتُ أحمد بن حنبل يصلي خلف ضرير يقرأ على القبور».اهـ.
واستُدل أيضًا على جواز قراءة القرءان على الميت المسلم بحديث معقل بن يسار أن رسول الله قال: «اقرؤوا يـٰس على موتاكم» رواه الحاكم([273])، وأبو داود([274])، والنسائي([275])، وابن ماجه([276])، وأحمد([277]) وابن حبان([278]). وهذا الحديث مع كونه مختلفًا في صحته لا يمنع من العمل به، لا سيما وأن الآثار عن الصحابة والتابعين تعضده، وعلى هذا المذاهب الأربعة.
واستدل العلماء أيضًا بحديث البخاري([279]) [واللفظ له] ومسلم([280]) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرّ النبيُّ بحائط([281]) من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يُعذبان في قبورهما، فقال النبيّ : «يُعذَّبانِ، وما يُعذَّبانِ في كبيرٍ» ثم قال: «بلى كان أحدُهما لا يستترُ من بولِه، وكان الآخرُ يمشي بالنميمةِ»، ثم دعا بجريدة فكسرها كِسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له: يا رسول الله، لِـمَ فعلتَ هذا؟ قال: «لعلَّه أن يُخفَّفَ عنهما ما لم يَيْبَسا» أو: «على أن يَيْبسا».
قال النووي في «شرح صحيح مسلم»([282]): «استحب العلماء قراءة القرءان عند القبر لهذا الحديث، لأنه إذا كان يُرجى التخفيف بتسبيح الجريد فتلاوة القرءان أولى».اهـ.
ونص علماء المذاهب الأربعة على جواز القراءة على القبر، قال النووي الشافعي في «المجموع»([283]): «ويستحب أن يقرأ من القرءان ما تيسر ويدعو لهم عقبها، نصَّ عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب».اهـ. وذكر الشيخ زكريا الأنصاري الشافعي في «شرح روض الطالب»([284]) أن الميت ينتفع بقراءة القرءان على القبر ثم قال: «سواء أعقب القراءة بالدعاء أو جعل أجر قراءته له أم لان فتعود منفعة القراءة إلى الميت في ذلك، ولأن الدعاء يلحقه وهو بعدها أقرب إجابة وأكثر بركة، ولأنه إذا جعل أجره الحاصل بقراءته للميت فهو دعاء بحصول الأجر له فينتفع به، فقول الشافعي إن القراءة لا تصل إليه محمول على غير ذلك».اهـ.
وقال الـمَـــرْغِيْنَاني الحنفي في كتابه «الهداية»([285]): «باب الحج عن الغير: الأصل في هذا الباب أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صومًا أو صدقة أو غيرها عند أهل السُّنَّة والجماعة».اهـ. ونقله ابن عابدين([286]) ثم قال: «قال الشارح: كتلاوة القرءان والأذكار، عند أهل السُّنَّة والجماعة يعني به أصحابنا على الإطلاق».اهـ.
وأما الحنابلة فممن صرح به البُهُوتي في كتابه «شرح منتهى الإرادات»([287]) حيث قال ممزوجًا بالمتن: «(وسُنَّ) لزائر ميت فعل (ما يخفف عنه ولو بجعل جريدة رطبة في القبر… (و) لو (بذكرٍ وقراءة عنده)، أي: القبر لخبر الجريدة لأنه إذا رُجِي التخفيف بتسبيحها فالقراءة أولى… ويؤيده عموم «اقرؤوا يـٰس على موتاكم» (وكل قربة فعلها مسلم وجعل) المسلم (ثوابها لمسلم حي أو ميت حصل) ثوابها (له)».اهـ. وقال ابن قدامة الحنبلي في «المغني»([288]): «فصل، ولا بأس بالقراءة عند القبر».اهـ. وقال أيضًا: «فصل: وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك إن شاء الله، أمّا الدعاء والاستغفار والصدقة وأداء الواجبات فلا أعلم فيه خلافًا إذا كانت الواجبات مما يدخله النيابة».اهـ. ثم قال: «ولنا ما ذكرناه وأنه إجماع المسلمين فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون ويقرؤون القرءان ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير».اهـ.
ومن المالكية قول الشيخ الدُّسوقي في «حاشيته على الشرح الكبير»([289]): «قال ابن هلال في «نوازله»: الذي أفتى به ابن رشد وذهب إليه غير واحد من أئمتنا الأندلسيين أن الميت ينتفع بقراءة القرءان الكريم، ويصل إليه نفعه، ويحصل له أجره إذا وهب القارئ ثوابه له، وبه جرى عمل المسلمين شرقًا وغربًا ووقفوا على ذلك أوقافًا واستمر عليه الأمر منذ أزمنة سالفة».اهـ.
فالحاصل: أنه لا مانع شرعًا من قراءة القرءان على الميت المسلم كما نص على ذلك العلماء، وأن الميت يصله ثواب ذلك إن شاء الله تعالى.
- الألباني يمنع سُنَّة الجمعة القبلية قبل الجمعة وبعد الأذان بحجة أنها بدعة:
خالف الألباني الأحاديثَ الصحيحة فمنع الصلاة قبل الجمعة، بحجة أنها بدعة وأنها خلاف السُّنَّة حيث قال([290]): «وإن قصد الصلاة بين الأذان المشروع والأذان المحدث تلك التي يسمونها سُنَّة الجمعة القبلية لا أصل لها في السُّنَّة، ولم يقل بها أحد من الصحابة والأئمة».اهـ.
الرَّدُّ:
ذكر الحافظ زين الدين العراقي في «شرح الترمذي»([291]) أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يُصلّي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا. قال الحافظ ابن حجر في «التلخيص الحبير»([292]): «فائدة: لم يذكر الرافعي في سُنّة الجمعة التي قبلها حديثًا، وأصح ما فيه ما رواه ابن ماجه عن داود بن رشيد، عن حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وعن أبي سفيان عن جابر قال: جاء سُلَيْك الغَطَفاني ورسول الله يخطب فقال له: «أصليتَ ركعتينِ قبل أن تجيءَ؟» قال: لا، قال: «فصلِّ ركعتينِ وتجَوَّز فيهما». قال المجد ابن تيمية([293]) في «المنتقى»: قوله: «قبل أن تجيء» دليل على أنهما سُنَّة الجمعة التي قبلها لا تحية المسجد، وتعقَّبه الـمِزي بأن الصواب: أصليت ركعتين قبل أن تجلس؟ فَصحَّفه بعض الرواة، وفي ابن ماجه عن ابن عباس: «كان النبي يركع قبل الجمعة أربع ركعات لا يفصل بينهن بشيء»، وإسناده ضعيف جدًّا، وفي الباب عن ابن مسعود وعلي في الطبراني الأوسط».اهـ.
قال الحافظ ولي الدين العراقي عن الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه([294]): «رواه ابن ماجه في سننه بإسناد صحيح».اهـ. وقال عن حديث جابر الذي رواه ابن ماجه أيضًا([295]): «قال والدي – يعني: الحافظ عبد الرحيم العراقي – رحمه الله في شرح الترمذي: وإسناده صحيح».اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر([296]): «وورد في سُنَّة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة منها عن أبي هريرة رواه البزار بلفظ: «كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا»، وفي إسناده ضعيف».اهـ. ثم قال([297]): «وعن ابن مسعود عند الطبراني أيضًا مثله، وفي إسناده ضعف وانقطاع، ورواه عبد الرزاق عن ابن مسعود موقوفًا وهو الصواب، وروى ابن سعد عن صفية زوج النبي موقوفًا نحو حديث أبي هريرة».اهـ.
أما حديث ابن مسعود الموقوف فقد رواه عبد الرزاق([298]) في مصنفه عن معمر، عن قتادة: «أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يصلي قبل الجمعة أربع ركعات وبعدها اربع ركعات».اهـ. صححه الحافظ ابن حجر([299])، وروى ابن أبي شيبة([300]) أن ابن مسعود كان يصلي قبل الجمعة أربعًا، وأخرج عبد الرزاق([301]) أيضًا أن ابن مسعود كان يأمر بأن يُصلى قبل الجمعة أربعًا، قال الحافظ ابن حجر([302]): «ورواته ثقات».اهـ.
وروى أبو داود وابن حبان وغيرهما([303]) عن نافع قال: «كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويُحدِّث أن رسول الله كان يفعل ذلك».اهـ. وروى ابن سعد في «الطبقات»([304]) عن يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن صافية سمعها وهي تقول: «رأيت صفية بنت حيي صلت أربعًا قبل خروج الإمام وصلت الجمعة مع الإمام ركعتين».اهـ.
وروى ابن أبي شيبة([305]) عن أبي مجلز أنه كان يصلي في بيته ركعتين يوم الجمعة، وعن عبد الله بن طاوس عن أبيه أنه كان لا يأتي المسجد يوم الجمعة حتى يصلي في بيته ركعتين، وعن الأعمش عن إبراهيم قال: كانوا يصلون قبلها – أي: الجمعة – أربعًا.
