فضل المحافظة على الصلاة وأربعون خصلة موصلة للجنة

المقدمة

اللهم إنّى بحمدك أستفتح، وبرشدك أسترشد وأستنجح، وبتوفيقك أستسهل كلّ صعب، وبعظمتك أستقلّ كلّ خطب، وبنور هدايتك أستضئ، وبعزّ عنايتك أرضى، وببركة شرعك أستهلّ، ومن سعة علمك أستكثر، ومن غزير إلهامك أستمدّ، وإلى عزيز سلطانك أستعدّ.

 لك الحمد والمنّة، وبعظمتك أعوذ من شرّ الإنس والجِنّة، وبرحمتك أرجو الفوز بالجَنّة. اللهم صلِّ على خير الأصفياء، وخاتمِ الأنبياء، والمتكلمِ بالفصاحة، وصاحبِ البيان، وحبيبِ الرحمن، ذِي الجمالِ البديع، والمقامِ الرفيع، والدينِ القويم، والمنهاجِ المستقيم، سيّدِ المرسلين، والمؤيدِ بالملائكة المقرّبين، محمدٍ الأمين الذى عَلَت درجته فى علّيّين، وأَنزلتَ عليه فى كتابك المبين: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ»}. اللهم فصلّ عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه الذين أضحوا على أهل الشرك ظاهرين، وارض اللهم عن الأنصار والمهاجرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، إنّك بالإجابة جدير، وأنت على كلّ شيء قدير، يا نعم المولى ويا نعم النصير. وبعد:

الحديث السابع والثلاثون بعد المائة

الحادي والعشرون: عن أبي المنذِر أُبيِّ بنِ كَعْب رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَجُلٌ لا أعْلَمُ رَجلًا أبْعَدَ مِنَ المَسْجِدِ مِنْهُ، وَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ صَلاةٌ، فَقيلَ لَهُ أَوْ فَقُلْتُ لَهُ: لَوِ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا تَرْكَبُهُ في الظَلْمَاء وفي الرَّمْضَاء؟ فَقَالَ: مَا يَسُرُّنِي أنَّ مَنْزِلي إِلَى جَنْبِ المَسْجِدِ، إنِّي أريدُ أَنْ يُكْتَبَ لِي مَمشَايَ إِلَى المَسْجِدِ وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أهْلِي، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «قَدْ جَمَعَ اللهُ لَكَ ذلِكَ كُلَّهُ». رواه مسلم. وفي رواية: «إنَّ لَكَ مَا احْتَسَبْتَ». «الرَّمْضَاءُ»: الأرْضُ التي أصابها الحر الشديد.

قال الحافظ النووي رحمه الله ورضي عنه: الحادي والعِشرُونَ (أي الحديث الحادي والعشرون من بابٍ في بيان طرق الخير، وهو الحديث السابع والثلاثون بعد المائة من كتاب رياض الصالحين): عن أبي المنذِر أُبيِّ بنِ كَعْب رضي الله عنه (تكلمنا في ترجمته رضي الله عنه الدرسَ الماضي) قَالَ: كَانَ رَجُلٌ (قال ابن علان: لم أقف على من سماه.اهـ 

وهنا لي وِقفةٌ وإشارة، وهي: أن كثيرا من الأشخاص تجد بسببهم جاءت قصة معينة لحديث أو حصل بسببهم حكم معين في الشريعة من نزول آية أو حصول حديث ولا تجد العلماء عرفوا اسمهم وإنما أخذوا الحكم والقصة وسردوها للناس، والعبرة من هذا: كم من شخص خفي لم يُعرف لكن حصل بسببه خير، لا يشترط بمن يجري الخير بسببه أن يكون معروفا بل لو كان خفيًّا وجرى الخير بسببه لا يضره شيء عند الله، لا يضره أن الناس عرفوه أم جهلوه.

