فليُصلِّها إذَا ذكرها لا كفَّارة لها إلَّا ذلك
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
1
وبعدُ فإنَّ مَن مات وعليه قضاء صلوات فاتته بغير عُذر؛ لا يصحُّ أن نُوزِّع على الفُقراء قمحًا أو غيره بقصد أنَّ ذلك كفَّارة نقطع أنَّها تُسقط الصَّلوات الَّتي مات تاركًا لها بلا عُذر؛ لأنَّ كفَّارتَها قضاؤُها وحسب؛ لقول النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام: <مَن نَامَ عَن صَلَاةٍ أَو نَسِيَهَا فَليُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ> وهُو حديث صحيح ثابت رواه البُخاريُّ وغيرُه.
2
ولا خلاف في ذلك عند أهل السُّنَّة والجماعة بمَن فيهم الحنفيَّة الَّذين إنَّما جوَّزوا إخراج الفدية بمعنَى طلب المغفرة ورجاء العفو مِن الله تعالَى لا على أنَّها كفَّارة بدل الصَّلوات الَّتي تركها ميِّت في حياته، وبين الأمرين فرق كبير يخفَى على الجَهَلَة المُتعالِمين الَّذين ينشُرون الباطل والعياذ بالله.
3
قال ابن عابدين الحنفيُّ في [مِنَّةِ الجليل]: <الإطعام عن الصَّلاة لا أصل له في كتاب ولا سُنَّة ولا إجماع ولا قياس وإنَّما هُو أمر احتياطيٌّ> انتهَى.
4
وقال الخجندي الحنفيُّ: <لم نحكُم بجوازه قطعًا> انتهَى.
5
وقال الفاغانيُّ الحنفيُّ: <ولهذا لا نقول في الفدية عن الصَّلاة إنَّها جائزة قطعًا> انتهَى.
6
وقال البزدويُّ الحنفيُّ: <ثُمَّ لم نحكُم بجوازه أي بجواز الفداء في الصَّلاة مثل حُكمنا به في الصَّوم لأنَّا حكمنا به في الصَّوم قطعًا ورجَونا القَبول من الله في الصَّلاة فضلًا> انتهَى.
7
وقال السَّرخسيُّ الحنفيُّ في [المبسوط]: <وأمَّا في الصَّلاة فلم يُطلَق الجواب في شيء مِن الكُتُب على الفدية مكان الصَّلاة، ولكن قال: في موضع من الزِّيادات (يجزيه إن شاء الله تعالَى) فبتقييده بالاستثناء بيان أنَّه لا يثبُت الجواب فيه إذ لا مدخل للقياس فيه> انتهَى.
8
وهؤُلاء المذكورة نُصوصُهُم أعلاه مشاهير الحنفيَّة؛ كُلُّهم يُبيِّنون لك أنَّ ما يُجيزونه إنَّما هُو استحسان الصَّدقة على الفُقراء بنيَّة مخصوصة يعني يرجون الله تعالَى أن يتقبَّل صدقتَهُم فيغفر للميِّت تقصيره في الصَّلوات الواجبة في حياته؛ فالحنفيَّة بريئون ممَّا سوَى ذلك والنُّصوص تحكُم.
9
فإذا فهمتَ النُّصوص تبيَّن لك معنَى قول الفقيه المُحدِّث الشَّيخ عبدالله الهرريِّ رحمه الله في [صريح البيان]: <فتبيَّن بهذا أنَّ ما يفعلُه بعض أهالي نواحي (ماردين) مِن إخراج قمح أو نحوه يُوزَّع للفُقراء عن الشَّخص الَّذي تُوُفِّيَ وعليه صلوات لم يُؤدِّها في حال حياته ويقولون: هذا بدل الصَّلاة الَّتي لم يُؤدِّها في حياته، ويفهمون بذلك أنَّ ذلك كفَّارة: فهُو باطل؛ وهُو خلاف الحديث الَّذي فيه: (لا كفَّارة لها إلَّا ذلك)> انتهَى.