وقد ورد عن ابن عمر «أن رسول الله كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين في بيته وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين» الحديث، رواه البخاري في صحيحه([306]) تحت باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها، قال الحافظ ابن حجر([307]): «ولم يذكر شيئًا في الصلاة قبلها، يعني: الجمعة، قال ابن المنيّر في «الحاشية»: كأنه يقول الأصل استواء الظهر والجمعة حتى يدل دليل على خلافه، لأن الجمعة بدل الظهر، قال: وكانت عنايته بحكم الصلاة بعدها أكثر، ولذلك قدمه في الترجمة على خلاف العادة في تقديم القبل على البعد».اهـ. ثم قال: «وقال ابن التين: لم يقع ذكر الصلاة قبل الجمعة في هذا الحديث، فلعل البخاري أراد إثباتها قياسًا على الظهر.اهـ. وقوَّاه الزين بن المنيَر بأنه قصد التسوية بين الجمعة والظهر في حكم التنفل كما قصد التسوية بين الإمام والمأموم في الحكم، وذلك يقتضي أن النافلة لهما سواء.اهـ. والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما وقع في بعض طرق حديث الباب، وهو ما رواه أبو داود وابن حبان من طريق أيوب، عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدّث أن رسول الله كان يفعل ذلك، احتج به النووي في «الخلاصة» على إثبات سُنَّة الجمعة التي قبلها».اهـ.
قال الزيلعي([308]): «ولم يذكر الشيخ محيي الدين النووي في الباب غير حديث عبد الله بن مُغَفّل أن النبي قال: «بين كلِّ أذانينِ صلاةٌ»، أخرجه البخاري ومسلم([309])، ذكره في كتاب الصلاة، وذكر أيضًا حديث نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدث أن رسول الله كان يفعل ذلك.اهـ. قال: رواه أبو داود بسند على شرط البخاري.اهـ. وسُنَّة الجمعة ذكرها صاحب الكتاب – في الاعتكاف – فقال: السُّنَّة قبل الجمعة اربع وبعدها أربع، وأشار إليها في إدراك الفريضة فقال: ولو أقيمت وهو في الظهر أو الجمعة فإنه يقطع على رأس الركعتين، وقيل: يتمها».اهـ.
قال الحافظ ابن حجر([310]): «وأقوى ما يتمسك به في مشروعية ركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان([311]) من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعًا: «ما من صلاةٍ مفروضةٍ إلا وبين يديها ركعتانِ»؛ ومثله([312]) حديث عبد الله بن مُغَفّل الماضي في وقت المغرب: «بين كلِّ أذانينِ صلاةٌ».اهـ.
قال ابن العربي المالكي في «شرح الترمذي»([313]): «وأما الصلاة قبلها – يعني: الجمعة – فإنه جائز».اهـ.
ويكفي في مشروعية ركعتين قبل الجمعة فعل الصحابي الجليل ابن مسعود وابن عمر وأم المؤمنين صفية بنت حيي ، وفعل أبي مجلز وهو لاحق بن حميد تابعي جليل، وطاوس بن كيسان اليماني أحد أكابر تلاميذ ابن عباس ومن سادات التابعين وثقاتهم، وإبراهيم بن يزيد النخعي وهو تابعي ثقة ومفتي أهل الكوفة في زمانه وإقرار سفيان الثوري وابن المبارك اللذين هما من أكابر العلماء العاملين، ويكفي تصحيح الحافظ الثقة الثبت الزين العراقي شيخ الحافظ ابن حجر العسقلاني للحديث وغيره.
لقد خالف الألباني في هذا زعيمه الحراني ابن تيمية المجسم الذي يُسميه شيخ الإسلام، فقد أجاز ابن تيمية صلاة النافلة قبل الجمعة فقال: «فمن فعل لم يُنكر عليه»، كما نقل عنه صاحب الإنصاف الحنبلي([314])، وتبين بذلك التذبذب والاختلاف بين الألباني وزعيمه الحرَّاني ابن تيمية.
ولقد تبيّن من هذا الرد المختصر مشروعية صلاة النافلة قبل صلاة الجمعة من أقوال أهل العلم والمعرفة، وبهذا أكون قد فنّدت قول الألباني: «إن سُنَّة الجمعة القبلية لا أصل لها في السُّنَّة الصحيحة، وإنه لم يقل أحد من الأئمة بها؛ بل هو أمر محدَث».
- الألباني يحرّم إسبال اللحية فوق القبضة:
قال الألباني في فتاويه([315]): «يحرم إسبال اللحية فوق القبضة كما يحرم إحداث أي بدعة في الدين».اهـ.
الرَّدُّ:
هذه الفتوى شَذَّ بها عن علماء الإسلام، فإن علماء الإسلام على وجهين منهم([316]) من قال: اللحية تترك كما هي لا يؤخذ منها، ومنهم([317]) من قال: يؤخذ من طولها ومن عرضها، والقول الأول قاله النووي([318])، والثاني الإمام الحسن البصري رضي الله عنه. ومن أين للألباني أن يقول إن ما زاد على القبضة حرام، وليس له حجةٌ يحتج بها من حديث فيه أن الرسول قال ذلك أو أنه عليه الصلاة والسلام قبض على لحيته فقصَّ ما زاد على ذلك.
- الألباني يحرّم البيع بالتقسيط ويزعم أنه ربا:
قال الألباني تعليقًا على حديث([319]): «لا يحلُّ سلفٌ وبيعٌ، ولا شرطانِ في بيعٍ» ما نصّه([320]): «قال المناوي: كبعتك نقدًا بدينار ونسيئة بدينارين، قلت – أي: الألباني -: فهو بيع التقسيط المعروف اليوم، والنهي عنه ليس لجهالة الثمن كما يظن البعض وإنما العلة الربا».اهـ.
وقال أيضًا([321]): «فإنك قليلًا ما يتيسّر لك تاجر يبيعك الحاجة بثمن واحد نقدًا أو نسيئة؛ بل جمهورهم يطلبون منك زيادة في بيع النسيئة، وهو المعروف اليوم ببيع التقسيط مع كونها ربا في صريح قوله : «من باع بيعتينِ في بيعةٍ فله أوكَسُهما أو الربا»([322])، وقد فسّره جماعة من السلف بأن المراد به بيع النسيئة، ومنه بيع التقسيط».اهـ.
وقال الألباني([323]) في الموضع الذي أشار إليه: «ورواه البيهقي بلفظ «نهى عن بيعتين في بيعة» وقال البيهقي: قال عبد الوهاب [يعني: ابن عطاء]: «يعني يقول: هو لك بنقد بعشرة وبنسيئة بعشرين». وبهذا فسّره الإمام ابن قتيبة فقال في «غريب الحديث»([324]): «… ولعل في معنى الحديث قول ابن مسعود: «الصفقة في الصفقتين ربا»…»، وكذا رواه ابن نصر في «السُّنَّة»، وزاد في رواية: «أن يقول الرجل: إن كان بنقد فبكذا وكذا، وإن كان إلى أجل فبكذا وكذا»، وهو رواية لأحمد، وجعله من قول سماك الراوي عن عبد الرحمـٰن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، ووافقه على ذلك جمع من علماء السلف وفقهائهم:
ابن سيرين، روى أيوب عنه أنه كان يكره أن يقول: «أبيعك بعشرة دنانير نقدًا أو بخمسة عشر إلى أجل»، وما كره ذلك إلا لأنه نُهِيَ عنه.
طاوس، قال: إذا قال: «هو بكذا وكذا إلى كذا وكذا، وبكذا وكذا إلى كذاب وكذا، فوقع المبيع على هذا، فهو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين» أخرجه عبد الرزاق (14631) بسند صحيح، ورواه هو (14626) وابن أبي شيبة من طريق ليث عن طاوس به مختصرًا دون قوله: «فوقع المبيع» وزاد: «فباعه على أحدهما قبل أن يفارقه فلا بأس»، فهذا لا يصح عن طاوس، لأن ليثًا كان اختلط.
سفيان الثوري، قال: «إذا قلت أبيعك بالنقد إلى كذا، وبالنسيئة بكذا وكذا، فذهب به المشتري فهو بالخيار في البيعين ما لم يكن وقع بيع على أحدهما، فإن وقع البيع هكذا فهو مكروه، وهو بيعتان في بيعة، وهو مردود، وهو منهي عنه، فإن وجدت متاعك بعينه أخذته، وإن كان قد استهلك فلك أوكس الثمنين وابعد الأجلين» أخرجه عبد الرزاق (14632) عنه.
الأوزاعي نحوه مختصرًا وفيه: «فإذا ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين؟ فقال: هي بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين»، ذكره الخطابي في «معالم السنن»، ثم جرى على سنتهم أئمة الحديث واللغة؛ فمنهم:
الإمام النسائي قال تحت باب بيعتين في بيعة: «وهو أن يقول أبيعك هذه السلعة بمائة درهم نقدًا، وبمئتي درهم نسيئة».
ابن حبان، قال في صحيحه([325]): «ذكر الزجر عن بيع الشيء بمائة دينار نسيئة، وبتسعين دينارًا نقدًا».
ابن الأثير في «غريب الحديث» ذكر ذلك في شرح الحديثين المشار إليهما ءانفًا.
