اعلمْ أخي المسلم أنّ أهْلَ السُّنّة اتّفقوا على أنّ الأمْواتَ المسلمين يَنْتَفِعونَ بدُعاءِ المسلمين واستغفارِهِم لهم، وكذلك قِراءة القرءانِ على القَبْرِ تَنْفَعُ المَيِّتَ، وقدِ اسْتَدلّ أهلُ الحقِّ على جوازِ قِراءةِ القرءانِ على القَبْرِ بحديثِ البُخاريّ ومُسلم الذي فيه أنّ النبيّ وَضَعَ الجَريدَ وهو سَعَف النّخْلِ على قَبْرَيْنِ لِمُسلمَيْنِ يُعذّبانِ وقال: “لعلّهُ يُخفف عَنْهما ما لم يَيْبَسا”. ويُسْتفادُ مِنْ هذا غَرْسُ الأشْجارِ وقِراءةِ القرءانِ على القبورِ، قال النوويّ الشافِعيّ في شَرْحِ صحيحِ مُسلم ما نَصُّه: “واسْتَحَبَّ العُلماءُ قراءةَ القرءانِ عِنْدَ القَبْرِ لِهذا الحديث، لأنّه إذا كان يُرْجى التخْفيف بتَسْبيحِ الجَريدِ فَتِلاوَةِ القرءانِ أوْلى” فإنّ قِراءةَ القرءانِ مِنْ إنسان أعْظمُ وأنْفعُ مِنَ التسْبيحِ مِنْ عُود. وقد روى البُخاريّ في صحيحِه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لِعائِشةَ: “ذاكِ لو كانَ وأنا حيّ فأسْتَغْفِرَ لكِ وأدْعُوَ لكِ” قال الحافظُ ابن حَجَر في شَرْحِ البُخاريّ ما نَصُّه: “ذاكِ بكَسْرِ الكافِ إشارة إلى ما يَسْتَلْزِمُ المَرَض مِن المَوْتِ أي لَوْ مِتِّ وأنا حيّ” وقولُه صلى الله عليه وسلم: “وأدْعُوَ لكِ” يَشْمَلُ الدُعاءَ بأنواعِه، فدخلَ في ذلك دُعاءُ الرَّجُلِ بعدَ قِراءةِ شَىْء مِنَ القرءانِ لإيصالِ الثوابِ لِلمَيّتِ بنَحْوِ قَوْلِ: اللهمّ أوْصِلْ ثوابَ ما قرأت إلى فلان. ومِمّا يَشْهَدُ لِنَفْعِ المَيِّتِ بقِراءةِ غَيْرِه حديث مَعْقِلِ بنِ يَسار: “اقْرَءوا يٰس على مَوْتاكُم” رواهُ أبو داود والنَسائِيّ وابن ماجَه وابن حِبّانَ وهو حديث صحيحٌ عِنْدَ ابنِ حِبّانَ وحَسَن عِنْدَ أبي داود وحَسَّنه الحافِظُ السُيوطيّ أيضا، وحديث: “يٰس قَلْبُ القرءانِ لا يقرؤها رَجُلٌ يُريدُ الله والدَّارَ الآخِرةَ إلا غفِرَ لهُ، واقْرءوها على مَوْتاكُم” رواه أحمد. وقد روى البَيْهَقِيّ في الشعَبِ عَن الصحابيّ الجليل عبدِ الله بنِ عُمرَ رضي الله عنهما قال: سَمِعْت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا ماتَ أحدُكم فلا تَحْبِسوهُ وأسْرِعوا بهِ إلى قَبْرِه ولْيُقْرَأ عِنْدَ رأسِه بفاتحةِ البقرةِ وعِنْدَ رِجْلَيْهِ بخاتِمةِ سُورة البقرة” ورواه الطبَرانيّ كذلك إلاّ أنّه قال: “عِنْدَ رأسِه بفاتحةِ الكِتاب”. وليسَ في قولِه تعالى “وأن لَّيسَ لِلإنسانِ إلاّ ما سعى” دليلٌ على تَحْريمِ قِراءةِ القرءانِ كما تَدَّعي الوهابيَّة أدْعِيَاءُ السلفِيَّة، فالله تعالى لم يَنْفِ انْتِفاعَ الرَّجُلِ بسَعْيِ غَيْرِه، والآية ليسَ فيها أنّ الرَّجُلَ لا يَنْتَفِعُ بسَعْيِ أي عَمَلِ غَيْرِه، وسَعْيُ غَيْرِه مِلْك لِساعيهِ، فإنْ شاءَ يَبْذلُه لِغَيْرِه وإنْ شاء يُبْقيهِ لِنفسِه، وهو سُبْحانهُ لم يَقلْ إنّه لم يَنْتَفِعْ إلاّ بما سعى. وأما حديث مُسلم: “إذا ماتَ الإنسان انقطعَ عنهُ عَمَلُه إلاّ مِن ثلاثة: إلاّ مِنْ صدقةٍ جارِيَةٍ أو عِلْمٍ يُنْتفَعُ بهِ أو وَلَدٍ صالِح يَدْعو له” فمعناه نَفْيُ اسْتِمْرارِ العَمَلِ التكْليفيّ الذي يَتَجَدَّدُ بهِ لِلميّتِ ثوابٌ، أمّا أنْ يَنْتَفِعَ الميّت بعَمَلِ غَيْرِه فليسَ ممنوعًا بدليلِ أنّ الميّتَ يَنْتَفِعُ بدُعاءِ غَيْرِه والصدَقة عَنْه ولو مِن غَيْرِ وَلَدِه، فكذلك ينتفعُ بدُعاءِ قارئِ القرءانِ إذا قال: اللهمّ أوْصِلْ ثوابَ ما قرأته إلى فلان، بإذْنِ الله تعالى. ولْيُعلمْ أنّه لا يجوز تَحْريمُ قِراءةِ القرءانِ على الأمْواتِ المسلمين فإنّ مَنْ حرَّمَ ذلك فهو كافِرٌ قَطْعا.
