نبذة من عقائد ابنِ تيميَّة في التَّشبيه والتَّجسيم وتعليقات العلَّامة محمَّد العَربي بن التَّبَّاني الجزائري (ت: 1390 هـ) عليها:
1. زعمه أنَّ النَّاس في إطلاق لفظ “الجِهة” على ثَلاثة أقوال:
قالَ ابنُ تَيميَّةَ: ((وَأَمَّا قَوْلُهُ [=الرَّافضي]: “وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي جِهَةٍ”، فَيُقَالُ: لِلنَّاسِ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ “الْجِهَةِ” ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: فَطَائِفَةٌ تَنْفِيهَا، وَطَائِفَةٌ تُثْبِتُهَا، وَطَائِفَةٌ تُفَصِّلُ. وَهَذَا النِّزَاعُ مَوْجُودٌ فِي الْمُثْبِتَةِ لِلصِّفَاتِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَمْثَالِهِمْ، وَنِزَاعُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ الْخَاصَّةِ فِي نَفْيِ ذَلِكَ وَإِثْبَاتِهِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ، لَيْسَ هُوَ نِزَاعًا مَعْنَوِيًّا. وَلِهَذَا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ – كَالتَّمِيمِيِّينَ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي أَوَّلِ قَوْلَيْهِ – تَنْفِيهَا، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى – أَكْثَرُ مِنْهُمْ – تُثْبِتُهَا، وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْ الْقَاضِي)) [منهاجُ السُّنَّة (2/321-322)، تحقيق: مُحمَّد رَشاد سالم، جامعةُ ابن سُعود الإسلاميَّة: 1406 هـ – 1986م] قالَ: ((وَذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ “الْجِهَةِ” قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا هُوَ مَعْدُومٌ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا مَوْجُودَ إِلَّا الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ أَمْرٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ اللَّهِ كَانَ مَخْلُوقًا، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَحْصُرُهُ وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَإِنَّهُ بَائِنٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْجِهَةِ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ، فَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ. فَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ فِي جِهَةٍ؛ إِنْ كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ هُنَاكَ فَوْقَ الْعَالَمِ حَيْثُ انْتَهَتِ الْمَخْلُوقَاتُ، فَهُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ عَالٍ عَلَيْهِ)) [منهاجُ السُّنَّة (2/323)، تحقيق: مُحمَّد رَشاد سالم، جامعةُ ابن سُعود الإسلاميَّة: 1406 هـ – 1986م].
ثمَّ قالَ: ((فَالْأَشْعَرِيُّ وَقُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِجِسْمٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَالْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ كَانُوا يَقُولُونَ بِذَلِكَ)) [منهاجُ السُّنَّة (2/326-327)، تحقيق: مُحمَّد رَشاد سالم، جامعةُ ابن سُعود الإسلاميَّة: 1406 هـ – 1986م].
قالَ الإمامُ محمَّد العَربي بنُ التَّبَّاني في تَعليقه على هذا الكلَامِ التَّيمي: ((فَقَوْلُهُ: (لِلنَّاسِ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْجِهَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ): كَذِبٌ وَلَيْسَ لِلنَّاسِ فِيهَا إِلَّا قَوْلَانِ: الْمُثْبِتُونَ لَهَا وَهُمْ قَلِيلُونَ، وَالنَّافُونَ لَهَا وَهُمْ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالطَّائِفَةُ الْمُفَصِّلَةُ لَهَا هُوَ وَحْدَهُ.
وَقَوْلُهُ: (وَهَذَا النِّزَاعُ مَوْجُودٌ فِي الْمُثْبِتَةِ لِلصِّفَاتِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَأَمْثَالِهِمْ): بُهْتَانٌ عَلَى أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَعَلَى الْمَجْهُولِينَ (أَمْثَالِهِمْ)، وَمَنْ هَؤُلَاءِ الْأَمْثَالُ؟! أَلَا سَمَّى لَنَا وَلَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ إِنْ كَانَ صَادِقًا حَتَّى يُنْظَرَ فِيهِ؟!
وَدَعْوَاهُ أَنَّ النِّزَاعَ بَيْنَ الْمُثْبِتِينَ لَهَا وَالنَّافِينَ لَهَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ: بَاطِلَةٌ؛ بَلْ هُوَ نِزَاعٌ مَعْنَوِيٌّ.