حكم بيع التقسيط: ما تقدم في تفسير البيعتين (الصحيح والمشهور… لقد اختلف العلماء في ذلك قديمًا وحديثًا… (فمن قائل: إنه لا يجوز إلا إذا تفرقا على أحدهما، ومثله إذا ذكر سعر التقسيط فقط، ومن قائل: إنه لا يجوز، ولكنه إذا وقع ودفع أقل السعرين جاز)… ذهب أصحاب القول الأول إلى أن النهي عن بيعتين في بيعة لجهالة الثمن، وهو تعليل مردود، لأنه مجرد رأي مقابل النص الصريح في حديث أبي هريرة وابن مسعود أنه الربا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن هذا التعليل مبني على القول بوجوب الإيجاب والقبول في البيوع، وهذا مما لا دليل عليه في كتاب الله وسُنَّة رسول الله ؛ بل يكفي في ذلك التراضي وطيب النفس. فالشاري حين ينصرف بما اشتراه، فإما أن ينقد الثمن، وإما أن يؤجل، فالبيع في الصورة الأولى صحيح، وفي الصورة الأخرى ينصرف، وعليه ثمن الأجل، وهو موضع الخلاف، فأين الجهالة المدعاة؟ وبخاصة إذا كان الدفع على أقساط، فالقسط الأول يدفع نقدًا، والباقي أقساط حسب الاتفاق، فبطلت علة الجهالة أثرًا ونظرًا. أما أصحاب القول الثاني فدليلهم حديث الترجمة وحديث ابن مسعود فإنهما متفقان على أن بيعتين في بيعة ربا، فإذًا العلة هي الربا، وحينئذٍ فالنهي يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، فإذا أخذ أعلى الثمنين فهو ربا، وإذا أخذ أقلهما فهو جائز، كما تقدم عن العلماء الذين نصوا أنه يجوز أن يأخذ بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين، فإنه بذلك لا يكون قد باع بيعتين في بيعة، ألا ترى أنه إذا باع السلعة بسعر يومه، وخيّر الشاري بين أن يدفع الثمن نقدًا أو نسيئة أنه لا يصدق عليه أنه باع بيعتين في بيعة كما هو الظاهر، وذلك ما نصّ عليه في قوله المتقدم «فله أوكسُهما أو الربا»، فصحح البيع لذهاب العلة وأبطل الزيادة لأنها ربا، وهو قول طاوس والثوري والأوزاعي رحمهم الله تعالى كما سبق، ومنه تعلم سقوط قول الخطابي في «معالم السنن»: «لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث وصحح البيع بأوكس الثمنين إلا شيء يحكى عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد، وذلك لما تتضمنه هذه العقدة من الضرر والجهل»، قلت – يعني: الألباني -: يعني الجهل بالثمن كما تقدم عنه وقد علمتَ مما سلف أن قوله هو الفاسد، لأنه أقامه على علّة لا أصل لها في الشرع، بينما قول الأوزاعي قائم على نص الشارع كما تقدم، والخطابي تجرّأ في الخروج عن هذا الحديث ومخالفته لمجرد علة الجهالة التي قالوها برأيهم خلافًا للحديث. وأفاد كلام الخطابي أن الأوزاعي تفرد بذلك، وقد روينا لك بالسند الصحيح سلفه في ذلك، وهو التابعي الجليل طاوس، وموافقة الإمام الثوري له، وتبعهم الحافظ ابن حبان فقال في صحيحه: «ذكر البيان بأن المشتري إذا اشترى بيعتين في بيعة على ما وصفنا، وأراد مجانبة الربا كان له أوكسهما» ثم ذكر حديث الترجمة، فليس الأوزاعي وحده الذي قال بهذا الحديث. والخلاصة أن القول الأول (يعني: من أجاز التقسيط) هو أضعف الأقوال، لأنه لا دليل عنده إلا الرأي مع مخالفته النص. وحديث الترجمة يصرّح بأن البيع صحيح إذا أخذ الأوكس».اهـ. كلام الألباني.
الرَّدُّ:
إن من البيوع التي تعامل بها الناس في الماضي والحاضر ما عرف ببيوع الآجال، أي: المؤجلة، وهو البيع الذي يكون فيه دفع الثمن مؤخَّرًا عن مجلس العقد، أي: في وقت لاحق يحدده المتعاقدان في العقد، سواء كان تسديد الثمن جملة واحدة أم على دفعات. ويقال له البيع بالنسيئة، وهو مجمع على جوازه لحديث البخاري([326]) عن عائشة رضي الله عنها: «أنَّ النبيّ اشترى طعامًا من يهودي إلى أجل، ورهنه درعًا من حديد»، قال الحافظ ابن حجر عند شرح هذا الحديث ما نصّه([327]): «قوله: (باب: شراء النبيّ بالنَّسيئة) بكسر المهملة والمد أي بالأجل، قال ابن بطال: الشراء بالنسيئة جائز بالإجماع».اهـ.
ومن هذه البيوع البيع بالتقسيط وهو لغةً: التفريق، قال ابن منظور في «لسان العرب»([328]) :«وقسَّط الشيء: فرَّقه».اهـ. وقال الفيومي في «المصباح المنير»([329]): «وقسّط الخراج تقسيطًا إذا جعله أجزاء معلومة».اهـ.
وأما في الاصطلاح الفقهي فهو: البيع إلى أجل معلوم مع زيادة في الثمن المؤجَّل([330]) عن الثمن الـمُنجَز إذا اتفق كلا الطرفين، وهما البائع والمشتري، على هذا البيع عند ابتداء العقد، وتدفع كل مدة معينة قسطًا من هذا الثمن، فأصل بيع التقسيط جائز إذا افترقا على البيان، أي: بيان أنه يريد بيع النسيئة لا النقد أو اختار النقد، وإنما يحرم إذا تفرقا قبل البيان ثم أخَذ الشيء قبل البيان، كأن يقول له: بعتك هذا بألف نقدًا، وبألفين تقسيطًا إلى ستة أشهر، ثم يأخذ هذا الشيء من غير أن يختار إحدى الطريقتين، وهذا هو المراد بما ورد النهي عنه من بيعتين في بيعة، فقد روى أبو داود([331]) أن رسول الله قال: «من باع بيعتين في بيعةٍ فله أوكسُهما أو الربا»، ومعنى: أوكسهما: أقلُّهما، فإن قال له: أسلَمْتُ إليك هذا الدّينار في قفيزين [القفيز: مكيال من البُرّ، أي: القمح] من البُرّ إلى شهر، ثم حلَّ الأجل فقال له ذاك: بِعْني ذَيْنِكَ القفيزَين بأربعة أقفزة مثلًا إلى شهر، فإن بقيا على هذا الشكل وقعا في الربا، أمّا إن أنهيا البيع الأوّل وقبض الـمُسْلِم [الذي عمل عقد السَّلَم] قمحه الأوّل ثم باعه بدينار يكونان خلصا من الربا. وأمّا ما يفعله بعض الناس من أنَّهم يبيعون الشيء بأقساط مؤجَّلة إلى ءاجال معلومة مع شرط أنه إن أخَّر شيئًا من هذه الأقساط يُضاف عليه كذا من الزيادة فهو ربا، وهذا البيع كان بيعًا جائزًا لولا هذا الشرط مهما حصل من الرّبح بسبب التقسيط مما هو زائد على ثمن النقد.
وإليك الآن الأدلة على جواز بيع التقسيط مع الزيادة في الثمن من أقوال الصحابة ومن جاء بعدهم من العلماء وأقوال المذاهب الأربعة، مع بيان معنى حديث أبي هريرة وابن مسعود رضي الله عنهما:
- ممن نقل الإجماع:
ذكر الحافظ أبو سليمان الخطابي في كتابه «معالم السنن»([332]) جواز الزيادة في ثمن السلعة في بيع النسيئة وأن لا خلاف في ذلك فقال: «إذا باتّه على أحد الأمرين في مجلس العقد فهو صحيح لا خُلْف فيه».اهـ. وذكر مثله البغوي في «شرح السنة»([333]).
- أقوال الصحابة:
- قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
قال أبو عبيد القاسم بن سلّام الهروي في كتابه «غريب الحديث» ما نصّه([334]): «في حديث عبد الله بن عمر أن رجلًا قال له: إن عندنا بيعًا له بالنقد سِعر، وبالتأخير سعر، فقال: ما هو؟ فقال: سَرَق الحرير، فقال: إنكم معشر أهل العراق تُسمّون أسماء منكرة، فهلَّا قلت: شقق الحرير، ثم قال: إذا اشتريت فكان لك فبعه كيف شئت».اهـ. قال([335]) أبو عبيد: «وفي هذا الحديث من الفقه أنه لم ير بأسًا أن يكون للبيع سعران، أحدهما بالتأخير والآخر بالنقد إذا فارقه على أحدهما، فأما إذا فارقه عليهما جميعًا فهو الذي قال عبد الله([336]): صفقتان في صفقة ربا، ومنه الحديث المرفوع: أنه نهى عن بيعتين في بيعة».اهـ.
وقد أسند حديث ابن عمر أبو عبيد الهروي فقال: «حدثناه هشيم قال أخبرنا يونس بن عبيد، عن يزيد بن أبي بكر، عن ابن عمر، وقال هشيم مرة أخرى عن يزيد أبي بكر»([337]).اهـ.
وأخرجه ابن أبي شيبة([338]) من طريق ابن عليّة عن يونس عن السرع بن عقيق([339]).
وأخرج أبو نعيم في «الحلية»([340]) عن المفضل بن فضالة، ثنا أبو عاصم التميمي قال: كنا نشتري السَرَق على عهد ابن ذبيان بأربعين فنبيعها بستين إلى العطاء، فسألت ابن عمر قلت: ما تقول في السَرَق([341])؟ قلت: الحرير، قال: هلا قلت شقق الحرير، قلت: نشتريها بأربعين ونبيعها بستين إلى العطاء، فقال: إذا اشتريت وقبضت وكان لك فبع كيف شئت أغلى أم أرخص.اهـ.
- قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:
قال ابن أبي شيبة في مصنّفه([342]): «نا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن أشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال: لا بأس أن يقول للسلعة: هي بنقد بكذا، وبنسيئة بكذا، ولكن لا يفترقان إلا عن رضا». وإسناد رجاله ثقات كما في «تقريب التهذيب» غير أشعث ابن سوار الكندي قال فيه الحافظ ابن حجر([343]): «ضعيف… بخ م ت س ق».اهـ. والرموز تعني أن البخاري أخرج له في «الأدب المفرد» ومسلم في «المتابعات» والترمذي والنسائي وابن ماجه، ويعضده ما قبله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
- أقوال من جاء بعد الصحابة من العلماء من التابعين وغيرهم:
أخرج ابن أبي شيبة في مصنّفه([344]) عن إبراهيم النخعي أنه كان يفتي بجواز التقسيط فقال: «نا هاشم بن القاسم قال: نا شعبة قال: سألت الحكم وحمادًا عن الرجل يشتري من الرجل الشيء فيقول: إن كان بنقد فبكذا، وإن كان إلى أجل فبكذا، قال: لا بأس إذا انصرف على أحدهما، قال شعبة: فذكرت ذلك لمغيرة فقال: كان إبراهيم لا يرى بذلك بأسًا إذا تفرق على أحدهما».اهـ. وهذا إسناد رجاله ثقات قال الحافظ في «التقريب»([345]): «هاشم بن القاسم البغدادي ثقة ثبت»، وقال([346]): «شعبة بن الحجاج ثقة حافظ متقن»، وقال الذهبي في السير([347]): «كان الحكم ثقة ثبتًا فقيهًا من كبار أصحاب إبراهيم»، أي: النخعي، وقال أيضًا([348]): «حماد ابن أبي سليمان تفقه بإبراهيم النخعي، وهو أنبل أصحابه وأقيسهم وأبصرهم بالمناظرة والرأي، وهو في عداد صغار التابعين»، وقال فيه([349]): «مغيرة بن مِقسم الفقيه يلحق بصغار التابعين، حدث عن إبراهيم النَّخَعي، قال العِجْلي: وكان من فقهاء أصحاب إبراهيم»، وقال فيه([350]): «إبراهيم بن يزيد النَّخَعي فقيه العراق، لم نجد له سماعًا من الصحابة المتأخرين الذين كانوا معه بالكوفة، وأهل الصَّنعة – يعني: أهل الحديث – عدُّوه كلُّهم في التابعين، ولكنه ليس من كبارهم، وكان بصيرًا بعلم ابن مسعود، وكان مفتي أهل الكوفة هو والشعبي في زمانهما».اهـ.
فهذا دليل على أن هذه المسألة أي البيع نقدًا بسعر، ونسيئة بسعر، إذا اتفق على أحدهما، كانت معروفة في زمن التابعين، جائزة بفتوى الفقهاء في ذلك الزمن، فضلًا عن فتوى من ذكرنا من الصحابة، فلا عبرة بقول الألباني بعد ذلك.
وثبت جواز مثل هذا البيع عن غير هؤلاء، منهم: طاوس والزهري وسعيد بن المسيّب وقتادة، قال عبد الرزاق الصنعاني في مصنّفه([351]): «أخبرنا معمر عن الزهري، وعن ابن طاوس، عن أبيه، وعن قتادة عن ابن المسيّب قالوا: لا بأس بأن يقول: أبيعك هذا الثوب بعشرة إلى شهر أو بعشرين إلى شهرين، فباعه على أحدهما قبل أن يفارقه، فلا بأس به». ولحديث طاوس إسناد ءاخر رواه عبد الرزاق([352]) عن شيخه الثوري عن ليث عن طاوس مثله.
وقال عبد الرزاق أيضًا([353]): «أخبرنا معمر عن أيوب، عن ابن سيرين أنه كان يكره أن يقول: أبيعك بعشرة دنانير نقدًا أ, بخمسة عشر إلى أجل، قال معمر: وكان الزهري وقتادة لا يريان بذلك بأسًا إذا فارقه على أحدهما».اهـ.
والرواة المذكورون في الإسناد السابق ثقات مشهورون إلا أن الليث وهو ابن أبي سُلَيم قال فيه الحافظ ابن حجر في «التقريب»([354]): «صدوق اختلط جدًّا ولم يتميز حديثه فتُرك»، أما الزهري فعداده في التابعين، قال الذهبي في «السير»([355]): «قال عمر بن عبد العزيز: عليكم بابن شهاب – يعني: الزُّهري – فإنكم لا تلقون أحدًا أعلم بالسُّنَّة الماضية منه… قال علي بن المديني: أفتى أربعة: الحكم وحماد وقتادة والزهري، والزهري عندي أفقههم»، وأما معمر بن راشد فقال الذهبي([356]): «كان من أوعية العلم مع الصدق والتحري والورع والجلالة وحسن التصنيف».اهـ. وأما طاوس فهو من سادات التابعين، قال الذهبي([357]): «الفقيه القدوة عالم اليمن، لازم ابن عباس مدَّة وهو معدود في كبراء أصحابه» وابنه قال فيه الحافظ ابن حجر في «التقريب»([358]): «ثقة فاضل عابد»، وأما قتادة فهو ابن دِعامة. قال الذهبي([359]): «قال ابن عُيَيْنة: قالوا: كان معمر يقول لم أر في هؤلاء أفقه من الزهري وقتادة وحماد»، وقال([360]): «قال احمد بن حنبل: كان قتادة عالـمًا بالتفسير وباختلاف العلماء، ثم وصفه بالفقه والحفظ»، وأما سعيد بن المسيب فقال فيه الذهبي([361]): «الإمام العَلَم عالم أهل المدينة وسيد التابعين في زمانه، وعن قدامة بن موسى قال: كان ابن المسيّب يفتي والصحابة أحياء، وعن محمد بن يحيـى بن حبان قال: كان المقدَّم في الفتوى في دهره سعيد بن المسيّب ويقال له: فقيه الفقهاء، وعن ميمون بن مِهران قال: أتيت المدينة فسألت عن أفقه أهلها فدُفِعت إلى سعيد بن المسيّب، قلت – القائل هو الذهبي -: هذا يقوله ميمون مع لقيه لأبي هريرة وابن عباس».اهـ.
فلو لم تكن إلا فتوى ابن المسيّب لكفى بذلك حجة على الألباني، فكيف ومعه فتاوى غيره من الصحابة والتابعين وغيرهم ممن ذكر وممن لم يُذكر كالإمامين المجتهدين التابعيَّيْنِ عطاء بن أبي رباح المكي مفتي الحرم والأوزاعيّ عالم الشام ومفتيهم، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنّفه([362]) عن شيخه وكيع عن سفيان عن ليث عن طاوس وعن عبد الرحمـٰن بن عمرو الأوزاعي عن عطاء قالا: لا بأس أن يقول: هذا الثوب بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا، ويذهب به على أحدهما»، والليث وإن كان ضعيفًا إلا أنه في نفسه صدوق، كما سبق عن الحافظ ابن حجر، وحديثه يصلح للشواهد والمتابعات، لذلك استشهد به البخاري في صحيحه وروى له مسلم مقرونًا بغيره، فرواية الليث هنا شاهدة([363]) لما سبق؛ بل هي تتقوى بما ثبت نقله عن ابن المسيب والزهري وطاوس وغيرهم.
- أقوال المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة:
- المذهب الحنفيّ:
قال السَّرخسي في كتابه «المبسوط» ما نصّه([364]): «وإذا عقد العقد على أنه إلى أجل كذا وكذا وبالنقد بكذا أو قال: إلى شهر بكذا أو إلى شهرين بكذا فهو فاسد، لأنه لم يعاطه [يتناوله] على ثمن معلوم، ولنهي النبي عن شرطين في بيع، وهذا هو تفسير الشرطين في بيع، ومطلق النهي يوجب الفساد في العقود الشرعية، وهذا إذا افترقا على هذا، فإن كان يتراضيان بينهما ولم يتفرّقا حتى قاطعه على ثمن معلوم وأتما العقد عليه فهو جائز، لانهما ما افترقا إلا بعد تمام شرط صحة العقد».اهـ.
قال الكساني في «بدائع الصنائع»([365]): وقال الإمام المجتهد محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمَام المجتهد أبي حنيفة رحمهما الله تعالى في كتابه «الآثار»([366]) واللفظ له: «وقوله: (وشرطين في بيع) فالرجل يبيع الشيء في الحال بألف درهم، وإلى شهر بألفين، فيقع عقد البيع على هذا، فهذا لا يجوز، وهذا قول أبي حنيفة».اهـ.
وقال الإمام المجتهد محمد بن الحسن الشيباني تلميذ الإمام المجتهد أبي حنيفة في كتابه الأصل المعروف بالمبسوط([367]): «حدَّثنا أبو حنيفة رفعه إلى النبي أنه نهى عن شرطين في بيع، وإذا اشترى الرجل بيعًا إلى أجل بكذا كذا نسيئة، وكذا كذا حالًا، فلا خير في البيع من ذلك، وإن ساومه في البيع مساومة إلى أجلين ثم قاطعه على واحد من ذينك الأجلين فأمضى البيع فهو جائز».اهـ.
- المذهب المالكي:
جاء في «المدوّنة» للإمام المجتهد مالك بن أنس رضي الله عنه برواية تلميذه عبد الرحمـٰن بن قاسم ما نصّه([368]): «قلتُ: أرأيت إن قال له: اشترِ مني إن شئت بالنقد فبدينار، وإن شئت إلى شهرين فبدينارين، وذلك في طعام أو عرض، ما قول مالك في ذلك؟ قال: قال مالك: إن كان هذا القول منه وقد وجب البيع على أحدهما ليس له أن يرجع في البيع فالبيع باطل، وإن كان هذا القول والبيع غير لازم لأحدهما إن شاء أن يرجعا في ذلك رجعا، لأن البيع لم يلزم واحدًا منهما فلا بأس بأن يأخذ بأي ذلك شاء بالنقد أو بالنسيئة. قلت: أرأيت لو جئت إلى رجل وعنده سلعة من السّلع، فقلت له: بكم تبيعها؟ قال: بالنقد بخمسين، وبالنسيئة بمائة، فأردت أن ءاخذ السلعة بمائة نسيئة أو بخمسين نقدًا، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: قال مالك: إن كان البائع إن شاء أن يبيع باع وإن شاء أن يمسك أمسك وإن شاء المشتري أن يأخذ أخذ، وإن شاء أن يترك ترك فلا بأس بذلك وإن كان إن شاء أحدهما أن يترك ترك، وإن شاء أن يأخذ أخذ، والآخر قد وجب عليه، فلا خير فيه، وإن كان قد وجب عليهما جميعًا فهو مكروه أيضًا لا خير فيه».اهـ.
