المقالةُ السَّابعة للعلَّامة يُوسُف الدِّجويِّ، بعنوان “تَوحِيدُ الأُلوهِيَّةِ – وتَوحيد الرُّبوبيَّةِ” أيضاً:
قال: ((تفرَّق قومُنا مِن غير شيءٍ فحلَّ بِقومِنا وبِنا البلَاءُ
كتبنا في هذا الموضوع في العَدد الماضي، ونَكتبُ فيه اليوم، ولعلَّنا نكتبُ فيه غداً. وإنَّما نُريد بذلكَ كُلّه الدِّفاع عن سماحة الإسلامِ، غيرَةً عليه من تلكَ الطَّائفةِ الَّتي جَعَلتهُ حرباً لا سلاماً. ولو كان كما زعموا لم يكُن دين الرَّحمةِ والمحبَّةِ والحِكمةِ، ولا دين الأُممِ كلِّها، بل كانَ دين الخِصامِ والانقسامِ، والنَّارِ والدَّمارِ، ولَم يصلُح إلَّا لقَومٍ جامدينَ، وطائفةٍ مخصوصينَ.
ولسنا نُريدُ بكلِّ ما نكتبُ في هذا الموضوعِ غَير ألَّا يتنازَع المسلمونَ، ولا ينقَسم بَعضهم على بعضٍ، مِن أجل أَشياء يقع فيها الخِلاف، ويتبايَن فيها الرَّأي. فيجبُ على أُولئكَ المُكَفِّرينَ للمُسلمينَ أن يحترِموا رأيَ غَيرهم، ولا نُريدُ منهم أن يتَّبعوا غيرهم، بل أَن يتركُوهم أحراراً كما أنَّهم أحرارٌ، وأن يُقيموا لأولئكَ العُلماءِ من أئمَّةِ الهُدى وَزناً، فَلَهم مَنطِقٌ سليمٌ، ونَظَرٌ مُستقيمٌ، وسلَفٌ صالِحٌ. وينبغي أن يعرِفوا أنَّ كلَّ ما هو مَحَلٌّ للنَّظَر ومَوضعٌ للاجتِهادِ، يجِب أن لَّا يَتنازَع فيه النَّاس، فالأمرُ واسعٌ. فكَم اختَلَفَ الصَّحابَةُ والتَّابعونَ وتَابِعوهُم، مع محبَّة بعضهم بعضاً، حتَّى قاسمَ الإمام مالِك الإمام الشَّافِعي ماله مِراراً، وقد خالَفه في أشياء كثيرة وهو تلميذه. وقد قالوا: إنَّ المُنكَرَ لا يَجبُ إنكارهُ إلَّا إذا كانَ مُجمَعاً على إنكارِه. فكيفَ بالكُفرِ الَّذي جَاءَ في الحدِيثِ الصَّحيح أنَّ أَحَدهُما يبُوء بهِ؟! وكيفَ بالقَتلِ الَّذي يستَبيحُه هؤلاءِ؟!
وقد أنكرَ صلَّى الله عليهِ [وَآلِه] وسلَّم على أُسامةَ حينَ قَتَلَ مَن قالَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ – تَقِيَّةً في نَظرِ أُسامَةَ – ولَم يقبَل منهُ ذلكَ العُذر، ولا رَضِيَ منه هذا التَّأويل. وإنِّي أُكرِّر عُجبي منهُم كيفَ يُلزمونَ غَيرهم باتِّباعِهم وهو يُنادِي بِخَطئِهِم، ويُقيم البُرهانَ منَ الكتابِ والسُّنَّة والعَقل والنَّقل على ذلك؟! وهل هذه إلَّا رُتبَة المعصوم الَّذي يَجب على النَّاس أن يَتَّبعوه ولا يُخالِفوهُ؟! فهل هُم مَعصومونَ حتَّى لا يجوز أَن يُخالِفَهم بحالٍ منَ الأحوالِ؟! بل نتنزَّل قليلًا، ونقول لهم: أَفتُوجِبُونَ علَينا التَّقليد وأنتُم تُحرِّمونَ التَّقليد، أم تُلزِمونَنا أن نَّتَبِعَكُم ونحنُ مُجتَهدونَ كما أنَّكم مُجتَهدونَ؟!
وإنَّا نَسأَلهم: هل كانَ الصَّحابةُ والتَّابِعونَ يُقسِّمونَ التَّوحيدَ إلى تَوحيد الأُلوهِيَّة والرُّبوبيَّة، ويَدْعُونَ النَّاسَ لذلكَ؟ الجوابُ: أنَّه لَم يُسمَع ذلكَ عن أحدٍ منهم، فلماذا لا يَسَعنا ما وَسعَهم؟!
وإنَّ علامات الرَّاسخينَ في العِلمِ أن يَحتَرموا كلامَ الأئمَّةِ، وما دَرَجَت عليه الأُمَّة. أمَّا إِمامهُم ابن تيميَّةَ فلَم يَسلَم مِنه أحدٌ، حتَّى أبو بَكر وَعُمَرَ، وعَلِيُّ وفاطِمةُ. ولا يَسَعنا تفصيل ذلكَ الآن.
