الشيخ الدكتور محمد عبد الجواد الصباغ الحسيني
*التقوى والطاعة: درب المؤمن في رمضان وبعده*
الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى
قال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسٌ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ﴾
*التفكير في الحياة والآخرة*
لَو نَظَرنَا فِي أَحوَالِ النَّاسِ فِي طُولِ البِلَادِ وَعَرضِهَا، وَعَلَى اختِلَافِ أَجنَاسِهِم وَمُستَوَيَاتِهِم لَوَجَدنَاهُم عَلَى خِلَافِ الأَحوَالِ المَرضِيَّةِ وَالصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ. فَمِنهُم المُلحِدُ، وَمِنهُم الفَاسِقُ، وَمِنهُم الأَفَّاكُ الكَذَّابُ، وَمِنهُم الشَّرُّ المُستَطِيرُ، وَمِنهُم الغَافِلُ الَّذِي لَا يَزَالُ مُنكَبًّا عَلَى الدُّنيَا لَا يَعتَبِرُ بِكَثرَةِ المَوَاعِظِ مِن حَولِهِ، وَمِنهُم مَن هَمُّهُ فِي جَمعِ المَالِ لَا يُبَالِي أَجَمَعَ مِن حَلَالٍ أَم مِن حَرَامٍ. قَد يَعتَقِدُ بَعضُهُم أَنَّ رَمَضَانَ هُوَ مَوسِمٌ لِلإِكثَارِ مِن جَمعِ المَالِ، مُعرِضًا عَمَّا سِوَاهُ، غَيرَ آهِبٍ بِنَفَحَاتِ وَبَرَكَاتِ الشَّهرِ. يَجمَعُ المَالَ لِمَا يَكفِيهِ وَأَهلَهُ لِعُشرَاتِ السَّنِينَ، وَلَكِنَّ فَجأَةً يَختَرِمُهُ المَوتُ فَلَا هُوَ قَدَّمَ التَّقوَى زَادًا لَهُ فِي القَبرِ، وَلَا تَمَدَّدَ بِهِ العُمرُ لِيَتَنَعَّمَ فِي الدُّنيَا بِمَا جَمَعَ مِن حُطَامِهَا. وَنَرَى مُصَدَّاقَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي مَوَاضِعِ كَثِيرَةٍ. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لَا يَشكُرُونَ﴾ ﴿وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لَا يَعلَمُونَ﴾ ﴿وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لَا يُؤمِنُونَ﴾
*الناس كإبل مائة*
عَن عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تَجِدُونَ النَّاسَ كَإِبِلٍ مِئَةٍ لَا يَجِدُ الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً» رَوَاهُ مُسلِمٌ. الراَّحِلَةُ هِيَ الجَيِّدَةُ الَّتِي تَصلُحُ لِلحُمُولَةِ فِي السَّفَرِ، وَفِي الحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَكثَرَ النَّاسِ أَهلُ نقصٍ، وَأَمَّا أَهلُ الفَضلِ الزَّاهِدُونَ فِي الدُّنيَا، الرَّاغِبُونَ فِي الآخِرَةِ، المُغتَنِمُونَ لِأَزمَانِهِم، مِثلَ شَهرِ رَمَضَانَ وَغَيرِهِ مِنَ المَوَاسِمِ الَّتِي حَثَّ الشَّرعُ عَلَى اغتِنَامِهَا، فَهُم قَلِيلُونَ جِدًّا، وَهُم بِمَنزِلَةِ الرَّاحِلَةِ فِي الإِبِلِ.
*الغفلة بعد رمضان*
نَرَى بَعضَ النَّاسِ يَعرِجُونَ عَلَى سُبُلِ الخَيرِ فِي شَهرِ رَمَضَانِ المُبَارَكِ، فَيَصُومُونَ النَّهَارَ وَرُبَّمَا قَامُوا اللَّيلَ، وَتَصَدَّقُوا، وَارتَادُوا المَسَاجِدَ، وَفَعَلُوا الكَثِيرَ مِنَ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ، ثُمَّ يَنقَلِبُونَ عَلَى أَعقَابِهِم بَعدَ رَمَضَانِ فَيَرقُدُونَ فِي سُبَاتِ الغَفلَةِ. كَمَا نَرَى بَعضَ النَّاسِ لَا يَتَغَيَّرُ فِي مَسَارِ حَيَاتِهِم شَيئًا، سَوَاءً كَانَت أَيَّامُ رَمَضَانِ أَم غَيرَهُ مِن أَيَّامِ السَّنَةِ. تَأكل الدُّنيَا بِأَكبَادِهِم، وَتوقعُهُم النَّفسُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ فِي شِبَاكِ السَّيِّئَاتِ، وَهُم مَا بَينَ آثَامٍ وَأَوزَارٍ وَعِصيَانٍ تِلوَ عِصيَانٍ.
