(الفَوقِيَّة)
قالَ العلَّامة شِهابُ الدِّين ابنُ جَهْبَل (ت: 733 هـ) في ردِّه على ابنِ تَيميَّة: ((وَأَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ﴾ [النَّحل: 50]، وَتِلْكَ أَيْضًا لَا دَلَالَةَ لَهُ فِيهَا عَلَى سَمَاءٍ وَلَا عَرْشٍ، وَلَا أَنَّهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةً.
ثُمَّ الْفَوْقِيَّةُ تَرِدُ لِمَعْنَيَيْنِ:
– أَحَدُهُمَا: نِسْبَةُ جِسْمٌ إِلَى جِسْمٍ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَعْلَى وَالْآخَرُ أَسْفَلَ، بِمَعْنَى أَنَّ أَسْفَلَ الْأَعْلَى مِنْ جَانِبِ رَأْسِ الْأَسْفَلِ، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ مَنْ لَا يُجَسِّمُ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ: فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ﴿مِّن فَوۡقِهِمۡ﴾ صِلَةً لِـ: ﴿يَخَافُونَ﴾، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: “يَخَافُونَ مِنْ فَوْقِهِمْ رَبَّهُم”. أَيْ: أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ، وَأَنَّ الْعَذَابَ يَأْتِي مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ؟!
– وَثَانِيهِمَا: بِمَعْنَى الْمَرْتَبَةِ، كَمَا يُقَالُ: “الْخَلِيفَةُ فَوْقَ السُّلْطَانِ”، وَ”السُّلْطَانُ فَوْقَ الْأَمِيرِ”. وَكَمَا يُقَالُ: “جَلَسَ فُلَانٌ فَوْقَ فُلَانٍ”، وَ “الْعِلْمُ فَوْقَ الْعَمَلِ”، وَ “الصِّبَاغَةُ فَوْقَ الدِّبَاغَةِ”، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى، حَيْثُ قَالَ: ﴿وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٍ دَرَجَٰتٍ﴾ [الزُّخرف: 32]، وَلَمْ يَطْلُعْ أَحَدُهُمْ عَلَى أَكْتَافِ الآخَرِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّا فَوۡقَهُمۡ قَٰهِرُونَ﴾ [الأعراف: 127]، وَمَا رَكِبَتِ القِبْطُ أَكْتَافَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا ظُهُورَهُمْ)) [رسالةٌ في الرَّدِّ على الفتوى الحَمَوِيَّة لابْنِ تَيميَّة – طبقات الشَّافِعيَّة الكُبرى للتَّاج السُّبكي (9/47)، هجر].
قال ربُّنا: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ [البَقرة: 186]، وقال تعالى: ﴿وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِيدِ﴾ [ق: 16] وقال أيضاً: ﴿وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنكُمۡ وَلَٰكِن لَّا تُبۡصِرُونَ﴾ [البَقرة: 85]، وفي الحديث الصَّحيح عند مُسلم وغيره: “أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ”، فلو كان العَرش مكان الله كما يدَّعي التَّيميَّة المجسِّمة؛ لكانَ تعالى أبعد مسافةً مِن كلِّ بعيدٍ عنَّا، وهذا باطلٌ بنَصِّ الكتاب والسُّنَّة.
لَو كان تعالى فَوق العَرش فَوقيَّةً حِسِّيَّةً – كما يزعمُ التَّيميَّة المُجسِّمة -؛ لكان جلَّ وعزَّ مُحيطاً بالعالَم من كلِّ الجوانِب، وحينئذ يكون العالَم في بَطن المَعبود! فكيف يُعقل إذاً أن يكون العرش مكاناً لله تعالى – كما يزعمون – إذا كان ذاته جلَّ وعزَّ نفسه مَكاناً للعرش؟!!! ولو صحَّ هذا الهُراء لصحَّ أيضاً أن يُقال: الجَنينُ: مكانٌ لِأُمِّه؟!!! والقَلب والكَبد والطِّحال والأسنان: أمكنةٌ للإنسان؟!!! أو أن يُقال: الأُمُّ جالسةٌ على جَنينِها؟!!! والإنسان جالِسٌ على قلبه أو كَبده أو طِحاله أو أسنانه؟!!! وهلمَّ جرًّا بِهذا الهذيان.
