قبل الشُّروع في ذكرِ أدلَّةِ أيمَّة الإسلام مِنَ الكتاب والسُّنَّة في مَسألةِ الاستِغاثةِ والاستِشفاعِ والتَّوَسُّلِ بالأنبياءِ والصَّالِحينَ، أجِدُ أنَّه لا بُدَّ مِن لَفتَة تتعلَّق بضابطِ العِبادة الشَّرعيَّة كما جاءَ في نصٍّ مُهمٍّ لابنِ تيميَّة.
– لفتة:
قال ابنُ تيميَّةَ الحرَّانيُّ: ((أَبُو يُوسُفَ [=عليهِما السَّلام] وَإِخْوَتُهُ خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا، وَيُقَالُ: كَانَتْ تَحِيَّتَهُمْ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّ السُّجُودَ حَرَامٌ مُطْلَقًا؟ وَقَدْ كَانَتِ الْبَهَائِمُ تَسْجُدُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ، [وَالْبَهَائِمُ لَا تَعْبُدُ اللَّهَ]. فَكَيْفَ يُقَالُ: يَلْزَمُ مِنَ السُّجُودِ لِشَيْءٍ عِبَادَتُهُ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ: “وَلَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ؛ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا” وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَعْبُدَ…
أَمَّا الْخُضُوعُ وَالْقُنُوتُ بِالْقُلُوبِ وَالِاعْتِرَافُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، فَهَذَا لَا يَكُونُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا لِلَّهِ – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى – وَحْدَهُ، وَهُوَ فِي غَيْرِهِ مُمْتَنِعٌ بَاطِلٌ.
وَأَمَّا السُّجُودُ فَشَرِيعَةٌ مِنَ الشَّرَائِعِ؛ إذْ أَمَرَنَا اللَّهُ – تَعَالَى – أَن نَّسْجُدَ لَهُ، وَلَوْ أَمَرَنَا أَن نَّسْجُدَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ غَيْرِهِ لَسَجَدْنَا لِذَلِكَ الْغَيْرِ – طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ – إذْ أَحَبَّ أَنْ نُعَظِّمَ مَنْ سَجَدْنَا لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيْنَا السُّجُودَ لَمْ يَجِبْ أَلْبَتَّةَ فِعْلُهُ، فَسُجُودُ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةٌ لَهُ، وَقُرْبَةٌ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَيْهِ، وَهُوَ لِآدَمَ تَشْرِيفٌ وَتَكْرِيمٌ وَتَعْظِيمٌ. وَسُجُودُ إخْوَةِ يُوسُفَ لَهُ تَحِيَّةٌ وَسَلَامٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ يُوسُفَ لَوْ سَجَدَ لِأَبَوَيْهِ تَحِيَّةً لَمْ يُكْرَهْ لَهُ.
وَلَمْ يَأْتِ أَنَّ آدَمَ سَجَدَ لِلْمَلَائِكَةِ، بَلْ لَمْ يُؤْمَرْ آدَمَ وَبَنُوهُ بِالسُّجُودِ إلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ – وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ – لِأَنَّهُمْ أَشْرَفُ الْأَنْوَاعِ، وَهُمْ صَالِحُو بَنِي آدَمَ، لَيْسَ فَوْقَهُمْ أَحَدٌ يُحْسَنُ السُّجُودُ لَهُ إلَّا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [مجموع الفتاوى (4/220-221)، ط. دار الوَفاء] وهكذا جاء قوله في المطبوع ((وَالْبَهَائِمُ لَا تَعْبُدُ اللَّهَ)) ولعلَّه ((وَالْبَهَائِمُ لَا تَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ)) والله أعلم.
وبنَفس مَنطق ابنِ تيميَّةَ هنا والَّذي يعكسه قوله هو بنَفسه: ((فَكَيْفَ يُقَالُ: يَلْزَمُ مِنَ السُّجُودِ لِشَيْءٍ عِبَادَتُهُ؟))؛ يُقالُ له ولأتباعه: “فَكَيْفَ يُقَالُ: يَلْزَمُ مِنَ الاستِغاثَةِ والاستِشفاعِ بالأنبياءِ والأولياءِ بعد انتِقالِهم عِبادَتُهم؟!” فلا بُدَّ إذاً من ضابِط ينفصِلُ به الأمر.
وابنُ تيميَّةَ هُنا فرَّقَ بَينَ سُجود العِبادةِ الَّذي لا يُصرَف إلَّا لله تعالى؛ بصفته جلَّ وعلا هو الرَّبُّ المعبودُ المُستَقِلُّ بالخلقِ والإيجادِ والتَّأثيرِ والتَّدبيرِ، وبينَ سُجودِ الملائكةِ لسيِّدنا آدمَ على سبيلِ التَّحيَّةِ والسَّلَامِ لا العِبادة له – عليه السَّلام -، وإن كانَ سُجودهم هذا عِبادة لله مِن حيثُ أنَّهُ طاعة لأمره سُبحانه وتعالى، وإذا كان ربُّنا لا يأمر بالفَحشاء ولا يرضى لعباده الكُفر، فمن غير المعقول أن يأمر – حاشاه تعالى – بعبادة غيره جلَّ وعزَّ عن ذلكَ؟!