وَإِنِّي أَتَحَدَّى كُلَّ مَنِ افْتُتِنَ وَأُعْجِبَ بِهَذَا الْإِنْسَانِ أَنْ يَنْقُلَ لَنَا تَفْصِيلَهُ هَذَا لِلْجِهَةِ عَنْ أَيِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ الَّذِينَ يُلَبِّسُ بِهِمْ عَلَى الْغَوْغَاءِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: (فَالْأَشْعَرِيُّ وَقُدَمَاءُ أَصْحَابِهِ كَانُوا يَقُولُونَ إِلَى آخِرِ الْهُرَاءِ): بُهْتَانٌ عَلَى الْأَشْعَرِيِّ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ وَعَلَى ابْنِ كُلَّابٍ وَالْمُحَاسِبِيِّ وَالْقَلَانِسِيِّ)) [بَراءةُ الأَشعَريِّين مِن عقائِد المُخالِفين (2/69-70)، ط. دار المصطفى].
2. زعمهُ أنَّ الله تبارك وتعالى بائِنٌ مِن خلقه:
قالَ ابنُ تَيميَّة: ((فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَمَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إِلَّا الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ. وَإِذَا كَانَ الْخَالِقُ بَائِنًا عَنِ الْمَخْلُوقِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ فِي الْمَخْلُوقِ، وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ)) [منهاجُ السُّنَّة (2/556)، تحقيق: مُحمَّد رَشاد سالم، جامعةُ ابن سُعود الإسلاميَّة: 1406 هـ – 1986م].
قالَ الإمامُ محمَّد العَربي بنُ التَّبَّاني في تَعليقه على هذا الكلَامِ التَّيمي: ((قَوْلُهُ: (فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ): فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْبَائِنَ مَعْنَاهُ: الْمُنْفَصِلُ عَنْ خَلْقِهِ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يَجُوزُ عَلَيْهِ الِانْفِصَالُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الِاتِّصَالُ عَقْلًا، فَلَوِ اسْتَظْهَرَ بِجَمِيعِ مُشَبِّهَةِ الْأَرْضِ عَلَى إِثْبَاتِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ عَنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَضْلًا عَنْ إِثْبَاتِهَا عَنِ التَّابِعِينَ، فَضْلًا عَنْ إِثْبَاتِهَا عَنِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَضْلًا عَنْ إِثْبَاتِهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: (وَمَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إِلَّا الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ): كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، وَهُوَ أَنَّ الْخَالِقَ فَوْقَ الْمَخْلُوقِ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: (وَإِذَا كَانَ الْخَالِقُ بَائِنًا عَنِ الْمَخْلُوقِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ فِي الْمَخْلُوقِ): مَعْنَاهُ عِنْدَهُ: وَإِذَا كَانَ الْخَالِقُ مُنْفَصِلًا عَنِ الْمَخْلُوقِ، أَيْ: خَارِجًا عَنْهُ؛ امْتَنَعَ دُخُولُ الْخَالِقِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلَى رَأْيِ أَشْيَاخِهِ الْمُشَبِّهَةِ: خَارِجٌ عَنِ الْعَالَمِ، وَمَا جَازَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ عَنِ الْعَالَمِ جَازَ عَلَيْهِ دُخُولُهُ عَقْلًا.
فَإِنْ قَالُوا: خُرُوجُهُ وَانْفِصَالُهُ تَعَالَى عَنِ الْعَالَمِ وَاجِبٌ لَا جَائِزٌ، قِيلَ لَهُمْ وَمَنْ أَوْجَبَهُ الْعَقْلُ أَوِ الشَّرْعُ؟ فَإِنْ قَالُوا الْعَقْلُ، قِيلَ لَهُمْ كَذَبْتُمْ فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ تَعَالَى خُرُوجَهُ عَنِ الْعَالَمِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ لَهُ تَعَالَى تَنْزِيهَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْحَوَادِثِ.