ففي صحيح ابن حبان أثناء فتوح بلاد فارس في معركة فتح نهاوند كان قائدُ المعركة من المسلمين الصحابيَّ الجليلَ النعمانَ بنَ مُقَرِّن رضي الله عنه وكان قد فتح نهاوند واستشهد في المعركة وانتصر المسلمون ، وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ مَعَ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَتْحٍ أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ، وَأَذَلَّ بِهِ الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ قَالَ: فَحَمَدَ عمرُ اللَّهَ عز وجل، ثُمَّ قَالَ: النُّعْمَانُ بَعَثَكَ؟ قَالَ: احْتَسَبِ النُّعْمَانَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فقد استشهد، قَالَ: فَبَكَى عُمَرُ وَاسْتَرْجَعَ قَالَ: وَمَنْ! (يسأل عن شهداء المسلمين في المعركة) قَالَ: فُلانٌ وَفُلانٌ، حَتَّى عَدَّ لَهُ نَاسًا كَثِيرًا، ثُمَّ قَالَ: وَآخَرِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لا تَعْرِفُهُمْ، فَقَالَ عُمَرُ وَهُوَ يَبْكِي: لا يَضُرُّهُمْ أَلا يَعْرِفَهُمْ عُمَرُ.اهـ 

وهذا يؤكد لنا ما تعلمناه وسمعناه من مشايخنا وأهل الفضل والعلم من قولهم: إن العبرة بما عند الله وليس بما عند الناس.

 وقد روى ابن ماجه وغيره عن معاذ بن جبل أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْأَبْرَارَ ‌الْأَتْقِيَاءَ ‌الْأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِنْ غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ».

 وقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أحب عباد الله إلى الله الغرباء قيل ومن الغرباء قال الفارون بدينهم. 

وكان الخليل بن أحمد يقول اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك واجعلني عند نفسي من أوضع خلقك واجعلني عند الناس من أوسط خلقك. 

وقال الثوري وجدت قلبي يصلح بمكة والمدينة مع قوم غرباء أصحاب قوت وعناء.اهـ وهذه والله صفة الصادقين المخلصين.

قال الفضيل: إن قدرت على أن لا تُعرف فافعل وما عليك أن لا تُعرف وما عليك أن لا يُثْنَى عليك وما عليك أن تكون مذمومًا عند الناس إذا كنت محمودًا عند الله تعالى.اهـ

وقد قال الإمام الرفاعي: 

ولست أبالي من رماني بريبة ***** إذا كنت عند الله غير مريب 

إذا كان سري عند ربي منزها **** فما ضرني واشٍ أتى بغريب

وقال اللَّهُ تَعَالَى {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} وقد جمع بين إرادة الفساد والعلو وَبَيْنَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لِلْخَالِي عَنِ الْإِرَادَتَيْنِ جميعا. 

ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه إنما هلاك الناس باتباع الهوى وحب الثناء.اهـ 

وهذا الزمن الذي نعيشه هو زمان غربة الإسلام، ففي حديثٍ لفظه هكذا عند البيهقي قال صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: ومَن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنّتي ويعلِّمونها النّاس». 

فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلّتهم في النّاس جدًّا سُمُّوا غرباء، فإنّ أكثر النّاس على غير هذه الصِّفات، فأهل الإسلام في النّاس غرباء، ، وأهلُ السُّنّة الذين يميِّزونها من الأهواء والبدع فيهم غرباء، والدّاعون إليها الصّابرون على أذى المخالفين لهم أشدُّ هؤلاء غربةً، ولكنّ هؤلاء هم أهل الله حقًّا، فلا غربة عليهم، وإنّما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله فيهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [الأنعام: 116].

فالغربة ثلاثة أنواعٍ: غربة أهل الله وأهل سنّة رسوله بين هذا الخلق، وهي الغربة التي مدح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أهلَها، وأخبر عن الدِّين الذي جاء به: أنّه بدأ غريبًا، وأنّه سيعود غريبًا، وأنّ أهله يصيرون غرباء. وهذه الغربة قد تكون في مكانٍ دون مكانٍ، ووقتٍ دون وقتٍ، وبين قومٍ دون غيرهم، ولكنّ أهل هذه الغربة هم أهل الله حقًّا، فإنّهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، وهم الذين فارقوا النّاسَ أحوجَ ما كانوا إليهم. فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها، بل هو آنسُ ما يكون إذا استوحش النّاس، وأشدُّ ما يكون وحشةً إذا استأنسوا، فوليُّه الله ورسوله والّذين آمنوا، وإن عاداه أكثرُ النّاس وجفَوه. 

وفي حديث القاسم، عن أبي أمامة، عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ أغبطَ أوليائي عندي لمؤمنٌ خفيفُ الحاذ ذو حظٍّ من الصلاة أحسنَ عبادةَ ربه وأطاعه في السرِّ وكان غامضًا في الناسِ لا يشار إليه بالأصابعِ وكان رزقُه كَفافًا فصبر على ذلك ثم نقر بإصبعَيه فقال عُجِّلت منيتُه قلَّتْ بواكيهِ قلَّ تراثُه رواه الترمذي.

في هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن صِفاتِ المؤمِنِ الحَقِّ الَّذي يُحِبُّه اللهُ ورَسولُه، فيُخبِرُ أنَّ مِن أحقِّ أحِبَّائِه وأنْصارِه أنْ يُغبَطَ وهو الَّذي يَتمَنَّى النَّاسُ مِثلَ حالِه.

وهذا المُؤمن، مِن صِفاتِه أنَّه «خَفيفُ الحاذِ»؛ أي: خَفيفُ الحالِ، قَليلُ المالِ والعيالِ، فلا يَشغَلُه شَيءٌ عنِ العِبادةِ، وقلَّةُ المالِ هو ممَّا يُغبَطُ به صاحِبُه في الدُّنْيا إذا صبَرَ على ذلك أو رَضِيَ به، وأمَّا قلَّةُ العيالِ فهو ممَّا يُغبَطُ به المؤمِنُ أحْيانًا، لا سيَّما معَ فَقرِه وحاجَتِه، ولهذا يُقالُ: «قلَّةُ العيالِ أحدُ اليَسارَينِ»؛ فإنَّ كَثرةَ العيالِ قدْ تَحمِلُ المؤمِنَ على طلَبِ الرِّزقِ لهم مِن الوُجوهِ المَكْروهةِ.

ومِن صِفاتِ هذا المؤمِنِ أنَّه يُحافِظُ على الصَّلاةِ، وله حظٌّ كَبيرٌ منها، فهو مُؤمِنٌ خَفيٌّ تَقيٌّ له نَصيبٌ مِنَ التَّنفُّلِ بالصَّلاةِ سِرًّا يكونُ هو لذَّتَه وقوَّتَه وغِذاءَه، فهو يُحسِنُ عِبادةَ ربِّه، فيُطيعُه في السِّرِّ، ولا يُرائي بعِبادتِه أحدًا؛ ولأنَّ عِبادةَ السِّرِّ تكونُ أكثَرَ خُشوعًا، وأدَلَّ على حُسنِ تَعبُّدِه للهِ، وهذا مِن إحْسانِ العِبادةِ وإتْقانِها، وإكْمالِها، والإتْيان بها على أكمَلِ الوُجوهِ.

وقولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أغْبَطُ أوْليائي عِنْدي» بإضافَتِه إلى نَفْسِه، يُشيرُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى أنَّ مَن كان كذلك، فهو من خاصَّةِ أوْليائِه، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُسَرُّ بمَن كان مِن أُمَّتِه على هذه الصِّفةِ، ويَفرَحُ به، ويُهنِّئُه بما حصَل له مِن السَّعادةِ، وكذلك جعَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أوْليائِه، وأوْلياءُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أوْلياءُ اللهِ؛ كما قال تعالَى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]، فمَن كان أعظَمَ إيمانًا وتَقْوى؛ فهو أعظَمُ وَلايةً للهِ ورَسولِه.

ومِن صِفاتِ هذا المؤمِنِ أيضًا أنَّه خاملُ الذِّكرِ لا يَعرِفُه النَّاسُ، ولا يُشارُ إليه بالأصابِعِ؛ فإنَّ الصَّالِحَ إذا عرَفَه النَّاسُ  قد يَفتِنونَه، بأنْ يَجتَمِعوا عليه ويَحمَدونَه، فرُبَّما يَظهَرُ في نَفْسِه غُرورٌ ورِياءٌ.

«ثمَّ نَقَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بإصْبَعَيْه»، فأصدَرَ صَوتًا بضَربِ إحْدى أُنمُلَتَيْه على  الأرضِ، قيلَ: كأنَّه يُشيرُ بذلك إلى سُرعةِ ما يَحدُثُ لهذا المؤمِنِ؛ فإنَّه لا يَلبَثُ إلَّا قَليلًا حتَّى يَقبِضَه اللهُ، كأنَّه يُقلِّلُ مدَّةَ عُمُرِه.

