الحمدُ للهِ وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على رسولِهِ، لِيُعلَم أنّه قد جاءَ في حديثٍ ضَعيفٍ رواهُ ابنُ مَاجَهْ والتِّرمذيّ كلاهُمَا في السُّنَنِ عن عائشةَ رضيَ اللهُ عنها أنّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ :
“إنَّ اللهَ تَعالى يَنزِلُ ليلةَ النِّصفِ مِنْ شَعبَانَ إلى السَّماءِ الدُّنيَا فيَغفِرُ لأكثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعْرِ غََنمِ كَلبٍ (أي غنمِ قبيلةِ كلب) وهي أكثرُ العربِ غَنَمًا في ذلكَ الوَقتِ.
قالَ الزّيْلَعيُّ في هذا الحديثِ :
إنَّ التِرمِذيَّ والبُخَاريَّ وابنَ الجَوزيَّ ضَعَّفُوه، وقالَ الدَّارقُطنيُّ : إسنادُهُ مُضطَرِبٌ غيرُ ثابِتٍ، وحَكمَ ابنُ دِحيَةَ عليهِ بالوَضعِ، أي اعتبرَهُ حديثًا مَكذُوبًا على رسولِ اللهِ ﷺ وقالَ:
ما أحدَثَهُ إلا مُتلاعِبٌ بالشَّريعةِ المُحَمَّديَّة.
أمَّا الرِّوايةُ الثَّابِتَةُ فهي التي رواهَا الشَّيْخَانِ ومالِكٌ وبعضُ أصحَابِ السُّنَن واللفظُ للبُخاريِّ عن أبي هُريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ :
“يَنزِلُ ربُّنا تَباركَ وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيَا حينَ يَبقَى ثُلُثُ الليلِ الآخِرُ فيقول:
مَنْ يَدعُوني فأستَجيبَ له مَنْ يَسألُني فأُعطِيَه مَنْ يَستَغفِرُني فأغفِرَ له”.
وهذا الحديثُ يُعرَفُ عندَ العُلماءِ بحَديثِ النُّزول لكنَّهُ وردَ برِواياتٍ أخرى تُفسِّرُهُ وتُبيِّنُ بأنَّ
المُرادُ نُزولُ مَلَكٍ بأمرِ الله.
وخَيرُ ما فُسِّرَ به الحَديثُ الوَاردُ بحَديثٍ آخرَ وَاردٍ أيضًا.
ولحَديثِ النُّزولِ روايَةٌ عندَ النَسَائيِّ عن أبي هُريرةَ وأبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رضيَ الله عنهما قالا: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :
“إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُمهِلُ حتَّى يَمضيَ شَطرُ اللَّيلِ الأولُ ثمَّ يَأمُرُ مُناديًا فيقول : هل مِنْ داعي يُستَجابُ له هل مِنْ مُستَغفِرٍ يُغفَرُ له هل مِنْ سائِلٍ يُعطى”.
صحَّحَهُ أبو مُحمَّدٍ عبدُ الحَقِّ كما قالَ القُرطُبِيُّ في تفسيرِهِ، وهو ما أكَّدَهُ الحَافظُ ابنُ حَجَرٍ العَسقَلانيِّ في روايتِهِ للحَديثِ بلفظ : “تُفَتَّحُ أبوابُ السَّماءِ نِصفَ الليلِ فيُنَادي مُنَادٍ – أي يُنادي مَلَكٌ بأمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ – هلْ مِنْ داعٍ فيُستَجابَ له هلْ مِنْ سَائلٍ فيُعطَى هلْ مِنْ مَكرُوبٍ فيُفَرَّجَ عنه”.
قال الحافِظُ نُورُ الدِّينِ الهَيْثَميُّ: رواهُ الطبَرانيُّ ورِجالُهُ رِجالُ الصَّحيحِ، ومِثلَهُ نقلَ الحَافِظُ بنُ الجَوْزيِّ في تفسِيرِهِ.
فيَتلَخَّصُ مِنْ ذلكَ كُلِّهِ أنَّ رِوَايَةَ “يَنزِلُ اللهُ ويَنزِلُ ربُّنا” مَحمُولةٌ على معنَى نُزُولِ المَلَكِ الذي يُنَادي بأمرِ اللهِ تعالى، أمَّا اللهُ تعالى فلا يَجوزُ عليهِ الحَركةُ والسُكونُ والانتقالُ، فلا يُشبهُ الخالِقُ خَلقَهُ.
والمُشَبِّهةُ المُجَسِّمةُ نفاةُ التَوسُّل من شأنِهِم يُورِدُونَ الآياتِ المُتَشابِهاتِ والأحَاديثَ المُتَشابِهَة ليَغرِسُوا في قُلوبِ النَّاسِ تَشبِيهَ اللهِ بِخَلقِهِ وَوَصفَ اللهِ تعالى بصِفَاتِ المَخلُوقِينَ هَدَاهمُ اللهُ للصَّواب.