ومن علاماتِ الرَّاسخينَ في العِلم أيضاً أن تَراهُم مَيَّالينَ دائماً إلى اليُسرِ والسُّهولَةِ، عِلماً بسماحة الإسلامِ، وأنَّه يُسرٌ لا عُسرَ فيه؛ وعملًا بما كان عليه صلَّى الله عليهِ [وآلِهِ] وسلَّمَ مع المُسلِمينَ؛ وأنَّهم لا يُنكِرونَ إلَّا ما أُجمِعَ على إنكارِه، [لَا] مَا اختُلِفَ فِيه، كما كانَ حال أئمَّة الهُدى بعضهم مع بَعضٍ؛ وأنَّ كلَّ ما كام مَحلًّا للاجتِهادِ والنَّظَرِ كانَ الأمرُ فيه واسِعاً، مُتَمسِّكينَ في ذلكَ بأنَّ المُجتَهِدَ إذا أخطأَ كان له أجرٌ، وإذا أصابَ كان له أجرانِ، كما في الصَّحيحِ.
ومِن علاماتِهم أنَّهم لا يُقدِّسونَ أَنفُسَهم، ولا يَحتَقِرونَ غَيرَهم، عِلماً مِنهُم أنَّهم غير مَعصومينَ ولا مُقدَّسين، فلا يُوجِبونَ على غَيرِهم أن يَرجعَ إلى رأيِهم، ولا يَفرضونَ طاعَتهم على النَّاس فَرضاً، كما فعلَ الخَوارِجُ فيما مضى، وكما يفعلونَ الآن.
وَمن علاما تِهم أنَّهم يُجادِلونَ غَيرَهم بالَّتي هي أَحسَن، وأنَّ الحقَّ إذا ظَهرَ على يَدِ غَيرهم اتَّبعوه، كما هو مَعروفٌ مِن سِيرَةِ السَّلَف الصَّالِحِ. أمَّا أربابُ الأهواءِ، فهم على العكس من ذلكَ كلِّه، وإن صاموا وصلُّوا، وعَملوا من ظَواهِر العِباداتِ ما يَحقِر أحَدنا صلاتَه مع صلاتِهم، وصيامَه مع صيامِهم.
وقد أخبَرنا صلَّى الله عليهِ [وآلِهِ] وسلَّمَ أنَّهم يَدْعُونَ إلى كِتابِ الله وليسوا منهُ في شيءٍ، وأنَّهم تَتَجارَى بِهم الأهواءُ كما يَتَجارى الكَلَب بصاحبهِ، لا يبقى منهُ عِرْقٌ ولا مَفْصِلٌ إلَّا دخلَ فيه. وكأنَّه صلَّى الله عليهِ [وآلِهِ] وسلَّمَ يُحذِّرُنا مِن مُخالَطتهم، مخافَةَ أن يَسريَ إلينا دَاؤُهم كما يَسري الكَلَب الَّذي يَسرع انتقالُه ويَعسُر شِفاؤُه. فجزاه الله عنَّا أفضَل ما جازى نبِيًّا عن أُمَّته.
ولا تكادُ تَجِد لواحِدٍ منهُم شيئًا يَروقُك من علمٍ أو عملٍ إلَّا وَجَدتَ بجانِبه ما يُفسِده ويَربو عليه. وسرُّ ذلك أنَّهم يَتَّبعونَ الهوى، فهو معَهم حَيثُما كانوا، ومَن كانَ تابِعاً لِهَواهُ فلا بُدَّ أن يَضِلَّ عن سبيلِ الله. وعلامةُ الإيمان الصَّحيح، بل علَامَةُ العَقل الصَّحيح، أن يَتَّهمَ المرءُ نَفسَه، ويَرجعَ إلى ما عليه الأُمَّة المعصومَة الَّتي شَهِد لها صلَّى الله عليهِ [وآلِهِ] وسلَّمَ أنَّها لا تَجتَمعُ على ضلَالَةٍ. وأكثَر ما نَجد هذه النَّزعَة الَّتي لا تَحتَرم إلَّا عقلَها، ولا تُقدِّس إِلَّا هواها، ولا تُبالي بالتَّضليلِ والتَّكفيرِ – أكثَر ما نَجدها في الخَوارِج الَّذينَ هُم أضَرّ على الإسلامِ والمسلمينَ مِن كلِّ شيءٍ، بنصِّ الحديثِ الصَّحيح الَّذي يقول فيه: ”إنَّهُم شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ”، ويقول في تَصَلُّبِهم فيما أُشرِبوا مِن حُبِّ الهوى: “إنَّهم لا يَعودونَ إلى الإسلَامِ حتَّى يَعود السَّهمُ إلى فُوقه”، أي: مع كَون أحدنا يَحقِر صلاتَه معَ صلاتِهم الخ. ولا بِدع في ذلكَ، فإنَّ للأحبارِ والرُّهبانِ منَ التَّقشُّف والزُّهد في الدُّنيا والبُعدِ عن زَخَارِفِها وأنواع المُجاهداتِ ما لا يتَّفق لكثيرٍ من أفاضِل المسلمين، ومع ذلكَ لَم يُغْنِ عَنهُم شَيئًا ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر: 8] والله يتَولَّى هُدى الجَميع.
