المجسم كافر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
قال الله تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودّع منهم“ رواه الحاكم في المستدرك. وروى الإمام أحمد من طريق اسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس أنكم تقرءون هذه الآية {يا أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسَكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنّا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه“.ا
إخوة الإيمان لقد أجمع علماء الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها على كفر القائلين بالجسم والجهة في حق الخالق عز وجل، لأن ذلك فيه تكذيب صريح للقرءان الكريم. وفي ما يلي سننقل لكم بعون الله تعالى إجماع العلماء في حكم من يعتقد أن الله يسكن السماء أو يتحيز فوق العرش أو في غير ذلك من الأماكن.ا
قال الخليفة الراشد الإمام عليّ رضي الله عنه [من زعمَ أنّ إلهنا محدود فقد جهِل الخالق المعبود] رواه أبو نعيم في الحلية (1/73). ا
وقال رضي الله عنه [سيرجع قوم من هذه الأمة عند اقتراب الساعة كفارًا ينكرون خالقهم فيصفونه بالجسم والأعضاء] راوه ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي ص: 588.ا
وقال الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه [من زعم ان الله فى شىء او على شىء او من شىء فقد اشرك] الرسالة القشيرية ص 6ا
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه قال [لا يُكفَّر أهل القبلة وأستثني المجسم] ذكره السيوطي في كتابه الأشباه والنظائر في كتاب الردة. ولمن طعن في نقل السيوطي مدعيًا بأن لا سند للقول نقول: ثبت عند السيوطي وهو حافظ ثقة، ولو لم يثبت عنده لابتدأ كلامه قائلا “رُوي عن الشافعي” أو “قيل”. ومعنى قول الإمام “لا يُكفَّر أهل القبلة” أي ما لم تصل بدعتهم إلى حد الكفر، فإن وصلت فهم كفار لما ثبت عن الشافعي أنه كفّر حفصًا الفرد المعتزلي لقوله بخلق القرءان.ا
وقد نُقل عن الشافعي نقل ثان وهو ما نقله ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي عن القاضي حسين عن نص الشافعي، في ص551 ما نصه [وهذا ينظم من كفره مجمع عليه ومن كفرناه من أهل القبلة كالقائلين بخلق القرءان وبأنه لا يعلم المعدومات قبل وجودها ومن لا يؤمن بالقدر. وكذا من يعتقد بأن الله جالس على العرش كما حكاه القاضي حسين هنا عن نص الشافعي ]. والقاضي حسين بن محمد هو إمام جليل أحد أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي وكان يُلقب حبر الأمة كما قيل في عبد الله بن عباس رضي الله عنه حبر الأمة ونقل ذلك عن نص الشافعي رضي الله عنه وهو من الثقات.ا
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه [المجسّم كافر] ذكره الحافظ السيوطي في “الأشباه والنظائر” ص 488 ا
وقال الإمام أحمد رضي الله عنه [من قال الله جسم لا كالأجسام كفر] رواه عن الإمام أحمد أبو محمد البغدادي صاحب الخصال من الحنابلة كما رواه عن أبي محمد الحافظ الفقيه الزركشي في كتابه “تشنيف المسامع” المجلد 4 ص 684ا
وقال القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي المتوفى سنة 422هـ في شرحه على عقيدة مالك الصغير ص: 28 [ولا يجوز أن يثبت له كيفية لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشىء، ولا سألته الصحابة عنه، ولأن ذلك يرجع إلى التنقل والتحول وإشغال الحيّز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤول إلى التجسيم وإلى قِدم الأجسام وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام]ا
قال الشيخ الكمال بن الهمام الحنفي [من قال الله جسم لا كالأجسام كفر] ذكر ذلك في شرح فتح القدير باب صفة الأئمة في المجلد الأولا
قال الإمام أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه [من اعتقد أن الله جسم فهو غير عارف بربه وإنه كافر به] ذكره في كتابه النوادرا
قال الشيخ نظام الهندي في كتابه الفتاوى الهندية المجلد الثاني [ويكفر بإثبات المكان لله]ا
قال الإمام محمد بن بدر الدين بن بلبان الدمشقي الحنبلي في كتابه مختصر الإفادات ص: 489 [فمن اعتقد أو قال إن الله بذاته في كل مكان أو في مكان فكافر] ا
وقال في ص: 490 [ولا يشبه شيئًا ولا يشبهه شيء، فمن شبهه بشىء من خلقه فقد كفر كمن اعتقده جسمًا أو قال إنه جسم لا كالأجسام]ا
ونقل الحافظ النووي عن الإمام المتولي الشافعي في روضة الطالبين المجلد العاشر ص: 15 [أن من وصف الله بالاتصال والانفصال كان كافرًا]ا ا
وقال المفسر الرازي [إن اعتقاد أن الله جالس على العرش أو كائن في السماء فيه تشبيه الله بخلقه وهو كفر]ا
وجاء في المنهاج القويم على المقدمة الحضرمية في الفقه الشافعي لعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر بافضل الحضرمي [واعلم أن القرافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم وهم حقيقون بذلك] ومثل ذلك نقل ملا علي القاري في كتابه المرقاة في شرح المشكاة.ا
وقال الحافظ السيوطي عبد الرحمن جلال الدين بن أبي بكر [المجسم كافرٌ قطعًا] يعني بلا خلاف ولا تردد ولا توقف جزمًا.ا
وقال أبو الحسن علي بن خلف بن بطال في شرحه على البخاري الجزء العاشر ص: 432 خلافا لما تقوله المجسمة من أنه جسم لا كالأجسام [واستدلوا على ذلك بهذه الآيات كما استدلوا بالآيات المتضمنة لمعنى الوجه واليدين ووصفه لنفسه بالإتيان والمجيء والهرولة في حديث الرسول وذلك كله باطل وكفر من متأوله] وفيه تكفير لمن يقول الله جسم لا كالأجساما
ومثل ذلك تماما قال سراج الدين ابن الملقن الشافعي المتوفى من 804هـ في كتابه التوضيح المجلد 33 ص: 256 [فإنه يكفر من يقول عن الله جسم لا كالأجسام]ا
ونقل عبد الرحمن الجزيري في كتابه الفقه على المذاهب الأربعة في المجلد الخامس ص: 396 تكفير المجسم، يعني أنّ المجسم كافر في المذاهب الأربعة يعني الإجماع.
وقد نقل الإمام أبو جعفر الطحاوي الإجماعَ على تكفير المجسم كما في عقيدته المشهورة بالعقيدة الطحاوية، فقال رحمه الله [ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر]. والدليل على أن السلف كانوا مُجمعين على ذلك قول الإمام الطحاوي في بداية عقيدته “هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة”. أما قوله “على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني” فهو يعني بذلك على أسلوبهم، وإلا فلا يوجد شىء في العقيدة انفرد فيه هؤلاء عن غيرهم فما فائدة ذكره اسم أبي حنيفة وصاحبيه إذن؟ا
قال أبو قاسم القشيري في الرسالة القشيرية ما نصه [سمعت أبا بكر بن فورك رحمه الله يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول: كنت أعتقد شيئًا من حديث الجهة فلما قدمت بغداد زال ذلك عن قلبي، فكتبت إلى أصحابنا بمكة إني أسلمت إسلاما جديدًا] اهـ. قال السبكي في الطبقات [قال فرجع كل من كان تابعه عن ذلك]. ا
وقال الإمام أبو منصور البغدادي في كتابه تفسير الأسماء والصفات ص228 المخطوط المصوّر [فأمّا أصحابنا، فإنهم وإن أجمعوا على تكفير المعتزلة والغلاة من الخوارج والنجارية والجهمية والمشبهة فقد أجازوا لعامّة المسلمين معاملتَهُم في عقود البياعات والإجارات والرهون وسائر المعاوضات دون الأنكحة]. وكلامه صريح في انعقاد الإجماع على تكفير المشبهة المجسمة، ولا فرق حقيقي بين الإثنين فالمشبه مجسم والمجسم مشبه وهذا قول الإمام البغدادي كما تجده في كتابه “أصول الدين” وإلى مَن يطعن في مرتبة هذا الإمام ويحط من قدره نقول: قال فيه الإمام السبكي في طبقات الشافعية الكبرى ما نصه [إمام عظيم القدر جليل المحل كثير العلم حبر لا يساجل في الفقه وأصوله والفرائض والحساب وعلم الكلام، اشتهر اسمه وبعد صيته وحمل عنه العلم أكثر أهل خراسان].
ا
ويقول فيه الصابوني [كان من أئمة الأصول وصدور الإسلام بإجماع أهل الفضل والتحصيل بديع الترتيب غريب التأليف والتهذيب تراه الجلة صدرا مقدما وتدعوه الأئمة إماما مفخما ومن خراب نيسابور اضطرار مثله إلى مفارقتها]. فهو إمام مُجمع على إمامته رغم أنف من طعن فيه، والحق يعلو ولا يُعلا عليه.ا
وقال الإمام أبو منصور البغدادي أيضًا في “تفسير الأسماء والصفات” ص 188 ما نصه [وأما أصحابنا فإن شيخنا أبا الحسن الأشعري وأكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل السنة والجماعة قالوا بتكفير كل مبتدع كانت بدعته كفرا أو أدته إلى كفر كقول من يزعم أن معبوده صورة أو له حد أو نهاية، أو يجوز عليه الحركة والسكون أو أنه روح ينتقل في الأجساد، وأنه يجوز عليه الفناء أو على بعضه، أو قال أنه ذو أبعاض وأجزاء] اهـ. وقوله “أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل السنة والجماعة” لا يعني بالمرة أن في المسألة خلافـًا لكون الإجماع قد انعقد وكون الإمام البغدادي هو نفسه من ناقليه رحمه الله.ا
وقال الإمام أبا عبد الله الحليمي في كتابه المنهاج في شعب الإيمان (1/ 184) ما نصه [وأما البراءة من التشبيه بإثبات أنه تعالى ليس بجوهر ولا عرض، فلأن قوما زاغوا عن الحق فوصفوا البارىء جل ثناؤه ببعض صفات المحدثين، فمنهم من قال: إنه جوهر، ومنهم من قال: إنه جسم، ومنهم من أجاز أن يكون على العرش كما يكون الملك على سريره، وكان ذلك في وجوب اسم الكفر لقائله كالتعطيل والتشريك. فإذا أثبت المثبت أنه ليس كمثله شيء، وجماع ذلك أنه ليس بجوهر ولا عرض فقد انتفى التشبيه، لأنه لو كان جوهرا أو عرضا لجاز عليه ما يجوز على سائر الجواهر والأعراض، ولأنه إذا لم يكن جوهراً ولا عرضا لم يجز عليه ما يجوز على الجواهر من حين إنها جواهر كالتآلف والتجسم وشغل الأمكنة والحركة والسكون، ولا ما يجوز على الأعراض من حيث إنها أعراض كالحدوث وعدم البقاء]. قال فيه السبكي في “طبقات الشافعية الكبرى” ما نصه [أحد أئمة الدهر وشيخ الشافعيين بما وراء النهر، قال فيه الحاكم الفقيه القاضي أبو عبد الله بن أبي محمد أوحد الشافعيين بما وراء النهر وأنظرهم بعد أستاذيه أبي بكر القفال وأبي بكر الأودني] اهـ.ا
وقال الإمام الحجة الأسفراييني الشافعي أبو المظفر في كتابه “التبصير في الدين” بعد أن ذكر بعض أقوال المجسمة الهِشامية في إثبات الصورة واليد والرجل والأنف والأذن والعين وغير ذلك من صفات المخلوقين في حق الله ما نصه [والعقل بأول وهلة يعلم أن من كانت هذه مقالته لم يكن له في الإسلام حظ] اهـ.ا
وقال أبو المظفر أيضًا في نفس الكتاب ما نصه [وأما الهشامية فإنهم أفصحوا عن التشبيه بما هو كفر محض بإتفاق جميع المسلمين وهم الأصل في التشبيه وإنما أخذوا تشبيههم من اليهود حين نسبوا إليه الولد وقالوا عزير ابن الله وأثبتوا له المكان والحد والنهاية والمجيء والذهاب تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا].ا والأسفراييني كان إمامًا أصوليًا مفسرًا فقيهًا، وكان له اتصال مصاهرة بالأستاذ أبي منصور البغدادي وتوفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة.ا