ثمَّ قال: «عُجِّلَت مَنيَّتُه»، يَحتمِلُ أنْ يَعنيَ بذلك أنَّه مات وهو صَغيرُ السِّنِّ، أو أنَّ قَبْضَ رُوحِه كان سَهلًا؛ لأنَّ بَعضَ النَّاسِ يكونُ قَبْضُ رُوحِه شَديدًا؛ لالْتِفاتِه إلى ما ترَكَ في الدُّنْيا مِنَ المالِ، والعيالِ، والأحْبابِ، وطِيبِ العَيشِ، والمَساكِنِ الرَّفيعةِ.

وقولُه: «قلَّتْ بَواكيهِ»؛ أي: لم يكُنْ له مَن يَبْكي عليه مِن النِّساءِ؛ لأنَّه كان قَليلَ الأهْلِ والعيالِ، أو ليْس له مَن يَهتَمُّ به أو يَبْكيه؛ لفَقْرِه، وعَدمِ شُهرتِه عندَ النَّاسِ؛ فقدْ قلَّ ما يُوَرِّثُه لمَن بعْدَه، فلا يَهتَمُّ بمِثلِ هذا إلَّا أقلُّ القَليلِ.

وفي حديث أبي هُرَيرةَ رَضِي اللهُ عنه أن الرسول قال: «لا يَتمنَّيَنَّ أحدُكمُ الموتَ، إمَّا مُحسِنٌ، فلعلَّه يَزدادُ خَيرًا، وإمَّا مُسيءٌ لعلَّه يَستَعتِبُ»، فمَن كان على حالةٍ حَسَنةٍ في دِينِه؛ فإنَّه يُغبَطُ بمَوتِه قبْلَ تَغيُّرِ حالِه.

وهذا مِن التَّربيةِ للنَّاسِ أنْ يَتخَفَّفوا مِن حُبِّ الدُّنْيا، وما يَشغَلُهم عن طاعةِ اللهِ وعِبادتِه؛ لأنَّ الفَوزَ بحُبِّ اللهِ وحُسنِ جَزائِه في الآخِرةِ هو الهَدفُ والغايةُ، ولا يُنالُ ذلك إلَّا بالإقْبالِ على أمرِ الآخِرةِ منَ الصَّلاةِ، والذِّكْرِ، والعِباداتِ كلِّها، معَ إخْلاصِها للهِ.

ومن هؤلاء الغرباء: مَا ذَكرَهم أنسٌ في حديثه عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «ربّ أشعثَ أغبرَ، ذي طمرين لا يؤبَه له، لو أقسم على الله لأبرّه». وفي حديث أبي إدريس الخولانيِّ، عن معاذ بن جبلٍ، عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم عن ملوك أهل الجنّة؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «كلُّ ضعيفٍ أغبرَ ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه». 

وقال الحسن: المؤمن في الدُّنيا كالغريب لا يجزع مِن ذلِّها، ولا ينافس في عزِّها، للناس حالٌ وله حالٌ، النّاس منه في راحةٍ وهو من نفسه في تعبٍ. ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطَهم النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: التّمسُّكُ بالسُّنّة إذا رغب عنها النّاس، وتَرْكُ ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًّا، وأكثر النّاس لائمٌ لهم؛ فلغربتهم بين هذا الخلق: يَعُدُّونهم أهلَ شذوذٍ وبدعةٍ.

ولهذا جعَلَ له في هذا الوقت لمن تمسّك بدينه: أجرَ خمسين من الصّحابة. ففي «سنن أبي داود» و «الترمذيِّ» من حديث أبي ثعلبة الخشنيِّ قال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فقال: «بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتّى إذا رأيتَ شُحًّا مُطاعًا، وهوًى متّبعًا، ودنيا مؤثَرةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيه، فعليك بنفسك ودَعْ عنك العوامّ، فإنّ من ورائكم أيّام الصّبر؛ الصّبر فيهنّ مثل قبضٍ على الجمر، للعامل فيهنّ أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله، قلت: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم». وهذا الأجر العظيم إنّما هو لغربته بين النّاس، والتّمسُّك بالسُّنّة بين ظُلَم أهوائهم وآرائهم.

فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرةً في دينه، وفقهًا في سنّة رسوله، وفهمًا في كتابه، وأراه ما النّاس فيه من الأهواء والبدع والضّلالات، وتنكُّبهم عن الصِّراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا أراد أن يسلك هذا الصِّراط فليوطِّن نفسَه على قدح الجهّال وأهل البدع فيه، وطعنهم عليه، وإزْرائِهم به، وتنفير النّاس عنه وتحذيرهم منه، كما كان الكفّار يفعلون مع متبوعه وإمامه صلى الله عليه وسلم، فأمّا إن دعاهم إلى ذلك، وقدَحَ فيما هم عليه فهناك تقومُ قيامتُهم، ويبغون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، ويَجْلِبون عليه بخيلِ كبيرِهم ورَجِلِه. فهو غريبٌ في دينه لفسادِ أديانِهم، غريبٌ في تمسُّكه بالسُّنّة لتمسُّكهم بالبدع، غريبٌ في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريبٌ في صَلاته لسوء صلاتهم، غريبٌ في طريقه لفساد طُرُقهم، غريبٌ في نِسْبَتِه لمخالفة نِسَبِهِم، غريبٌ في معاشرته لهم، لأنّه يُعاشرهم على ما لا تهوى أنفسُهم. وبالجملة: فهو غريبٌ في أمور دنياه وآخرته، لا يجد مساعدًا ولا معينًا، فهو عالمٌ بين قوم جهّالٍ، صاحب سنّةٍ بين أهل بدعٍ، داعٍ إلى الله ورسوله بين دعاةٍ إلى الأهواء والبدع، آمرٌ بالمعروف ناهٍ عن المنكر بين قومٍ المعروف لديهم منكرٌ والمنكر معروفٌ. 

والنوع الثاني من الغربة: غربةٌ مذمومةٌ، وهي غربة أهل الباطل وأهل الفجور بين أهل الحقِّ.

والنوع الثالث: غربةٌ مشتركةٌ لا تُحمَد ولا تُذَمُّ، وهي الغربة عن الوطن؛ فإنّ النّاس كلَّهم في هذه الدّار غرباء، فإنّها ليست لهم بدار مُقامٍ، ولا هي الدّار التي خُلقوا لها، وقد قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «كنْ في الدُّنيا كأنّكَ غريبٌ أو عابر سبيلٍ»)

 لا أعْلَمُ رَجلًا أبْعَدَ مِنَ المَسْجِدِ مِنْهُ (أي باعتبار داره، والنووي رحمه الله ذكر هذا الحديث في هذا الباب لبيان أن السعي والمشي وكثرة الخطا للمسجد هو باب من أبواب الخير يغفُل عنه كثير من الناس)، وَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ (أي لا تفوته، مع بُعدِ داره عن المسجد ومع كون أُبَيٍّ رضي الله عنه وصفه بأنه لا يعرف شخصا أبعد دارا منه من المسجد النبوي إلا أن ذلك لم يمنعه من حضور كل الصلوات خلف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا ينبغي التفكير في حال هذا الصحابي رضي الله عنه، فمع شدة المعوقات تجد أغلب الصحابة على حال التوجه للآخرة، وتجد عزيمتهم نحو الفضائل والخيرات لا تنثني بل إنهم سبَّاقون للمبرات والخيرات التي يسمعونها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هذا حالَ الصالحين وعباد الله الأوابين وأهل الفضل من هذه الأمة.

 فَلَمَّا اسْتَنْفَرَ أَبُو بَكْرٍ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ وَالْيَمَامَةِ وَمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، سَارَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِيمَنْ سَارَ، فَلَمَّا لَقُوا مُسَيْلِمَةَ وَبَنِي حَنِيفَةَ وتراجع المسلمون ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ ثَابِتٌ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ: مَا هَكَذَا كُنَّا نُقَاتِلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَجَعَلَا لِأَنْفُسِهِمَا حُفْرَةً فَدَخَلَا فِيهَا، فَقَاتَلَا حَتَّى قُتِلَا. 

وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ لِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ: أَتَخْشَى أَنْ نُؤْتَى مِنْ قِبَلِكَ؟ فَقَالَ: بِئْسَ حَامِلُ الْقُرْآنِ أَنَا إِذًا. 

