الصبر والتوكل على الله في مواجهة الشدائد – قصص ودروس من الأنبياء

الخطبة الأولى

  الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لا نَاقِضَ لِمَا بَنَاهُ، وَلا حَافِظَ لِمَا أَفْنَاهُ، وَلا مَانِعَ لِمَا أَعْطَاهُ، وَلا رَادَّ لِمَا قَضَاهُ، وَلا مُظْهِرَ لِمَا أَخْفَاهُ، وَلا سَاتِرَ لِمَا أَبْدَاهُ، وَلا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَاهُ، وَلا هَادِيَ لِمَنْ أَعْمَاهُ، “وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ”، أحمدُهُ تعالى على عظيمِ نعمِه ما تحركتِ الألسِنَةُ والشِّفاه. وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له ولا زوجةَ ولا ولدَ ولا هيئةَ له شهادةً أسألُ اللهَ تعالى أن تكونَ لي ولكم يومَ القيامةِ سببًا للنجاة، وأشهدُ أن سيدَنا وحبيبَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ صلى اللهُ عليه وسلم من اصطفاهُ ربُّهُ وَاخْتَارَهُ عَلَى الْكُلِّ وَاجتباه، اللهم صلِّ وسلمْ وأنعمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ وعلى صاحبِه أبي بكر الذي رضيَ اللهُ عنه وأرضاه، وعلى عمرَ الذي عَدَلَ بين العبادِ فتَرِبتْ يداه، وعلى عثمانَ الذي استحت منه الملائكةُ فزانَهُ حَيَاه، وعلى عليٍّ الذي والى اللهُ من والاه وعادى من عادَاه.

أما بعد: عبادَ اللهِ أوصيكم ونفسيْ بتقوى اللهِ العظيم، اتقوا اللهَ تعالى في السرِّ والعلنِ، اتقُوا اللهَ تعالَى القائلَ في كتابهِ العظيمِ: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ”. وتذكّروا أنَّ اللهَ تعالى لا تخفى عليه مثقالُ ذرّةٍ تحرّكت أو سكنتْ فلا تغفُلْ أخي المسلم عن قولِ اللهِ تعالى: “أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (المجادلة:6).

  إخوة الإسلام: يجب عل كلِّ مسلمٍ أن يعتقِدَ أن كلَّ شيءٍ يحصُلُ في هذا الكونِ فهو بتقديرِ اللهِ تعالى، وأن يسلِّمَ للهِ تعالى في كلِّ شيءٍ يصيبُهُ، وأن يضعَ نُصْبَ عينيهِ قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: “عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ” فمهما أصاب المؤمنُ من سرّاءَ أي نعمةٍ أو ضراءَ أي مصيبةٍ فإن ذلك خيرٌ له؛ لأن المسلمَ المؤمنَ يعلمُ أن العاقبةَ السعيدةَ له، فمهما حصل معه لا يحزن، أي الحزنَ المذمومَ الذي يُبعِدُهُ عن طاعةِ اللهِ تعالى، فمهما حصل مع المؤمنِ فإنه لا يحزنُ من شماتةِ الأعداءِ ولا أذاهم، فهذا سيدنا نوحٌ عليه السلام عندما أمره الله تعالى بصناعةِ السفينةِ صار قومُه الكافرون يمرّون به وهو في عملِهِ فيسخرونَ منه وكانوا لا يعرفون الفُلكَ أي السفينةَ قبلَ ذلك، ويقولونَ: يا نوح: صرتَ نجّارًا بعدَ النُّبوةِ؟! كما قال اللهُ تعالى: “وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ” فكان جوابُ سيدِنا نوحٍ عليه السلام أن قال لهم كما قال اللهُ تعالى: “قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)” (سورة هود) فمهما شمِتَ بنا الأعداءُ من يهودٍ وغيرِهم فالعاقبةُ بإذنِ اللهِ تعالى للمتّقين. 