وفيها أيضًا ما نصّه([369]): «البيعتان في بيعة إذا ملك الرجل السّلعة بثمنين عاجل وءاجل. ابن وهب، وقد ذكر يونس بن يزيد أنه سأل ربيعة: ما صفة البيعتين اللتين تجمعهما بيعة؟ قال ابن وهب: هما الصفقة الواحدة، قال: يملك الرجل السّلعة بالثمنين عاجل وءاجل وقد وجبت عليه بأحدهما، كالدينار نقدًا، والدينارين إلى أجلٍ، فكأنه إنما بيع أحد الثمنين بالآخر، قال: فهذا مما يقارب الربا، فكذلك قال الليث عن يحيـى بن سعيد قال: البيعتان اللتان لا يختلف الناس فيهما، ثم فسّر لي من نحو ما قال ربيعة أيضًا، وكذلك فسّر مالك، وقد كره ذلك ابن القاسم وسالم وسليمان بن يسار».اهـ.
وفيها أيضًا ما نصّه([370]): قال ابن وهب: قال يونس: وكان أبو الزّناد يقول مثل قول ربيعة في البيعتين بالثمنين المختلفين. قال مالك: ونهى عنه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصّدِّيق أن يشتري بعشرة نقدًا، أو بخمسة عشر إلى شهر، قال ابن وهب: قال مخرمة عن أبيه: وكره ذلك سليمان بن يسار والقاسم وعبد الرحمـٰن بن القاسم ونافع. قال ابن وهب عن الليث بن أبي سعد قال: وقال يحيـى بن سعيد: البيعتان اللتان لا تختلف الناس فيهما، ثم فسّر من نحو قول ربيعة بن عبد الرحمـٰن».اهـ.
وفي كتب الفقه عند المالكية يذكرون البيوع المنهي عنها، ومنها البيعتان في بيعة، ليس لعله الزيادة في الثمن بل لعلة أخرى، كما في كتاب «منح الجليل» لمحمد عليش([371]) ممزوجًا بمتن «مختصر خليل». وقال الشيخ أحمد الدردير في «الشرح الكبير»([372]) عند ذكر جملة من البيوع المنهي عنها: «(وكبيعتين) جعلها بيعتين باعتبار تبدد الثمن في السلعتين والـمُثْمَن في السلعة الواحدة (في بيعة)؛ أي: عقد واحد، وفسّر ذلك بقوله: (بيعها بإلزام بعشرة نقدًا أو أكثر لأجل) ويختار بعد ذلك، فإن وقع لا على الإلزام وقال المشتري: اشتريت بكذا فلا منع (أو) يبيع بإلزام (سلعتين)، أي: إحداهما (مختلفتين) جنسًا كثوب ودابة أو صنفًا كرداء وكساء للجهل في الـمُثْمَن إن اتحد الثمن».اهـ. قال الشيخ محمد عرفة الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير للدردير ما نصّه([373]): «قوله: (في السلعتين)، أي: في مسألة ما إذا كان المبيع سلعتين، وقوله: (في السّلعة)، أي: في مسألة ما إذا كان المبيع سلعة، قوله: (أي: عقد واحد) أشار بهذا إلى أن المراد بالبيعة العقد. قوله: (يبيعها)، أي: وهي أن يبيع السلعة بتًّا بعشرة إلخ. قوله: (لأجل)، أي: معين ويأخذها المشتري على السكوت ولم يعيّن أحد الأمرين، قوله: (ويختار بعد ذلك)، أي: بعد أخذها الشراء بعشرة نقدًا أو بأكثر لأجل، وإنما منع للجهل بالثمن حال المبيع. قوله: (فإن وقع لا على الإلزام)، أي: بل وقع على الخيار».اهـ.
- المذهب الشافعي:
قال الإمام المزني تلميذ الإمام المجتهد الشافعي في مختصره([374]): «باب البيع بالثمن المجهول وبيع النجش ونحو ذلك: قال الشافعي أخبرنا الدراوردي عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنّ رسول الله نهى عن بيعتين في بيعة. قال الشافعي: وهما وجهان: أحدهما: أن يقول: قد بعتك هذا العبد بألف نقدًا أو بألفين إلى سنة قد وجب لك بأيهما شئتُ أنا وشئتَ أنت، فهذا بيع الثمن في مجهول. والثاني: أن يقول: قد بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف، فإذا وجب لك عبدي وجبت لي دارك؛ لأن ما نقص من كل واحد منهما مما باع ازداده فيما اشترى، فالبيع في ذلك مفسوخ».اهـ.
وعلى هذا الشافعية، قال النووي في «المجموع»([375]): «وفسّر الشافعي وغيره من العلماء البيعتين في بيعة تفسيرين»، وذكر التفسيرين السابقين عن الشافعي ثم قال: «والأول أشهر، وعلى التقديرين البيع باطل بالإجماع».اهـ.
وبالتفسير الأول قال الشيرازي في «المهذّب»([376]): «وإن قال بعتك بألف نقدًا أو بألفين نسيئة فالبيع باطل، لأنه لم يعقد على ثمن بعينه، فهو كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين».اهـ.
وبالتفسيرين قال الحافظ أبوبكر بن المنذر وهو من المجتهدين الـمُطلقين في المذهب الشافعي وقال: هذا قول مالك وسفيان الثوري وإسحاق، وقال الشافعيُّ: إذا باعه بيعًا بدينار على أن الدينار إذا حلَّ أخذ به دراهم إلى وقتٍ، فهذا حرام من بيعتين في بيعةٍ وشرطين في شرطٍ.
وعن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا، فيذهب به على أحدهما، وقال الحكم وحماد: ما لم يتفرقا، قال أبو بكر: من بيعتين في بيعة أن يقول: جاريتي هذه بمائة دينار على أن تبيعني عبدك هذا بخمسين دينارًا، والبيع في ذلك فاسد.اهـ.
وقال الخطابي في كتاب «معالم السنن»([377]) في شرح حديث: «من باع بيعتني في بيعةٍ فله أوكسُهما أو الربا»: «لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث أو صحَّح البيع بأوكَس الثمنين إلا شيء يُحكى عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد، وذلك لما تتضمنه هذه العقدة من الغرر والجهل»، ثم سرد ما ذكره المزني في مختصره، وقد مرَّ ءانفًا. ثم قال([378]): «ومن هذا الباب»([379]) أن يقول: بعتُك هذا الثوب بدينارين على أن تعطيني بهما دراهم صرف عشرين أو ثلاثين بدينار. فأما إذا باعه شيئين بثمن واحد كدارٍ وثوبٍ أو عبدٍ وثوب فهذا جائز، وليس من باب البيعتين في البيعة الواحدة وإنما هي صفقة واحدة جمعت شيئين بثمن معلوم، وعقد البيعتين في بيعةٍ واحدةٍ على الوجهين اللذين ذكرناهما عند أكثر الفقهاء فاسد».اهـ.
هذا كلام الخطابي وهو صحيح، فالجمع بين البيع والشرط باطل لا يجوز، كبيعه زرعًا أو ثوبًا بشرط أن يحصده أن يخيطه، فهذا لا يصح، ولكن يصح بيع بشرط خيار، كأن يقول: بعتك هذا بشرط أن يكون لك الخيار يومًا أو يومين أو ثلاثة، فإن لم يعجبه يرد ضمن هذه الأيام، وكذلك بشرط البراءة من العيب، ومعناه لا ترد عليَّ إن ظهر فيه عيب. وكذلك إذا قال له: بعتُك هذه الثمار التي على الشجر بشرط أن تقطعها أي لا تبقيها. وكذلك إذا قال له: بعتك بألف درهم إلى شهر، أو قال له: بعتك هذا البيت بكذا بشرط أن ترهنني فرسك أو بقرتك أو نحو ذلك، أو باع بشرط الكفيل، ومعناه: تعطيني كفيلًا يضمن لي الثمن.
قال البغوي في كتابه «شرح السُّنَّة» ما نصّه([380]): «وفسروا البيعتين في بيعة على وجهين» ثم نقل ما ذكر ءانفًا. فتبيَّن أن مذهب الشافعي على خلاف ما ذهب إليه الألباني، ونُقُولهم كلها متشابهة من حيث السبك والمعنى.
- المذهب الحنبلي:
قال ابن قدامة في كتابه «المغني»([381]): «فصل وقد روي في تفسير بيعتين في بيعة وجه ءاخر، وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقدًا أو بخمسة عشر نسيئة أو بعشرة مكسرة أو تسعة صحاحًا، هكذا فسَّره مالك والثوري وإسحاق، وهو أيضًا باطل، وهو قول الجمهور لأنه لم يجزم له ببيع واحد، فأشبه ما لو قال: بعتك هذا أو هذا، ولأن الثمن مجهول فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول، ولأن أحد العوضين غير معيّن ولا معلوم فلم يصح كما لو قال: بعتك أحد عبيدي، وقد روي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا فيذهب على أحدهما، وهذا محمول على أنه جرى بينهما بعدما يجري في العقد فكأن المشتري قال: أنا ءاخذه بالنسيئة بكذا فقال خذه أو قد رضيت ونحو ذلك فيكون عقدًا كافيًا، وإن لم يوجد ما يقوم مقام الإيجاب أو يدل عليه لم يصح، لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابًا لِـمَا ذكرناه».اهـ. وقال المرداوي في كتاب «الإنصاف» ما نصّه([382]): «قوله: (وإن قال: بعتك بعشرة صحاحًا أو أحد عشر مكسَّرة أو بعشرة نقدًا أو عشرين نسيئة لم يصح)، يعني: ما لم يتفرقا على أحدهما، وهو المذهب نصَّ عليه([383])، وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم».اهـ.