ولتنظر في قول ابن تيميَّة السَّابق: ((أَمَّا الْخُضُوعُ وَالْقُنُوتُ بِالْقُلُوبِ وَالِاعْتِرَافُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ؛ فَهَذَا لَا يَكُونُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا لِلَّهِ – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى – وَحْدَهُ، وَهُوَ فِي غَيْرِهِ مُمْتَنِعٌ بَاطِلٌ)) ففيه دليل على اعتماده ضابط النِّيَّة وقصد التَّعبُّد في مسألة العِبادة، فالسُّجود لغير الله تعالى لا يكون شِركاً إلَّا مع خضوع القُلوب واعترافها بالرُّبوبيَّة وَالعُبوديَّة لغير الله تعالى، وبهذا ينفصل سُجود الملائكة لآدم – طاعةً لله – عن سُجود المشركين لأصنامهم – عبادةً لغيره تعالى -.
وَقال ابنُ تيميَّة أيضاً في مسأَلة الأسبابِ والمُسَبّباتِ: ((فَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ: إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأُمُورَ عِنْدَهَا لَا بِهَا، فَعِبَارَتُهُ مُخَالِفَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَالْأُمُورِ الْمَشْهُودَةِ!!! كَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِالْفِعْلِ، هُوَ مُشْرِكٌ مُخَالِفٌ الْعَقْلَ وَالدِّينَ)) [مَجموع الفتاوى (35/103)، ط. دار الوَفاء] وبغضِّ النَّظر عن قول ابن تيميَّة هنا ببدعةِ القُوَّة المودعة في الأشياء أي: العِلَّة الأرسطاطاليسيَّة؛ ولكن ما يهمُّنا في هذا النَّصِّ هو أنَّه قد أناطَ الشِّرك باعتقاد استِقلاليَّة المخلوق بالفِعل والتَّأثير.
ولكن الحرَّاني – وللأسف – قد تَعامى بالكُلِّيَّة عن هذا الأصل الأصيل لمَّا تعلَّقَ الأمر بالكلام على حُكمِ الاستِغاثةِ والاستِشفاعِ والتَّوَسُّلِ بالأنبياءِ والصَّالحين!
نعم؛ فقد قال ابنُ تيميَّة: ((فَإِنَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ لِأُمَّتِهِ أَنْ يَدْعُوَ أَحَدًا مِنَ الْأَمْوَاتِ – لَا الْأَنْبِيَاءَ وَلَا الصَّالِحِينَ وَلَا غَيْرَهُمْ -، لَا بِلَفْظِ الِاسْتِغَاثَةِ وَلَا بِغَيْرِهَا، وَلَا بِلَفْظِ الِاسْتِعَاذَةِ وَلَا بِغَيْرِهَا، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَشْرَعْ لِأُمَّتِهِ السُّجُودَ لِمَيِّتٍ وَلَا إِلَى مَيِّتٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، بَلْ نَعْلَمُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ!!! الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ!!!
لَكِنْ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الْعِلْمِ بِآثَارِ الرِّسَالَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ لَمْ يُمْكِنْ تَكْفِيرُهُمْ!!! بِذَلِكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِمَّا يُخَالِفُهُ، وَلِهَذَا مَا بَيَّنْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَطُّ لِمَنْ يَعْرِفُ أَصْلَ الدِّينِ إِلَّا تَفَطَّنَ؛ وَقَالَ: هَذَا أَصْلُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ مِنَ الشُّيُوخِ الْعَارِفِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ: هَذَا أَعْظَمُ مَا بَيَّنْتَهُ لَنَا؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ هَذَا أَصْلُ الدِّينِ)) [الاستغاثة في الرَّدِّ على البِكري (ص: 411-412)، مكتبةُ دار المِنهاج: السُّعوديَّة] هكذا بلا تَفريق بين دُعاء العِبادة الَّذي لَا يُصرف إلَّا لله تعالى، ودُعاء المسألة إذا صُرف إلى المخلوق على سبيل السَّبَبِيَّة مع اعتِقاد أنَّ الله هو الفاعل المختار لا غيره! فلماذا أهملَ هُنا ابنُ تيميَّةَ ضابط النِّيَّة في حين أعمَله في مَسألةِ السُّجود لغير الله تعالى؟! وأين الشِّرك هُنا؟! وأين ذَهب ربطه الشِّرك باعتِقاد استِقلاليَّة المخلوق بالفِعل والتَّأثير؟!