اعلم أخي المسلم أن علماء المذاهب الأربعة على جواز قراءة القرءان على القبر فقد قال النووي الشافعي في كتاب الأذكار ما نصه: “قال الشافعي والأصحاب: يستحب أن يقرءوا عنده شيئا من القرءان، قالوا: فإن ختموا القرءان كله كان حسنا” وقال أيضا في شرح المهذب ما نصه: “ويستحب أن يَقرأ من القرءان ما تيسر ويدعو لهم عقبها، نصَّ عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب”، وقال في شرح صحيح مسلم ما نصه: “واستحب العلماء قراءة القرءان عند القبر لهذا الحديث، لأنه إذا كان يرجى التخفيف بتسبيح الجريد فتلاوة القرءان أوْلى” ونقل بدر الدين العَيْني الحنفي في شرحه على البخاري المسمى عمدة القاري أن الإمام أبا سليمان الخطابي الشافعي قال عند الكلام على الحديث الذي فيه أن النبي وضع الجريد على قبرين لمسلمين يعذبان ما نصه: “فيه دليل على استحباب تلاوة الكتاب العزيز على القبور لأنه إذا كان يرجى عن الميت التخفيف بتسبيح الشجر فتلاوة القرءان العظيم أعظم رجاء وبركة”، وقال ابن قدامة الحنبلي في كتابه المغني ما نصه: “فصل: ولا بأس بالقراءة عند القبر”، ثم ذكر أن الإمام أحمد رجع عن نهيه القراءة على القبر لما بلغه أثر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه استحسن قراءة القرءان على القبر بعد الدفن. وقال البهوتي الحنبلي في كشاف القناع ممزوجا بالمتن: “ولا تكره القراءة على القبر ولا في المقبرة، بل تستحب”. وقال القرطبي المالكي في كتابه التذكرة ما نصه: “باب ما جاء في قراءة القرءان عند القبر حالة الدفن وبعده وأنه يصل ثواب ما يُقرأ ويُدعى ويُستغفَر له ويُتصدق عليه”. وقال الزيلعي الحنفي في كتابه تبيين الحقائق ما نصه: “باب الحج عن الغير: الأصل في هذا الباب أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره عند أهل السنة والجماعة صلاة كان أو صوما أو حجا أو صدقة أو تلاوة قرءان أو الأذكار إلى غير ذلك من جميع أنواع البِر، ويصل ذلك إلى الميت وينفعه”. وأخيرا نذكر ما قاله ابن تيمية في هذه المسئلة وليس لأنه من أهل السنة الذين يرجع إليهم في معرفة أمور الدين، بل ليكون كلامه حجة في هذه المسئلة على الفرق الوهابية أدعياء السلفية الذين يُشنِّعون على المسلم الذي يقرأ الفاتحة أو شيئا من القرءان ثم يجعل ثواب القراءة لأموات المسلمين ويُبدِّعونه بل يُكفِّرونه، قال ابن تيمية: في فتاويه ما نصه: “من قرأ القرءان مُحتسبا وأهداه إلى الميت نفعه ذلك” وقال: “يصل إلى الميت قراءة أهله وتسبيحهم وتكبيرهم وسائر ذكرهم لله تعالى إذا أهدوه إلى الميت وصل إليه” وقال أيضا: “إن الله تعالى لم يقل: إن الإنسان لا ينتفع إلا بسعي نفسه وإنما قال: “وأن لَّيس للإنسانِ إلا ما سعى” فهو لا يملك إلا سعيه ولا يستحق غير ذلك، وأما سعي غيره فهو له كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه ونفع نفسه هو كذلك للغير لكن إذا تبرع له الغير بذلك جاز وهكذا إذا تبرع له الغير بسعيه نفعه الله بذلك كما ينفعه بدعائه له والصدقة عنه وهو ينتفع بكل ما يصل إليه من كل مسلم سواء كان من أقاربه أو غيرهم كما ينتفع بصلاة المصلين عليه ودعائهم له عند قبره”.