- شرح حديث النهي عن بيعتين في بيعة من كلام الحفاظ واللغويين وشرَّاح الحديث:
قال الحافظ الترمذي بعد أن روى هذا الحديث ما نصّه([384]): «والعمل عل هذا عند أهل العلم، وقد فسَّر بعض أهل العلم قالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحد منهما، قال الشافعي: ومن معنى نهي النبي عن بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجب لك داري، وهذا يفارق عن بيع بغير ثمن معلوم،ـ ولا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته».اهـ.
قال اللغوي النحوي أبو عبيد القاسم بن سلّام الهروي في كتابه «غريب الحديث»([385]) وابن منظور في «لسان العرب»([386]) واللفظ له: «وفي الحديث «نهى عن بيعتين في بيعةٍ» وهو أن يقول: بِعتك هذا الثوب نقدًا بعشرة، ونسيئة بخمسة عشر، فلا يجوز، لأنه لا يدري أيهما الثمن الذي يختاره ليقع عليه العقد، ومن صوره أن تقول: بِعتك هذا بعشرين على أن تبيعني ثوبك بعشرة، فلا يصح للشرط الذي فيه، ولأنه يسقط بسقوطه بعض الثمن فيصير الباقي مجهولًا، وقد نهى عن بيع وشرط وبيع وسلف، وهما هذان الوجهان».اهـ.
وفسَّره الحافظ عبد الحق الإشبيلي كتفسير من سبقه من العلماء، فقد نقل كلام الترمذي بتمامه وذلك في كتابه «الأحكام الوسطى»([387]).
ويضاف إلى تفسير هذا الحديث ما سبق نقله عن أهل المذاهب الأربعة وغيرهم.
- شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من باع بيعتين في بيعةٍ فله أوكسُهما أو الربا»:
قال الحافظ أبو سليمان الخطابي في كتابه «معالم السنن» عند شرحه لهذا الحديث ما نصّه([388]): «يُشبه أن يكون ذلك في حكومةٍ في شيء بعينه كأنه أسلفه دينارًا في قفيز إلى شهر، فلما حلَّ الأجلُ وطالبه بالبُرّ قال له: بعني القفيز الذي عليَّ بقفيزين إلى شهر، فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأوّل، فصار بيعتين في بيعة، فيردان إلى أوكسهما [أنقصهما]، وهو الأصل، فإن تبايعا المبيع الثاني قبل أن يتناقضا [يتقابضا] الأول كانا مُرْبِيَيْن».اهـ. أي: وقعا في الربا.
ونقل شرح الحديث عن الخطابي غير واحد من العلماء، منهم: البيهقي في سننه([389]) والنووي في «المجموع»([390]) وابن الأثير في «النهاية»([391]) وابن منظور في «لسان العرب»([392]).
- معنى حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «صفقتان في صفقة ربا»([393]):
أخرج عبد الرزاق في مصنّفه([394]) قال: أخبرنا إسرائيل قال: حدَّثنا سماك بن حرب، عن عبد الرحمـٰن بن عبد الله بن مسعود، عن ابن مسعود قال: «صفقتان في صفقة ربا، أن يقول: هو بالنسيئة بكذا وكذا وبالنقد بكذا وكذا»، قال سفيان: يقول إن باعه بيعًا، فقال: أبيعك هذا بعشرة دنانير تعطيني بها صرف دراهمك»، وأخرج أيضًا عن الثوري عن جابر، عن الشعبي، عن مسروق في رجل قال: أبيعك هذا البُرَّ بكذا وكذا دينارًا تعطيني الدينار من عشرة دراهم، قال مسروق: قال عبد الله: لا تحل الصفقتان في الصفقة».اهـ.
قال الأزهري في «تهذيب اللغة»([395]): «وفي الحديث: «صفقتان في صفقة ربًا» معناه: بيعتان في بيعة واحدة ربا، وهو على وجهين: أحدهما: أن يقول البائع للمشتري: بعتك عبدي هذا بمائة درهم على أن تشتري مني هذا الثوب بعشرة دراهم، والوجه الثاني: أن تقول له: بعتك هذا الثوب بعشرين درهمًا على أن تبيعني متاعك بعشرة دراهم».اهـ. مثله في «لسان العرب»([396])، و«تاج العروس»([397])، و«غريب الحديث» لابن الجوزي الحنبلي([398]).
فبعد هذا البيان الشافي من أقوال العلماء الراسخين في العلم المتمكنين في معرفة الحلال والحرام كالصحابيين عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس الذي دعا له الرسول أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، وغيرهم من أئمة العلماء المجتهدين الذين جعلهم الله منائر هدى يرجع الناس إليهم في معرفة الأحكام الفقهية كسعيد بن المسيّب والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم من علماء أهل السُّنَّة المقتفين ءاثار هؤلاء الأئمة، يظهر أن الألباني قد انحرف عن جادة الصواب في عدائه وذمّه لمن يقول بجواز التقسيط مع زيادة في الثمن، والألباني لا يداني واحدًا من هؤلاء الأئمة، في الفهم والعلم والزهد والورع واتّباع السُّنَّة.
وأشرع الآن – بعون الله تعالى وتوفيقه – برد شبهات الألباني المدّعي التي دلّت على قصر نظره وأوهامه، والذي دلّس على القرّاء، ولم يلتزم الأمانة في النقل، وأساء الأدب مع العلماء وتحامل عليهم.
أولاً: استدل الألباني بحديث([399]): «لا يحلُّ شرطانِ في بيعٍ» على تحريم بيع التقسيم، واستغل لتأييد رأيه تفسير بعض العلماء لهذا الحديث بأنّ المراد منه أن تبُاع السّلعة إلى شهر بكذا، وإلى شهرين بكذا.
الرَّدُّ:
لا حجة له في نقْله هذا؛ لأن مراد هؤلاء العلماء إذا تفرَّق المتبايعان قبل الاتفاق على إحدى الصيغتين، كما سبق نقل ذلك عن مذاهب الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من المجتهدين، ثم المناوي الذي استشهد بكلامه الألباني شافعي، ومذهب الشافعية أنه يجوز الزيادة في ثمن السلعة إذا بيعت نسيئة كما تقدَّم عنهم، فالألباني موّه على القرّاء أن المناوي موافق له في تحريم مثل هذا البيع. ويقال أيضًا: إن هؤلاء العلماء لم يقولوا إن التحريم لأجل الزيادة؛ بل يحتمل لأجل الافتراق قبل تعيين إحدى الصفقتين؛ بل قال العلماء هذا هو الأرجح والمتعيّن، لأنهم إما منتسبون إلى مذهب من المذاهب الأربعة المشهورة وهم متفقون على حلّ هذا البيع، وإما لأنه معروف حلّه عندهم فلا يفصلون فيه؛ بل يطلقون ويكون إطلاقهم مقيّدًا بما ذكر، كما وضّح ذلك الشيخ ابن عابدين في بعض رسائله فقال([400]): «قال الإمام الحافظ العلّامة محمد بن طولون الحنفي في بعض رسائله: إنّ إطلاقات الفقهاء في الغالب مقيّدة بقيود يعرفها صاحب الفهم المستقيم الممارس للفن، وإنما يسكتون اعتمادًا على صحّة فهم الطالب.اهـ. فهذا إذا سكتوا عنه فكيف إذا صرَّح به كثير منهم».اهـ. كما تقدّم. ويؤيد ذلك تفسير اللغوي النحوي المشهور أبي عبيد القاسم بن سلّام لقول ابن مسعود رضي الله عنه: «صفقتان في صفقة ربا»([401])، وأورده الألباني في كتابه المسمّى «إرواء الغليل»([402])، وعزاه لابن أبي شيبة([403]) ولفظه: «عن سماك عن عبد الرحمـٰن بن عبد الله – يعني: ابن مسعود – عن أبيه: صفقتان في صفقة ربا، أن يقول الرجل: إن كان بنقد فبكذا، وإن كان بنسيئة بكذا»، فهذه الرواية ليس فيها ذكر الافتراق قبل الاتفاق أو بعده على أحد الشرطين، فوضّح ذلك اللغوي ابن سلّام بما لا يدع مجالًا للشك أن مراد ابن مسعود أن يفترق كل من البائع والمشتري قبل الاتفاق على أحد الشرطين إن كان نقدًا أو نسيئة، وليس هذا فهم ابن سلّام وحده؛ بل جماهير العلماء على ذلك، وقد مرَّ سابقًا فتوى مفتي الكوفة إبراهيم النَّخعي رحمه الله، وفيها أنه قال: «لا بأس ببيع النقد بكذا، والنسيئة بكذا، إذا تفرّق على أحدهما». وقد وصفه الذهبي بأنه كان بصيرًا بعلم ابن مسعود، ومرّ أيضًا عن «المدوّنة» للإمام مالك رضي الله عنه عنه الاستدلال بحديث ابن مسعود على جواز مثل هذا البيع، ففهمهم مقدّم على ما توهّمه الألباني وأمثاله، فمن أراد السلامة في دينه يتّبع أئمة الهدى في معرفة الحلال والحرام، ومعروف عند من طالع سيرة هذا المبتدع أنه لم يأخذ العلم عن العلماء؛ بل راح يقرأ في الكتب ويطالع حتى ظن بنفسه أنه صار من كبار العلماء فوقع في أخطاء خطيرة في العقيدة والأحكام الفقهية، ومثله يقول فيه العلماء: «صحفي»، أي: لا يعتمد عليه، ولا يجوز شرعًا استفتاؤه وسؤاله عن الأحكام الفقهية، لأنه ليس بثقة ولا عالم، وكان العلماء يشددون على التحري في أخذ العلم عن الثقات، والابتعاد والتنفير من الصحفيين كما قال العالم الجليل محمد بن سيرين رضي الله عنه: «إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم»([404]).اهـ. وقال سعيد بن عبد العزيز ابن أبي يحيـى مفتي دمشق: «لا يؤخذ العلم من صحفي»([405]).اهـ. وقال الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لن يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قِبَل أكابرهم وذوي أسنانهم، فإذا أتاهم من قِبَل أصاغرهم وأسافلهم هلكوا»([406]).اهـ.