وقال حجة الإسلام والإمام الكبير الشيخ أبو حامد الغزالي في رسالته “إلجام العوام عن علم الكلام” ما نصه [الوظيفة الأولى: التقديس ومعناه أنه إذا سمع اليد والإصبع وقوله صلى الله عليه وسلم إن الله خمر طينة ءادم بيده وإن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن، فينبغي أن يعلم أن اليد تطلق لمعنيين أحدهما هو الموضع الأصلي وهو عضو مركب من لحم وعصب، واللحم والعظم والعصب جسم مخصوص وصفات مخصوصة أعني بالجسم عبارة عن مقدار له طول وعرض وعمق يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو إلا بأن يتنحى عن ذلك المكان، وقد يستعار هذا اللفظ أعني اليد لمعنى ءاخر ليس ذلك المعنى بجسم أصلا كما يقال:ا البلدة في يد الأمير فإن ذلك مفهوم وإن كان الأمير مقطوع اليد مثلا فعلى العامي وغير العامي أن يتحقق قطعًا ويقينًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد بذك جسمًا هو عضو مركب من لحم ودم وعظم، وأن ذلك في حق الله تعالى محال وهو عنه مقدس، فإن خطر بباله أن الله جسم مركب من أعضائه فهو عابد صنم فإن كل جسم فهو مخلوق، وعبادة المخلوق كفر، وعبادة الصنم كانت كفرًا لأنه مخلوق، وكان مخلوقًا لأنه جسم فمن عبد جسمًا فهو كافر بإجماع الأمة السلف منهم والخلف]. فهذا تصريح وتقرير من الإمام الغزالي على انعقاد إجماع السلف والخلف على تكفير المجسم فعلى هذا يُحمل كل ما جاء في كتب الإمام من ما يخالف هذا الإجماع على أنه مدسوس عليه، فإن أبى المعترض إلا أن يثبتها – أي المخالفات – للغزالي يقال له:رسالة إلجام العوام هي من ءاخر تصانيف الإمام فلو سلـّمنا لك ما تدعيه قلنا -من باب التنزل – قد رجع الغزالي عن ذاك المعتقد الباطل ووافق الإجماع في قوله الأخير والحمد لله على ذلك.ا
وقال الإمام الغزالي في كتابه “المستصفى من علم الأصول” ما نصه [أما إذا كفر ببدعته فعند ذلك لا يعتبر خلافه وإن كان يصلي إلى القبلة ويعتقد نفسه مسلما لأن الأمة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة بل عن المؤمنين وهو كافر وإن كان لا يدري أنه كافر، نعم لو قال بالتشبيه والتجسيم وكفرناه فلا يستدل…] إلى ءاخر كلامه رحمه الله. وهذا تأكيد على ما سبق نقلُه من كلام الإمام كما في “إلجام العوام”، وأحسب أني قرأت أن المستصفى كان أيضًا من أواخر تصانيفه رحمه الله.ا
وقال الإمام أبو سعيد المتولي الشافعي الأشعري في كتابه “الغنية في أصول الدين” ص/74 ما نصه [والغرض من هذا الفصل نفي الحاجة إلى المحل والجهة خلافا للكرامية والحشوية والمشبهة الذين قالوا إن لله جهة فوق وأطلق بعضهم القول بأنه جالس على العرش مستقر عليه تعالى الله عن قولهم والدليل على أنه مستغن عن المحل أنه لو افتقر إلى المحل لزم أن يكون المحل قديما لأنه -أي الله- قديم، أو يكون -أي الله- حادثا كما أن المحل حادث، وكلاهما كفر والدليل عليه أنه لو كان على العرش على ما زعموا لكان لا يخلو إما أن يكون مثل العرش أو أصغر منه أو أكبر، وفي جميع ذلك إثبات التقدير والحد والنهاية وهو كفر والدليل عليه أنه لو كان في جهة وقدرنا شخصا أعطاه الله تعالى قوة عظيمة واشتغل بقطع المسافة والصعود إلى فوق لا يخلو إما أن يصل إليه وقتا ما أو لا يصل إليه فإن قالوا: لا يصل إليه فهو قول بنفي الصانع لأن كل موجودين بينهما مسافة معلومة وأحدهما لا يزال يقطع تلك المسافة ولا يصل إليه يدل على أنه ليس بموجود فإن قالوا: يجوز أن يصل إليه ويحاذيه فيجوز أن يماسه أيضا، ويلزم من ذلك كفران:ا
أحدهما: قدم العالم، لأنا نستدل على حدوث العالم بالافتراق والاجتماع.ا
والثاني : إثبات الولد والزوجة على ما قالت النصارى لأن الذي يقطع المسافة ويصعد إلى فوق يجوز أن يكون امرأة تتصل به وكل ذلك كفر وضلال تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا] اهـ.ا
وهذا الإمام المتولي كان أحد أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي، وهم الطبقة التي تلي طبقة المجتهدين كالشافعي وأحمد ومالك وأبي حنيفة والأوزاعي وغيرهم،ا ويقال لهم أيضًا مجتهدون في المذهب أي أن اجتهادهم لا يخرج عن اجتهاد إمامهم إنما يكون ضمن مذهبه. وهذا نص صريح من الإمام على تكفير المجسمة عبدة الوهم والخيال، نسأل الله السلامةا
وقال الإمام المتولي أيضا ما نصه [مَن اعتقد قِدَم العالم، أو حدوث الصانع، أو نفى ما هو ثابت للقديم بالإجماع ككونه عالما وقادرا، أو أثبت ما هو منفي عنه بالإجماع كالألوان، أو أثبت له الاتصال والانفصال كان كافرا] اهـ. نقله الإمام النووي في كتابه “روضة الطالبين وعمدة المفتين” مقرا له، وفي كلامه هذا دليل على تكفير الشافعية للقائلين بما يستلزم الجسمية في حق الله وإن لم يعبّروا عن معتقدهم بلفظ “الجسم”، فإن الاتصال والانفصال من صفات الجسم لا محالة.ا
وأما الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى فقد صرح بكفر المجسم في أكثر من موضع في تفسيره ونذكر هنا كلامه عند تفسير قوله تعالى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} قال رحمه الله ما نصه [إن الدليل دل على أن من قال إن الإله جسم فهو منكر للإله تعالى، وذلك لأن إله العالم موجود ليس بجسم ولا حال في الجسم، فإذا أنكر المجسم هذا الموجود فقد أنكر ذات الإله تعالى، فالخلاف بين المجسم والموحد ليس في الصفة، بل في الذات، فصح في المجسم أنه لا يؤمن بالله] اهـ.ا
وقال الرازي أيضًا عند شرح قوله تعالى {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ما نصه [أما الإيمان بوجوده، فهو أن يعلم أن وراء المتحيزات موجودًا خالقـًا لها، وعلى هذا التقدير فالمجسم لا يكون مقرًا بوجود الإله تعالى لأنه لا يثبت ما وراء المتحيزات شيئًا ءاخر فيكون اختلافه معنا في إثبات ذات الله تعالى] اهـ.ا
وممن نقل الإجماع على تكفير المجسم أيضًا الإمام ولي الدين العراقي ابن شيخ الحفاظ زين الدين العراقي، فقد قال رحمه الله في أماليه ما نصه [اتفق السلف والخلف أن من اعتقد أن الله في جهة فهو كافر] اهـ.ا
وقال الفقيه المتكلم ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ما نصه [والذي يَعبُدُ جسمًا على عرشٍ كبير ويجعل جسمه كقبر أبي قبيس سبعة أشبار بشبره كما حكي عن هشام الرافضي أو كلامًا ءاخر تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم فقد عبد غير الله فهو كافر، وقال إن قسمًا من القائلين بالتحيز بالجهة أطلقوا الجسمية ومنعوا التأليف والتركيب وقالوا: “عنيت بكونه جسمًا وجوده” وهؤلاء كفروا]. تعالى الله ربنا العظيم عما يقوله الظالمون علوًا كبيرًا.ا
وقال ابن بطال الشافعي في شرحه على صحيح البخاري ما نصّه [والحديث على أن لله صفة سماها عينًا ليست هو ولا غيره، وليست كالجوارح المعقولة بيننا لقيام الدليل على استحالة وصفه بأنه ذو جوارح وأعضاء خلافًا لما تقوله المجسمة من أنه جسمٌ لا كالأجسام، واستدلوا على ذلك بهذه الآيات كما استدلوا بالآيات المتضمنة لمعنى الوجه واليدين، ووصفه لنفسه بالإتيان والمجئ والهرولة فى حديث الرسول، وذلك كله باطل وكفر من متأوله].ا
وقال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم ما نصه [قوله صلى الله عليه وسلم (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم إلى آخره) قال القاضي عياض رحمه الله: هذا يدل على أنهم ليسوا بعارفين الله تعالى، وهو مذهب حذاق المتكلمين في اليهود والنصارى أنهم غير عارفين الله تعالى وإن كانوا يعبدونه ويُظهرون معرفته لدلالة السمع عندهم على هذا وإن كان العقل لا يمنع أن يعرف الله تعالى من كذب رسولا. قال القاضي عياض رحمه الله: ما عرف الله تعالى من شبهه وجسمه من اليهود أو أجاز عليه البداء أو أضاف إليه الولد منهم، أو أضاف إليه الصاحبة والولد وأجاز الحلول عليه والانتقال والامتزاج من النصارى أو وصفه بما لا يليق به أو أضاف إليه الشريك والمعاند في خلقه من المجوس والثنوية فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله وإن سموه به إذ ليس موصوفا بصفات الإله الواجبة له.
فإذن ما عرفوا الله سبحانه فتحقق هذه النكتة واعتمد عليها وقد رأيت معناها لمتقدمي أشياخنا وبها قطع الكلام أبو عمران الفارسي بين عامة أهل القيروان عند تنازعهم في هذه المسألة. هذا آخر كلام القاضي رحمه الله تعالى] اهـا
وقال الإمام أبو حنيفة الذي هو من رؤوس السلف، فإنه توفي سنة مائة وخمسين في “الفقه الأبسط ” [ويتكلم لا ككلامنا . نحن نتكلم بالآلات من المخارج والحروف والله متكلم بِلا ءالة ولا حرف . فصفاته غير مخلوقة ولا محدثة ، والتغير والاختلاف في الأحوال يحدث في المخلوقين ومن قال إنها محدثة أو مخلوقة أو توقف فيها أو شك فيها فهو كافر].ا
وجاء في كتاب المعيار المعرب للوانشريسي (المجلد الثاني الصحيفة 882) [وكتب بالمسألة أيضا إلى سيدي عبد الرحمن الواغليسي. فأجاب الحمد لله تعالى. أسعدكم الله وسددكم وإيانا لمرضاته. بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقد وصل إلي ما كتبتموه مما فهمتم من فتوى الشيخين أبي العباس بن إدريس وأبي العباس أحمد بن عيسى فيمن يقول لا إله إلا الله ولم يدر ما انطوت عليه أن فتوى سيدي أحمد بن إدريس نصها من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن حقا، فمقتضى هذا الفهم من جواب الشيخ أن من نطق بالشهادة يجزئه نطقه وإن جهل معناه وما انطوت عليه الكلمة من مدلولها، فاعلم أن هذا الفهم عن الشيخ رحمه الله باطل لا يصح، فإنه يلزم منه أن من قال ذلك وهو معتقد في الإله تعالى شبه المخلوقات وصورة من صور الموجودات أن يكون مؤمنا حقا، وقد وجدنا من الجهلة من هو كذلك وكتب إلينا بذلك وأشباهه. ومن اعتقد ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين. وقد نص أئمتنا على ذلك وعلى غيره مما هو كفر بإجماع، فلا يصح ذلك عن الشيخ أصلا ولا يصح أن يختلف في هذا أو شبهه. وفي هذا أجاب سيدي أحمد بن عيسى. وقد تحدثت أنا مع سيدي أحمد بن إدريس وذكرت له ما يقول صاحبنا فوافق عليه وقال هذا حق لا يقال غيره] انتهى ما ذكره الوانشريسي. (نقلا من كتاب العلامة الهرري رحمه الله “التحذير الشرعي الواجب” ص 122-123). فهذا الشيخ عبد الرحمن الواغليسي(توفي سنة 786هـ) نقل الإجماع على كفر المجسم.ا
وقال الإمام ابن الجزري في كتابه ” معراج المنهاج ” [فمن كان من أهل قبلتنا وخالف ، فإن لم نكفره فلا كلام في قبول روايته ، وإن كفرناه ، كالقائلين بالتجسيم ، فنقول إن علمنا من مذهبهم تحريم الكذب قبلنا روايتهم وإلا فلا]ا
وقال الإمام العلامة فخر الدين أحمد بن حسن الجاربردي التبريزي المتوفي سنة 746 هجرية في كتابه “السراج الوهاج” (وهو تلميذ الإمام ناصر الدين البيضاوي، وهو من مشايخ الإمام العضد الإيجي والإمام الأردبيلي) [إعلم أنه قال الأصوليون : شرطه الإسلام ، وإنما عدل المصنف إلى هذه العبارة لأن المجسمة كفار عند الأشاعرة]ا
وقال الإمام العلامة شمس الدين محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني المتوفى سنة 749 هجرية في شرحه على المنهاج [وتقبل رواية الكافر الموافق اي الذي هو من أهل القبلة، ولكن يخالف الجماعة في معتقد يتضمن الكفر كالمجسمة]ا
وقال الإمام محمد بن الحسن البدخشي المتوفى سنة 922 هجرية في شرحه على المنهاج [ولم يقل الإسلام كما هو المشهور لئلا يخرج مثل المجسمة أي الكافر الموافق في القبلة المخالف في الإعتقاد إلى حد يوجب الكفر ، فإنه مقبول الرواية إذا احترز عن الكذب وإليه اشار قوله ( فتقبل رواية الكافر الموافق ) في القبلة ( كالمجسمة ) الكفار عند الأشاعرة ونحوهم] ا
ويقول الإمام محمد بن الحسين الأرموي المتوفى سنة 653 هجرية في كتابه ” الحاصل من المحصول ” [الكافر الموافق في القبلة كالمجسمة مقبول الرواية إن علم أن مذهبه التحرز عن الكذب]ا
وقال الإمام السيوطي في كتابه تدريب الراوي [السابعة من كفر ببدعته، وهو كما في شرح المهذب للمصنف المجسم ومنكر علم الجزئيات قيل وقائل خلق القرآن فقد نص عليه الشافعي واختاره البلقيني ومنع تأويل البيهقي له بكفران النعمة بأن الشافعي قال ذلك في حق حفص القرد لما أفتى بضرب عنقه وهذا رادٌ للتأويل] ا
وقال الإمام الرازي يقول في كتاب معالم أصول الدين [بل الأقرب أن المجسمة كفار لأنهم اعتقدوا ان كل ما لا يكون متحيزاً ولا في جهة فليس بموجود ، ونحن نعتقد أن كل متحيز فهو محدث وخالقه موجود ليس بمتحيز ولا في جهة، فالمجسمة نفوا ذات الشىء الذي هو الإله فيلزمهم الكفر] ا
وقال الإمام الجويني في كتاب “التلخيص” [وكذلك من كفر من أهل القبلة وصدر منه ما يوجب تكفيره فهو مردود الشهادة وإن كان من المتأولين المنتمين إلى أهل القبلة وذهب بعض العلماء إلى ان من بدر منه الفسق وهو متأول ظان أنه مباح فذلك لا يوجب رد شهادته إذا كان مشهرا بالصدق وتوقي الخلف وذلك نحو قتل الخوارج الناس واستحلالهم الأموال والدماء على اعتقاد الإباحة مع استشهادهم بتوقي الخلف ومصيرهم إلى أنه كفر، والمختار عندنا رد شهادتهم لكفرهم وما يبدر منهم من فسقهم وإن اعتقدوه حسنا ، والذي يحقق ذلك اتفاق الأمة على أن تأويلهم وظنهم وحسابهم لا يعذرهم فيما يبدر منهم ولكن اعتقاد الحسن فيما أجمع المسلمون على قبحه إذا انضم إلى القبيح كانا قبيحين منضمين لا يقدر انفصال أحدهما من الآخر إجماعا واتفاقا وكذلك القول في الكفر وتأويله ولو ساغ أن يعذر المأولون ساغ أن يعذر أهل الملل].ا
وقال البيهقي في “شعب الإيمان ” في الجزء الأول صحيفة 103 [وأما البراءة من التشبيه بإثبات أنه ليس بجوهر ولا عرض فلأن قوما زاغوا عن الحق فوصفوا الباري جل وعز ببعض صفات المحدثين ، فمنهم من قالك إنه جوهر، ومنهم من قال إنه جسم، ومنهم من أجاز أن يكون على العرش قاعدا كما يكون الملك على سريره وكل ذلك في وجوب اسم الكفر لقائله كالتعطيل والتشريك]ا
انتهى من كتاب “شعب الإيمان ” طبعة دار الكتب العلمية – بيروت ، الطبعة الأولى ، 1410 هجرية.ا
وقال العلامة المناوي في كتاب “فيض القدير” ما نصه [والكلام كله في مبتدع لا يكفر ببدعته أما من كفر بها كمنكر العلم بالجزئيات، وزاعم التجسيم أو الجهة أو الكون أو الاتصال بالعالم أو الانفصال عنه فلا يوصف عمله بقبول ولا رد لأنه أحقر من ذلك]ا
وقال ملا علي القاري في “شرح الفقه الأكبر” صحيفة 355 [من ادعى إدعاء معيناً مشتملاً على إثبات المكان والهيئة والجهة من مقابلة وثبوت مسافة وأمثال تلك الحالة ، فيصير كافراً لا محالة]ا
وقال [البدعة لا تزيل الإيمان والمعرفة] ثم استثنى منها فقال [إلا التجسيم وإنكار علم الله سبحانه بالجزئيات فإنه يكفر بهما بالإجماع من غير نزاع].ا
وفي نفس الكتاب “شرح الفقه الأكبر” ينقل ملا عليّ القاري عن الشارح الآخر وهو الإمام القونوي فيقول [ثم قال القونوي: وفي قوله (يعني الإمام أبا حنيفة) “بذنب” إشارة إلى تكفيره بفساد الإعتقاد كفساد اعتقاد المجسمة والمشبهة والقدرية ونحوهم]ا
وقال الشيخ علي القاري في شرحه على رسالة المكفرات التي ألفها الفقيه الحنفي بدر الرشيد (وهو المذكور في متن المختصر لشيخنا رحمه الله) ما نصه [نعم من اعتقد أن الله لا يعلم الأشياء قبل حصولها فهو كافر وإن عد قائله من أهل البدع ، وكذا من قال بأنه سبحانه جسم وله مكان ويمر عليه زمان ونحو ذلك فإنه كافر حيث ما ثبت له حقيقة الإيمان]ا
قال شيخ الأزهر الشيخ الأستاذ سليم البشري [من اعتقد أن الله جسم أو أنه مماس للسطح الأعلى من العرش وبه قال الكرامية واليهود وهؤلاء لا نزاع في كفرهم] نقله عنه الشيخ سلامة القضاعي العزامي في كتابه “فرقان القرءان” ص 100.ا
وقال الشيخ محمود محمد خطاب السبكي في كتابه إتحاف الكائنات [وقد قال جمع من السلف والخلف: إن من اعتقد أن الله في جهة فهو كافر].ا
وبعد هذه النصوص الواضحات والنقول الساطعات نقول: إن من نظر إلى كلام الأئمة المتقدمين عرف أن الخلاف المزعوم في كفر المجسم لا أساس له من الصحة وهو مناقض لما قد ثبت من إجماع حول هذا الأمر. فيا عجبا من مداهن مكابر يصر على رد كل هذه الأدلة بغية الدفاع عن الخلاف المزعوم في تكفير المجسم.ا
ولينظر هؤلاء إلى ما قاله زعيم المجسمة الحراني في رسالته المسماة الفتوى الحموية الكبرى ص 4 ما نصه [بل أكثر أهل السنة من أصحابنا وغيرهم يكفرون المشبهة والمجسمة]، فإذا كان رأس المجسمة يكفر المجسمة وهذا دليل على تخبطه وتناقضه، فكيف بالذي يدعي أنه أشعري منزه ويقول أن لا اكفر المجسم ولكن أقول قوله كفر أما هو فليس بكافر !!!!!!!!!!!! وأخيراً نقول لهؤلاء القوم، ألم تسمعوا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم [إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه]. رواه مسلم ماذا سيقول هؤلاء المداهنون المدلسون؟؟؟؟ هل سيقولون أن كل هؤلاء الأئمة كفارٌ على زعمهم؟؟؟ حسبنا ونعم الوكيل والحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله .والحمد لله على نعمة الإسلام.
المطلب الثالث
بيان أن الإجماع قائم على تكفير المجسم والجهوي
وقد نقل جمهرة من الأعلام الإجماع على تكفير المجسم والجهوي، وهذا التكفير لمثبت الجهة لله تعالى واضح، لأن معتقد الجهة لا يمكنه إلا أن يعتقد التحيز والجسمية، وإن قال غير ذلك فهو قول متناقض، وممن نقل ذلك:
قال الشيخ ابن حجر الهيتمي: «واعلم أن القرافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم ، وهم حقيقون بذلك»[(937)] أي جديرون بالحكم عليهم بالكفر.
قال الشيخ ابن حجر الهيتمي: عقيدة إمام السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه وجعل جنان المعارف متقلَّبه ومأواه وأفاض علينا وعليه من سوابغ امتنانه وبوأه الفردوس الأعلى من جنانه، موافقة لعقيدة أهل السنة والجماعة من المبالغة التامة في تنزيه الله تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا من الجهة والجسمية وغيرهما من سائر سمات النقص، بل وعن كل وصْف ليس فيه كمال مطلق، وما اشتهر بين جهلة المنسوبين إلى هذا الإمام الأعظم المجتهد من أنه قائل بشىء من الجهة أو نحوها فكذب وبُهتان وافتراء عليه، فلعن الله من نسب ذلك إليه، أو رماه بشىء من هذه المثالب التي برَّأه الله منها، وقد بين الحافظ الحجة القدوة الإمام أبو الفرج بن الجوزي من أئمة مذهبه المبرئِّين من هذه الوصمة القبيحة الشنيعة، أنَّ كل ما نسب إليه من ذلك كذب عليه وافتراء وبهتان وأن نصوصه صريحة في بطلان ذلك وتنزيه الله تعالى عنه فاعلم ذلك فإنه مهم.
وإياك أنْ تصغى إلى ما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهما ممن اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله، وكيف تجاوز هؤلاء الملحدون الحدودو وتعدوا الرسوم وخرقوا سياج الشريعة والحقيقة، فظنوا بذلك أنهم على هدى من ربهم وليسوا كذلك، بل هم على أسوأ الضلال وأقبح الخصال وأبلغ المقَّتْ والخسران وأنهى الكذب والبهتان فخذل الله متَّبِعهم وطهر الأرض من أمثالهم.
وإياك أن تغتر أيضًا بما وقع في الغُنْية لإمام العارفين وقطب الإسلام والمسلمين الأستاذ عبد القادر الجيلاني، فإنه دسَّه عليه فيها مَنْ سينتقم الله منه وإلا فهو برىء من ذلك وكيف تنروّج عليه هذه المسألة الواهية مع تضَّلُعه من الكتاب والسنة وفقه الشافعية والحنابلة حتى كان يفتي على المذهبين، هذا مع ما انضَّم لذلك من أن الله منّ عليه من المعارف والخوارق الظاهرة والباطنة وما أنبأ عنه ما ظهر عليه وتواتر من أحواله، ومنه ما حكاه اليافعي رحمه الله وقال: مما علمناه بالسند الصحيح المتصل أن الشيخ عبد القادر الجيلاني أكل دجاجة ثم لما لم يبق غير العظيم توجه إلى الله في إحيائها فأحياها الله إليه وقامت تجري بين يديه كما كانت قبل ذبحها وطبخها، فمن امتَّن الله عليه بمث هذه الكرامات الباهرة يتصور أو يتوهم أنه قائل بتلك القبائح التي لا يصدر مثلها إلا عن اليهود وأمثالهم ممن استحكم فيه الجهل بالله وصفاته وما يجب له وما يجوز وما يستحيل: {…سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ *} [سورة النور] . ومما يقطع به كل عاقل أن الشيخ عبد القادر لم يكن غافلاً عما في (رسالة القشيري) وإذا لم يجهل ذلك فكيف يتوَّهم فيه هذه القبيحة الشنيعة، وفيها عن بعض رجالها أئمة القوم السالمين عن كل محذور ولوم أنه قال: كان في نفسي شىء من حديث الجهة فلما زال ذلك عني كتبتُ إلى أصحابنا إني قد أسلمت الآن ، فتأمل ذلك واعتن به لعلك توفق للحق إن شاء الله تعالى وتجري على سنن الاستقامة»[(938)] اهـ.
ونقل السيوطي هذا المعنى فقال: «قاعدة: قال الشافعي: لا يكفر أحد من أهل القبلة، واستثنى من ذلك المجسم ، ومنكر علم الجزئيات، وقال بعضهم: المبتدعة أقسام:
الأول: ما نكفره قطعا، كقاذف عائشة رضي الله عنها، ومنكر علم الجزئيات، وحشر الأجساد، والمجسمة ، والقائل بقدم العالم.
الثاني: ما لا نكفره قطعا، كالقائل بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وعلي على أبي بكر.
الثالث والرابع: ما فيه خلاف، والأصح التكفير أو عدمه، كالقائل بخلق القرآن صحح البلقيني التكفير والأكثرون عدمه، وساب الشيخين صحح المحاملي التكفير والأكثرون عدمه»[(939)] اهـ.
انظر إلى قوله: «ما نكفره قطعا» ثم عد المجسمة فيهم.
ثم ها هو الأصولي أبو جعفر الطحاوي المولود سنة 227هـ في عقيدته المشهورة والتي ارتضاها المسلمون ودرسوها في معاهدهم وجامعاتهم، والتي ذكر أنها عقيدة أهل السنة والجماعة حيث قال فيها: « تعالى (الله) عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات »[(940)] اهـ.
ثم أوضح أن المتحيز في الجهة مشبه لسائر المبتدعات أي المخلوقات، وفي نفس المتن يقول: «ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر» [(941)] اهـ.
وبالنظر إلى أنه قال في أول هذه الرسالة: إنها عقيدة أهل السنة والجماعة، ثم بين تكفير من وصف الله بصفة من صفات الخلق يتبين أنه ينقل إجماع أهل السنة على تكفير القائل بالجسمية والجهة في حق الله.
قال الحافظ البيهقي في شعب الإيمان ناقلا عن الحليمي: «وأما البراءة من التشبيه بإثبات أنه ليس بجوهر ولا عرض، فلأن قوما زاغوا عن الحق فوصفوا البارئ جل وعز ببعض صفات المحدثين، فمنهم من قال: إنه جوهر. ومنهم من قال: إنه جسم. ومنهم من أجاز أن يكون على العرش قاعدا كما يكون الملك على سريره، وكل ذلك في وجوب اسم الكفر لقائله كالتعطيل والتشريك، فإذا أثبت المثبت أنه ليس كمثله شىء. وجماع ذلك أنه ليس بجوهر ولا عرض فقد انتفى التشبيه، لأنه لو كان جوهرا أو عرضا لجاز عليه ما يجوز على سائر الجواهر والأعراض، وإذا لم يكن جوهرا ولا عرضا لم يجز عليه ما يجوز على الجواهر من حيث إنها جواهر كالتأليف، والتجسيم وشغل الأمكنة والحركة والسكون، ولا ما يجوز على الأعراض من حيث إنها أعراض كالحدوث، وعدم البقاء»[(942)] اهـ.