وإنِّي أَعجَب لتَفريقِهم بَينَ تَوحيدِ الأُلوهيَّة والرُّبوبِيَّة، وجَعل المُشركينَ مُوحِّدينَ تَوحيدَ الرُّبوبيَّة معَ قولهِ تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التَّوبة: 31]! وهل المُراد منَ الأربابِ في الآيةِ إلَّا المَعبودونَ؟! إلى آخر ما ذكرناهُ في مقالِنا السَّابق مِن تَفنيد تلكَ الدَّعوى الَّتي ابتَدَعوها، فإنَّنا لَم نَسمَع أنَّ أحداً سَمَّى المُشرِكينَ مُوَحِّدينَ غَير ابنِ تيميَّةَ وابنِ عَبدِ الوهَّاب.
والخلاصة الَّتي نُريدها من ذلكَ كلِّه: أنَّ الَّذي يَجبُ على كلِّ مَن يَحتاطُ لدينِه ونَفسِه هو الاحتِرازُ عن التَّكفيرِ ما وَجدَ إليهِ سبيلًا، فإنَّ استِباحةَ دِماء المُسلمينَ المُصلِّينَ المُقِرِّينَ بالتَّوحيدِ خَطأ لا يُماثِله شيءٌ، فإنَّ الخطأَ في تَركِ ألف كافِر في الحياةِ أهوَن منَ الخَطأِ في سفكِ دَم مُسلمٍ واحدٍ، كما قالَه حُجَّة الإسلامِ الغزالي وغيره.
ولا بُدَّ أن نُّنَبِّهَ هنا على أنَّ الشِّركَ والكُفرَ لا بُدَّ أن يَكونَ مَعقولَ المعنى. ولا أدري كيف يُكَفِّرون بالاستغاثةِ ونَحوِها؛ فإنَّ المُستَغيثَ إِن كان طالِبًا منَ اللهِ بِكرامةِ هذا الميِّت لَديه، فالأَمرُ واضحٌ، وإن كان طالِبًا مِنَ الوَليِّ نَفسه، فإنَّما يَطلُب مِنهُ على اعتِقادِ أنَّ الله أَعطاهُ قُوَّة رُوحانِيَّة تُشبِه قُوَّة الملائِكةِ؛ فهوَ يَفعَل بِها بإذنِ الله، فهل في ذلكَ تَأليهٌ له؟ ولَو فَرَضنا جَدَلًا أنَّنا مُخطِئُونَ في ذلكَ، لَم يكُن فيهِ شِركٌ ولَا كُفرٌ، بَل نَكون كَمَن طَلَب مِنَ المُقْعَدِ المَعُونَةَ مُعتَقِداً أنَّه صَحيحٌ غَير مُقْعَدٍ، مَع أنَّ عَملَ الأَرواحِ ومَواهِبَ الأنبياءِ والأَولياءِ ثَابتَةٌ في الدَّلائلِ القَطعِيَّةِ، على الرَّغم مِن أُنوفِهم.
وصَفوَة القَول أنَّنا نَقول: هؤلاءِ المُستَغيثونَ يَعتَقِدونَ أنَّ اللهَ أَعطى هؤُلاء الأَولياء مَواهِب لَم يُعطِها لِغَيرِهم، وذلكَ جائِزٌ لَا يُمكِنُهم مَنعهُ. وهُم يقولونَ: “إِنَّهُم اعتَقدُوا فِيهِم الأُلوهِيَّةَ!”، مع أنَّ ذلكَ لا يقُولُ به أَحدٌ، إلَّا عندَ مَن أساءَ الظَّنَّ بِالمسلِمينَ ظُلماً وعِناداً. ولَو فَرَضنا أنَّ ذلكَ مَشكُوكٌ فيه، فَهل يَجُوز التَّكفيرُ والقَتلُ بِمُجرَّد الشَّك؟!
فالاستِغاثَةُ مَبنِيَّةٌ عِندَنا على أنَّ الأَنبياءَ والأَولياءَ أَحياءٌ في قُبورِهم كالشُّهداءِ، بل أَعلَى مِنَ الشُّهداءِ، ويُمكِنُهم أَن يَدْعُوا اللهَ تعالى لِلمُستَغيثِ بِهِم، بل يُمكِنُهم أَن يُعاوِنُوه بِأَنفُسِهم كما تُعاوِنُ الملَائكةُ بَني آدَمَ. وللأَرواحِ تَصَرُّفٌ كَبيرٌ فِي البَرزخِ. وعلى ذلكَ دَلائِل كثِيرة أَطنبَ فيها ابنُ القَيِّم، وهُو مِن أئِمَّة هؤلاءِ. وأَثبتَ ابنُ تَيميَّةَ سَماعَ الأَمواتِ ورَدّهم السَّلام في فَتاويه وغيرِها، مُستنِداً إلى الأحاديثِ الصَّحيحةِ في ذلكَ، وذَكرَ سماع سَعيد بنِ المُسيِّب الأذانَ مِن قَبرِه صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم أيَّام الحَرَّة فِي كُتُبِه. فإذا استَغَاثَ بِهم كان كَمَن يَستَغيثُ بِالحَيِّ سَواء بِسواءٍ؛ لأَنَّهُم عِندَنا أَحيَاءٌ، بل أَعظَم نُفوذاً، وأَوسَع تَصَرُّفاً مِنَ الأَحياءِ.