ثانيًا: قول الألباني: «قال المناوي: كبعتك نقدًا بدينار ونسيئة بدينارين، قلت [يعني: الألباني] فهو بيع التقسيط المعروف اليوم».
الرَّدُّ:
ليس التقسيطُ الشراءَ بنقد بدينار ونسيئة بدينارين بدون تقسيط ثمن السلعة؛ بل هو أن تُشترى السلعة إلى أجل معلوم مع زيادة في الثمن مثلًا على أن يُدْفَعَ قِسْطٌ كل مدة معينة يتفق عليها البائع والمشتري، هذا ما يعرفه العامّي فضلًا عن طلبة العلم والعلماء؛ بل العامّي الجاهل الذي لم يتلق علم الدين إذا سألته عن بيع التقسيط يجيبك بما أسلفته، أما الألباني الذي يزعم أنه مضى عليه عشرات السنين في دراسة العلم جهل ما عرفه العامّي، فأي علم هذا الذي يزعم أنه درسه؟! لقد أضاع عمره يخبط خبط عشواء يحلل الحرام ويحرم الحلال كما اتضح لك من خلال هذا الكتاب.
ثالثًا: إن من نقل عنهم كعبد الوهاب بن عطاء وابن سيرين وطاوس والنسائي وغيرهم تفسيرَ الحديث بالبيع بالنقد بكذا والنسيئة بكذا، يحمل كلامهم على تفرّق المتبايعين قبل الاتفاق على أحد العقدين، وقد مرّ البيان الشافي لذلك عند الجواب على الشبهة الأولى، وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد إيضاح.
فالحاصل: أنه لا يتم له الاستدلال بشيء من كلامهم إلا إذا صرّحوا بالنهي عن بيع التقسيط، وهذا ما لم يرد عنهم، فمن نسب إليهم أنهم يحرّمون بيع التقسيط لمجرد قولهم: إن البيع بالنقد بكذا والنسيئة بكذا، فقد تقوّل عليهم. كما أن الألباني لم يورد عنهم حكمهم على بيع التقسيط فقط؛ بل كل نُقُوله عنهم قولهم: إن كان بنقد بكذا، وإن كان بنسيئة بكذا، وهذا لا يكفي دليلًا لما ادَّعاه.
رابعًا: استدلاله بتفسير ابن قتيبة ليس دليلًا له، لأنه لم يصرّح أنه يحرم بيع التقسيط كما بيَّنت سابقًا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد فسّر حديثَ النهي عن بيعتين في بيعة اللغوي النحوي أبو عبيد القاسم بن سلّام نفسه بالتفسير عينه مع بيان سبب النهي وهو الافتراق قبل البتّ بأحد الشرطين قال ابن سلّام: «فإذا فارقه على أحد الشرطين بعينه فليس ببيعتين في بيعة»، فالعجب من الألباني كيف يتمسك بتفسير ابن قتيبة، وليس فيه دليل؛ بل هو محمولٌ على ما مرّ ذكره ويترك أو يتعمّد عدم ذكر تفسير أبي عبيد، وهو نصّ صريح في المسألة!
خامسًا: قوله عن ابن سيرين: «وما كره ذلك إلا لأنه نهى عنه».
الرَّدُّ:
كره ماذا؟ هل كره بيع التقسيط أم كره أن يقول البائع: «أبيعك بعشرة دنانير نقدًا أو بخمسة عشر إلى أجل؟» فإن أراد القول الأول فعليه إثبات ذلك عنه، لأن صورة المسألة أبيعك بكذا نقدًا وبكذا مؤجلًا، وليست المسألة فقط أبيعك إلى أجل بكذا، وإن أراد الثاني أي أبيعك بكذا مؤجلاً مع الزيادة في الثمن، فليس فيه دليل أيضًا، لأنه لم يقل سبب هذا النهي، ويحمل قوله على القيد الذي ذكره العلماء، وهو الافتراق قبل البتّ بإحدى البيعتين.
سادسًا: قوله: «قال طاوس: هو بكذا إلى كذا وبكذا إلى كذا فوقع المبيع على هذا… إلخ»، ثم قال ورواه عبد الرزاق من طريق ليث عن طاوس به مختصرًا، وزاد: «فباعه على أحدهما قبل أن يفارقه فلا بأس به» فهذا لا يصح عن طاوس لأن ليثًا وهو ابن أبي سليم كان اختلط».
الرَّدُّ:
الألباني اختلط عليه الأمر وموّه ودلّس على القراء، وإليك البيان:
- إن قول طاوس بحلّ بيع التقسيط ثابت عنه ثبوتَ الشمس في رابعة النهار، كما نص عليه عبد الرزاق في مصنّفه، وقد ذكرته سابقًا.
تأمّلوا أيها القراء كيف حذف الألباني الرواية الأولى، أي: رواية معمر عن ابن طاوس، عن أبيه الثابتة بجواز بيع النسيئة، ومنه التقسيط، واقتصر على الرواية الثانية، وهي رواية ليث عن طاوس، أليس هذا تدليسًا على الناس وإيهاماً لهم أن طاوسًا موافق له! وهذا خلاف الواقع.
- ثم الرواية التي أوردها الألباني، وفيها: «فوقع البيع على هذا» حجة عليه؛ لأن معناها أن الافتراق حصل قبل تحديد الصفقة بالنقد أو بالنسيئة، أما إذا تم التحديد فهو أي طاوس يجيز التقسيط كما ثبت عنه.
- وفي رواية عبد الرزاق التي استشهد بها الألباني تتمّة حذفها وهي([407]): «فهو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين، قال معمر – هو راوي الحديث -: وهذا إذا كان المبتاع قد استهلكه».اهـ. فهذا نصّ صريح من الراوي يبيّن فيه أن مراد طاوس الأخذ بأقل الثمنين لأجل أن المشتري قد استهلك السّلعة، وليس لأجل الزيادة في التقسيط، فحذف الألباني هذه الزيادة ليتم له تحقيق مأربه، وكان قد قال قبل ذلك بقليل: «فتفسير سماك بن حرب للحديث ينبغي أن يقدم عند التعارض، ولا سيما وهو أحد رواة هذا الحديث، والراوي أدرى بمرويه من غيره، لأن المفروض أنه تلقى الرواية من الذي رواها عنه مقرونًا بالفهم لمعناها». فهلّا طبق الألباني ذلك على رواية طاوس!
فكيف يستشهد الألباني بكلام نص صاحبه على خلاف ما ذهب إليه هو – أي: الألباني -، ولو رُزق هذا المدَّعي الفهم لما استشهد بكلام طاوس الذي هو حجة عليه.
إن قول طاوس في الرواية التي ذكرها الألباني وإن كانت مطلقة فليس فيها نص منه على النهي عن مثل هذا البيع، فتحمل على ما ثبت عنه حيث قال: «إذا باعه على أحدهما قبل أن يفارقه فلا بأس به»، فيحمل المطلق من قوله على المقيد، كما هو معروف عند صغار طلبة العلم فضلًا عن العلماء، فلماذا لم يجمع الألباني بين قولي طاوس؛ بل ترك الثابت عنه؟ أقول فما ذاك منه إلا لأنه وجدها حجة عليه، وقول طاوس دليل ءاخر على أن من ذكرهم الألباني في تفسير البيعتين في بيعة أي البيع نقدًا بكذا أو نسيئة بكذا يحمل الكلام على الافتراق قبل البتّ بأحد العقدين، لأن قول طاوس: «فلا بأس به» أصرح من رواية «فوقع البيع على هذا»، فإذا أطلق هنا قيده في الأولى، فسقط تمسك الألباني بكلام الذين ذكرهم وعاد بخفّي حُنَين.
سابعًا: قوله: «قال سفيان الثوري: إذا قلت: أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا وكذا فذهب به المشتري فهو بالخيار ما لم يكن وقع بيع على أحدهما، فإن وقع البيع هكذا فهو مكروه وهو بيعتان في بيعة، وهو مردود، وهو منهي عنه، فإن وجدت متاعك بعينه أخذته، وإن كان قد استهلك فلك أوكس الثمنين وأبعد الأجلين».
الرَّدُّ:
عجيب فهم هذا الرجل، فهو يقدّم عكس المكتوب، وخلاف المنصوص عليه، فإن العلماء فهموا من كلام الثوري جواز البيع نسيئة مع زيادة في الثمن، ويدل على ذلك قول ابن عبد البر في كتابه «الاستذكار»([408]): «قال مالك فيمن قال: أبيعك هذا الثوب بعشرة نقدًا أو بخمسة عشر إلى أجل: إذا كان البائع والمبتاع كل واحد منهما إن شاء أن يترك البيع ترك ولا يلزمه فلا بأس، ولا يجوز عند مالك والشافعي وأبي حنيفة إن افترقا على ذلك بالالتزام حتى يفترقا على وجه واحد وهو قول الثوري»، ثم قال([409]): «قال الثوري» وذكر النص السابق الذكر، وكذلك تقدّم أن الحافظ المجتهد ابن المنذر وهو بحر في معرفة مسائل الخلاف والإجماع ذكر أن الثوري ينهى عن هذا البيع إذا افترقا من غير بيان أحد الوجهين، أي: أنه يجيز البيع بالنسيئة مع الزيادة إذا اتفقا على أحد الوجهين. ولا حجة للألباني في قول: «وإن كان قد استهلك إلخ» لأنه مقيّد بالاستهلاك.