وقال الحرَّانيُّ أيضاً: ((فَمَنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَسَائِطَ يَدْعُوهُمْ، وَيَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ، وَيَسْأَلُهُمْ جَلْبَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعَ الْمَضَارِّ، مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَهُمْ غُفْرَانَ الذَّنْبِ، وَهِدَايَةَ الْقُلُوبِ، وَتَفْرِيجَ الْكُرُوبِ، وَسَدَّ الفَاقَاتِ: فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ!!!)) [مَجموع الفتاوى (1/95)، ط. دار الوَفاء] هكذا بلا زِمام ولا خِطام!
وبهذا يكون الحرَّاني قد حكم بكُفر كبار أئمَّة الإسلام وعلى رأسهم شيخ مذهبه الإمام أحمد بن حنبل نفسه!
نعم؛ فقَد قال الإمامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: ((حَجَجْتُ خَمْسَ حِجَجٍ، مِنْهَا: ثِنْتَيْنِ رَاكِبًا وَثَلَاثًا مَاشِيًا، أَوْ ثِنْتَيْنِ: مَاشِيًا وَثَلَاثًا رَاكِبًا، فَضَلَلْتُ الطَّرِيقَ فِي حَجَّةٍ، وَكُنْتُ مَاشِيًا، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: يَا عِبَادَ اللَّهِ دُلُّونَا عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمْ أَزَلْ أَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى وَقَعْتُ عَلَى الطَّرِيقِ، أَوْ كَمَا قَالَ أَبِي)) [مَسَائِلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ – رِوَايَةُ ابْنِهِ عَبْدِ الله (2/816-817) رَقم (1090)، مكتبة الدَّار] وذَكَرَهُ أيضًا الفقيهُ ابْنُ المُفْلِح المَقْدِسِي الْحَنبَلي تحتَ: “فَصْلٌ فِيمَا يَقُولُ مَنِ انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ أَوْ ضَلَّ الطَّرِيقَ” [الآداب الشَّرعيَّة (1/457-458)، ط. مؤسَّسة الرِّسالة].
فَهَا هُوَ الإِمامُ أَحمدُ يَسْتَغِيثُ وَيَطْلُبُ الِاستِعَانَةَ مِن مَّخْلُوقَاتٍ غَيرِ مَرْئيَّةٍ، غَائِبَةٍ عَلَيْهِ، كَالْمَلَائِكَةِ أَوْ صَالِحِي الْجِنِّ، أَوْ أَرْوَاحِ الصَّالِحِينَ فَهِيَ: أَجْسَامٌ نُورَانِيَّةٌ ثَبَتُ أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى التَّسَبُّبِ بِإِذْنِ رَبِّهَا كَمَا تَجِدْهُ فِي كِتَابِ “الرُّوح” لابْنِ القَيِّمِ، وَفِي حَدِيثِ “المِعراجِ” المَعْرُوفِ ما يدلُّ عَلَى هذَا.
فهذا يا عبد الله جزاء مَن يتنكَّب منهج أيمَّة الإسلام، ويَتعامى عن ضابطِ العِبادة الشَّرعيَّة عند تحرير الحُكم الشَّرعي المتعلِّق بمثل هذه المسائل الخطيرة، فيؤول به الأمر – كما ترى – إلى تَكفير كِبار عُلماءِ أمَّة الإسلام – سلَفاً وخلَفاً – فضلًا عنِ السَّواد الأعظم مِن أُمَّة التَّوحيد المرحومة!
بل إنَّ ابن تَيميَّة نفسه قال: ((“فَصْلٌ في الدَّابَّةِ تَنفَلِتُ”: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ قَالَ: “إِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، فَلْيُنَادِ: يَا عِبَادَ اللَّهِ احْبِسُوا، يَا عَبَادَ اللَّهِ احْبِسُوا، فَإِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْضِ حَاضِرًا سَيَحْبِسُهُ”)) [الكَلِمُ الطَّيِّب (ص: 109)، مكتبةُ دار البيان: دمشق] وهذا فيه نداء للغائِب كالملائِكة أو صالحي الجِنِّ أو أرواح الصَّالِحين المُرسلة.
فَأينَ ابنُ تَيميَّة من صنيع إمام مذهبه أحمد بن حنبل؟! بل وأين هو ممَّا قرَّره هو بنفسه في كتابه “الكَلِم الطَّيِّب”؟!
وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد بسط لمذهب الرَّجل في مسألة الاستِغاثة ودُعاء الغائِب، وبيان مدى تباين تقريراته فيها.
يُتبع..
السَّابق: https://web.facebook.com/share/p/ZuZprt9xMNh8BJ6M/