قال القاضي أبو علي المحسن بن علي بن محمد التنوخي المتوفى سنة 384 للهجرة، ما نصه: «حضرت مجلس أبي محمد المهلبي، وكانت العامة ببغداد قد هاجت في أيام وزارته وعظمت الفتنة وقبض على جماعة من العيارين وحملة السكاكين وجعلهم في زوارق مطبقة وحملهم إلى بيروذ[(943)] وحبسهم هناك. فاستهانوا بالقصة وكثف أمرهم وكثر كلام القصاص في الجوامع ورؤساء الصوفية فخاف من تجديد الفتنة، فقبض على خلق منهم وحبسهم، وأحضر أبا السائب قاضي القضاة إذ ذاك، وجماعة من القضاة والشهود، والفقهاء وكنت فيهم لمناظرتهم، وأصحاب الشرط لنأمن مضرتهم إذا قامت الحجج عليهم.
فاتفق أن بدئ برجل من رؤساء الصوفية يعرف بأبي إسحاق بن ثابت ينزل بباب الشام أحد الربانيين عند أصحابه، فقال له: بلغني أنك تقول في دعائك: «يا واحدي بالتحقيق يا جاري اللصيق» فمن لا يعلم بأن الله لا يجوز أن يوصف بأنه لصيق على الحقيقة فهو كافر لأن الملاصقة من صفات الأجسام ، ومن جعل الله جسما كفر، فمن يكون محله في العلم هذا يتكلم على الناس»[(944)] اهـ.
وقال القاضي عبد الحق بن عطية الإشبيلي: «العلي يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان لأن الله منزه عن التحيز، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه، وهذا قول جهلة مجسمين ، وكان الوجه أن لا يحكى، وكذا «العظيم” هي صفة بمعنى عظم القدر والخطر لا على معنى عظم الأجرام»[(945)] اهـ.
ولا فرق بين الذي يقول: الله جسم، ويسكت وبين من يقول: الله جسم كالأجسام، أو الله جسم لا كالأجسام، أليس قال الله جسم؟ أليس الوصف بالجسم من صفات المخلوقات من بشر وجن وملائكة وحجر وجبل وهواء وروح وريح ونار ونور وغير ذلك؟
وقال الفخر الرازي: «بل الأقرب أن المجسمة كفار لأنهم اعتقدوا أن كل ما لا يكون متحيزا ولا في جهة فليس بموجود، ونحن نعتقد أن كل متحيز فهو محدث وخالقه موجود ليس بمتحيز ولا في جهة، فالمجسمة نفوا ذات الشىء الذي هو الإله فيلزمهم الكفر»[(946)] اهـ.
وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب البغدادي المالكي: «واعلم أن الوصف له تعالى بالاستواء إتباع للنص، وتسليم للشرع، وتصديق لما وصف نفسه تعالى به، ولا يجوز أن يثبت له كيفية، لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشىء، ولا سألته الصحابة عنه، ولأن ذلك يرجع إلى التنقل والتحول وإشغال الحيز والافتقار الى الأماكن، وذلك يؤول إلى التجسم، وإلى قدم الأجسام، وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام ، وقد أجمل مالك رحمه الله الجواب عن سؤال من سأله: الرحمـن على العرش استوى، كيف استوى؟ فقال: الاستواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، ثم أمر بإخراج السائل»[(947)] اهـ.
وقال ابن الملقن في شرح الجامع الصحيح: «ما ذكره في تفسير: {…وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي *} [(948)] هو قول قتادة، وهو معروف في اللغة يقال: صنعت الفرس وصنعته إذا أحسنت القيام عليه، واستدلاله من هذه الآية والحديث على أن لله تعالى (صفة) سماها (عينا) ليست هو ولا غيره، وليست كالجوارح المعقولة بيننا، لقيام الدليل على استحالة وصفه بأنه ذو جوارح وأعضاء تعالى عن ذلك، خلافا لما تقوله المجسمة من أنه تعالى جسم لا كالأجسام ، واستدلوا على ذلك بهذه، كما استدلوا بالآيات المتضمنة لمعنى الوجه، واليدين. ووصفه لنفسه بالإتيان والمجيء والهرولة في حديث الرسول ، وذلك كله باطل وكفر من متأوله ، لقيام الدليل على تساوي الأجسام في دلائل الحدث القائم بها واستحالة كونه من جنس المحدثات، إذ المحدث إنما كان محدثا من حيث متعلق هو متعلق بمحدث أحدثه، وجعله بالوجود أولى منه بالعدم»[(949)] اهـ.
وقد قال ملا علي القاري في أثناء كلامه على مذهب العلماء في المتشابهات ما نصه: «بكلامه -أي النووي- وبكلام الشيخ الرباني أبي إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم من أئمتنا وغيرهم يعلم أن المذهبين متفقان على صرف تلك الظواهر، كالمجيء والصورة والشخص والرجل والقدم واليد والوجه والغضب والرحمة والاستواء على العرش والكون في السماء وغير ذلك مما يفهمه ظاهرها، لما يلزم عليه من محالات قطعية البطلان تستلزم أشياء يحكم بكفرها بالإجماع ، فاضطر ذلك جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ عن ظاهره»[(950)] اهـ.
وضبط هذه المسئلة الشيخ محمد بن أحمد ميارة المالكي، فقال: «وأما القسم الثاني وهو الاعتقاد، فينقسم قسمين:
مطابق في نفس الأمر: ويسمى الاعتقاد الصحيح، كاعتقاد عامة المؤمنين المقلدين.
وغير مطابق: ويسمى الاعتقاد الفاسد، والجهل المركب كاعتقاد الكافرين، فالفاسد أجمعوا على كفر صاحبه، وأنه آثم غير معذور مخلد في النار، اجتهد أو قلد، ولا يعتد بخلاف من خالف في ذلك من المبتدعة»[(951)] اهـ. يلخص هذا كله ما قاله الشيخ تقي الدين الحصني رحمه الله، ونصه: «الكيف من صفات الحدث، وكل ما كان من صفات الحدث فالله عز وجل منزه عنه، فإثباته له سبحانه كفر محقق عند جميع أهل السنة والجماعة» [(952)] اهـ.
وقال محمد مرتضى الزبيدي: «وقال السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: اعلم أن حكم الجواهر والأعراض كلها الحدوث، فإذًا العالم كله حادث. وعلى هذا إجماع المسلمين بل كل الملل، ومن خالف في ذلك فهو كافر لمخالفته الإجماع القطعي ، وهذا المطلب مما يكفي السمع لعدم توقفه عليه لحصول العلم بوجود الصانع بإمكان العالم وإمكانه ضروري، ثم أقام البرهان على حدوث الجوهر وأن الجوهر لا يخلو عن عرض والعرض حادث، فالجوهر لا يخلو عن الحادث وما لا يخلو عن الحادث لا يسبقه إذ لو سبقه لخلا عنه وما لا يسبق الحادث حادث، فالجوهر حادث. قال: وهو أشهر حجج أهل النظر العقلي. قال: وقد يقال على وجه أخص وأتم وهو أن كل ما سوى الواجب ممكن وكل ممكن حادث، فالعالم حادث. أما المقدمة الأولى فظاهرة، وأما الثانية فلأن الممكن يحتاج في وجوده إلى موجد، والموجد لا يمكن أن يوجد حال وجوده، وإلا لكان إيجادا للموجد وهو محال. فيلزم أن يوجده حال لا وجوده فيكون وجوده مسبوقا بعدمه وذلك حدوثه وهو المطلوب»[(953)] اهـ. وقال النسفي في تفسيره المشهور عند تفسير ءاية: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [(954)]ومن الإلحاد تسمية الله بالجسم والجوهر والعقل والعلة» [(955)] اهـ.
قال الشيخ محمد بن أحمد الفاسي المالكي الشهير بميارة والمتوفى سنة 1072هـ «وخرج بوصفه بالمطابق الجزمُ غيرُ المطابق ويسمى الاعتقاد الفاسد والجهل المركب كاعتقاد الكافرين التجسيم أو التثليث أو نحو ذلك والإجماع على كفر صاحبه أيضًا، وأنه ءاثمٌ غيرُ معذور مخلدٌ في النار اجتهد أو قلّد. قال في شرح الكبرى: ولا يُعتدُّ بخلاف من خالف في ذلك من المبتدعة»[(956)] اهـ.
وهذه نقول عن العلماء في بيان كفر من يعتقد أن الله يسكن السماء أو يتحيَّز فوق العرش أو في غير ذلك من الأماكن، لتأكيد ما نبهنا عليه من أمر الإجماع على هذه المسألة، وإنما خصصناها بمزيد من العناية والنقول لأن بعض الناس يتهاون فيها ما لا يتهاون في تكفير المجسم.
1 – قال الإمام المجتهد أبو حنيفة رضي الله عنه في كتابه الفقه الأبسط ما نصه: «من قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقد كفر، وكذا من قال إنه على العرش، ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض»[(957)] اهـ.
2 – ووافقه على ذلك الشيخ العزّ بن عبد السلام في كتابه حلّ الرموز فقال ما نصه: «لأن هذا القول يوهم أن للحق مكانًا، ومن توهم أن للحق مكانًا فهو مُشَبِّه» اهـ.
3 – وارتضاه الشيخ ملا علي القاري الحنفي وقال ما نصه: «ولا شك أن ابن عبد السلام من أجلّ العلماء وأوثقهم، فيجب الاعتماد على نقله»[(958)] اهـ.
4 – وحكى القاضي حسين عن نص الشافعي أنه قال: «وهذا منتظم من كفره مجمع عليه، ومن كفرناه من أهل القبلة، كالقائلين بخلق القرآن، وبأنه لا يعلم المعدومات قبل وجودها، ومن لا يؤمن بالقدر، وكذا من يعتقد أن الله جالس على العرش »[(959)] اهـ.
5 – وقال أبو القاسم القشيري في رسالته القشيرية ما نصه: «سمعتُ الإمام أبا بكر بن فورك رحمه الله تعالى يقول: سمعتُ أبا عثمان المغربي يقول: كنتُ أعتقدُ شيئًا من حديث الجهة، فلما قدِمتُ بغداد زال ذلك عن قلبي، فكتبتُ إلى أصحابنا بمكة: إني أسلمتُ الآن إسلامًا جديدًا»[(960)] اهـ.
6 – وقال أبو منصور البغدادي: «إن أصحابنا أكفروا أهل البدع في صفات البارئ عز وجل بإجماع الأمة على إكفار من أنكر النبوات أو شك في عقائد الأنبياء، فما كان شكه في صفة من صفات بعض الناس يورثه الكفر فشكه في صفة لازمة لله تعالى أو جهله بها أولى بأن يوجب تكفيره» [(961)] اهـ.
7 – وقال رحمه الله تعالى: «وأما جسمية خراسان من الكرامية فتكفيرهم واجب لقولهم إن الله تعالى له حد ونهاية من جهة السفل ومنها يماس عرشه»[(962)] اهـ.
8 – أبو حامد الغزالي يقول: «فعلى العامي أن يتحقق قطعا ويقينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد بذلك جسما هو عضو مركب من لحم ودم وعظم، وأن ذلك في حق الله تعالى محال وهو عنه مقدس، فإن خطر بباله أن الله جسم مركب من أعضاء فهو عابد صنم، فإن كل جسم فهو مخلوق، وعبادة المخلوق كفر، وعبادة الصنم كانت كفرا لأنه مخلوق، وكان مخلوقا لأنه جسم، فمن عبد جسما فهو كافر بإجماع الأمة السلف منهم والخلف »[(963)] اهـ. 9 – وقال الأسفراييني أبو المظفر: «وأما الهشامية فإنهم أفصحوا عن التشبيه بما هو كفر محض باتفاق جميع المسلمين ، وهم الأصل في التشبيه، وإنما أخذوا تشبيههم من اليهود حين نسبوا إليه الولد، وقالوا: عزير ابن الله، وأثبتوا له المكان والحد والنهاية والمجيء والذهاب، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا» [(964)] اهـ.
10 – وقال لسان المتكلمين أبو المعين ميمون بن محمد النسفي الحنفي ما نصه: «والله تعالى نفى المماثلة بين ذاته وبين غيره من الأشياء، فيكون القول بإثبات المكان له ردًّا لهذا النص المحكم – أي قوله تعالى: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ… *} – الذي لا احتمال فيه لوَجْهٍ ما سوى ظاهره، ورادُّ النص كافر ، عصمنا الله عن ذلك»[(965)] اهـ.
11 – وقال الشيخ زين الدين الشهير بابن نُجَيْم الحنفي ما نصه: «ويكفر بإثبات المكان لله تعالى، فإن قال: الله في السماء، فإن قصد حكاية ما جاء في ظاهر الأخبار لا يكفر، وإن أراد المكان كفر»[(966)] اهـ.