ومِمَّا جاءَ في ليلةِ النِّصفِ مِنْ شعبَانَ ما رواهُ ابنُ حِبَّانَ في صَحيحِهِ والبَيْهَقيُّ عن مُعَاذِ بنِ جَبلٍ رضيَ الله عنهما أنَّ رسولَ الله ﷺ قالَ :
“يطَّلِعُ اللهُ إلى خَلقِهِ في ليلةِ النِّصفِ مِنْ شَعبَانَ فيَغفِرُ لجَمِيعِ خَلقِهِ إلَّا لمُشرِكٍ أو مُشَاحِن”.
وبنَحوِهِ رواهُ الدَّارقُطنيُّ عن أبي ثَعلبَةَ الخُشَنِيِّ رضيَ اللهُ عنه، ومعنى “يَطَّلِعُ اللهُ إلى خَلقِهِ” يَرحَمُ مِنَ المُؤمنينَ مَن شَاءَ رَحمَةً خَاصَّة.
وليسَ مَعنى: “يَطَّلِعُ” أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَنزلُ مِنْ عُلوٍ إلى سُفلٍ أو أنَّه تَحدُثُ له صِفةٌ لم تَكُن في الأزل، حَاشَا للهِ وتَنزَّهَ ربُّنَا عن مُشَابهةِ الخَلْقِ بأيٍّ مِنَ المَعاني، فهو عزَّ وجلَّ مَوجُودٌ أزلًا وأبدًا بلِا مكانٍ ولا جِهةٍ ولا كَيفٍ، صفاتُهُ أزليَّةٌ أبديَّةٌ كامِلةٌ لا نَقصَ فيها، ويَستحيلُ عليه التَطوُّرُ والتَبَدُّلُ والتَّغيُّرُ في ذاتِهِ أو في صِفةٍ مِنْ صِفاتِه تعالى.
فمَنْ وفَّقَهُ اللهُ عزَّ وجَلَّ يَسَّرَ له اعتقادَ هذا الذي هو الحَقُّ المُبِين، ومَنْ خَذَلَهُ اللهُ تعالى وأعمَى قلبَهُ لمْ يُوفِّقْهُ إلى الهُدَى. وقدْ قالَ شَيخُنا الإمام الهَرريُّ رحمهُ الله: “والمُشَاحِنُ” معناهُ الذي بينَهُ وبينَ مُسلمٍ آخَرَ عدَاوةٌ وحِقدٌ وبَغضَاءٌ، أمَّا مَنْ سِوى هذين فكلُّ المُسلمينَ يُغفَرُ لبعضٍ جَميعُ ذنُوبِهِم ولبعضٍ بعضُ ذنُوبِهم في تلكَ الليلة. وحِقدُ المُسلمِ على أخيهِ المُسلمِ هو إضمَارُ العَدَاوةِ له بالعَزمِ على إيقاعِ الضَّررِ به بغَيرِ حَقٍّ فإنَّ العَازِمَ على ذلكَ آثِمٌ بمُجَرَّدِ العَزمِ، فإذا عمِلَ بمُقتَضَى ذلكَ العَزمِ كانَ واقِعًا في ذَنبٍ آخَرَ. وقالَ ابنُ رجَبٍ في اللطَائِفِ والسُيوطيُّ في مُصبَاحِ الزُّجَاجَةِ وغيرُهمَا قالَ ابنُ المُبَارَك: سمِعتُ الأوزاعيَّ يفسِّرُ المُشَاحِنَ بكلِّ صَاحبِ بِدعَةٍ مُفَارِقٍ للجماعةِ والأُمَّةِ، ومِثلُهُ رُوِيَ عن التَابعيِّ عُمَيرِ بنِ هَانِئ. ومَعنى “المُفارِقِ للجَماعَةِ” أي الخَارِجِ عن اعتقادِ المسلمين في أمورِ الاعتقَادِ التي جاءَ بها النَّبيُّ ﷺ.
والمُبتدِعَةُ قِسمَانِ: قِسمٌ بَلَغُوا بِبدعَتِهم الاعتقاديَّةِ الكُفرَ بالإجمَاعِ كالمُشبِّهةِ المُجَسِّمةِ الذينَ يُشبِّهونَ اللهَ بخَلْقِهِ بمعنًى مِنَ المَعَاني كزَعمِهم أنَّه جسمٌ أو أنَّه قاعِدٌ أو أنَّه مُستَقرٌّ فوقَ العَرشِ، وكالمُعتَزلةِ القَدريةِ القائِلينَ بأنَّ العَبدَ يَخلُقُ فِعلَ نفسِهِ سَواءٌ قالوا يَخلُقُ الخَيْرَ أو الشَّرَّ أو كلَيْهِما فكلُّ ذلك كُفرٌ وضَلال.
وقِسمٌ مُبتَدِعَةٌ لم يَبلُغُوا بِبِدعتِهِم الاعتقَاديةِ حَدَّ الخُروُجِ مِنَ الإسلامِ لكنَّهم فاسِقونَ بِدعِيُّونَ في الاعتِقادِ جاءَ فيهم الوَعِيدُ الشَّديدُ.
هذا وسُبحانَ اللهِ وبِحَمدِهِ والحَمدُ للهِ ربِّ العالَمين.
واللهُ تعالى أعلمُ وأحكَم.