وقديمًا قيل:
يا من تمتَّع بالدنيا وزينتها ولا تنام عن اللذات عيناه
أفنيت عُمرك فيما لست تُدركه تقول لله ماذا حين تلقاه
*تأهب لغدٍ*
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاعَبُد رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ﴾ أي: دُم عَلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَأتِيَكَ الأَمرُ اليَقِينُ وَهُوَ المَوتُ. وَإِذَا كَانَ الوَاحِدُ مِنَّا لَا يَدرِي مَتَى يُفجَؤُهُ المَوتُ، فَعَلَيهِ أَن يُوَطِّنَ نَفسَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ مَا دَامَ حَيًّا، وَيَكُونَ مُلَازِمًا لِلتَّقوَى طِيلَةَ العَامِ. فَالتَّقوَى لَيسَت فَرضًا فِي رَمَضَانِ فَقَط، وَلَا الِالتِزَامُ الدِّينِيُّ مُقتَصِرٌ عَلَى شَهرٍ مِنَ الشُّهُورِ أَو لَيلَةِ القَدرِ فَقَط، وَلَا تَحصِيلُ الزَّادِ لِلآخِرَةِ مَحصُورٌ فِي مَن جَاوَزَ الخَمسِينَ أَو السِّتِّينَ مِنَ العُمُرِ.
*الاستمرار في الخير*
إِذَا كَانَت نَفسُكَ قَدِ انقَادَت لِفِعلِ الخَيرَاتِ فِي هَذَا الشَّهرِ الكَرِيمِ، فَاقهَرهَا عَلَى التِّزَامِ هَذَا الخَيرِ بَعدَ رَمَضَانِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:﴿وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا إِلَّا لَهوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَو كَانُوا يَعلَمُونَ﴾ وَقَالَ الإِيجِيُّ فِي “تَفسِيرِهِ”: “وَمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا” إِشَارَةٌ إِلَى تَحقِيرِ الدُّنيَا. “إِلَّا لَهوٌ وَلَعِبٌ” كَمَا يَجتَمِعُ الصِّبيَانُ سُوَيعَةً مُبتَهِجِينَ ثُمَّ يَتَفَرَّقُونَ، وَلَيسَ فِي أَيدِهِم سِوَى إِتعَابِ البَدَنِ. “وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ” الحَيَاةُ الحَقِيقِيَّةُ الَّتِي لَا مَوتَ فِيهَا.
*استعداد للآخرة*
وَمِن دَلَائِلِ شَرَفِ الِاشتِغَالِ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ لِنَيلِ الثَّوَابِ الجَزِيلِ يَومَ القِيَامَةِ، الآيَةُ الَّتِي بَدَأتُ بِهَا فِي المَقَالَةِ، فَقَد أَمَرَنَا رَبُّنَا بِاستِدَامَةِ الخَوفِ مِنهُ تَعَالَى، خَوفًا يَحمِلُنَا عَلَى أَدَاءِ الوَاجِبَاتِ وَاجتِنَابِ المُحَرَّمَاتِ، وَأَن نُحَاسِبَ أَنفُسَنَا وَنَنظُرَ مَاذَا نُعِدُّ لِآخِرَتِنَا. وَالمَقصُودُ بِـ”الغَدِ” فِي الآيَةِ هُوَ الآخِرَةُ، وَقَالَتِ العَرَبُ قَدِيمًا: “كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ”. وَحَيثُ إِنَّ القِيَامَةَ لَا رَيبَ فِيهَا، فَهِيَ قَرِيبَةٌ كَقُربِ الغَدِ مِنَ اليَومِ.
*بيع النفس في طاعة الله*
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «كُلُّ النَّاسِ يَغدُو، فَبَائِعٌ نَفسَهُ فَمُعتِقُهَا أَو مُوبِقُهَا» رَوَاهُ مُسلِمٌ.
وَقَولُهُ: «يَغدُو» أَي: يَبتَكِرُ فِي السَّعيِ لِحَاجَاتِهِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي أَغرَاضِهِ. فَمَن يَبِيعُ نَفسَهُ لِلَّهِ، أَي يَبِيعُ نَفسَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، فَمُعتِقُهَا مِنَ العَذَابِ. وَهَذَا هُوَ الفَضلُ العَظِيمُ، أَمَّا مَن يَبِيعُ نَفسَهُ لِلشَّيطَانِ فَيُوبِقُهَا، أَي يُهلِكُهَا.
*استغلال الزمن في الأعمال الصالحة*
فَمَن تَفَكَّرَ فِي عَوَاقِبِ الدُّنيَا، أَخَذَ الحَذَرَ وَاغتَنَمَ المَوَاسِمَ المُبَارَكَةَ لِلنَّيلِ بِالظَّفَرِ، وَمَن أَيقَنَ بِطُولِ الطَّرِيقِ تَأَهَّبَ لِلسَّفَرِ. مَا أَعجَبَ حَالَ مَن يُوقِنُ بِالمَوتِ ثُمَّ يَنسَاهُ، وَيَغفُلُ عَمَّا يَنبَغِي أَن يَكُونَ فِي حَيَاتِهِ.