12 – وقال الشيخ ملا علي القاري الحنفي ما نصه: «فمن أظلم ممن كذب على الله، أو ادعى ادعاءً معينًا مشتملاً على إثبات المكان والهيئة والجهة من مقابلة وثبوت مسافة وأمثال تلك الحالة، فيصير كافرًا لا محالة»[(967)] اهـ. 13 – وقال: «من اعتقد أن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها فهو كافر، وإن عُدّ قائله من أهل البدعة، وكذا من قال: بأنه سبحانه جسم وله مكان ويمرّ عليه زمان ونحو ذلك كافر، حيث لم تثبت له حقيقة الإيمان»[(968)] اهـ.
14 – وقال أيضًا ما نصه: «بل قال جمع منهم -أي من السلف- ومن الخلف إن معتقد الجهة كافر كما صرح به العراقي، وقال: إنه قول لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني»[(969)] اهـ.
15 – وقال الشيخ العلامة كمال الدين البَياضي الحنفي في شرح كلام الإمام أبي حنيفة ما نصه: «فقال -أي أبو حنيفة- (فمن قال: لا أعرف ربي أفي السماء أم في الأرض فهو كافر) لكونه قائلا باختصاص البارئ بجهة وحيّز وكل ما هو مختص بالجهة والحيز فإنه محتاج محدَث بالضرورة، فهو قول بالنقص الصريح في حقه تعالى (كذا من قال إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض) لاستلزامه القول باختصاصه تعالى بالجهة والحيز والنقص الصريح في شأنه سيما في القول بالكون في الأرض ونفي العلوّ عنه تعالى بل نفي ذات الإله المنزه عن التحيز ومشابهة الأشياء. وفيه إشارات:
الأولى: أن القائل بالجسمية والجهة مُنكِر وجود موجود سوى الأشياء التي يمكن الإشارة إليها حسًّا، فمنهم منكرون لذات الإله المنزه عن ذلك، فلزمهم الكفر لا محالة. وإليه أشار بالحكم بالكفر.
الثانية: إكفار من أطلق التشبيه والتحيز، وإليه أشار بالحكم المذكور لمن أطلقه، واختاره الإمام الأشعري فقال في النوادر: من اعتقد أن الله جسم فهو غير عارف بربه وإنه كافر به، كما في شرح الإرشاد لأبي قاسم الأنصاري»[(970)] اهـ.
16 – قال الشيخ عبد الغني النابلسي الحنفي ما نصه: «وأما أقسام الكفر فهي بحسب الشرع ثلاثة أقسام ترجع جميع أنواع الكفر إليها، وهي: التشبيه، والتعطيل، والتكذيب… وأما التشبيه: فهو الاعتقاد بأن الله تعالى يشبه شيئًا من خلقه، كالذين يعتقدون أن الله تعالى جسمٌ فوق العرش، أو يعتقدون أن له يدَين بمعنى الجارحتين، وأن له الصورة الفلانية أو على الكيفية الفلانية، أو أنه نور يتصوره العقل، أو أنه في السماء، أو في جهة من الجهات الست، أو أنه في مكان من الأماكن، أو في جميع الأماكن، أو أنه ملأ السموات والأرض، أو أنَّ له الحلول في شىء من الأشياء، أو في جميع الأشياء، أو أنه متحد بشىء من الأشياء، أو في جميع الأشياء، أو أن الأشياء منحلَّةٌ منه، أو شيئًا منها. وجميع ذلك كفر صريح والعياذ بالله تعالى، وسببه الجهل بمعرفة الأمر على ما هو عليه»[(971)] اهـ.
17 – وقال الشيخ محمد بن أحمد عليش المالكي عند ذِكر ما يوقع في الكفر والعياذ بالله ما نصه: «وكاعتقاد جسمية الله وتحيّزه، فإنه يستلزم حدوثه واحتياجه لمحدِث»[(972)] اهـ.
18 – وذكر هذا الحكم أيضًا الشيخ العلامة المحدث الفقيه أبو المحاسن محمد القاوقجي الطرابلسي الحنفي في كتابه الاعتماد في الاعتقاد فقد قال: «ومن قال لا أعرِفُ الله في السماء هو أم في الأرض كفَر – لأنه جعل أحدَهما له مكانًا -»[(973)] اهـ.
19 – وفي كتاب الفتاوى الهندية لجماعة من علماء الهند ما نصه: «يكفر بإثبات المكان لله تعالى. ولو قال: الله تعالى في السماء، فإن قصد به حكاية ما جاء فيه ظاهر الأخبار لا يكفر، وإن أراد به المكان يكفر»[(974)] اهـ.
20 – وقال تقي الدين الحصني: «إلا أن النووي جزم في صفة الصلاة من شرح المهذب بتكفير المجسمة[(975)]، قلت (تقي الدين الحصني): وهو الصواب الذي لا محيد عنه، إذ فيه مخالفة صريح القرآن ، قاتل الله المجسمة والمعطلة، ما أجرأهم على مخالفة من {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [(976)]، وفي هذه الآية رد على الفرقتين»[(977)] اهـ.
21 – وقال الشيخ محمود بن محمد بن أحمد خطاب السبكي المصري ما نصه: «سألني بعض الراغبين في معرفة عقائد الدين والوقوف على مذهب السلف والخلف في المتشابه من الآيات والأحاديث بما نصه: ما قول السادة العلماء حفظهم الله تعالى فيمن يعتقد أن الله عز وجل له جهة، وأنه جالس على العرش في مكان مخصوص، ويقول: ذلك هو عقيدة السلف، ويحمل الناس على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد، ويقول لهم: من لم يعتقد ذلك يكون كافرًا مستدلا بقوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [(978)]، وقوله عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ… *} [(979)]، أهذا الاعتقاد صحيح أم باطل؟ وعلى كونه باطلا أيكفر ذلك القائل باعتقاده المذكور ويبطل كل عمله من صلاة وصيام وغير ذلك من الأعمال الدينية وتبين منه زوجه، وإن مات على هذه الحالة قبل أن يتوب لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وهل من صدّقه في ذلك الاعتقاد يكون كافرًا مثله؟ فأجبت بعون الله تعالى، فقلت: بسم الله الرحمـن الرحيم الحمد لله الهادي إلى الصواب، والصلاة والسلام على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وعلى ءاله وأصحابه الذين هداهم الله ورزقهم التوفيق والسداد. أما بعد: فالحكم أن هذا الاعتقاد باطل ومعتقده كافر بإجماع من يعتد به من علماء المسلمين ، والدليل العقلي على ذلك قِدَم الله تعالى ومخالفته للحوادث، والنقلي قوله تعالى: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ… *} ، فكل من اعتقد أنه تعالى حلّ في مكان أو اتصل به أو بشىء من الحوادث كالعرش أو الكرسي أو السماء أو الأرض أو غير ذلك فهو كافر قطعًا ، ويبطل جميع عمله من صلاة وصيام وحج وغير ذلك، وتبين منه زوجه، ووجب عليه أن يتوب فورًا، وإذا مات على هذا الاعتقاد والعياذ بالله تعالى لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ومثله في ذلك كله من صدَّقه في اعتقاده أعاذنا الله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وأما حمله الناس على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد المكفر، وقوله لهم: من لم يعتقد ذلك يكون كافرًا، فهو كفر وبهتان عظيم»[(980)] اهـ.
ثم قال الشيخ محمود محمد خطاب السبكي عقب هذه الفتوى: «هذا وقد عرضت هذه الإجابة على جمع من أفاضل علماء الأزهر فأقروها، وكتبوا عليها أسمائهم، وهم أصحاب الفضيلة:
الشيخ محمد النجدي شيخ السادة الشافعية.
والشيخ محمد سبيع الذهبي شيخ السادة الحنابلة.
والشيخ محمد العربي رزق المدرس بالقسم العالي.
والشيخ عبد الحميد عمار المدرس بالقسم العالي.
والشيخ علي النحراوي المدرس بالقسم العالي.
والشيخ دسوقي عبد الله العربي من هيئة كبار العلماء.
والشيخ علي محفوظ المدرس بقسم التخصص بالأزهر.
والشيخ إبراهيم عيارة الدلجموني المدرس بقسم التخصص بالأزهر.
والشيخ محمد عليان من كبار علماء الأزهر.
والشيخ أحمد مكي المدرس بقسم التخصص بالأزهر.
والشيخ محمد حسين حمدان»[(981)] اهـ.
22 – وقال أيضًا: «إن من اعتقد وصفه تعالى بشىء من الجسمية أو الاستقرار على العرش أو الجهة … فهو كافر بإجماع السلف والخلف» [(982)] اهـ.
23 – وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري وكيل المشيخة الإسلامية في دار الخلافة العثمانية ما نصه: «إن القول بإثبات الجهة له تعالى كفر عند الأئمة الأربعة هداة الأمة كما نَقل عنهم العراقي على ما في شرح المشكاة لعلي القاري»[(983)] اهـ.
24 – وقال العلامة الشيخ المحدث الفقيه عبد الله الهرري المعروف بالحبشي حفظه الله ما نصه: «وحكم من يقول: (إنّ الله تعالى في كل مكان أو في جميع الأماكن) التكفير إذا كان يفهم من هذه العبارة أنَّ الله بذاته منبثٌّ أو حالٌّ في الأماكن، أما إذا كان يفهم من هذه العبارة أنه تعالى مسيطر على كل شىءٍ وعالمٌ بكل شىء فلا يكفر. وهذا قصدُ كثير ممن يلهج بهاتين الكلمتين، ويجب النهي عنهما في كل حال»[(984)] اهـ.
25 – وقال أيضًا: «ويكفر من يعتقد التحيُّز لله تعالى، أو يعتقد أن الله شىءٌ كالهواء أو كالنور يملأ مكانًا أو غرفة أو مسجدًا، ونسمّي المساجد بيوت الله لا لأن الله يسكنها بل لأنها أماكن يُعْبَدُ الله فيها.
وكذلك يكفر من يقول: (الله يسكن قلوب أوليائه) إن كان يفهم الحلولَ.
وليس المقصود بالمعراج وصول الرسول إلى مكان ينتهي وجود الله تعالى إليه ويكفر من اعتقد ذلك، إنما القصدُ من المعراج هو تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم باطلاعه على عجائب في العالم العلويّ، وتعظيمُ مكانته ورؤيتُه للذات المقدس بفؤاده من غير أن يكون الذات في مكانٍ»[(985)] اهـ.
قال الشيخ تقي الدين الحصني: «فإن الفوقية بإعتبار المكان لا تكون بالضرورة إلا في الأجرام والأجسام مركبة كانت أو بسيطة، والرب سبحانه وتعالى منزه عن ذلك إذ هو من صفات الحدث» [(986)] اهـ.
وكان قال قبل ذلك: «والعجب من قول هذا ما نحن مجسمة، وهو تشبيه محض، تعالى الله عز وجل عن المحل والحيز لاستغنائه عنهما ، ولأن ذلك مستحيل في حقه عز وجل، ولأن المحل والحيز من لوازم الأجرام، ولا نزاع في ذلك، وهو سبحانه وتعالى منزه عن ذلك لأن الأجرام من صفات الحدث وهو عز وجل منزه عن ذلك شرعا وعقلا ، بل هو أزلي لم يسبق بعدم بخلاف الحادث، ومن المعلوم أن الإستواء إذا كان بمعنى الإستقرار والقعود لا بد فيه من المماسة، والمماسة إنما تقع بين جسمين أو جرمين، والقائل بهذا شبه وجسم وما أبقى في التجسيم والتشبيه بقية كما أبطل دلالة: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ… *} ، ومن المعلوم في قوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} ، أنه الاستقرار على الأنعام والسفن وذلك من صفات الآدميين فمن جعل الإستواء على العرش بمعنى الإستقرار والتمكن فقد ساوى بينه عز وجل وبين خلقه، وذلك من الأمور الواضحة التي لا يقف في تصورها بليد، فضلا عمن هو حسن التصور جيد الفهم والذوق، وحينئذ فلا يقف في تكذيبه: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ… *} ، وذلك كفر محقق» [(987)] اهـ.
فبان من هذه النصوص الواضحة عن جملة من علماء الأمة الإسلامية من السلف الصالح والخلف أن معتقد الجهة والمكان في حق الله تعالى مكذب للقرءان الكريم ولنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ومخالف لما اتفقت عليه كلمة هذه الأمة.
قال ابن منده: «ذكر الدليل على أن المجتهد المخطئ في معرفة الله عز وجل ووحدانيته كالمعاند، قال الله تعالى مخبرا عن ضلالتهم ومعاندتهم : {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *} [(988)] وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه لما سئل عن الأخسرين أعمالا فقال: «كفرة أهل الكتاب كان أوائلهم على حق، فأشركوا بربهم عز وجل وابتدعوا في دينهم، وأحدثوا على أنفسهم، فهم يجتمعون في الضلالة، ويحسبون أنهم على هدى، ويجتهدون في الباطل ويحسبون أنهم على حق، ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا». وقال علي رضي الله عنه: «منهم أهل حروراء»[(989)] اهـ.