  إخوةَ الإسلام:  يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى: “وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ” (ءال عمران:139) فهذه الآيةُ نزلت يومَ أحدٍ تسليةً وتصبيرًا من اللهِ تعالى للمؤمنين، بأن لا يضعفُوا عن الجهادِ، وأن لا يحزنوا على من قُتل منهم، وبيّن لهم أنهم الأَعْلَوْنَ، فهم أعلى من الكافرين بالنصرِ والظَّفَرِ والفوزِ في العاقبةِ، وهم الأعْلَون شأنًا لأن قتالَهم للهِ تعالى ولإعلاءِ كلمتِهِ، وأما قتالُ الكفارِ فإنه للشيطانِ ولإعلاءِ كلمةِ الكفرِ، وهم الأعلَونَ لأن قتلاهم في الجنةِ وقتلى الكافرين في النار، فلا تهِنوا ولا تحزنوا يا أهلَنا في غزَّة، فأنتم الأعلونَ بإذنِ اللهِ تعالى، فإن شهداءنا في الجنةِ وقتلاهُم في النّار. ولا تستغربوا إخوةَ الإسلام من جرائمِ اليهودِ ومن قصفِهم للمستشفياتِ وقتلهم للأطفالِ والنساءِ؛ فهم قتلةُ الأنبياءِ؛ فنسأل اللهَ تعالى أن يريَنا بهم عجائبَ قدرتِه. وانتبهوا إخوةَ الإسلامِ من المنافقينَ في زمانِنا، فإن بعضَهم في أيامِنا هذه تجرّؤوا فقالوا: لو كان المسلمون في غزة على حقٍّ فلِمَ يُقتَل الأطفال والنساء فيهم!! وقالوا ولِمَ لَمْ يحفظهمُ اللهُ تعالى؟! وكفاهم خزيا في قولِهم هذا اتّباعُهم للمنافق مُعَتَّبِ بنِ قُشير حيثُ قال في غزوة الخندق: يَعِدُنا محمدٌ كنوزَ كسرى وقيصر وأحدُنا لا يأمنُ على خَلائِهِ(1) وهو الذي قال : لو كان لنا من الأمرِ شيءٌ ما قُتلنا ههنا(2). فأهل غزةَ بإذنِ اللهِ تعالى منصورون، فكلُّنا سنفارِقُ هذه الدنيا، فهنيئا لمن فارقها وهو شهيد، وهنيئا لمن فارقها فمات عزيزا مدافعا عن دينِ الله تعالى، ويا ذُلَّ من يموتُ خائنا منافقا.

ربِّ ســـألتُكَ بالنبيِّ وءالِهِ
أن تَرفَعَ البلوى وكيدَ المُعتدي

فلقد غَدَونا للِّئامِ كقصعَةٍ
يـتجاذبونَ اللــحمَ فوقَ المَوقِدِ

فأغثْ إلهـي إننا في حَيرةٍ
عَـزَّ النـصيرُ وأنتَ خيرُ مُـؤيِّدِ

أدركْ رسولَ اللهِ أمتَكَ التي
سِيمَت بِخَسـفٍ من لئيمٍ مُلحدِ

فالنصرُ قريبٌ بإذنِ الله تعالى، ومهما ظلم اليهودُ الغاصبون فالدنيا ليست هي النهاية، بعضُ الناسِ تركوا حسنَ الظنِّ باللهِ تعالى فصاروا يقولونَ أين نصرةُ المظلومِ؟! وهؤلاء ظنّوا من جهلِهم أن الدنيا هي نهايةُ الأمرِ، وغاب عنهم أن الآخرةَ مقبلةٌ إلينا، وأنه لا ظلمَ فيها أبدا كما قال اللهُ تعالى: “الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ” (غافر:17) فيا أخي المسلم لو جئت بابنِكَ وقصصتَ عليه قصة ظالمٍ ومظلومٍ وأنهيتَ قصّتَكَ من غير ذكرٍ للقَصاص من الظالم؛ لما تقبّل ابنُكَ منكَ ذلك! لأنه يدركُ أنه لا بدَّ من الاقتصاصِ من الظالمِ للمظلوم، ومن القاتلِ بغيرِ حقٍّ للمقتول، ولو بعد حين، وهل سمي يومُ القيامةِ بيومِ الجزاءِ إلا لأجلِ ذلك؟!! قال الله تعالى: “وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ” (الصافات:20) وقد قال الإمام فخر الدينِ الرازي: ” والمقصودُ أنهم – أي الكفار – لما شاهدوا القيامةَ قالوا : {هذا يَوْمُ الدين} أي يومُ الجَزاءِ هذا ، والمقصودُ أن اللهَ تعالى ذكرَ في ءاياتٍ كثيرةٍ من القرءانِ، أنّا نرى في الدنيا محسنًا ومسيئًا وعاصيًا وصِدّيقًا وزنديقًا، ورأينا أنه لم يصلْ إليهم في الدُّنيا ما يَليقُ بهم من الجَزاءِ، فوجبَ القولُ بإثباتِ القيامةِ “لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (النجم:31)”. نسألُ اللهَ تعالى أن يريَنا عجائبَ قدرتِهِ في اليهودِ الغاصبينَ الظالمين، وأن يجعلَ كيدَهم في نحرِهم، إنه على كل شيءٍ قدير وبعبادِه لطيفٌ خبير، أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم.

