الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فقد ظهر في الآونة الأخيرة من يُنكر مكانة الشيخ عبد الله الهرري العلمية، خاصة في مجال الحديث، ويدّعي أنه لم يكن محدثًا ولا مدرّسًا للحديث في الشام، كما ينكر البعض أن يكون قد تلقّى علماء دمشق عنه، أو أنه لُقّب بـ”خليفة الشيخ بدر الدين الحسني”. ونظرًا لأهمية توثيق الحقائق فأحببنا أن نفقع أعينهم، ونقدم شهادات علماء ومؤرخين عاصروا الشيخ وسمعوا منه، لتأكيد مكانته العلمية، وذلك استنادًا إلى مصادر موثوقة.
*[2] مكانة الشيخ عبد الله الهرري في علم الحديث:*
ففي مطلع الخمسينيات من القرن الماضي قدِم الإمامُ العلامةُ الحافظ خادم علم الحديث الشيخ عبدُ الله الهرري رحمه الله إلى دمشق وسكن في محلة القيمرية، في مدرستها القيمرية الكبرى تحديدًا والتي شُهرت بمدرسة القطاط. وكان له غرفة فيها حيث كان يتردد عليه مشايخ الشام وطلبتها فتعرف على علمائها واستفادوا منه وشهدوا له بالفضل وأقروا بعلمه.
*[3] دروسه وتأثيره في دمشق:*
كان الشيخ عبد الله الهرري يُلقي دروسه في الحديث، والتفسير، والفقه في عدة مساجد بدمشق، وكان يحضر دروسه نخبة من طلاب العلم والعلماء. وقد تخرّج على يديه عدد من المحدثين وطلبة العلم الذين شهدوا له بالتمكن في علم الحديث.
*[4] لقبه بـ”خليفة الشيخ بدر الدين الحسني”![]()
أما بالنسبة إلى تسميته بـ”خليفة الشيخ بدر الدين الحسني”، فإن هذا اللقب لم يكن اعتباطيًا، بل جاء بناءً على مكانته العلمية وسيره على نهج الشيخ الحسني في نشر الحديث وتدريسه. وقد أطلق عليه هذا اللقب بعض تلاميذه ومعاصريه، نظرًا لما كان يتمتع به من دقة في الرواية وضبط في النقل، شأنه في ذلك شأن كبار المحدثين.
*[5] شهادة العلماء والمؤرخين المعاصرين:*
وثّق العديد من المؤرخين والباحثين أن الشيخ عبد الله الهرري كان من أبرز علماء الحديث في الشام، وكان له دروس منتظمة في مساجدها، وتلقى عنه عدد من طلاب العلم، وكان يُرجع إليه في مسائل الحديث الشريف.
*[6] الشهادات:*
يروي الشيخ محمد سليم الرفاعي القاري عن هذا القدوم الميمون للإمام الهرري فيقول: «كان عندنا واحدٌ من كبار الأولياء قبل خمسين سنة (أي في حدود سنة 1936) قال سيأتي رجل إلى هذه البلاد يمثِّلُ بلالَ الحبشي من الحبشة وبدرَ الدينِ الحَسَني في الحديث؛ فلما جاء الشيخ عبد الله عرفنا أَنه هو المراد وهو المقصود».
[7] يقول الشيخ محمد عبد اللطيف بن محمد صالح فرفور الحسني الدمشقي (المتوفَّى سنة 2014 م): «واكبتُ الشيخَ عبد الله الهرري الحبشي منذ سنة 1961 لما كان ينزل في دمشق في جامع فتحي وفي جامع القطاط، حيث بنى له العارف بالله تعالى سيدنا الشيخ أحمد الحارون غرفة مشرقة كبيرة في جامع القطاط وسكنها الشيخ». ويتابع قائلًا: «ما دخلتُ عليه مرة -والله الذي لا إله غيره- إلا رأيته إما يُصلي صلاة العارفين وإما يقرأ وإما يُدرّس وإما يذكر الله». وقال: «حدثني سيدي الوالد (أي الشيخ محمد صالح فرفور) قال: يا بني إذا أردتَ حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليك بالشيخ عبد الله الهرري فإنه شيخ المحدثين في هذا العصر». (جاء هذا الكلام في شريط مصور للشيخ عبد اللطيف فرفور في دمشق سنة 2008 م).