ولو تَنزَّلنا غايةَ التَّنَزُّل، وفَرَضنا أنَّنا مُخطِئونَ في ذلكَ، لَم يكُن هُناك وَجهٌ للتَّكفير. وإنَّما يُقال لِلمُستَغيثينَ: إنَّكُم أَخطَأْتُم في ذلكَ، فإنَّهُم لَيسوا أَحياءً ولَا قادِرينَ، على ما سَبقَ لنا.
فإذًا يكُون الخِلاف بَينَنا وبَينَهم مَبنِيًّا على أنَّ الأمواتَ يَسمَعونَ ويَعقِلونَ ويَدْعُونَ، أم هُم كالجَمادِ لَا يَستَطيعونَ شيئًا مِن ذلكَ؟ فنَحنُ نَقول بالأَوَّل، مُستَنِدين في ذلكَ إلى الكِتابِ والسُّنَّةِ، والأَخبارِ المُتَواتِرة عَن كراماتِ الأَولياءِ، ومَرائي الصَّالحينَ، وبَركاتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم الَّتي حَصَلَت لِلمُستَغيثينَ بِه، والاستِشفَاع بهِ عِندَ زِيارَتِه صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم. وقَد نَصَّت على ذلكَ كُتُبُ المَذاهِب الأَربعَة، حتَّى الحنَابِلة عِند ذِكر آدابِ الزِّيارةِ لهُ صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم .وهُم يَقولونَ بالثَّاني، وأنَّ الأَمواتَ قَد دخلُوا في عالَم العَدَم، كما يقولُ المادِّيُّونَ .وعندَما تُحرجِهُم بِالبراهينِ القَاطعةِ يقُولونَ: إنَّهُم أَحياءٌ، ولكنَّهُم مَشغُولونَ بِالعذابِ أوِ النَّعِيم!
وهذا كلَامٌ خَيالِي، ولا نَقُول خطابِي، فإنَّه أَقَلّ من ذلكَ. وأَكبَرُ ظنِّي أنَّهُم يَقولونَه بِأَلسِنَتِهم ولَيس في قُلوبِهم. ولَيس هذا مَحَلّ شَرح ذلكَ، فإنَّ المُتَنَعِّمَ حُرٌّ مُختارٌ، ولَا يُنافي نَعيمه أنَّه يَدعُو الله لأَحَدِ المسلِمينَ، بل قَد يَرى مِن نَعيمِه أَن يُساعِد ابنَهُ أَو مُحِبَّه ِبما يَقدِر عَليه. والدَّلائلُ على ذلك مُتَواتِرة مُستَفيضَة، خُصوصاً المَرَائي في ذلكَ، كحديثِ بِلال بنِ الحارِث الصَّحابي – رَضيَ الله عنه – المذكُور عندَ البَيهقِي وابنِ أَبي شَيبَةَ، وفِيه: أنَّه جاءَ قَبرَه صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم وقالَ: يا رَسولَ اللهِ اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ – أَي: ادْعُ الله لَهُم -، فجاءَهُ فِي المَنامِ وقالَ: “بَشِّرْ عُمرَ أَنَّهُم سَيُسْقَونَ، وقُل لهُ: عَلَيْكَ الكَيسَ الكَيسَ”. ورُؤيته صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم جَعفراً ذَا الجَنَاحَين يَطيرُ معَ الملائِكةِ يُبَشِّرونَ أَهل بَيتهِ بِالمَطَر. وهو في “المُستَدرَك” وغَيرِه بألفاظٍ مُختَلِفة. وكرُؤيةِ أُمِّ سَلَمَةَ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم وإخباره إيَّاها بِقَتلِ الحُسَين، وهُو في “المُسنَد” وغَيرِه.
ويكفي في ذلك مُحاجَّة آدَم لِمُوسى علَيه السَّلام، وما رأَى صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم لَيلَة الإسراءِ مِنَ الحَوادثِ الكثِيرَة، خُصوصاً مُراجَعَة مُوسى في أَمرِ الصَّلاةِ، وكفالَة إِبراهيم لأَطفالِ المُؤمِنينَ. وانظُر كيفَ رأى مُوسى يُصَلِّي في قَبرِه، ثُمَّ رآهُ فِي السَّمَاءِ السَّادِسةِ وبِبَيتِ المَقْدِس مَعَ الأَنبِياءِ. وأَيُّ استِبعادٍ في ذلكَ؟! وقَد قُلنا: إنَّ لَهُم حالَة مَلَكِيَّة لَا تُقاس على أَحوالِنا.