وَإِنْ قَالُوا الشَّرْعُ، قِيلَ لَهُمْ: قَدِ افْتَرَيْتُمْ عَلَيْهِ، فَلَوِ اسْتَظْهَرْتُمْ بِالثَّقَلَيْنِ عَلَى إِثْبَاتِهِ لَهُ تَعَالَى مِنْهُ لَمْ تَسْتَطِيعُوا، وَقَدْ زَعَمَ الْمُشَبِّهَةُ أَنَّ مَنْ يَعْبُدُ إِلَهًا لَا يَكُونُ دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ يَعْبُدُ إِلَهًا مَعْدُومًا، وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَالُوا أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجٌ عَنْهُ، لِأَنَّ الدُّخُولَ وَالْخُرُوجَ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ، فَقَوْلُ الْمُشَبِّهَةِ أَنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ الْعَالَمِ خَارِجٌ عَنْهُ مُنْطَبِقٌ عَلَى الْحَوَادِثِ قَطْعًا؛ فَهُوَ تَعَالَى عَلَى مَيْنِهِمْ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْمَخْلُوقَاتِ، نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ زَلَقَاتِ اللِّسَانِ وَفَسَادِ الْجَنَانِ.
وَقَوْلُهُ: (وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُتَحَيِّزًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ) فَاسِدٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمُنْفَصِلَ عَنِ الْمَخْلُوقِ لَا يُعْقَلُ بِدُونِ تَحَيُّزٍ)) [بَراءةُ الأَشعَريِّين مِن عقائِد المُخالِفين (2/70-71)، ط. دار المصطفى].
3. زَعمهُ أنَّ الله تبارك وتعالى يُشار إِليه بِرَفعِ الأَيدي في الدُّعاء:
قالَ ابنُ تَيميَّةَ: ((وَإِنْ قَالَ [=الرَّافضي]: يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ مُشَارًا إِلَيْهِ تُرْفَعُ الْأَيْدِي إِلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ، وَتَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، وَعُرِجَ بِمُحَمَّدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسُلَّمَ – إِلَيْهِ، وَتَنْزِلُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِهِ، وَيَنْزِلُ مِنْهُ الْقُرْآنُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ اللَّوَازِمِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا. قِيلَ لَهُ: لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ هَذِهِ اللَّوَازِمِ. فَإِنْ قَالَ: مَا اسْتَلْزَمَ هَذِهِ اللَّوَازِمَ فَهُوَ جِسْمٌ. قِيلَ: إِنْ أَرَدْتَ أَنَّهُ يُسَمَّى جِسْمًا فِي اللُّغَةِ أَوْ فِي الشَّرْعِ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ. وَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّهُ يَكُونُ جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، أَوْ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ، فَهَذَا أَيْضًا مَمْنُوعٌ فِي الْعَقْلِ، فَإِنَّ مَا هُوَ جِسْمٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ – كَالْأَحْجَارِ – لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ، فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِ ذَلِكَ؟! وَتَمَامُ ذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ الْبَحْثِ الْعَقْلِيِّ فِي تَرْكِيبِ الْجِسْمِ الِاصْطِلَاحِيِّ مِنْ هَذَا وَهَذَا، وَقَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ)) [منهاجُ السُّنَّة (2/559-560)، تحقيق: مُحمَّد رَشاد سالم، جامعةُ ابن سُعود الإسلاميَّة: 1406 هـ – 1986م].
علَّق عليه الإمامُ محمَّد العَربي بنُ التَّبَّاني: ((أَقُولُ: الْإِشَارَةُ بِالْيَدِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ حَقِيقَة فِي الْمَحْسُوسَاتِ – أَيِ: الْأَجْسَامِ -، وَلَا أُعَلِّقُ عَلَى هَذَا الْهُرَاءِ وَالْخَبْطِ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَإِنِّي أَكِلُ فَهْمَهُ وَالتَّعْلِيقَ عَلَيْهِ لِلْعُقَلَاءِ)) [بَراءةُ الأَشعَريِّين مِن عقائِد المُخالِفين (2/71)، ط. دار المصطفى].