فمن ادعى أن انحرافه في العقيدة من نحو اعتقاد الجسمية والجهة في حق الله اجتهاد منه فقد نادى على نفسه بالجهل والكفر والشذوذ عن إجماع الأمة.
ـ[937] الفتاوى الحديثية (ص/144 – 145) الشيخ ابن حجر الهيثمي / دار الفكر، لبنان – بيروت.ـ[938] الأشباه والنظائر (1/488).
ـ[939] العقيدة الطحاوية: 26 .
ـ[940] العقيدة الطحاوية: 23 .
ـ[941] شعب الإيمان (1/104)، الأول من شعب الإيمان و هو باب في الإيمان بالله عز وجل.
ـ[942] بيروذ: وهي من نواحي أهواز، يراجع الأنساب (ص/429).
ـ[943] نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة (2/153 – 154)، دار الكتب العلمية.
ـ[944] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/336).
ـ[945] معالم أصول الدين (ص/138).
ـ[946] شرح عقيدة الإمام مالك الصغير لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني للقاضي أبي محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي (ص/28).
ـ[947] سورة طه: جزء من الآية 39 .
ـ[948] التوضيح لشرح الجامع الصحيح (المجلد33/255 – 256):كتاب التوحيد والرد على الجهمية، إصدارات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إدارة الشؤون الإسلامية دولة قطر.
ـ[949] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: (2/136).
ـ[950] الدر الثمين والمورد المعين للفقيه الشيخ محمد بن أحمد ميّارة المالكي، شرح المرشد المعين للشيخ ابن عاشر المالكي، (ص/70).
ـ[951] دفع شبه من شبه وتمرد (ص/18).
ـ[952] إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين الجزء الثاني (ص/153): كتاب قواعد العقائد، دار الكتب العلمية.
ـ[953] سورة الأعراف: 180 .
ـ[954] تفسير النسفي: الجزء الثاني (ص/87).
ـ[955] مختصر الدر الثمين والمورد المعين (ص/19 – 20) شركة دار المشاريع / بيروت – لبنان 1430هـ – 2009م.ـ[956] الفقه الأبسط، ضمن مجموعة رسائل أبي حنيفة بتحقيق الكوثري (ص/12)، وشرح الفقه الأكبر لملا علي القاري (ص/171)، والبرهان المؤيد للإمام أحمد الرفاعي (ص/18)، ودفع شبه من شبه وتمرد لتقي الدين الحصني (ص/18).
ـ[957] نقله ملاّ علي القاري في شرح الفقه الأكبر بعد أن انتهى من شرح رسالة الفقه الأكبر (ص/198).
ـ[958] نجم المهتدي لابن المعلم القرشي (ص/551) مخطوط، وهو في كفاية النبيه شرح التنبيه في فقه الإمام الشافعي لابن الرفعة المتوفى سنة 710هـ (4/24).
ـ[959] الرسالة القشيرية (ص/5).
ـ[960] تفسير الأسماء والصفات (ق/187).
ـ[961] أصول الدين المسألة الحادية عشرة من هذا الفصل في حكم المجسمة والمشبهة (ص/).
ـ[962] إلجام العوام عن علم الكلام (ص/62 – 63)، من مجموعة رسائل الغزالي.
ـ[963] التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية (ص/41).
ـ[964] تبصرة الأدلة (1/169).
ـ[965] البحر الرائق: باب أحكام المرتدين (5/129).
ـ[966] شرح الفقه الأكبر بعد أن انتهى من شرح الرسالة (ص/215).
ـ[967] المصدر السابق (ص/271 ـ 272).
ـ[968] مرقاة المفاتيح (3/300).
ـ[969] إشارات المرام (ص/200).
ـ[970] الفتح الرباني والفيض الرحماني (ص/124).
ـ[971] منح الجليل شرح مختصر خليل (9/206).
ـ[972] الاعتماد في الاعتقاد (ص/5).
ـ[973] الفتاوى العالمكيرية وهي الفتاوى الهندية (2/259).
ـ[974] المجموع شرح المهذب (4/253)، ونصه:»فممن يكفر من يجسم تجسيما صريحا» اهـ.
ـ[975] سورة الشورى: 11 .
ـ[977] سورة طه: 5 .
ـ[978] سورة الملك: جزء من الآية 16 .
ـ[979] إتحاف الكائنات ببيان مذهب السلف والخلف في المتشابهات (ص/3 – 4) الطبعة الأولى، مطبعة الاستقامة.
ـ[980] إتحاف الكائنات ببيان مذهب السلف والخلف في المتشابهات (ص/8) الطبعة الأولى، مطبعة الاستقامة.
ـ[981] الدين الخالص للشيخ محمود السبكي (ص/24).
ـ[982] مقالات الكوثري (ص/222).
ـ[983] الصراط المستقيم (ص/62).
ـ[984] الصراط المستقيم (ص/62).
ـ[985] دفع شبه من شبه وتمرد (ص/14).
ـ[986] دفع شبه من شبه وتمرد (ص/9).
ـ[987] سورة الكهف: آية رقم 103 .
ـ[988] التوحيد لابن منده (ص/80).
ـ[989] حيد أي ابتعاد.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين أما بعد…
فما معنى قول بعض العلماءِ:” لازمُ المذهبِ مذهبٌ” وقول بعضهم: ” لازمُ المذهبِ ليسَ مذهبًا” وكيف يجمع بينهما وكيف خلط بعض الجهال بينهم.
ولكي نفهم هذا الأمر علينا معرفة أمور وهي ما هو المذهب؟وما معنى لازم المذهب؟ وما هو اللازم الخفي؟ وما هو اللازم البين؟ وهل إذا قال الشخص كلاما يؤآخذ بكل لوازمه؟
كثير من الناس يختلط عليهم هذا الأمر فبعض أهل الضلالِ يقولونَ :” ما يلزمُ من قولِ مسلمٍ أو من فعلهِ إن كان يؤدي إلى الكفرِ لا يكفُرُ عليهِ” ويستدلون على زعمهم بقولَ بعض العلماءِ :” لازم المذهبِ ليس بمذهبٍ”.
ولبيان ذلك نشرع في بيان ما قدمنا فنقول:
أولا المذهب هو ما ذهب إليه المجتهد أو العالم أو الشخص من صريح كلامه فما صرح به يقال له مذهبه بناء على ما ظهر له من دلالات.
فمثاله أن الشافعي قال بوجوب التبيت في صيام الفرض بناء على أدلة ظهرت له وهو خلو أول النهار عن نية هي مفسدة له فقوله بوجوب التبيت في صيام الفرض هذا يقال له ما ذهب إليه وهو ما يسمى مذهبه.
وثانيا لازم المذهب هو ما ليس بصريح قوله لكنه يلزم من قوله أو ما كان مؤدى قوله وقد يكون خفيا غير واضح مبهما أو بينا واضحا جليا. وقد يكون في القطعيات وقد يكون في غيرها.
وقد يكون هذا اللازم ينفك عنه أو لا ينفك عنه ومع أن الأصل في اللازم عدم انفكاكه عن الملزوم لكنه يطلق عليه لازم من باب التجوز إذ اللازم في الحقيقة ما لا ينفك عن الملزوم. فما ينفك عنه في الحقيقة لا يقال له لازم إلا من باب التجوز وهو ما يسمى بالتابع أو الرديف فهذا التابع قد ينفك عنه أو يتخلف لفقد شرط أو وجود مانع وهو ما يعبر عنه بعض الفقهاء بلازم المذهب ويقولون لازم المذهب ليس بمذهب لجواز تخلف اللازم عن الملزوم أما اللوازم في الحقيقية وهي اللوازم العقلية فلا تتخلف عن ملزومها.
فعلى ما ذكرنا نعرف هنا الفرق بين ما ذهب إليه وبين ما التزمه وبعد هذا فهل يؤآخذ بلوازم كلامه فيقال له حينها يلزم من قولك كذا… فهنا منشأ الخبط والخلط لمن لم يفهم كلام العلماء ولم يفرق بين اللازم الخفي واللازم البين وبين ما هو لازم في الحقيقة وبين ما صورته صورة اللازم.
ولنضرب مثلا لكل منها ليتضح الفرق بينها فمن اللازم البين الواضح الجلي الذي لا ينفك عن ملزومه أن نقول مثلا وجود النهار يلزم منه طلوع الشمس فلو قال جاهل لا يلزم من اعترافي بوجود النهار طلوع الشمس لأن لازم المذهب ليس بمذهب لصار ضحكة للناظرين ولقال له الناس هذا جنون وهي من السفسطة التي هي انكار المحسوسات.
أما لو قيل مثلا الطوفان في الليل يلزم منه أن يكون الطائف خرج للسرقة فيقال له لا يلزم منه ذلك فقد يكون خرج للحراسة أو للتصدق خفية فهذا من اللازم الخفي الذي يقبل الانفكاك عن ملزومه فإن لم يصرح بأنه يلتزمه أو يعرض عليه فيلتزمه لا يؤآخذ بملزومه.
والفرق بين هذا والذي قبله أي بين اللازم الخفي واللازم البين أن اللازم البين يكون من اللوازم العقلية فيمتنع انفكاكه عنه وهو واضح لا ينكره إلا من ينكر المحسوسات ويكون هزأة للساخرين.
وبعد هذه المقدمة نشرع في بيان ما ضل به بعض ناس فزعموا أنه لا يكفر المرء بالتلفظ بكلمة الكفر ولو كان عالما بمعناها وقالها مختارًا ما لم يعتقد لوازمها ومنهم لا يُكفِّرون القائلين بالجهةِ في حقِّ اللهِ ولا يُثبِتون لهم التجسيم لمجرد أنهم يقولونَ نحنُ لسنا مُجسمة وكذلكَ منهم لا يُكفِّرونَ القائلينَ بأن كلامَ اللهِ الذي هو صفةُ ذاتهِ مخلوقٌ والعياذ بالله مما قالوا، كل هؤلاء ضلوا لأنهم فهموا قولَ بعض العلماءِ :” لازم المذهبِ ليس بمذهبٍ” على غير وجهها وأنزلوها غير منزلها.
ولتوضيح هذه المسألة نقول:
قال بعضُ العلماءِ:” لازمُ المذهبِ مذهبٌ” وقال بعضٌ: ” لازمُ المذهبِ ليسَ مذهبًا” ، ومحل الخلافِ ما إذا لم يكن اللازمُ بيّنًا، أما إذا كان اللازمُ بيّنًا فهو مذهبٌ له جزمًا، ولتوضيح ذلك نقول أن كلام العلماء ينقسم لقسمين رئيسيين:
1.قال بعضُ العلماءِ:” لازمُ المذهبِ مذهبٌ” أي إذا كان اللازم بينا.
2.وقال بعضٌ: ” لازمُ المذهبِ ليسَ مذهبًا” أي إذا كان اللازم غير بين.
ومثال على اللازم غير البين قول المعتزلة في رُؤْيَة أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ دُخُوْلِهِمُ الْجَنَّةَ فَإِنَّ أُنَاسًا فِيْ الْمَاضِيْ أَنْكَرُوْا هَذَا الْأَمْرَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّجْسِيْمُ وَالتَّشْبِيْهُ أَيْ ظَنَّوا أَنَّ إِثْبَاتَ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِرَبَّهِمْ يَلْزَمُ مِنْهَا إِثْبَاتُ الْحَدِّ وَالْحَجْمِ للهِ فقالوا لا يصح أن يرى إلا من كان في جهة وله حد وحجم. فَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ كَثِيْرٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِذَلِكَ بَلْ فَسَّقُوْهُمْ لأنها بدعة اعتقادية فقد قالوا لا يصح أن يرى إلا ما هو جسم وجهة وله حد فنفوا الرؤيا وتأولوا الآيات والأحاديث التي وردت في ذلك فلَمْ يُكَفِّرْهُمْ كَثِيْرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ اللَّازِمَ غَيْرُ وَاضِحٍ غَيْرُ بَيِّنٍ همْ مَنَعُوْا الرُّؤْيَا حَتَّى لَا يُؤَدِّيْ إِلَى التَّشْبِيْهِ. هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنْكَارُ وُجُوْدِ اللهِ لكن اللازم هنا غير بين أما نَحْنُ أَهْلُ السُّنَّةِ نَقُوْلُ كُلُّ مَوْجُوْدٍ يَصِحُّ أَنْ يُرَى. فنؤْمِنُ بِرُؤْيَةِ أهْلِ الْجَنَّةِ لِرَبِّهِمْ لِوُرُوْدِ الرِّوَايَاتِ بِهَا أَيْ لَا كَمَا يُرَى الْمَخْلُوْقُ.
وأما مثالٌ على اللازم البين قول المعتزلةِ ” إن الله لا يُوصفُ بالعلمِ والسمعِ والبصرِ والقدرةِ والإرادةِ والتخليقِ والتكوينِ ونحوها من الصفات الذاتيةِ والفعليةِ ” فقالوا: ” عالمٌ لنفسِهِ، قادرٌ لنفسهِ لا بعلمٍ ولا قدرةٍ، فيكونُ مذهبُ المعتزلةِ في المعنى نفيُ العالِمِيّةِ والقادِرِيّةِ عن الله، ولا يُقال هنا ” لازمُ المذهبِ ليسَ بمذهبٍ ” أي لا يلزمُ من نَفْيِهِم اتصاف الله بالعلمِ نفيُ كونِهِ عالماً لأن هذا من اللازمِ البيِّن، لأنه لا يصحّ في العقلِ عالمٌ بلا علمٍ كما لا يصحُّ عالمٌ بلا معلومٍ، وكما لا يصحُّ ضاربٌ بلا ضربٍ ولا مضروبٍ.
