لَولَاهُ لَم تُخرَجِ الدُّنيَا مِنَ العَدَمِ

يقول البُوصيريُّ في قصيدته المشهورة بـ[البُردة]:

(لَولَاهُ لَم تُخرَجِ الدُّنيَا مِنَ العَدَمِ)

اعلم أنَّ قول البُوصيريِّ في حقِّ نبيِّنا مُحمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (لَولَاهُ لَم تُخرَجِ الدُّنيَا مِنَ العَدَمِ) مجاز لطيف؛ فقد اختصر فيه الشَّاعر بذكر نبيِّنا ذكرَ سائر المُكلَّفين مِن إنس وجنٍّ، وذلك لأنَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- سيِّدُ المُكلَّفين وأفضلُهُم عند الله تعالَى؛ وهذا مِن البُوصيريِّ بلاغة فإنَّه قد اختصر فعبَّر عن النَّوع بذكر أحسن أفراده وعن العُنصر بذكر أفضل ما فيه، وعليه فقولُ البُوصيريِّ لا ينقُض قول الله تعالَى في القُرآن الكريم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أي ليأمُرَهُم بالعبادة.

قال العلَّامة المُحدِّث عبدالله الغُمَاريُّ في كتابه المُسمَّى [إتقان الصُّنعة في تحقيق معنَى البدعة]: (إنَّ الله تعالَى خلق المُكلَّفين لعبادته فقال سُبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وخلق الدُّنيَا وما فيها لأجلهم وخلق الآخرة لأجلهم أيضًا وجَعَلَهُما دارَين دار للتَّكليف والعمل ودار للجزاء على ما عملوا ولولا الإنس والجنُّ ما خُلِقَتِ الدُّنيا؛ ولمَّا كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم سيدَ المُكلَّفين ورسول العالمين وخُلاصة النَّوع الإنسانيِّ صحَّ أن يُقال “لولاهُ لم تُخرَجِ الدُّنيَا مِنَ العدمِ”. وهذا النَّوع مِن المجاز لطيف؛ اقتضاه مقام المدح) انتهَى.

إذًا معنَى قول البُوصيريِّ:

وكيف تدعو إلى الدُّنيَا ضرورة مَن * لولاه لم تُخرَجِ الدُّنيَا مِنَ العدمِ

أنَّ الدُّنيَا لا تَحُوجه إلى أن يتعلَّق بها؛ هذه الدُّنيَا حُطامُها زائل؛ فلذلك يجوز أن نقول: خُلِقَتِ الدُّنيَا لأجل مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم.

ورد في حديث -صحَّحه بعض الحُفَّاظ وضعَّفه بعض الحُفَّاظ ويجوز العمل به- نصُّه: (قال الله لآدمَ عليه السَّلامُ لولا مُحمَّدٌ ما خلقتُك) رواه الحاكم وغيرُه معناه أنَّ الدُّنيَا خُلِقَت ليُظهر الله تعالَى أنَّ مُحمَّدًا هُو صفوتُها؛ أنَّه أشرف الخلق؛ وكُلُّ هذا مجاز يُراد به أنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا هُو سيِّد النَّاس عليه الصَّلاة والسَّلام.

فإذا قُلنا (مُحمَّد سبب في وُجود الدُّنيَا) فاعلم أنَّ هذا تشريف وليس إشراكًا وليس كُفرًا وليس غُلُوًّا، لكن يبقَى أن نعرف أنَّ القول المذكور محمول على المجاز.