4. إثباتُ الحَدِّ لله تعالى، وإثباتُه الحَدَّ لِمكان الله تعالى وتقدَّس عن هَذَيانِه هذا:
قالَ ابنُ تَيميَّةَ: ((وَاللهُ تَعَالَى لَهُ حَدٌّ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ!!!، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَوَهَّمَ لِحَدِّه غَايَةً فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنْ نُؤْمِنُ بِالْحَدِّ، ونَكِلُ عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللهِ، ولِمَكَانِهِ أَيْضًا حَدٌّ!!!، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، فَهَذَانِ حَدَّانِ اثْنَانِ!!!)) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (2/57)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة] وكرَّره في عدَّة مواضع من كتبه الأخرى [بيانُ تَلبيس الجَهمِيَّة (2/605-606) – (3/687-688) – (5/164-165)، ط. المجمَّع]، وأصله في النَّقض المنسوب للدَّارمي [نقض أبي سعيد عثمانَ بنِ سعيد على المَرِيسي الجهمي العَنيد (1/223 إلى 224)، مكتبة الرُّشد: الرِّياض].
علَّق عليه الإمامُ محمَّد العَربي بنُ التَّبَّاني: ((أَقُولُ: هَلْ يَتَرَدَّدُ عَاقِلٌ فِي تَجْسِيمِهِ رَبَّهُ فِي هَذَا الْهَذَيَانِ دُفْعَتَيْنِ: إِثْبَاتِهِ الْحَدَّ لِلهِ تَعَالَى وَإِثْبَاتِهِ الْحَدَّ لِمَكَانِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَنْ إِفْكِهِ؟! وَهَلْ يَتَرَدَّدُ عَاقِلٌ فِي خَبْطِهِ وَتَنَاقُضِهِ فِي قَوْلِهِ: (لَهُ حَدٌّ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ – إِلَى قَوْلِهِ – وَلِمَكَانِهِ أَيْضًا حَدٌّ)؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِثْلُ: (لَهُ جِسْمٌ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ)؟! وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى إِثْبَاتِ الْحَدِّ لِلهِ وَالْمَكَانِ لَهُ إِلَّا مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ.
أَمَّا كِتَابُ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ وَالْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا فَهُمْ بَرِيؤُونَ مِنْ هَذَا الْهَذَيَانِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ تَعَالَى حَدٌّ وَلِمَكَانِهِ وَهُوَ الْعَرْشُ حَدٌّ وَهُوَ تَعَالَى جَالِسٌ عَلَيْهِ، وَيُخْلِي مِنْهُ مِقْدَارَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ يُجْلِسُ فِيهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ بِجَانِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَكْرِمَةً لَهُ، وَيَزْعُمُ مَشَايِخُهُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، فَكَيْفَ يَقُولُ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ؟! فَقَدْ عَلِمُوا حَدَّهُ مِنْ جِهَةِ التَّحْتِ وَهُوَ مُمَاسَّتُهُ لِسَطْحِ الْعَرْشِ، وَكَوْنُهُ تَعَالَى أَصْغَرَ مِنَ الْعَرْشِ بِمِقْدَارِ أَرْبَعِ أَصَابِعَ بَلْ وَعَلِمُوا جَانِبَيْهِ الْيَمِينَ وَالشِّمَالَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِمَّا لَمْ يَعْلَمُوهُ مِنْ حَدِّهِ تَعَالَى إِلَّا جِهَةُ الْفَوْقِ فَهِيَ الَّتِي – عَلَى زَعْمِهِ – لَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ زَلَقَاتِ اللِّسَانِ وَفَسَادِ الْجَنَانِ.
وَقَوْلُهُ: (وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ): – أَيْ: جَالِسٌ عَلَيْهِ – وَهَذَا يَنْقُضُ قَوْلَهُ: (فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ)؛ لِأَنَّ الْعَرْشَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَجُلُوسُهُ تَعَالَى عَلَيْهِ – عَلَى مَذْهَبِهِ – يُنَاقِضُ بَيْنُونَتَهُ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: (فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ): لَا يَخْلُو عَنْ أَمْرَيْنِ: إِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ تَعَالَى فَهَذَا مِنَ الْإِخْبَارِ بِالْوَاضِحَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ السَّمَوَاتِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى تَحْتَ الْعَرْشِ لَا جَالِسٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا خَبْطٌ وَتَنَاقُضٌ.
وَقَوْلُهُ: (فَهَذَانِ حَدَّانِ اثْنَانِ): فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ لَهُ تَعَالَى – عَلَى زَعْمِهِ – خَمْسَةُ حُدُودٍ، حَدٌّ لِمَكَانِهِ تَعَالَى وَأَرْبَعَةٌ لَهُ: التَّحْتُ وَالْجَانِبَانِ وَالْفَوْقُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ زَلَقَاتِ اللِّسَانِ وَفَسَادِ الْجَنَانِ)) [بَراءةُ الأَشعَريِّين مِن عقائِد المُخالِفين (2/72-73)، ط. دار المصطفى].