فمن هنا يعرف معنى قول العلماءِ : ” لازمُ المذهبِ مذهبٌ ” أي أنه يلزمُ من قول المعتزلةِ عالمٌ لا بعلمٍ نفيُ للعالِمِيّةِ، أي أن قولَ :” إنهُ عالمٌ بلا علمٍ” معناهُ ليس بعالمٍ. فمذهبُهُم أن الله عالمٌ لا بعلمٍ يلزمُ منهُ نفيُ العالِمِيّةِ عن الله، هذا معنى ” لازمُ المذهبِ مذهبٌ”. فهذه من البدع الاعتقادية التي كفرهم العلماء عليها وإن قال المعتزلي أنا لا أقول أنه يلزم منه نفي الصفة أي لا ألتزم اللازم فهذا لا عبرة بنفيه للازم لأنه لازم بين.
وكذلك يعرف مما ذكرنا معنى قولُ بعضِ العلماءِ ” لازمُ المذهبِ ليسَ بمذهبٍ” إذا لم يكن اللزومُ بيّنًا. ففي هذه الحالِ أي حالِ كونِ اللازمِ بيّنًا يكونُ مذهبًا على القولينِ أي عند الذينَ قالوا: ” لازمُ المذهبِ ليسَ مذهبًا، وعند الذينَ قالوا لازمُ المذهبِ مذهبٌ”، فقول المعتزليّ ” إن اللهَ قادرٌ بذاتهِ على الممكنات العقليةِ لا بقدرةٍ يلزمُ من ذلكَ نفيُ كونِهِ قادرٌ، وكذلكَ لازمُ قولهِ عالمٌ بذاتهِ لا بعلمٍ وهكذا من بابِ اللازمِ البيِّنِ.
وبمعنى ءاخر أن الذي يُحكمُ عليه بالكفرِ من كان الكفرُ صريحَ قولهِ، وكذا من كان لازِمَ قولِهِ وعُرِضَ عليهِ فالتزمه، أي عُرِضَ عليهِ اللازمُ فقبلهُ بأن قيل له: هذا يلزمُ منهُ كذا، تقْبَل ذلكَ؟ قال: أقبلُ، وكان ذلك اللازمُ كفرًا، أما من لم يلتزمْهُ وناضل عنهُ فإنه إن كان بينا لا ينفعه ذلك فهو كصريح قوله وأما إن لم يكن بينا فإنهُ لا يكونُ كافرًا كما مثلنا، ولو كانَ اللازمُ كفرًا، لأنه لم يلتزمه وليس بينا وينبغي حملُهُ على غير القطعيِّ كما بينا.
والحاصِلُ في مسألة اللُزومِ والالتزامِ أن من لزمَ من رأيِهِ كفرٌ لم يشعر بهِ وإذا وُقِفَ عليهِ أنكرَ اللُزومَ وكان في غير الضرورياتِ وكان اللُزومُ غيرَ بيِّنٍ فهو ليسَ بكافرٍ، وإن سلّم اللُزومَ وقالَ إن اللازمَ ليسَ بكُفرٍ وكان عندَ التحقيقِ كُفرًا فهو إذًا كافرٌ. وإن أنكرَ اللُزومَ وكان في الضرورياتِ أو كان اللُزومُ َ بيِّنا فهو كافر.
وبناءًا على هذه القواعد الشرعية فإن القائلينَ بالجهةِ يلزمُ من كلامِهِم التجسيمُ ولو أنكروا التزامهم الجسميةَ في حقِّ اللهِ، إذ إنّ كلَ من كان في جهةٍ لا بد أن يكونَ لهُ حجمٌ كبُرَ أو صغُرَ، فالجوهرُ الفردُ لهُ حيِّزٌ ومكانٌ وجهةٌ كما أن الجسمَ المركبَ له حيِّزٌ ومكانٌ وجهةٌ، إذ لا يُعقلُ جسمٌ لا في مكانٍ وجهةٍ، لذلكَ لازمُ مذهبِ القائلينَ بالجهةِ إثباتُ الجسميةِ حتى لو هم نفوْها عن أنفسِهِم.
فالشَّرعُ لم يرد فيهِ إطلاقُ الجهةِ والجسميةِ في حقِّ اللهِ، والعقلُ ينفي الجهةَ والجسميةَ في حقِّه تعالى، إذ إنهُ كما لا يُعقلُ وجودُ الجوهرِ والجسم لا في مكانٍ وجهةٍ لا يُعقلُ وجودُ ما ليسَ بجوهرٍ وجسمٍ في مكانٍ وجهةٍ، وقد ثبتَ شرعًا وعقلاً أن اللهَ ليسَ بجوهرٍ ولا جسمٍ، ثبتَ شرعًا وعقلاً أن اللهَ كانَ موجودًا قبلَ الجهاتِ وأنهُ لا يتغيّرُ وبعد أن خلقَ الجهاتِ ما زالَ موجودًا بلا جهةٍ، وكما قُلتُ سابقًا من مقتضياتِ الجهةِ إثباتُ الجسميّةِ، فلازمُ مذهبِ القائلينَ بالجهةِ إثباتُ الجسميّةِ حيثُ قامت البيِّنةُ على ذلكَ ولأنَّ نفيَ الجهةِ عن اللهِ من القطعيَّاتِ التي لا يغفلُ عنها صاحبُ العقلِ السليمِ فلا يُعذرُ القائلينَ بها لجهلهم.
لذا فإن القائلينَ بالجهةِ إن سلّموا اللُزومَ وقالوا إن اللازمَ ليسَ بكفْرٍ لا يُعتدُّ بكلامِهم لأنه عند التحقيقِ كُفرٌ، وإن لم يُسلِّموا اللُزومَ فلا عِبرةَ بكلامِهِم بل يكَفّرونَ، لأن نفيَ الجهةِ عن اللهِ من القطعيَّاتِ ومنَ الأمورِ المُجمعِ عليها المعلومةِ من الدينِ بالضّرورةِ والتي يستقِل العقلُ السليمُ بإدراكِها.
فاللازم البيّن لمذهب العاقل مذهبٌ له، وأما من يقول بملزوم مع نفيه للازمه البين فلا يعتبر هذا اللازم مذهباً له فلا عبرة بقوله لأنه يسقطه هذا النفي من مرتبة العقلاء إلى درك الأنعام فهو من السفسطة، وهذا هو التحقيق في لازم المذهب، فيدور أمر القائل بما يستلزم الكفر لزوماً بينا بين أن يكون كافراً لنفيه القطعي مع التزام اللازم أو حمارا لإنكاره ما اجتمعت العقلاء لثبوته فيكفر أيضا.
كما أنّ القائلينَ بأنّ كلامَ اللهِ الذي هو صفةُ ذاتهِ مخلوقٌ كفروا بلا شكٍّ لأنّ هذا اللُزومُ فيهِ بيِّنٌ، فلذا هو منَ الكُفرِ لأنَ قيامَ الحوادثِ بذاتِ اللهِ يؤدي إلى حدوثِ ذاتِهِ تعالى، ولو كان ذاتُهُ حادثًا لما كانَ خالقًا بل لاحتاج إلى من أوجدهُ وهذا كُلُّهُ محالٌ، فلازمُ مذهبِ القائلينَ بأنَّ كلامَ اللهِ الذي هو صِفةُ ذاتهِ مخلوقٌ قيامُ الحوادثِ بذاتِ اللهِ وهذا ظاهرُ البُطلانِ حتى لو هُمْ أنكروا اللُزومَ فلا عُذرَ لهم لأن اللُزومَ في هذه المسألةِ بيِّنٌ, فثبتَ بعد هذا البيان أن كِلا الفريقينِ الذينَ قالوا: ” لازمُ المذهبِ مذهبٌ ، ولازمُ المذهبِ ليسَ بمذهبٍ” إذا لم يكن اللُزومُ بيِّنًا قد كفّروا من كانَ لازمُ مذهبِهِ الكُفْرِي بيِّنًا.
وقال الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتاب [مناهل العرفان]: “وقد كفَّر العراقيُّ وغيره مُثبِتَ الجهة لله تعالى وهو واضح لأن معتقد الجهة لا يمكنه إلا أن يعتقد التحيز والجسمية ولا يتأتى غير هذا فإن سمعت منهم سوى ذلك فهو قول متناقض وكلامهم لا معنى له” انتهى. ولاحظوا قوله: وهو واضح لتعلموا أنه وجد اللازم بيِّنًا واضحًا فحكم عليهم بالكفر
وقال في معرض كلامه عن المتشابهات: “ولا ريب أن حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث كالجسمية والتجزؤ والحركة والانتقال لكنهم بعد أن يثبتوا تلك المتشابهات على حقائقها ينفون هذه اللوازم مع أن القول بثبوت الملزومات ونفي لوازمها تناقض لا يرضاه لنفسه عاقل فضلا عن طالب أو عالم فقولهم في مسألة الاستواء الآنفة إن الاستواء باق على حقيقته يفيد أنه الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز وقولهم بعد ذلك ليس هذا الاستواء على ما نعرف يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز فكأنهم يقولون: (إنه مستو غير مستو) و(مستقر فوق العرش غير مستقر) أو (متحيز غير متحيز) و(جسم غير جسم) أو (أن الاستواء على العرش ليس هو الاستواء على العرش) و(الاستقرار فوقه ليس هو الاستقرار فوقه) إلى غير ذلك من الإسفاف والتهافت” انتهى. يعني أن القول بالتجسيم لازم بين لا ينفك عن اعتقاد التحيز والمماثلة والعياذ بالله لذلك اعلم أخي القارئ أن وصف الله بالجسم لمن يعرف معنى الجسم كفر بلا خلاف ولو قال أنا لا ألتزم لوازم الجسم
وقال الشيخ محمد عليش المالكي في كتاب [منح الجليل]: “وسواء كفر بقول صريح في الكفر، كقوله: أكفر بالله أو برسول الله أو بالقرآن أو الإله اثنان أو ثلاثة أو المسيح ابن الله أو العزيز ابن الله أو بلفظ يقتضيه أي يستلزم اللفظ الكفر استلزاما بَيِّنًا كجحد مشروعية شىء مجمع عليه معلوم من الدين ضرورة، فإنه يستلزم تكذيب القرآن أو الرسول وكاعتقاد جسمية الله وتحيُّزه فإنَّه يستلزم حدوثه واحتياجه لمُحدِث” إلخ..الشيخ محمد عليش يؤكد هنا أن نسبة الجسم إلى الله يستلزم الكفر استلزاما بينا فكلامه واضح ونصه جلي في الدلالة على المسألة الصحيحة.
وقال الشيخ محمد الدسوقي في [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير]: “قوله: (ويستلزم الخ..) أي وأمَّا قولهم: “لازم المذهب ليس بمذهب” فمحمول على اللَّازم الخفيِّ”انتهى. وهذا من أوضح ما يدلك يا أخي القارئ على تفصيل الحكم في اللازم فإن كان بيِّنًا فهو مذهب وإن كان خفيًّا فليس مذهبًا ما لم يلتزمه صاحبه فمعنى هذا الكلا أنك متى رأيت العلماء قالوا لازم المذهب ليس مذهبا فاعلم أنه يقصدون اللازم الخفي وليس اللازم البين.
وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي في كتاب [إستحالة المعية بالذات وما يضاهيها من متشابه الصفات]: “وأما إن كان اللزوم بيِّنًا فهو كالقول بلا خلاف” انتهى ولاحظ قوله: (بلا خلاف) كذلك المعنى هنا أن من قال كلاما لازمه الكفر كأنه نطق بالكفر بلا خلاف يعني حكمه الكفر بلا خلاف.
وقال التقي السبكي رحمه الله: “ومَن أطلق القُعود وقال إنَّه لم يُرِدْ صفات الأجسام: قال شيئًا لم تشهد به اللغة فيكون باطلًا وهُو كالمُقِرِّ بالتَّجسيم المُنكر له” انتهى. فانظر كيف ألزم الإمام السبكي من قال بالقعود في حق الله وجعله مذهبا له، ولم يعذره بقوله (لم يرد صفات الأجسام) كذلك نحن نلزم المشبهة بالتجسيم ونجعله مذهبا لهم ولو قالوا بلا كيف ولا تمثيل ولا تشبيه. يعني طالما وصف الله بالقعود ولو قال أنا لا ألتزم لوازم القعود في حق الله كما يفعل بعض المشبهة فلا يكون معذورا ولا يزول عنه حكم الكفر فمن لم يُكفِّر مَن قال عن الله جسم – وهو عالم بالمعنى – لأنه قال: لا ألتزم لوازم الجسم كيف يحكم بالكفر على من قال يتعب لا كالناس! وينام لا كالناس! هذا شتم لله تعالى فيكون كفرا باتفاق العلماء.