10
فهذا كلام الشَّيخ الهرريِّ رحمه الله ولا يُنكره إلَّا جاهل مُتكبِّر مغرور لا يرضَى بحديث الرَّسول؛ فالحنفيَّة يقولون نُخرج الفدية في ذلك على الاحتياط؛ لا نحكُم به قطعًا كما نحكُم به في الصِّيام؛ وإنَّما نرجو به القَبول مِن الله فضلًا، وأمَّا أهل الفتنة فإنَّهُم يُصرِّون أنَّه كفَّارة بدل الصَّلوات الواجبة الَّتي فاتت ذلك المُسلم في حياته! فتأمَّلوا كيف يفتري أهل الفتنة..
11
وكما بيَّن الشَّيخ عبدالله الهرريُّ رحمه الله؛ كذلك الشَّيخ الغماريُّ رحمه الله دلَّ أنَّ ما يقولُه أهل الفتنة ليس مِن الدِّين في شيء أبدًا، والمُنصف كان ليكتفي بحديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (فَليُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ) ولكن أهل الفتنة لا يرضون إلا بالافتراء والعياذ بالله.
12
قال المُحدِّث الشَّيخ عبدالله الغماريُّ رحمه الله: <إسقاط الصَّلاة عن الميِّت لم يرد في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف وإنَّما ورد في حديث مكذوب اغترَّ به بعض مُتأخِّري الحنفيَّة كما نبَّه عليه العلَّامة المُحقِّق الشَّيخ عبدالحيِّ اللَّكنويُّ الهنديُّ الحنفيُّ وليس في الدِّين شيء اسمُه إسقاط الصَّلاة وكُلُّ ما يُوجد مِن ذلك في بعض الكُتُب الَّتي قرأناها ورأيناها فإنَّما هُو خرافات لا يصحُّ التَّعويل عليها> انتهَى.
13
وقال ابن حبَّان: <فِي قَولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: فَليُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ؛ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَو أَدَّاهَا عَنهُ غَيرُهُ لَم تُجزِ عَنهُ إِذِ المُصطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ، يُرِيدُ إِلَّا أَن يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المَيِّتَ إِذَا مَاتَ وَعَلَيهِ صَلَوَاتٌ لَم يَقدِر عَلَى أَدَائِهَا فِي عِلَّتِهِ لَم يَجُز أَن يُعطَى الفُقَرَاءُ عَن تِلكَ الصَّلَوَاتِ الحِنطَةَ وَلَا غَيرَهَا مِن سَائِرِ الأَطعِمَةِ وَالأَشيَاءِ> انتهَى.
14
وقال الفقيه ابن بطَّال -وهُو مِن كبار مالكيَّة زمانه- في شرحه على [صحيح البُخاريِّ]: <وأجمع الفُقهاء أنَّه لا يُصلِّي أحد عن أحد فرضًا وجب عليه مِن الصَّلاة ولا سُنَّةً، لا عن حيٍّ ولا عن ميِّت> انتهَى.
15
وقال الشَّيخ زكريَّا الأنصاريُّ في [أسنى المطالب] -ممزوجًا بالـمتن-: <ولو مات وعليه صلاة أو اعتكاف لم يُقضَ ولم يُفدَ عنه لعدم ورودهما، بل نقل القاضي عياض الإجماع على أنَّه لا يُصلَّى عنه> انتهَى.
16
عُلماء المُسلمين هؤُلاء يُوافق قولَهم قولُ شيخنا الهرريِّ رحمه الله. وأمَّا أهل الفتنة فإنَّهُم خالفوا الإجماع وخالفوا نصَّ الشَّرع ومع ذلك يتجرَّأون على الطَّعن بالشَّيخ الهرريِّ فنسأل الله أن يُعاملَهُم بما يستحقُّون آمين.
نهاية المقال.