[8] وكان من جملة العلماء الذين أخذوا عنه مدير وإمام المسجد الأموي الشيخ عبد الرزاق الحلبي وقد أشار إلى ذلك الشيخ نظام اليعقوبي البحريني في كتابه “تلقيح الفُهوم” فقال ما نصه: «الشيخ عبد الرزاق الحلبي يروي عن جمع منهم الشيخ عبد الله الهرري الحبشي قرأ عليه “عقد الجوهر الثمين” وقد أراني ذلك الشيخ عبد الرزاق الحلبي مكتوبًا في أحد كنانيشه». ونقل الشيخ عبد الجليل عطا البكري عن شيخه الحلبي فقال: «سمعت شيخنا شيخ الشام بلا منازع الشيخ عبد الرزاق الحلبي يقول: «إن الشيخ عبد الله على درجة من الورع لا يكاد يوجد على وجه الأرض مثلها»». (جاء ذلك في شريط مصور عام 2008 م في دمشق).
[9] ومن الشهادات المعبرة عن مجالس العلم العامرة التي كان يعقدها العلامة الهرري في البلاد الشامية ما صرّح به المؤرخ المحقق الشيخ محمد رياض المالح الدمشقي (المتوفَّى سنة 1419 ھجرية) حيث جاء في رسالة كتبها بخطه ما نصه: «قد أكرمني الله عز وجل بحضور مجالس أستاذنا وشيخنا عبد الله الحبشي بدمشق في شرح النخبة لابن حجر العسقلاني وتدريب الراوي للإمام السيوطي فكانت تلك الفترة من أخصب أيام حياتي نعمتُ فيها بمجالسة أستاذنا المحدث الكبير بقية السلف الصالح الزاهد العابد الشيخ عبد الله الهرري الحبشي حفظه الله وأدامه ذخرًا لجميع المسلمين، فكان حفظه الله آية في الحديث ومصطلحاته وغيره من العلوم الشرعية، وكان يحضر معنا كثيرٌ من علماء دمشق الكبار أمثال الشيخ عبد الرزاق الحلبي الذي كان يقرأ عليه كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري، وغيرُه من علماء دمشق الأفاضل.
ولقد سمعنا عن تشويش بعض المنحرفين والمتطرفين بالنيل من شيخنا الكبير وهذا ما لا يرضاه من عرف الشيخ في تقواه وزهده وورعه وعلمه». (كتبت هذه الرسالة سنة ١٤١٨ للهجرة).
[10] وفي مقابلة مع الشيخ المؤرخ المسند محمد مطيع الحافظ (أٔجريت معه في بيته في دبي بتاريخ 3 آذار 2022 م) ذكر ما نصه: «الشيخ عبد الله شيخي، كنا نأتي إليه في المطر والبرد قبل الصبح نأخذ درسًا في شرح النخبة… قال لي الشيخ عبد الله: أنا مشغول في النهار تعال إلي قبل الفجر. كنا نوقظه، كان ذلك في غرفة في مدرسة القطاط واسمها الحقيقي القيمرية الكبرى».
[11] يقولُ الشّيخ محمَّد صُبحِي العَدُّولي رحمه الله مُدِير المعهد الشَّرعي لمعرَّة النُّعمَان قال: «كُنّا في القَطَاط في دِمَشقَ جَامِع فَتْحي في محَلَّةِ القَيمَرِيّة وكانَ للشَّيخ غُرفَة يَأتي إليه فيها المشَايِخُ والعُلَماءُ يَستَفتُونَه فيُجِيبُهُم مِن غَيرِ أنْ يَرجِعَ إلى الكتُب ثم يَرجِعُونَ إلى الكُتُب فيَجِدُونَ الجوابَ الذي ذكَرَه لهم». وقالَ «بَعدَما ماتَ محَدِّثُ الشّام الإمامُ الوَليُّ الصَّالح بَدرُ الدّين الحسَني وظَهَر في دِمَشقَ رَأسُ الوهّابيّة محَمَّد ناصِر الدين الألباني وصَارَ يَقُول عن نَفسِه أنَا المحَدّث، فاجتَمَعت أنا والمؤرّخ الفقِيهُ الحنَفِيّ الشّيخ محَمّد رِيَاض الْمَالح الدِّمَشقِيّ والشَّيخ عبدُ الرّزّاق الحَلَبي مُدِير وإمَام وخَطِيب مَسجِد بَني أُمَيَّة في الشَّام وهوَ مَعرُوفٌ باطّلاعِه على المذهَب الحنَفِيّ، وقُلنَا لا يَلِيقُ بِنا أنْ نَبقَى هَكذا والألبَانيّ يَظهَرُ على مشَايِخ الشّام، تعَالَوا نَذهَب إلى مِصرَ نَأخُذُ الحَديثَ والمصطلَح ثم نَرجِعُ إلى الشّام لنَرُدَّ على الألبانيّ» ،قالَ: «فذَهَبْنَا إلى مِصرَ واجْتَمَعنَا بالمشَايِخ الكِبَار الذينَ عُرِفُوا بعِلْمِ الحَدِيثِ دِرَايَةً ورِوَايَةً فقَالُوا لهم تَتركُونَ دِمَشقَ وتَأتُونَ إلى القَاهِرَة وعِندَكُم هُنَاكَ عَالمُ الحَدِيثِ، فقَالوا لهم مَن هُوَ قَالوا لهم الشّيخ عبدُ اللهِ الحبَشِي، قَالوا: أينَ، قَالوا: في جَامِع فَتحِي في القَيمَرِيّة في دِمَشقَ، قال: فرَجَعْنَا إلى دِمَشقَ وذَهَبْنَا إلى الشَّيخ وحَدّثنَاه بالأمر وطَلَبنا مِنهُ أنْ يُقرِأَنا بالحَدِيث والمصطَلح، وقلنا نَأخُذُ مِنكَ دِرَايَةً ورِوايَةً ،فقالَ لهمُ الشَّيخ تَأتُونَ قَبلَ الفَجْر بسَاعَة، فقَالوا لهُ أَلا يُنَاسِبُ غَيرَ هَذا الوقت، فقَال هوَ هَذا فقَالوا لماذا فقَال: أنَا مَشغُولٌ بإصلَاحِ عقَائدِ النّاسِ وبالرّدّ على الأَلبَاني» وقال: «اتّفَقنا معَه وجِئنَا إلَيهِ قَبلَ الفَجْرِ بسَاعَةٍ وكانَ الشَّيخ عبد الرزاق الحلَبي يَحمِل كتَاب فَتح الباري والشّيخ صُبحِي العَدُّولي والشّيخ رياض المالح يَحمِلَانِ كتَابَ تَدرِيب الرّاوي للسُّيُوطي فكانَ الشّيخ يقرؤهم مِن حِفظِه ويَضبِطُ لهمُ النُّسَخَ ويَشرَحُ ويَستَدرِكُ لَهم ويُبَيّنُ لهمُ المواضِعَ التي فِيها نَقصٌ مِنَ الطِّبَاعَةِ». ثم عَمِلُوا مُنَاظَرَةً بَينَ شَيخِنَا والألبَانيّ بعَشْر جَلَسَاتٍ نَظّمَها مشَايخُ الشّام الكِبَار وعلى رَأسِهِم الشَّيخ حَمْدِي الجُوَيْجَاتي ثم نُشِرَت هَذه المنَاظَراتُ في مجَلَّةٍ تُعرَفُ في ذلكَ الوَقتِ باسمِ التَّمَدُّن الإسلاميّ. وكانَ الألبَانيُّ يَأتي محَمَّلًا بالكُتُب والشَّيخ يَأتي بلا كِتَاب يَقعُدُ ذاكَ والشَّيخُ يَرُدُّ علَيهِ ويمشِي. ونصَر اللهُ شَيخَنا على الألبانيّ فأَقبَل العُلَماء على شَيخِنا يُقَبّلُونَ يَدَه ويَتبَركُونَ بهِ ويَطلُبُونَ مِنهُ الإجازَة إلى أنِ انْتَشَر أَمرُه في كُلِّ بِلادِ الشّام وصَارَ صَدِيقًا لبَعضِ أولياءِ حَلَب وغيرهم كالشَّيخ محَمَّد مُرَاد والشّيخ أحمد الحَارُون.