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَيُّهَا النَّاسُ، عَضُّوا عَلَى أَضْرَاسِكُمْ، وَاضْرِبُوا فِي عَدُوِّكُمْ، وَامْضُوا قُدُمًا. وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَتَكَلَّمُ حَتَّى يَهْزِمَهُمُ اللهُ أَوْ أَلْقَى اللَّهَ فَأُكَلِّمَهُ بِحُجَّتِي. فَقُتِلَ شَهِيدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وكانوا يتسابقون إلى القتل في سبيل الله لحماية هذا الدين مع شدة البلايا والمصائب والصعوبات والمعوقات، قال ابن حجر: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ: اسْتَهَمَ [اقترعَ] يَوْمَ بَدْرٍ خَيْثَمَةُ، وَابْنُهُ سَعْد، أَيُّهُمَا يَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَى بَدْرٍ، فَخَرَجَ سَهْمُ سَعْدٍ، فَقَالَ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، آثِرْنِي الْيَوْمَ، فَقَالَ سَعْدُ: يَا أَبَتِ لَوْ كَانَ غَيْرُ الْجَنَّةِ لَآثَرْتُكَ بِهَا، فَقُتِلَ سَعْدٌ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقُتِلَ أَبُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ.

وهذا الموقف من سعد رضي الله عنه مع أبيه يعطي صورة ظاهرة عن مدى حرص وتنافس الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة بدر على الخروج للجهاد والقتال في سبيل الله، بل وتنافسهم في الحرص على الشهادة والموت في سبيل الله طلبا للجنة، فسعد الابن ووالده خيثمة لا يستطيعان الخروج معا لاحتياج أسرتهما لبقاء أحدهما، فلم يتنازل أحدهما للآخر عن الخروج للقتال في غزوة بدر، رغبة في أن ينال هو الشهادة، حتى اضطرا إلى الاقتراع بينهما، فكان الخروج من نصيب سعد رضي الله عنه. وكان سعد رضي الله عنه في غاية البر والأدب مع والده، ولكنه كان حريصا على الجهاد في سبيل الله، مشتاقا إلى الجنة، ويعبر عن ذلك قوله لأبيه: “يا أبت لو كان غير الجنة فعلت [أي تركتك تخرج أنت]) صَلاةٌ (أي في المسجد كما يدل عليه السياق)، فَقيلَ لَهُ أَوْ فَقُلْتُ لَهُ (القائل هو أبيّ): لَوِ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا (قال الدميري: وكنية الحمار أبو صابر وأبو زياد، ويقال للحمارة أم نافع. ومنه نوع يصلح لحمل الأثقال ونوع لين الأعطاف سريع العدو. ويوصف بالهداية إلى سلوك الطرقات التي مشى فيها، ولو مرة واحدة، وبحدة السمع.

 وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم نهاقَ الحمير فتعوذ بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا، وإذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا»)

 تَرْكَبُهُ في الظَلْمَاء (فيقيك من أذى الحشرات المنتشرة في أوّل الظلمة) وفي الرَّمْضَاء؟ (فِي الْقَامُوسِ: رَمِضَ يَوْمُنَا كَفَرِحَ: اشْتَدَّ حَرُّهُ، وَقَدَمُهُ احْتَرَقَتْ مِنَ ‌الرَّمْضَاءِ لِلْأَرْضِ الشَّدِيدَةِ الْحَرَارَةِ، وَسُمِّيَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَقَلُوا أَسْمَاءَ الشُّهُورِ عَنِ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ سَمَّوْهَا بِالْأَزْمِنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا، فَوافَقَ زَمَنَ الْحَرِّ، أَوْ مِنْ رَمِضَ الصَّائِمُ: اشْتَدَّ حَرُّ جَوْفِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَحْرِقُ الذُّنُوبَ) 

(العرب سموا الأشهر العربية بناء على حوادث ووقائع وأحوال معينة تجري لهم في الزمان، فسموا المحرّم محرّما: لأنهم أغاروا فيه فلم ينجحوا، فحرّموا القتال فيه، فسمّوه محرّما. 

وسموا صفرا: لصفر بيوتهم فيه منهم عند خروجهم إلى الغارات. 

وقيل: لأنهم كانوا يُغيرون على الصّفريّة، وهي بلاد. 

وشهرا ربيع: لأنهم كانوا يخصبون فيهما بما أصابوا في صفر، والربيع الخصب. 

والجُماديان: من جمد الماء، لأن الوقت الذي سميا فيه بهذه التسمية كان الماء جامدا فيه لبرده. 

ورجب: لتعظيمهم له. والترجيب التعظيم. وقيل: لأنه وسط السنة فهو مشتق من الرواجب، وهي أنامل الأصبع الوسطى فسمي بذلك.

 وشعبان سمي بذلك لتشعبهم فيه للغارات. 