ويُشيرُ الإمامُ بقوله: ((وَيُخْلِي مِنْهُ مِقْدَارَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ يُجْلِسُ فِيهِ نَبِيَّهُ…الخ)) إلى ما ذكره ابنُ تيميَّة في فتاواه وهذا نصُّه: ((حَدَّثَ الْعُلَمَاءُ الْمَرْضِيُّونَ وَأَوْلِيَاؤُهُ الْمَقْبُولُونَ: أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ يُجْلِسُهُ رَبُّهُ عَلَى الْعَرْشِ مَعَهُ!!!)) [مَجْمُوع الفَتَاوَى (4/229)، ط. دَار الوَفَاء] فأنتَ تراه هُنا يُثبت جُلوس ربِّه على العرش وإجلاسه (معه!!!) بجواره حضرة النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم!!! مع أنَّه يدَّعي – كما مرَّ معنا – بأنَّ ربَّه في جِهةٍ عَدَميَّة = “فَوقَ العَرش” ليس هناك إلَّا الله وحده!!!
5. زَعمهُ أنَّ كلَّ أَحدٍ بالله وبِمكانِه أَعلَم منَ الجهميَّةِ – تعالى وتَقدَّس عَنِ افكِه هذا -:
قالَ الإمامُ محمَّد العَربي بنُ التَّبَّاني: ((وَهُوَ فِي قَوْلِهِ: (وَكُلُّ أَحَدٍ بِالله وَبِمَكَانِهِ!!! أَعْلَمُ مِنَ الجَهْمِيَّةِ) [دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ (2/59)، تحقيق: الدُّكتور محُمَّد رَشاد سالم، جامِعةُ محمَّد بن سُعود الإسلاميَّة]: أَفَّاكٌ جَانٍ عَلَى جُمْهُورِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمُرَادُهُ بِالْجَهْمِيَّةِ: الْأَشَاعِرَةُ؛ وَهَذَا إِفْكٌ ثَانٍ وَنَبْزٌ لِطَائِفَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ فُحُولِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ بِرَأْيِ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ، وَجَهْمٌ هَلَكَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَأُقْبِرَ مَعَهُ رَأْيُهُ الْفَاسِدُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَتْبَاعٌ، كَانَ أَقَلَّ وَأَذَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ، فَمَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِ وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ مِنَ النَّبْزِ بِهَذَا اللَّفْظِ، فَالْمُرَادُ بِهِمُ: الْأَشَاعِرَةُ؛ لِأَنَّهُمْ أَفْحَمُوهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ بِدِمَشْقَ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ حُضُورَ مَجَالِسِهِمْ بِالْقَاهِرَةِ فَضْلًا عَنْ مُنَاظَرَتِهِمْ، فَعَدَلَ إِلَى أَسَالِيبَ ظَنَّ أَنَّهُ يُوهِي بِهَا جِبَالَهُمُ الشَّامِخَةَ، كَالتَّكْفِيرِ وَالنَّبْزِ بِالْجَهْمِيَّةِ وَالْإِقْذَاعِ وَأَنْوَاعِ الشَّتْمِ وَإِظْهَارِ التَّنَسُّكِ وَاسْتِمَالَةِ الْأُمَرَاءِ إِلَيْهِ، وَلَا تَرُوجُ هَذِهِ الْأَسَالِيبُ إِلَّا فِي سُوقِ الْغَوْغَاءِ وَأَشْبَاهِهِمْ، وَالْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ كُلُّهَا مَا عَدَا مَشَايِخَهُ الْمُجَسِّمَةَ، تُنَزِّهُ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنِ الْحَدِّ وَالْمَكَانِ، وَتَقُولُ: الْعَجْزُ عَنْ إِدْرَاكِهِ تَعَالَى إِدْرَاكٌ وَالْخَوْضُ فِي ذَاتِهِ إِشْرَاكٌ)) [بَراءةُ الأَشعَريِّين مِن عقائِد المُخالِفين (2/73)، ط. دار المصطفى].