ثامنًا: قوله: «الأوزاعي نحوه مختصرًا وفيه: فإذا ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين؟ فقال: «هي بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين» ذكره الخطابي في معالم السنن».
الرَّدُّ:
نسب الألباني للأوزاعي ما لم يقله، فالأوزاعي موافق لجماهير العلماء على جواز بيع النسيئة مع الزيادة في الثمن، ولكن الألباني حرّف كلام الأوزاعي وبتره عندما نقل كلام الخطابي([410])، وإليك أيها القارئ نص الخطابي لتقف على خيانة الألباني وتلاعبه بالنصوص وحذف ما هو حجة عليه، وعبارة الخطّابي هي: «وقال الحكم وحماد: لا بأس به – يعني: أن يقول له هذا الثوب نقدًا بعشرة وإلى شهر بخمسة عشر – ما لم يفترقا. وقال الأوزاعي: لا بأس بذلك، ولكن لا يفارقه حتى يُباتّه بأحد المعنيين، فقيل له: فإنه ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين، فقال: هي بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين. قال الشيخ([411]): هذا ما لا يشك في فساده». انتهى بحروفه.
انظروا أيها القرّاء كيف حذف الألباني عبارة: «لا بأس بذلك ولكن لا يفارقه حتى يباتّه بأحد المعنيين» التي تنص نصًّا صريحًا على جواز بيع النسيئة مع زيادة في الثمن، هل يفعل هذا من يتقي الله تعالى؟!
تاسعًا: قوله: «ثم جرى على سنتهم أئمة الحديث واللغة، فمنهم: النسائي وابن حبان وابن الأثير».
الرَّدُّ:
لم ينقل الألباني عن أحد من أئمة الحديث النهي عن بيع النسيئة مع الزيادة في الثمن، وكذلك لم ينقله عن أحد من أئمة اللغة، فكيف ينسب إليهم قولًا لم يقولوه؟ بل نصوا على جوازه، وقد نقلت ما تقدم مفصّلًا عن ابن عباس وابن عمر وعن الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، والترمذي والزهري وقتادة وابن المسيّب وحماد والحكم وإبراهيم النخعي وعطاء والأوزاعي وكذلك أئمة اللغة كأبي عبيد، وابن الأثير – وقد عدّه الألباني منهم وسيأتي كيف تقوّل عليه – وغيرهم من اللغويين، كلهم صرَّحوا على عكس ما نسب إليهم الألباني مموّهًا على القراء، وقد تقدّمت نصوصهم.
أمّا النسائي وابن حبان فيجاب كما قلتُ سابقًا: إنهما لم يقولا إن بيع النسيئة مع زيادة في الثمن منهي عنه، إنما صورة المسألة التي أورداها هي الزجر عن بيع الشيء بكذا نقدًا، وبكذا نسيئة، وفرق بين المسألتين كما لا يخفى ذلك على اللبيب، ثم كلامهما مقيّد بما إذا افترق المتبايعان قبل البتّ بإحدى البيعتين.
أمّا ابن الأثير فقد افترى عليه الألباني وأوهم أنه موافقه، فلذلك تعمّد أن لا يذكر كلامه؛ بل اكتفى بالإحالة إليه فقال: «ابن الأثير في «غريب الحديث»، فإنه ذكر ذلك في شرح الحديثين المشار إليهما ءانفًا»، يعني: حديث «النهي عن بيعتين في بيعة» وحديث «لا يَحلُّ شرطانِ في بيعٍ». ولا بد هنا من نقل كلام ابن الأثير ليعرف القارئ عدمَ مصداقية الألباني وخيانته، قال ابن الأثير عند شرح الحديث الأول ما نصه([412]): «بيع: وفيه نهي عن بيعتين في بيعة، وهو أن يقول بِعْتك هذا الثوب نقدًا بعشرة ونسيئة بخمسة عشر، فلا يجوز لأنه لا يدري أيهما الثمن الذي يختاره ليقع عليه العقد». انتهى بحروفه. انظروا وتأمّلوا أيها القراء إلى عبارة ابن الأثير: «فلا يجوز لأنه لا يدري أيهما الثمن الذي يختاره ليقع عليه العقد».اهـ. إذًا هو علّل النهي للجهالة في الثمن، وليس لأجل الزيادة في الثمن عند البيع بالنسيئة، فهل بعد هذا البيان يبقى شك في ادعاءات الألباني؟! وعند شرح الحديث الثاني قال ابن الأثير ما نصّه([413]): «شرط: فيه «لا يجوز شرطان في بيع» هو كقولك: بعتك هذا الثوب نقدًا بدينار، ونسيئة بدينارين، وهو كالبيعتين في بيعة».اهـ. هنا لم يذكر علّة سبب النهي، لكنه في الموضع الأول كشف عن سبب النهي، فيُحمل قوله الثاني على الأوّل، ولا إشكال، وهذا دليل ءاخر على أن من أطلق من العلماء ولم يقيد كلامه بافتراق المتبايعين أم لا أنّ كلامه محمول على عدم الاتفاق قبل الافتراق.
عاشرًا: قول الألباني: «تعليلهم النهي عن بيعتين في بيعة بجهالة الثمن مردود، لأنه مجرد رأي مقابل النص».
الرَّدُّ:
هذا التعليل الذي ردّه الألباني هو قول كثير من علماء أهل السُّنَّة، وليس مجرد رأي خالفوا فيه نصًّا، فليراجع المنصف كلام المذاهب الأربعة وغيرهم التي ذكرنا سابقًا، واستحضر أيها القارئ قول الإمام الشافعي المجتهد اللغوي: «فهذا بيع الثمن فيه مجهول»، فهذا الإمام الجليل أفهم بكتاب الله وسُنَّة نبيّه واختلاف العلماء وأقوالهم من الألباني في اللغة والفقه. وقد مرّ تفسير حديث أبي هريرة وابن مسعود رضي الله عنهما… فليراجع.
الحادي عشر: قوله: «إن هذا التعليل مبني على القول بوجوب الإيجاب والقبول في البيوع… إلخ».
الرَّدُّ:
لو اطلع الألباني على مذاهب العلماء لعرف أن بينهم اختلافًا في هذه المسألة حتى ضمن المذهب الواحد، فمن شروط البيع على ما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه الصيغة، أي: اللفظ من الجانبين، أي بأن يقول البائع: بعتك كذا بكذا، فيقول المشتري: قبلت، واختار بعض أصحابه([414]) صحّته بالمعاطاة بدون صيغة، وهي أن يدفع الثمن ويأخذ المبيع بلا لفظ وهو مذهب مالك([415])، فالبيع عنده ينعقد بكل ما يعدّه الناس بيعًا من غير اشتراط اللفظ، فهم مع اختلافهم متفقون على جواز البيع نسيئة مع الزيادة في الثمن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى علّلوا النهي للجهالة في ثمن السلعة لعدم الاتفاق على بيع بعينه، وليس لسبب الإيجاب والقبول، فكيف يقال بعد ذلك: إن تعليل العلماء مبني على الإيجاب والقبول!
الثاني عشر: قوله: «فأين الجهالة المدعاة؟ وخاصة القسط الأول يدفع نقدًا والباقي أقساط حسب الاتفاق، فبطلت الجهالة أثرًا ونظرًا».اهـ.
الرَّدُّ:
هذا دليل على أن الألباني يجهل معنى الجهالة في الثمن، وسببه جهله بالفقه أصلًا وفرعًا وعدم تلقيه العلم من أهله، فالعلماء عندما علَّلوا النهي للجهالة في الثمن، معناه: أن البائع والمشتري لا يعرفان على ماذا استقر الثمن هل بالنقد أم بالنسيئة، أي هل يشتري مثلًا السّلعة بدينار أو بدينارين، وانفض المجلس على هذا، أمّا إن استقر الثمن على إحدى البيعتين، أي: بدينار مثلًا فليس بجهالة، وكذلك إن اتفقا على البيع بدينارين فليس بجهالة، فبطلت تمويهات الألباني وشبهاته نظرًا وأثرًا، وعلى هذا تتابع علماء الفقه واللغة.
الثالث عشر: قوله: «كما تقدم عن العلماء» إيهام أنه أورد أسماء كثيرة بينما هو لم يذكر إلا ثلاثة وهم طاوس والثوري والأوزاعي فقط لم يذكر غيرهم، وهؤلاء الثلاثة سبق كلامهم في أنهم يجيزون بيع النسيئة أي الأجل مع زيادة في الثمن في حين أن الألباني مخالف لهم؛ بل حمل حملة شعواء على المجيزين، فلا ممسك له بعد ذلك في إيراد أسماء هؤلاء إلا الشغب وتسويد الأوراق.
وقوله: «العلماء نصوا أنه يجوز أن يأخذ بأقل الثمنين» غير دقيق، لأن من ذكرهم وهم طاوس والثوري مع كونهم يجيزان بيع النسيئة فكلامهما مقيد باستهلاك السلعة كما تقدّم في الرواية عنهما، أمّا الأوزاعي فليس في كلامه هذا القيد إن صحت عنه هذه الرواية، فلذلك أوردها الخطّابي بصورة التمريض فقال: «يُحكى عن الأوزاعي وهو مذهب فاسد، وذلك لما تتضمنه هذه العقدة من الغرر والجهل».اهـ. أي: الجهل بالثمن.