وسمي رمضان، أي شهر الحر. مشتق من الرمضاء. وشوّال، من شالت الإبل أذنابها إذا حالت، أو من شال يشول إذا ارتفع. 

وذو القعدة: لقعودهم فيه عن القتال إذ هو من الأشهر الحرم. 

وذو الحجة، لأن الحج اتفق فيه، فسمى به. ويقال إن أوّل من سماها بهذه الأسماء، كلاب بن مرّة) 

فَقَالَ: مَا يَسُرُّنِي (أي يُفرحني) أنَّ مَنْزِلي إِلَى جَنْبِ المَسْجِدِ (لم يقل هذا لكره قربه من المسجد بل لأنه يبغي الأجر الذي يُحَصِّله من البعد عن المسجد في المشي إليه)، إنِّي أريدُ (أي أقصد) أَنْ يُكْتَبَ لِي مَمشَايَ إِلَى المَسْجِدِ وَرُجُوعِي إِذَا رَجَعْتُ إِلَى أهْلِي (أي أجرهما)، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (أي فبلغ ذلك النبيّ فقال مخاطبًا له): «قَدْ جَمَعَ اللهُ لَكَ ذلِكَ كُلَّهُ» (أي ما ذكرت من أجر المشي والرجوع) (قال النووي: فِيهِ إِثْبَاتُ الثَّوَابِ فِي الْخُطَا فِي الرُّجُوعِ مِنَ الصَّلَاةِ كَمَا يَثْبُتُ فِي الذَّهَابِ). رواه مسلم. وفي رواية: «إنَّ لَكَ مَا احْتَسَبْتَ» (وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: [لك ما نويت]، أي لك جزاء ما نويته من الخيرات والفضائل، أي تثاب على خلوص نيتك بإذن الله، ولا يضيع الله إثابَتَك، فالإخلاص له مرتبة عالية في الشريعة). «الرَّمْضَاءُ»: الأرْضُ التي أصابها الحر الشديد.

الحديث الثامن والثلاثون بعد المائة

الثاني والعشرون: عن أبي محمد عبدِ اللهِ بنِ عمرو بن العاصِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «أرْبَعُونَ خَصْلَةً: أعْلَاهَا ‌مَنيحَةُ ‌العَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَة مِنْهَا؛ رَجَاءَ ثَوَابِهَا وتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا، إلَّا أدْخَلَهُ اللهُ بِهَا الجَنَّةَ». رواه البخاري. «المَنيحَةُ»: أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا لِيَأكُلَ لَبَنَهَا ثُمَّ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ.

الثَّاني والْعشْرُونَ: عنْ أَبِي محمدٍ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرو بن العاص رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: “أَرْبعُونَ خَصْلةً (فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ أَرْبَعُونَ حَسَنَةً. والمقصود هنا: نوعٌ من البرّ. وفي مختار الصحاح: الْخَصْلَةُ بِالْفَتْحِ الْخَلَّةُ، وَبِالضَّمِّ لَفِيفَةٌ مِنْ شَعَرٍ) أَعلاها (أي أعلاهن في المرتبة، وأعظمهن أجرا يعود على صاحبه، ولم يحدد هذه الأربعين خصلة، حتى لا يستقل الناس أي نوع من أنواع الخير والبر والفضائل، فلو ذكرها لقال بعضهم أترك هذه وأفعل هذه دون هذه، فلم يحدد صلى الله عليه وسلم هذه الأربعين خصلة حتى يتسابق الناس إلى الفضائل، منِيحةُ الْعَنْزِ (قال ابن حجر: الْمَنِيحَةُ بِالنُّونِ وَالْمُهْمَلَةِ  هِيَ فِي الْأَصْلِ الْعَطِيَّةُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمَنِيحَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ صِلَةً فَتَكُونَ لَهُ، وَالْآخَرُ أَنْ يُعْطِيَهُ نَاقَةً أَوْ شَاةً يَنْتَفِعُ بِحَلْبِهَا وَوَبَرِهَا زَمَنًا ثُمَّ يَرُدُّهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا عَارِيَّةَ ذَوَاتِ الْأَلْبَانِ لِيُؤْخَذَ لَبَنُهَا ثُمَّ تَرُدَّ هِيَ لِصَاحِبِهَا)

 (قال الدميري: العنز: الأنثى من المعز، والجمع أعنز . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الحوادث: «لا ينتطح فيها عنزان»، أي لا يلتقي فيها اثنان ضعيفان لأن النطاح من شأن التيوس والكباش لا العنوز، وهو إشارة إلى قضية مخصوصة لا يجزي فيها خلف ولا نزاع. 