وإنَّك لتَعرف أنَّ عِزرائِيلَ – علَيه السَّلام – لَا يَشغَله قَبض عن قَبض، والقَبضُ لا يشغَله عن العِبادةِ طرفَة عَينٍ. على أنَّ حالَ البَرزخ بِخلاف حال الدُّنيا. وقد قالَ أبو الطَّيِّب المتَنَبِّي ما يُفيد هذا المعنى وإن لم يكن مِمَّا نحنُ فيه:
وكَالبَدْرِ مِن حَيْثُ التَفَتَّ رَأَيتَهُ يُهْدِي إِلَى عَيْنَيْكَ نُورًا ثَاقِبًا
“ولِكلِّ عالَم نَواميسَ تخُصُّه. ومِن الغَلط البَيِّن الحُكم على عالَم بأحكامِ عالَم آخر”. وقَد نَهى عُمَرُ عَن رَفع الصَّوت في مَسجِد رسولِ الله صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم. ونَهى الإمامُ مالِك المنصُورَ عن رَفعِ صَوتِه كذلك. ونَهَت السَّيِّدةُ عائِشَة عَن دقِّ الوَتَد بالدُّور المُجاوِرة للحُجرَةِ الشَّريفةِ مَخافَة أن يَتَأذَّى رَسول الله صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم. وقد كانَت تَدخُل مَشدُوداً علَيها إزَارها بَعد دَفنِ عُمَرَ، حَياءً مِن عُمَرَ. إلى غَير ذلكَ مِمَّا هُو مَعروفٌ في كُتُب السُّنَن والآثارِ.
فَلَو كانُوا مُنقَطِعينَ عَن هذا العالَم تَمَامَ الانقِطاع على ما يقُول هَؤلاءِ، لَم يَكُن لذلكَ مَعنى، خُصوصاً مَا هُو خارِج عن المَعقُول فِي العادةِ، كَعَرضِ الأَعمالِ عَلَيه، واستِغفَارِه لنا صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم، ورَدِّ السَّلام على كُلِّ مَن يُسلِّمُ عَلَيه، وهُو ثابِتٌ لا مِراءَ فِيه. وقَد كتَبنا فِيه في العام الماضي.
وقد نَهى صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم عَن أَذِيَّة المَيِّت، وكَسرِ عَظَمِه، والجُلوسِ على قَبرِه، مَخافةَ تَأَذِّيهِ. إلى غيرِ ذلك، وهُو كَثِيرٌ. ولَا يُمكِنُنا في هذه العُجالَة إلَّا أَن نُلمِعَ إليه، ونَدُلَّ على ما وراءَه، ولا نزال نُكرِّر أنَّه إذا لَم يكُن في هذا إلَّا ما كانَ في حديثِ المِعرَاج: مِن أَسَف سيِّدنا مُوسى على بني إسرائِيلَ، ومُراجَعة النَّبي في أَمرِ الصَّلاة، واجتِماع الأَنبياء فِي بَيت المَقدِس، وخطبهم، لكفَى.
وقد ذكرَ ابنُ القَيِّم في كِتابِ “الرُّوح” حديثَ مُذاكرَة الأَنبياءِ في أَمرِ السَّاعةِ، وأنَّه إذا جاءَ عيسى – عَلَيه السَّلام – كانَت كالحَامِل المتِمّ فَلو كانَت الأَرواح على ما يَقولونَ لَم يَكُن لِهذا مَعنًى. ومعَ كُلِّ هذا نُسلِّم لَهُم صِحَّة ما يقولون، ونَفرض أنَّنا نَحنُ المُخطِئُون، فَهل يُوجِب ذلك شِركاً أَو كُفراً؟ وقَد قُلتُ لِبعضِ أَذكياءِ العَامَّةِ في المَولِد الحُسَينِي – وقَد قالَ: “يا رَسولَ الله” -: إنَّ الوَهَّابِيَّةَ يُكَفِّرونَكَ بِقَولِكَ: “يَا رَسولَ الله”، كمَا في “الهَدِيَّة السُّنِّيَّة” وغَيرِها، فقالَ: “إِن كُنَّا نَقولُ يَا رسولَ الله على مَا نُريدُ، فَلَا مَعنَى لِلكُفْرِ؛ وإنْ كُنَّا نَقُولُهُ علَى مَا يُريدونَ مِن تَأليهِ الرَّسولِ، فنَحنُ كُفَّارٌ”. فأَعجبَنِي هذا مِنهُ، فقُلتُ له: وهلَ يَسمَعُك وأنتَ هُنا وهُو بِالمَدينَةِ؟ فَلَم يُجِب جَواباً شَافياً.