*تذكير بحديث جبريل*
وَتَمُرُّ عَلَى بَعضِ النَّاسِ رَمَضَانٌ تِلوَ رَمَضَانٍ، وَهُم مَشغُولُونَ بِالأَكلِ وَالشُّربِ وَالنَّومِ وَالسَّهَرِ الَّذِي لَا خَيرَ فِيهِ، وَيَغرِقُونَ فِي لَذَّاتِ الدُّنيَا، وَلَا يَنتَبِهُونَ إِلَى حَدِيثِ جَابِرٍ عَن النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ جِبرِيلَ عَلَيهِ السَّلاَمُ قَالَ: «رَغِمَ أَنفُ عَبدٍ دَخَلَ عَلَيهِ رَمَضَانُ لَم يُغفَر لَهُ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي “الأَدَبِ المُفرَدِ”.
*اغتِنامُ الأوقاتِ*
عَرَفَ السَّلَفُ الصَّالِحُ قَدرَ رَمَضَانَ، فَكَانُوا يَطلُبُونَهُ قَبلَهُ بِسِتَّةِ أَشهُرٍ، ثُمَّ يَبكُونَهُ بَعدَ فِرَاقِهِ خَمسَةَ أَشهُرٍ.
أَحبَابَنَا الكِرَامُ، بِطَاعَةِ اللَّهِ تَحلُو الأوقاتُ، وَيُهَوِّنُ اللَّهُ عَلَيكَ أَلَمَ الجُوعِ وَالعَطَشِ، فَبَادِر يَا عَبدَ اللَّهِ لِأَن تَشغَلَ أَيَّامَكَ وَأَنفَاسَكَ بِطَاعَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ مَن لَم يَشغَلِ الفَرَاغَ بِمَا يَعنِيهِ شَغَلَهُ الفَرَاغُ بِمَا لَا يَعنِيهِ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «اغتَنِم خَمسًا قَبلَ خَمسٍ: حَيَاتَكَ قَبلَ مَوتِكَ، وَشَبَابَكَ قَبلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبلَ مَرَضِكَ، وَغِنَاكَ قَبلَ فَقرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبلَ شُغلِكَ.»
إِنَّ الشَّبَابَ وَالصِّحَّةَ نِعمَتَانِ عَظِيمَتَينِ، وَكَذَلِكَ الفَرَاغُ، فَلَا بُدَّ مِن اغتِنَامِ كُلِّ هَذِهِ النِّعَمِ لِمَوسِمِ الخَيرَاتِ شَهرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ لَعَلَّهُ يَكُونُ آخِرَ رَمَضَانٍ لَنَا.
لَا تَشغَل عَمَّا يُلهِيكَ.. أَيَّامُ رَمَضَانَ غَالِيَةٌ نَفِيسَةٌ. كُنتَ تَقُولُ: لَن أُضَيِّعَ رَمَضَانِي مِنِّي هَذَا العَامَ، فَاجعَل فَعلَكَ مُصَدِّقًا لِقَولِكَ، وَاسأَل نَفسَكَ: مَا الَّذِي يَتَمَنَّاهُ إِخوَانُنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا لِلدَّارِ الآخِرَةِ لَو أَدرَكُوا رَمَضَانَ؟! طَبِّق الجَوَابَ، فَسَنَكُونُ قَرِيبًا مَعَهُم.
رَمَضَانُ مَوعِدٌ مَعَ طَاعَةٍ وَصِيَامٍ وَاعتِكَافٍ فِي المَسَاجِدِ، إِحسَانٍ وَمَبَرَّاتٍ.
رَمَضَانُ شَهرُ الزُّهدِ وَقَطعِ النَّفسِ عَن اِتِّبَاعِ المَستَلَذَّاتِ وَالمُستَحسَنَاتِ، وَلَيسَ شَهرَ التَّخمَةِ. فَيَا عَجَبًا كَيفَ يَتَوَسَّعُ بَعضُ النَّاسِ فِي المَستَلَذَّاتِ وَالمَطعُومَاتِ وَيَأكُلُونَ فِي رَمَضَانَ مَا لَا يَأكُلُونَهُ فِي غَيرِ رَمَضَانِ!!
مِنَ النَّاسِ مَن لَا يَشغَلُ فِكرَهُ وَوَقتَهُ وَجَسَدَهُ إِلَّا بِالتَّحضِيرِ لِلطَّعَامِ عَلَى الإِفطَارِ وَبِطَبَقِ الحَلوَى بَعدَ الإِفطَارِ وَبِالتَّلَهِّي هُنَاكَ وَهُنَاكَ، وَلَكِنَّ الرَّسُولَ ﷺ حَثَّنَا عَلَى التَّزَوُّدِ مِن هَذِهِ الدُّنيَا مِن الخَيرَاتِ. قَالَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَشبَعُ مُؤمِنٌ مِن خَيرٍ حَتَّى يَكُونَ مُنتَهَاهُ الجَنَّةَ.»
قَالَ تَعَالَى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسأَلَنَّهُم أَجمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعمَلُونَ﴾
اللَّهُمَّ يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإكرَامِ، ارحَمنَا وَاغفِر لَنَا وَتَجَاوَز عَن سَيِّئَاتِنَا يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وَآخِرُ دَعوَانَا أَن الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