وهي من الكلام الموجز البديع المفرد الذي لم يسبق إليه. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «حمي الوطيس»، ومات حتف أنفه، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»، ويا خيل الله اركبي، والولد للفراش وللعاهر الحجر»، وكل الصيد في جوف الفرا»، والحرب خدعة»، وإياكم وخضراءَ الدَّمِن [المرأةُ الحسناءُ في المَنبَتِ السّوءِ] وحديث: الْأَنْصَارُ ‌كَرِشِي ‌وَعَيْبَتِي [أي بطانتي وخاصتي] ولا يجني على المرء إلا يدُه، والشديد من غلب  نفسه عند الغضب، وليس الخبر كالمعاينة، واليد العليا خير من اليد السفلى، وغير ذلك من الكلمات وقد جمعها بعض الفقهاء).

مَا مِنْ عامَلٍ يعملَ (أي وهو مسلم مؤمن، لأن الإسلام شرط لقبول الأعمال الصالحة، والمؤمن هو الذي يؤمن بوجود الله عز وجل على ما يليق به مع الإقرار برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم) بِخَصْلَةٍ مِنْها رجاءَ ثَوَابِهَا (أي يرجو من الله الثوابَ المترتبَ عليها) وتَصْدِيقَ موْعُودِهَا (أي: ما وعد به فيها) إِلَّا أَدْخلَهُ اللَّهُ بِهَا (أي: بسبب قبوله عمله بفضله ومَنِّهِ) الْجنَّةَ (وكفى به موعودا وثوابا، فهي دار النعيم المقيم الذي لا يزول الذي من تفكر فيه كره هذه الدنيا وزهد فيها وبما فيها من نعيم زائل، وكان هذا حالَ الصالحين يطلبون ما عند الله ولا يلتفتون إلى هذه الدنيا فأتى بعضَهم البشائر أمام الناس حتى قرَّت أعينُ الموحدين واطمأنوا بما عند الله وبصدق وعده عز وجل.

 فقد روى ابن أبي الدنيا وابن سعد وأبو نعيم وابن عساكر والنووي وابن أبي شيبة وغيرهم عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وُضِعَ عِنْدَ قَبْرِهِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَسَقَطَتْ صَحِيفَةٌ بِأَحْسَنِ كِتَابٍ فَقَرَءُوهَا فَإِذَا فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ النَّارِ. فَأَدْخَلُوهَا بَيْنَ أَكْفَانِهِ، وَدَفَنُوهَا مَعَهُ. 

وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ أَوْصَى إِلَيَّ أَنْ أُغَسِّلَهُ وَأُكَفِّنَهُ، وَأَدْفِنَهُ فَإِذَا حَلَلْتُ عُقْدَةَ الْكَفَنِ، أَنْ أَنْظُرَ فِي وَجْهِهِ، قَالَ: فَلَمَّا فَعَلْتُ ذَلِكَ إِذَا وَجْهُهُ كَالْقَرَاطِيسِ بَيَاضًا، وَكَانَ قَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ دَفَنَ ثَلَاثَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ فَيَحُلُّ عَنْ وُجُوهِهِمْ فَإِذَا هِيَ مُسْوَدَّةٌ. رضي الله عنه فإنه لَمَّا احْتُضِرَ قَالَ: أَجْلِسُونِي. فَأَجْلَسُوهُ، فَقَالَ: إِلَهِي، أَنَا الَّذِي أَمَرْتَنِي فَقَصَّرْتُ، وَنَهَيْتَنِي فَعَصَيْتُ ثَلَاثًا وَلَكِنِّي أقول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَحَدَّ النَّظَرَ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَتَنْظُرُ نَظَرًا شَدِيدًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: إِنِّي لَأَرَى خَلقًا مَا هُمْ بِإِنْسٍ وَلَا جَانٍّ [رأى الملائكة]. ثُمَّ قُبِضَ مِنْ سَاعَتِهِ)”. رواه البخاري. “الْمنِيحةُ”: أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا ليأْكُل لبنَهَا ثُمَّ يَردَّهَا إِليْهِ.

شارك هذا الموضوع