ونَحنُ نَقول: إنَّ هذا الاستِبعادَ مَنشَؤُه قِياس الغَائِبِ على الشَّاهِدِ، وقَد عَرفنا أنَّ سمعَ الأَجسامِ لا يَصِل إلَّا إلى مَسافَةٍ مَحدُودةٍ ضَئيلةٍ، ولكن هل عَرَفنا المسافَةَ الَّتي يَصِل إِلَيها سمع الأَرواحِ، وماذا أُعطِيَت مِن ذلكَ؟ وكيفَ نُدركُ أنَّ عُمَرَ وهُو بِالمَدينَةِ أَسمَعَ سارِيَةَ وهُو “بِنَهاوَنْدَ” مِن أَرضِ العَجَم؟ وأُسُّ الغَلَط في هذا وأَمثاله: أنَّنا نُعطي أَحكام العَوالِم المُختلفَة بَعضها لِبعضٍ، مع أنَّ لكلِّ عالَمٍ أحكامًا تَخصُّه، ونَواميسَ ليست لغَيرِه، فقِياسُ عالَم الأَرواحِ على عالَم الأَشباحِ مِن أَفسَدِ الأَقْيِسةِ وأَبطَلِها. والوَاقِفونَ عِند ما عَرَفوا من أَحكامِ هذا العالَم فَحَسب، إنَّما هُم المَادِّيُّون لا أَتباع الرُّسُل ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ [يُونس: 39].
أَمَّا قَوْلُكُمْ: “إِنَّهُم يَطْلُبُونَ مَا لَا يَقْدِر عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى”، فَكَلَامٌ لَا تَحْقِيقَ فِيهِ، فَهْوَ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسِبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، فَإِنَّنَا نَقُولُ:
– أَوَّلًا: هَبْ أَنَّ الأَمْرَ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَخْطَأَ ذَلِكَ السَّائِلُ فَظَنَّ غَيْر المُمْكِن مُمْكِنًا، وَغَيْر المَقْدُورِ لِلْبَشَرِ مَقْدُوراً لَهُ، أَفَيَكْفُرُ بِذَلِكَ، أَمْ يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ وَخَطَئِهِ؟ – وَهْوَ لَمْ يَعْتَقِد الأُلُوهِيَّةَ عَلَى كُلِّ حَالٍ -.
– وَثَانِيًا: نَقُوُلُ لَكُمْ: إِنَّنَا لَمْ نَدَّعِ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ اسْتِقْلَالًا مِن عِنْدِ نَفْسِهِ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ يَفْعَلُهُ بِإِذْنِ اللهِ. وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى نَقُولُ: أَعْطَاهُ مِنَ المَوَاهِبِ مَا لَا تَعْقِلُونَهُ. وَهَلْ عَرَفْتُمْ مَا يَصِحُّ أَنْ يُعْطِيَهُ اللهُ عَبِيدَهُ المُقَرَّبِينَ وَمَا لَا يَصِحُّ؟! وَهَلْ ثَبُتَتْ عِنْدَكُم تِلْكَ الحُدُودُ الَّتِي لَا يَصِحُّ لله أَنْ يَتَجَاوَزهَا مَعَ عَبِيدِهِ؟! وَهَلْ كَانَ الإِتْيَانُ بِعَرْشِ “بَلْقِيس” قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ الطَّرْفُ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ البَشَرُ فِي نَظَرِكُم؟! وَهَلْ كَانَ رَدُّ عَيْن قَتَادَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – وَقَدْ سَالَتْ عَلَى خَدِّهِ فَجَاءَ لِلنَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ – فَرَدَّهَا إِلَيْهِ فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ – مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ البَشَرُ فِي رَأْيِكُم؟! وَهَلْ رُؤْيَةُ عُمَر بْن الخَطَّاب لِسَارِيَةَ وَجَيْشِهِ بِبِلَادِ “العَجَم” مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ البَشَر؟! وَهَلْ إِسْمَاعُه صَوْتهُ وَهْوَ بِنَهَاوَنْدَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ البَشَر؟!
وَهَلْ قَوْلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى – عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ﴾ [الْأَعْرَاف:134] مِمَّا يَقْدِر عَلَيْهِ البَشَرُ؟! إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهْوَ طَوِيلٌ عَرِيضٌ، أَمْ [الْخَوَارِقُ] كُلُّهَا مِنْ هَذَا القَبِيل؛ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا البَشَرُ فِي الْعَادَةِ، وَلَكِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَيْهَا بِإِقْدَارِ الله إِيَّاهُ؟! وَهَلْ تَقِيسُونَ الْأَرْوَاحَ عَلَى الْأَشْبَاحِ؟! وَهَلْ عَرَفْتُمْ نَوَامِيسَهَا وَمَا تَنْتَهِي إِلَيهِ، أَمْ ذَلِكَ قِيَاسُ الغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ كَمَا قُلْنَا؟! فَهْوَ قِيَاسٌ مَعَ الفَارِقِ، بَلْ مَعَ أَلْفِ فَارِقٍ. وَهَلْ إِذَا رَأَيْتُم بَنِي إِسْرَائِيلَ يَطْلُبُونَ مِنْ عِيسَى – عَلَيْهِ السَّلَامُ – إِحْيَاءَ المَوْتَى وَإِبْرَاءَ الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص تَقُولُونَ إِنَّ هَذَا مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ البَشَرُ؟!
