حُسْنُ الْخُلُقِ وَطُولُ الصَّمْتِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَصَلاةُ اللَّهِ الْبَرِّ الرَّحِيمِ وَالْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَحَبِيبِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَشَفِيعِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الدِّينِ وَعَلَى جَمِيعِ إِخْوَانِهِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.
وَبَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِجَوَارِحَ لِنَسْتَعْمِلَهَا فِى طَاعَتِهِ وَمَا يَنْفَعُنَا وَلِنَحْفَظَهَا عَنْ مَعَاصِيهِ. أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهَذِهِ الْجَوَارِحِ لِيَبْتَلِيَنَا فَمَنِ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ الْجَوَارِحَ فِى مَا يُرْضِى اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَجَنَّبَ اسْتِعْمَالَهَا فِى مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَهُوَ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَيْسَ عَلَيْهِ فِى الآخِرَةِ مُؤَاخَذَةٌ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهَا فِى مَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَحَفِظَهَا عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ.
ثُمَّ هَذِهِ الْجَوَارِحُ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ فِى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِى وَأَشَدُّهَا ارْتِكَابًا لِلْمَعَاصِى اللِّسَانُ لِذَلِكَ أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِطُولِ الصَّمْتِ إِلَّا مِنَ الْخَيْرِ، [رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ فِى شُعَبِ الإِيمَانِ].
الْخَيْرُ هُوَ مَا كَانَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْءَانِ أَوْ تَهْلِيلٍ أَوْ تَسْبِيحٍ أَوْ تَحْمِيدٍ أَوْ تَكْبِيرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ تَمْجِيدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الْكَلِمَةُ الَّتِى يَقُولُهَا الْمُؤْمِنُ لِيُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ هَذِهِ مِنْ حَسَنَاتِ اللِّسَانِ حَتَّى إِنَّ السَّلامَ مِنَ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَسَنَةٌ مِنَ الْحَسَنَاتِ، إِنْ نَوَى بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى يَكْتَسِبُ بِالسَّلامِ عِنْدَ اللَّهِ أَجْرًا،
ثُمَّ شَرْطُ الثَّوَابِ عَلَى هَذِهِ الْحَسَنَاتِ الَّتِى يَكْتَسِبُهَا بِلِسَانِهِ مِنْ ذِكْرٍ وَسَلامٍ عَلَى الْمُؤْمِنِ هُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِهَذِهِ الأَشْيَاءِ أَمَرَنَا بِذِكْرِهِ وَتَمْجِيدِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَتَقْدِيسِهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْكَلامِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مُبَاحَةٌ فِى شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ نِيَّةِ الِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَثَّنَا عَلَى أَنْ نَخْزِنَ أَلْسِنَتَنَا عَنْ مَا لا يَعْنِينَا، رُوِّينَا فِى كِتَابِ الصَّمْتِ لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عُبَيْدٍ الْقُرَشِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: “خَصْلَتَانِ مَا إِنْ تَجَمَّلَ الْخَلائِقُ بِمِثْلِهِمَا حُسْنُ الْخُلُقِ وَطُولُ الصَّمْتِ”، اهـ [رَوَاهُ ابْنُ أَبِى الدُّنْيَا فِى كِتَابِ الصَّمْتِ وَالْبَيْهَقِىُّ فِى شُعَبِ الإِيمَانِ]. مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ فِيهِمَا خَيْرٌ كَبِيرٌ حُسْنُ الْخُلُقِ وَطُولُ الصَّمْتِ.
5022:02
أَمَّا حُسْنُ الْخُلُقِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنْ يَلْتَزِمَ الشَّخْصُ بَذْلَ الْمَعْرُوفِ إِلَى النَّاسِ أَىْ أَنْ يُحْسِنَ إِلَى النَّاسِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَيَكُفَّ أَذَاهُ عَنْهُمْ وَيَتَحَمَّلَ أَذَاهُمْ.
حُسْنُ الْخُلُقِ عِبَارَةٌ عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ أَىِ الإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ تَبْذُلُ إِحْسَانَكَ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَجْعَلَ إِحْسَانَكَ فِى مُقَابِلِ إِحْسَانٍ يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْ غَيْرِكَ بَلْ تُوَطِّنُ نَفْسَكَ عَلَى أَنْ تُحْسِنَ إِلَى النَّاسِ إِنْ أَحْسَنُوا إِلَيْكَ وَإِنْ لَمْ يُحْسِنُوا إِلَيْكَ، تَعْمَلُ الْمَعْرُوفَ مَعَ الَّذِى يَعْرِفُ لَكَ وَيُقَابِلُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَمَعَ الَّذِى لا يَعْرِفُ لَكَ مَعْرُوفَكَ وَلا يُقَابِلُكَ بِالْمَعْرُوفِ تُحْسِنُ إِلَى هَذَا وَإِلَى هَذَا،
هَذَا الَّذِى كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ لَيْسَ أَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْكَ وَتُسِىءَ إِلَى مَنْ يُسِىءُ إِلَيْكَ بَلْ تُوَطِّنُ نَفْسَكَ أَىْ تُلْزِمُهَا الإِحْسَانَ إِلَى غَيْرِكَ بِأَنْ تَبْذُلَ مَعْرُوفَكَ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ إِلَيْكَ كَمَا تُحْسِنُ إِلَيْهِمْ أَوْ لا يُحْسِنُونَ إِلَيْكَ.
فَأَنْبِيَاءُ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ كَانُوا يُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَإِلَى مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ أَىْ كَانُوا يُحِبُّونَ الْخَيْرَ لِلنَّاسِ لِذَلِكَ كَانَ دَأْبُهُمُ الصَّبْرَ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ أُمَمِهِمُ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الدِّينِ فَإِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا كَانُوا يُسِيئُونَ إِلَيْهِمْ وَيُتْعِبُونَهُمْ وَيُؤْذُونَهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ يَثْبُتُونَ عَلَى مَحَبَّةِ الْخَيْرِ لَهُمْ.
وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ هُنَا هُوَ مَا كَانَ خَيْرًا عِنْدَ اللَّهِ. لَيْسَ الْخَيْرُ هُنَا يُرَادُ بِهِ كُلَّ مَا تُحِبُّهُ النَّفْسُ. كَانُوا لا يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ أَجْرًا إِنَّمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمَّ هُمْ يُقَابِلُونَهُمْ بِالإِيذَاءِ وَالسَّبِّ وَالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ وَهُمْ أَهْلُ السَّعَادَةِ الَّذِينَ شَاءَ اللَّهُ لَهُمْ أَنْ يَهْتَدُوا بِهَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ هَؤُلاءِ كَانُوا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذُوهُمْ كَأَبِى بَكْرٍ وَعَلِىٍّ وَأَبِى ذَرٍّ الْغِفَارِىِّ هَؤُلاءِ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى الإِسْلامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ لَهُمْ أَذًى لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَسْلَمُوا.