[12] أما الشيخ المسند أحمد محمد سردار الحلبي مدير المكتبات الوقفية الإسلامية في حلب (المتوفَّى سنة 1418ھجرية) فقد جاء في شهادة له في حق الإمام الهرري رضي الله عنه كتبها بخطه ذكر فيها: «إن معرفتي بالشيخ عبد الله بن محمد الهرري الشيبي الشهير بالحبشي الشافعي تعود إلى سنة 1957م وكان اجتماعي به في مضافة من مضافات حلب عند آل عواد بحضور الشيخ محمد الشامي رحمه الله وسمعت منه جملة من الأحاديث النبوية الشريفة وكلها من الصحاح الستة وذكر كذلك جملة من الأحاديث الموضوعة وقارنها مع الأحاديث الصحيحة ثم نفاها فهو نَقّاد كبير ومحدث شهير ومسند شارح ينم حديثه عن باع طويل وسعة علم ومعرفة الرجال… وفاتني استجازته لأنني كنت شابًا خجولًا وكنت أنظر إليه فأرى عليه جلالة الفقهاء وهيبة المحدثين مع تواضع وخلق رفيع. وهو معروف في البلاد الشامية يثنون عليه الثناء العاطر بالعلم والمعرفة وطول الباع وسعة الاطلاع». (يوم الأحد 23 تشرين الثاني 1997 م).
[13] ومن الذين حضروا مجالس العلامة الشيخ الهرري وصرّحوا بالاستفادة منه سعيد حوى (كان أحد أكبر قيادات التنظيم المسمى “الإخوان المسلمون” في سورية وقد شغل فيه مهمة المراقب العام وتوفي سنة 1409ھجرية) جاء في كتاب مذكراته الذي أسماه “هذه تجربتي.. وهذه شهادتي” متحدثًا عن الشيخ عبد الله الهرري ما نصه: «كان يسكن في مسجد القطاط شيخ اشتهر أنه محدث، هو الشيخ عبد الله الهرري ذهبت إليه أنا وبعض الإخوة لأستفيد منه كيفية البدء في دراسة علوم الحديث فأشار علي أن أحفظ ألفية العراقي وأعطاني نسخة من عنده عليها شروح وقد بدأت في حفظها وحفظت الكثير منها».
[14] ومن الفقهاء الذين جمعتهم بالمحدث الهرري المحبة الصادقة وكان من جملة من نهلوا من علمه الصافي وصرحوا بذلك الشيخ محمد سعيد طناطرة الدمشقي الحنفي، قال في رسالة له إلى العلامة الهرري: «إلى فضيلة سيدي الشيخ عبد الله الشيبي الهرري العالم الفاضل المربي على سيرة السلف الصالح على مذهب أهل السنة والجماعة على الطريقة المحمودة التي اختارها السلف الصالح من أهل العلم والتقوى والورع على سنن محمد صلى الله عليه وسلم. أقدم إليكم أسمى التحيات وأطيب الكلمات بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته دائمًا وأبدًا… لم أقطع أملي ورجائي من الله عز وجل أن يكرمني بكم وتقر عيناي برؤياكم وتطيب نفسي بالمثول بين يديكم كما قال أبو هريرة رضي الله عنه لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني». هكذا أشعر بجوارحي حينما أسمع بكم أو أرى أحدًا يعرفكم أو رآكم أو أمثل بين يديكم…سيدي الشيخ عبد الله لقد نقلت منكم بعض قواعد وأحكام في الدين وسجلتها عندي وكثيرًا ما أستشهد بها وأدعو لكم بالخير والتوفيق والعناية». (تاريخ الرسالة 20-12-1987 م)
*[15] خاتمة:*
إن مكانة الشيخ عبد الله الهرري في علم الحديث ثابتة بشهادات أهل العلم والمؤرخين الذين عاصروه وتلقوا عنه، وشهدوا له بالتحقيق والتدقيق في الرواية، كما أن دروسه وأعماله العلمية كانت شاهدة على تمكنه في علم الحديث. لذلك، فإن إنكار علمه في الحديث لا يستند إلى دليل علمي، وإنما هو من باب الجهل أو التحامل فإن الهوى يعمي ويصم.
بناءً على ما سبق، فإن الواجب على طلاب العلم التحري والإنصاف في نقل الأخبار، والرجوع إلى المصادر الموثوقة قبل إصدار الأحكام.
والحمد لله الذي أكرمنا بأن جعلنا من الذين حصّلوا من علم هذا العالم الفاضل الذي هدى الله به الألاف المؤلفة من أهل الشام بل قد سطع نور علمه وانتشر في بلاد الدنيا شرقًا وغربًا، فجزاه الله خيرًا عما قدّمه من النفع العميم في نصرة سُنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. وأعزّ الله طلابه وأحبابه وأعلى مقامهم في الدارين. آمين.
ونسأل الله أن يرحم علماء الأمة، وأن ينفعنا بعلومهم، وأن يجزي الشيخ عبد الله الهرري خير الجزاء على جهوده في نشر العلم وتعليم الحديث.
Source : Dr-Mohammad Sabbagh