وَهَلْ إِذَا رَأَيْتُمْ النَّبِيَّ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] يَضْرِبُ جَبَلَ “أُحُدٍ” وَيَأْمُرهُ أَنْ يَثْبُتَ وَلَا يَتَحَرَّكَ، تَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ البَشَر؟! وَهَلْ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] يَأْمُرُ الشَّجَرَ فَيْمْتَثِل أَمْرَهُ، وَيَخُدُّ الطَّرِيقَ خَدًّا، تَقُولُونَ إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ البَشَر؟! وَهَلْ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] وَقَدْ نَبَعَ المَاءُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ البَشَر؟! إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ، وَلَا يُمْكِنُكُم المُكَابَرَة فِيهِ.
عَلَى أَنَّ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَقْدُورٌ لِلبَشَرِ بِالدُّعَاءِ، فَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ البَشَرُ بِالذَّاتِ يَسْتَطِيعهُ بِالدُّعَاءِ، فَالفَاعِلُ فِي الحَقِيقَةِ هُوَ اللهُ لَا غَيْرُهُ، وَالَّذِي يَسْتَغِيثُ بِالنَّبِيِّ – مَثَلًا – لَا يُرِيدُ مِنْهُ إِلَّا هَذَا. وَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ – يَسْتَغْفِرُ لَنَا بَعْدَ مَوْتِهِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: “حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ” إلخ. وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّتهُ بِلَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي العَامِ المَاضِي. وَيُمْكِنُنَا أَنْ نَتَوَسَّعَ فِي هَذَا المَقَام كَثِيراً، فَسَمَاعُ المَوْتَى وَإِدْرَاكُهُم لَا شَكَّ فِيهِ لِمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ – كَمَا قَالَ السُّيُّوطِيُّ فِي مَنْظُومَتِهِ:
سَمَاعُ مَوْتَى كَلَام الخَلْقِ قَاطِبَةً جَاءَتْ بِهِ عِنْدَنَا الآثَارُ فِي الكُتُبِ
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ نَفْسَهُ ذَكَرَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ المُسَيِّب كَانَ يَسْمَعُ الأَذَان وَالإِقَامَة فِي زَمَنِ الحَرَّةِ مِن قَبْرِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ .وَأَمَّا جَعْلهُمْ هَذَا عِبَادَةً، وَعِبَادَةُ غَيْرِ اللهِ كُفْرٌ، فَهْوَ مِنْ مُجَازَفَاتِهِمْ الشَّنِيعَةِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا فَهِمُوا أَنَّ كُلَّ تَعْظِيمٍ عِبَادَةٌ، أَوْ كُلَّ طَلَبٍ عِبَادَةٌ، فَقَدْ بَرْهَنُوا عَلَى جَهْلِهِمْ، فَإِنَّا رَأَيْنَا إِخْوَةَ يُوسُفَ قَدْ سَجَدُوا لِيُوسُفَ، وَالمَلَائِكَة قَدْ سَجَدُوا لِآدَمَ، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ أَبْلَغ فِي التَّعْظِيمِ مِنَ السُّجُودِ، فَإِذًا لَيْسَ التَّعْظِيمُ شِرْكًا لِذَاتِهِ مَهْمَا بَلَغَ أَمْرُهُ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَصْفًا ذَاتِيًّا لَهُ لَوَجَبَ أَلَّا يُفَارِقهُ. فَالتَّعْظِيمُ لَا يَكُونُ عِبَادَةً إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ اعْتِقَاد الرُّبُوبِيَّةِ.
وأمَّا الدُّعاءُ الَّذي يَتَمَسَّكونَ به ويَستَدلُّونَ علَيه بِمثلِ قَولِه تَعالى ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجِن: 18] إلى آخِر الآياتِ الكثيرة الَّتي نَزَلَت في المُشرِكينَ، فَطَبَّقوها على المُسلِمينَ، زَاعِمينَ أنَّ الدُّعاءَ عِبادَةٌ وعِبادَةُ غَير الله كُفْرٌ، فَهُو تَلبِيسٌ لا يَنبَغي أَن يَصدُر إلَّا مِن غَاشٍّ أَو جَاهِلٍ، فإنَّ الدُّعاءَ مُشتَرَكٌ.
فإذا قالُوا: إنَّ كُلَّ دُعاءٍ عِبادَةٌ، رَدَّ عَلَيهم قَوله تعالى: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النُّور: 63]، ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾ [نُوح: 5-6]، ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يُونس: 25]، ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ [القَصص: 25] إلى غَيرِ ذلك، وَ[رُدَّ] عَلَيهم أنَّهُم يَدعُونَ الأَميرَ والوَزيرَ، فهذا دُعاءٌ لِغَير الله، فيلزَمُهم على هذا الفَرض أن يكونَ ذلكَ شِركًا، وأن يكونَ الدُّعاء في تلك الآياتِ بِمعنى العِبادةِ، وهُو ما لَا يقُولهُ أَحَدٌ. وإن قالُوا: إنَّ الطَّلَبَ مِن غَير اللهِ كُفرٌ، وهذا هُو العِبادَة، لَزِمَهُم كُفر العالَمِ كُلِّه. ولا معنى هُنا للفَرقِ بَين الحَيِّ والمَيِّت، كمَا أَوضحناه، فلَا يقول إنَّ مُجرَّد الطَّلَب مِن غَير الله عِبادةٌ إلَّا مَن لَّا يدري ما يَقُول. وإن قالُوا: إنَّ الطَّلَبَ مِنَ الأَولياءِ والأَنبياءِ هُو الكُفرُ لَا غَير، قُلنا: إنَّ هذا هُو مَحَلّ النِّزاع، وهذه هي الدَّعوى الَّتي لَم يُقَم علَيها دَليلٌ، بل قامَ على بُطلانِها أَلف دليلٍ.