الخطبة الثانية

  الحمدُ للهِ لهُ النعمةُ وله الفضلُ وله الثناءُ الحَسَنُ والصلاةُ والسلامُ على سيدنَا محمدٍ سيدِ البشرِ، عبادَ اللهِ اتقوا اللهَ وأطيعوهُ. أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ: بعض الناسِ من الذين أساؤوا الظنّ باللهِ تعالى فيما يحصلُ اليومَ في غزَّةَ اعترضوا على اللهِ تعالى فصاروا يقولون – معترضين على الخالقِ – وما ذنبُ الأطفالِ أن يقتلوا؟! والعياذُ باللهِ تعالى، وقد جاء أن أحدَ العلماءِ روى عن نفسِهِ قصّةً قبل أن يصيرَ عالما، وهي أنه قال: كنتُ بمصر، فبلغني ما وقع ببغدادَ من القتلِ الذريعِ، فأنكرتُه بقلبِي، وقلتُ: يا ربِّ كيفَ هذا وفيهمُ الأطفالُ ومن لا ذنبَ له(3)؟! فرأيتُ في المنامِ رجلًا وفي يدِهِ كتابٌ فأخذتُه فإذا فيه:

دعِ الاعتراضَ فما الأمرُ لكْ
ولا الحكمُ في حركاتِ الفلَكْ

ولا تسألِ اللهَ عن فعلِهِ
فمن خاضَ لُجَّةَ بحرٍ هلَك

إليهِ تصيرُ أمورُ العباد
دعِ الاعتراضَ فما أجهلَك(4)

  فالنصرُ إخوةَ الإسلامِ ءاتٍ بإذنِ الله تعالى، كما قال اللهُ تعالى: “إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6)وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)”  (المعارج) ، واللهُ غالبٌ على أمرِهِ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون . نسألُ اللهَ تعالى أن يرزقَنا الصلاةَ في المسجدِ الأقصى محررا، وأن ينصرَ إخوانَنا في غزّةَ وفلسطين، إنه على كل شيءٍ قدير وبعبادِه لطيف خبير.

  عِبَادَ اللهِ إِنَّ اللهَ قَدْ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيْمٍ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ الكَرِيمِ فَقَالَ: “إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلونَ على النبيِّ يا أيُّهَا الذينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَليهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” لبيكَ اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ في العالمينَ إنكَ حميدٌ مجيدٌ. اللهمّ اغفر للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأموات، اللهم فَرِّجِ الكَرْبَ عَنِ الأَقْصَى يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ، يا الله احفظِ المسلمين والمسجدَ الأقصى من أيدي اليهودِ المدنسين، يا اللهُ انصرِ الإسلامَ والمسلمين، يا قويُّ يا متينُ انصرِ المسلمين في غزة، يا اللهُ يا من لا يعجِزُكَ شيءٌ ثبِّتْ المسلمينَ في غزّة وأمدّهم بمددٍ من عندِك، وارزقهم نصرا قريبا، اللهم عليك باليهودِ أعداءِ هذا الدين، اللهم أحصِهمْ عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادرْ منهم أحدا، يا الله يا رحمنُ يا رحيمُ اشفِ جرحى المسلمين في غزة وفلسطين، وتقبّلْ شهداءهم، وأنزلِ الصبرَ والسكينةَ على قلوبِ أهلِهم، اللهم إنّا نستودعُكَ غزّةَ وأهلَها وأرضَها وسماءَها ورجالَها ونساءَها وأطفالَها ، فيا ربِّ احفظهم من كلِّ سوء، اللهم إنّا نبرَأُ من حولِنا وقوَّتِنا وتدبيرِنا إلى حولِكَ وقوّتِكَ وتدبيرِكَ فأرنا يا اللهُ عجائبَ قدرتِكَ وقوّتك في اليهودِ الغاصبين، اللهمّ أنتَ اللهُ لا إلهَ إلا أنتَ، أنتَ الغنيُّ ونَحنُ الفقراءُ، اللهم فرج كروبنا واستر عيوبنا وأذهب همومنا يا رب العالمين. اللهم ارفعِ البلاءَ والأمراضَ عنِ المسلمينَ، وَفَرِّجْ عَنَّا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ،  اللهمّ أغِث قلوبَنا بالإيمانِ واليقين، وارزقنا النصرَ على أنفسِنا وعلى أعداء الدين، اللهم اجعلْ هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ، اللهم وَفِّقْ مَلِكَ البلادِ لِمَا فيه خيرُ البلادِ والعبادِ يا ربَّ العالمينَ ارزقْهُ البطانَةَ الصالحةَ التي تأمرُهُ بالمعروفِ وتنهاهُ عنِ المنكرِ، عبادَ اللهِ إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربى وينهى عنِ الفحشاءِ والمنكرِ والبغي يعظكُمْ لعلكم تذكرونَ وأقمِ الصلاةَ.

  1. أي المكان الذي يقضي فيه حاجته. ↩︎
  2. كما روى ذلك عنه الطبراني في المعجم الكبير. ↩︎
  3. قاله معترضا وقتئذ، ثم حسن حاله. ↩︎
  4. ذكر القصة ابن كثير في تاريخه وكذا الحافظ السيوطي في حسن المحاضر في أخبار مصر والقاهرة.