وإيرادُ الآياتِ النَّازلةِ في حَقِّ المُشرِكينَ العابِدينَ لِغَير الله لَا معنَى لهُ ولا غِناء فيه، فهل نَظفَر مِنهُم بعد ذلكَ بِشَيءٍ منَ الإنصافِ، حتَّى يَرحمُوا هذِه الأُمَّة المِسكينَة، فلَا يُكَفِّروها ولَا يَستَبيحُوا دِماءَها؟! إنِّي أَشُكُّ في ذلكَ، ولَا أكادُ أَتَوَقَّعُه، ولكنَّنا نَكتُبُ لِغَيرِهم، خَشيَة أن يَنخَدِعوا بِتُرَّهاتِهِم وضَلالاتِهِم.
والخُلاصةُ أنَّ هؤلاءِ يتَّبعونَ ما تَشابَه منَ القرآنِ ابتِغاءَ الفِتنةِ وابتِغاء تأويلِه، بل هم أقلّ من ذلكَ، فإنَّهم يقولونَ ما لا معنَى له ولا مُستَنَد فيهِ، تلبيساً على العوامِ الَّذين هم كالأطفالِ يُمكن كلّ أحدٍ أن يأخذَهم إلى ما يشاء.
ولنَختم مقالنا هذا بما أخرَجَه البُخاريُّ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ – رضيَ الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه [وآلِهِ] وسلَّم قال في ذِي الخُوَيصِرة التَّميميِّ: “إَنَّ مِنْ ضِئْضِئِي هذَا أَوْ فِي [عَقِبَ] هذَا – قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ” وفي بعضِ الرِّواياتِ: “سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ إيمانُهُم تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ، هُمْ شِرَارُ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ” الحديث. وفي روايةٍ أخرى: “سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ” الحديث.
وعندَ مُسلم من روايةِ عبدِ الله بنِ أبي رَافِع: (“يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ، لَا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ “. وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ). وفي روايةٍ عندَه أيضاً: “سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ” ورواهُ بلَفظٍ آخَر فقال: “يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يَأْتُونَكُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ لَا يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ” وجاءَ في وَصفِهم كما في بعضِ الرِّواياتِ عندَ أبي دَاود وغيره: “أنَّهم تَتَجارَى بِهمُ الأهواءُ كما يَتَجارى الكَلَب بصاحبهِ، لا يبقى منهُ عِرْقٌ ولا مَفْصِلٌ إلَّا دخلَ فيه”. إلى غَير ذلكَ منَ الأحاديثِ الكثيرةِ الَّتي وَرَدَت فيهم.
فجزى الله نبِيَّنا أفضَل ما جازى نَبِيًّا عن أُمَّتهِ، لقد بَلَّغَ ونَصحَ، وأدَّى الأَمانَة حتَّى تَرَكنا على الحنيفيَّة البَيضاء، لَيلها كنَهارِها، لا يزيغ عنها إلَّا هالِكٌ. وهذه الفِرق الضَّالَّة لا يزال يَتَجدَّد شَرّها، ويتَفاقَم أمرها إلى يَوم القِيامةِ. ففي بعضِ الرِّواياتِ أنَّه سيكُون آخِرهم مع الدَّجال، وهُم مَيؤوسٌ منهُم، لحديث البُخاري أنَّهم يَمرُقُونَ منَ الدِّينِ ثُمَّ لَا يَعودونَ فِيهِ.
وَبَعدُ: فهل عِندَكُم مِن عِلْمِ فَتُخْرِجوهُ لنَا؟ إن تَتَّبِعونَ إلَّا الظَّنَّ وإن أَنتُم إلَّا تَخْرُصونَ.
وكلُّ ما يقُولُه الكَذُوب يَزُول بِالتَّحقيقِ بَل يَذُوب
ولِنَقتَصر على هذا، ففيه مَقنَعٌ وكفَايَةٌ)) [مجلَّة نور الإسلام (4/319 إلى 330) – العدد: (الرَّابع) المجلَّد: (الرَّابع) ربيع الثَّاني: (1352 هـ)، مطبعة المعاهد الإسلاميَّة الدِّينيَّة: 1352 هـ – 1933م].
يُتبع..
اللَّاحق: https://web.facebook.com/share/p/1e9WCHy6uYMPVkQw/