وجاء في المنهاج القويم على المقدمة الحضرمية في الفقه الشافعي لعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر بافضل الحضرمي: “واعلم أن القرافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم وهم حقيقون بذلك ” ومثل ذلك نقل ملا علي القاري في كتابه [المرقاة في شرح المشكاة].وهذا القدر من الشرح كاف في بيان أن لازم المذهب إذا كان واضحا فهو مذهب وأن من قال عن الله إنه جسم وهو عالم بالمعنى فقد كفر بالله ولو قال لا ألتزم لوازمه كما أن من يعرف معنى كلمة الابن وقال: المسيح ابن الله كذلك يكفر ولو قال لا نلتزم في بنوة عيسى لله ما نلتزمه في غيرها!
فثبت أننا وافقنا علماءَ الأُمَّة وأنهم خالفوهم والعياذ بالله يعني يخالفون هم علماء الأمة ونوافق نحن العلماء ثم يسبقون إلى اتهامنا بأننا خالفنا العلماء وانفردنا بأقوال غريبة وما الغريب إلا ما أتوا من تكذيب العلماء ومخالفتهم ونقل صاحب الخصال من الحنابلة عن أحمد بن حنبل أنه قال: من قال جسم لا كالأجسام كفر ويؤكد هذا: حكايةُ الإجماع التي نقلها كثيرون في تكفير المجسم والشافعي من علماء الامة فهو داخل فيمن أجمع على كفر المجسمة بلا شك ويؤكده كذلك أن الشافعي رضي الله عنه كفَّر حفصًا الفرد باللازم أي بلازم قوله لأنه كان لازمًا بيِّنًا والعلماء نقلوا قول الشافعي في تكفير المجسمة في محل الاحتجاج فهذا يعني انه ثابت عندهم فالقاضي حسين نقل أن الشافعي نصَّ على كفر من قال الله جالس على العرش ونقل ابن المعلم القرشي في نجم المهتدي نحوه ونقل ابن جماعة تكفير المجسمة في [شرح التنبيه] عن نَصِّ الشافعي (يعني من كلامه بحروفه) وحكاه كذلك السيوطي في الأشباه والنظائر ولذلك أصلا علماء الإسلام ألزموا المجسمة بمقالاتهم لأنهم عدُّوهم واعين بما يتلفظون.
قال الكوثري في معرض كلامه عن بعض مقالات رؤوس المجسمة: “فلا محيص في عدِّهم واعين لما نطقوا به، فتعيين إلزامهم بما يترتب على تلك التَّقوُّلات في نظر أهل البرهان الصحيح” انتهى. بعد هذا لا يُلتفت إلى أهل الفتنة الذين يزعمون أن الشافعي ما كفَّر المجسمة أو أنه ما ثبت أنه كان يكفِّرهم فالمجسم الذي ينسب الجهة والمكان في حق الله يكفر ولا يفيده إنكاره كما قال الإمام السبكي رحمه الله: “ومن أطلق القعود وقال إنه لم يرد صفات الأجسام قال شيئا لم تشهد به اللغة فيكون باطلا وهو كالمقر بالتجسيم المنكر له” انتهى. السبكي مات في أواسط القرن الثامن هجري كان قاضي قضاة المذاهب الأربعة لكل مذهب قاض وهو فوق الأربعة يقضي وكان من أكابر الشافعية فهل كان يحكم بكفر المجسمة خلافا لقول إمام مذهبه!
وقال الكشميري في [إكفار الملحدين]: “والحاصل في مسئلة اللزوم والالتزام: أن مَن لَزِمَ مِن رأيه كُفر لم يشعر به، وإذَا وقف عليه أنكر اللزوم وكان في غير الضروريات وكان اللزوم غير بَيِّنٍ فهو ليس بكافر –أي إن لم يلتزمه–” انتهى. وكلامه صريح أنه يتكلم في اللازم الخفي ليس في اللازم البيِّن. أما إن كان اللازم بيِّنًا فلا يكون مقبولا إلا أن يقال: لازم المذهب مذهب
وللتقريب الذي يعرف معنى الجسم وهو يعرف أن الجسم يعني ما كان له أجزاء ثم قال الله جسم فهذا لا ينفك عن الكفر لأنه من الواضح وضوحا شديدا أنه يقول إن الله له أجزاء فلا يُتوقَّف في كفر من قال عن الله جسم طالما يعرف معنى الجسم فالخلاصة أن كل كتاب أو موضع ذُكِرَ فيه أن المُجسِّم مختلف في تكفيره فهذا غير صحيح وهو تعبير ظاهره باطل فقد قال شيخ جامع الزيتونة سيدي إبراهيم المارغني التونسي في كتابه [طالع البشرى على العقيدة الصغرى]: “ويسمى الاعتقاد الفاسد كاعتقاد قدم العالم أو تعدد الاله أو أن الله تعالى جسم وصاحب هذا الاعتقاد مجمع على كفره” انتهى. لاحظوا كيف دلَّ أن الإجماع منعقد على كفر من نسب الجسم إلى الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون لتعلموا أن الحكم بالكفر على المجسمة إجماعيٌّ أي بإجماع علماء أمة محمد بإجماع المعتبرين من العلماء وما خالف الإجماع فهو ضلال بلا شك لأن أمتنا معصومة أن تجتمع على ضلالة والحمدلله وقال الإمام تقي الدين الحصني الشافعي رحمه الله في كتابه [دفع شبه من شبّه وتمرّد]: “مَن شبَّهه أو كيَّفه طغى وكفر. هذا مذهب أهل الحق والسُّنَّة وإنَّ دليلهم لَجَلِيٌّ واضح.. مَن شبَّهه أو مثَّل أو جسَّم فهُو مع السَّامرة واليهود ومِن حزبهم” انتهى. فهذا نص أن من جسَّم الله لا يكون مسلما بالمرة وقال الإمام الشافعي: “المُجسِّم كافر” ذكره الحافظ السيوطي في [الأشباه والنظائر].
ونُقِلَ عن الشافعي غير هذا النقل كذلك في تكفير المجسمة. وقال الإمام أحمد: “من قال الله جسم لا كالأجسام كفر” رواه عن الإمام أحمد أبو محمد البغدادي صاحب الخصال من الحنابلةكما رواه عن أبي محمد الحافظ الفقيه الزركشي في كتابه [تشنيف المسامع]. وقال القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي: “ولا يجوز أن يثبت له كيفية لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشىء، ولا سألته الصحابة عنه، ولأن ذلك يرجع إلى التنقل والتحول وإشغال الحيّز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤول إلى التجسيم وإلى قِدم الأجسام وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام” انتهى. ولاحظوا قوله: وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام لتحسموا أن الأمر ليس مثار خلاف لا بين المتقدمين ولا بين المتأخرين من العلماء فلاحظوا كم مرة ورد معنا فيما ننقل عن العلماء أن نسبة الله إلى الجسم كفر عن كافة العلماء لتتيقنوا أن المسألة إجماعية لا خلاف فيها وليس كما توهم بعض أهل الزيغ لأن الإجماع منعقد على تكفير المجسمة وأنه محمول على مَن يفهم مدلول لفظ الجسم لا على من لا يعرف فالتفصيل ليس في (هل كفر أم لم يكفر) لا أنما المسألة: إن كان يعرف معنى الجسم فلا تفصيل في الحكم بكفره وإن كان لا يعرف معنى الجسم فهنا التفصيل فهنا يُنظر هل يعتقد التشبيه أم لا. ولا يقول بخلاف ما ذكرنا عالِم معتبر من السلف أو الخلف ومما يكفر به الإنسان أن يصف الله تعالى بأنه جسم ولأن الجسم يستلزم أن يكون محتاجا للمكان. والمحتاج لا يكون إلهًا بل حادثا مخلوقا وهذا مستحيل في حق الله تعالى فمن يكون جسما يكون ذا أبعاض وأجزاء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فنسبة الله إلى الجسمية تشبيه لله بالخلق وهو كفر بلا شك إلا في حالة لم يعرف المتكلم معنى الجسم فإذا جهل المتلفظ معنى الجسم وظن أن معناه الموجود فهنا لا يُكفَّر بل يُعلَّم الصواب
واحفظوا كلام الشيخ محمد الدسوقي المالكي في [حاشيته على الكبير] فهو تختصر كل الإشكال الذي غرق فيه الجهلة المتصولحة فقد قول الشيخ محمد الدسوقي رحمه الله: <وأما قولهم: لازم المذهب ليس بمذهب فمحمول على اللازم الخفي> انتهى. وبعد كل هذا الشرح أو قبله اعلم أن العبرة بالدليل وما تمسك به هؤلاء لا دليل عليه من الشرع
ويناسب هنا ايراد ما نقله الزبيدي في الاتحاف عن تقي الدين السبكي قال:”والقعود ومعناه مفهوم من صفات الأجسام لا يعقل منه في اللغة غير ذلك والله تعالى منزه عنها ومن أطلق القعود وقال إنه لم يرد صفات الأجسام قال شيئا لم تشهد له به اللغة فيكون باطلا وهو كالمقر بالتجسيم المنكر له فيؤاخذ بإقراره ولا يفيد إنكاره”.
وجاء في حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع:”قولهم: لازم المذهب ليس بمذهب، مقيد بما إذا لم يكن اللازم لازما بينا”.
وقد قال في حاشية العدوي على شرح مختصر خليل “(قَوْلُهُ: إلَّا أَنْ يُقَالَ: لَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ) ظَاهِرُهُ وَلَوْ بَيَّنَّا مَعَ أَنَّ اللَّازِمَ إذَا كَانَ بَيِّنًا يَكُونُ كُفْرًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ اللَّازِمَ هُنَا بَيِّنٌ”
ومن أراد النظرَ في بيانِ إلزامِ العلماءِ المبتدعةَ مذاهِبَهُم الكُفْريّةَ وتكفيرهِم عليها فلينظر في كتابِ : ” الأسماءِ والصِفاتِ ” لأبي منصورٍ البغدادي ق- 35 ق- 52.وفي كتابِ : ” القلائِدِ في شرحِ العقائِدِ ” ص-200 – 210 للإمام النسفي. وفي كتابِ :” ذخائِرِ القصرِ” ص-32 للحافظ شمس الدين بن طولون.وفي كتاب: ” إكفارِ المُلحدينَ” ص-17- 19 -21-22 – 72-123- 124-126-128 للمُحدِث محمد أنور شاه الكشميري.وفي كتاب: ” نجم المهتدي” للإمام ابن المعلم القرشي ق 268- 287.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
كشف شبهات المتمشعرة وبيان أوهام المشبهة
وحقية القول بتكفير المجسم (2)
في هذه السلسلة سنتكلم عن عدة نقاط سننشرها بإذن الله:
– القول الفصل بتكفير المجسم وبيان أن الإجماع قائم على تكفير المجسم.
– التمايز بين المسلم المنـزه والمشبه المجسم.
– مدار الحكم بالتكفير على من وصف الله بالجسم أو الجهة.
– تحقيق حول من هم أهل القبلة.
– تحقيق في مسألة لازم المذهب.
– بيان ما أشكل من كلام بعض العلماء كالباقلاني والغزالي والعز بن عبد السلام.
ثانيا: التمايز بين المسلم المنـزه والمشبه المجسم.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ﴿ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين﴾ أما بعد يقول ربنا عز من قال ﴿إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري﴾، أمر ربنا عز وجل بعبادته وحده وعدم الإشراك به، وحقيقة الإشراك هي عبادة غير الله عزّ وجل سواء كان المعبود متحقق الوجود كالشمس والأصنام، أم كان متخيلا متوهما كالذين عبدوا رَع وحورس وزوس وغيرهم ولم يروهم، فالكلُّ عباد أوثان لا يجيء الخلاف في عدم توحيدهم للبارئ عز وجل وعدم الإشارة إليه في عبادتهم مع أنك لو سألت أهل الجاهلية من خلق السموات والأرض ليقولُنّ الله ومع ذلك تبرأ أهل الإسلام من عباد الوثن وإن اعترفوا بوجود الله كما قال البغدادي في الفرق بين الفرق: «وإنما تبرؤوا – أي أهل السنة – من أهل الملل الخارجة عن الإسلام، ومن أهل الأهواء الضالة مع انتسابها إلى الإسلام، كالقدرية والمرجئة والرافضة والخوارج والجهمية والنجارية والمجسمة» اهـ.
واعلم أيها الطالب للرشاد أنك ستنظر في هذه الأدلة وسترى بنفسك أن من وصف الله بالجسمية كافر لا محالة وذلك بالنظر في الحجج العقلية فيما لا يدع لك مجالا للشك أن الإجماع الذي عرضناه وذكرناه في عشرات النقول هو المعتمد والصحيح الذي لا خلاف غيره وأنه يؤيد كلام الأئمة الأعلام المجتهدين وأصحاب الوجوه كما سبق ذكره وستحكم بنفسك على كفر المجسمة وذلك لدلالة العقل الصحيح والفهم السليم عليه بل قامت القواطع العقلية والنقلية على كفر المجسم وأنه لا خلاف فيه فالعاقل يحكم عقله فإن العقل مع الشرع نور على نور بل إن القائل بعدم كفر المجسم سيكون قائلا بعد كفر عباد الأصنام والكواكب وغيرها من الأجرام فإن علة التكفير في الفريقين واحدة.
لذلك قال الشيخ تقي الدين الحصني في دفع شبه من شبه وتمرد: «الكيف من صفات الحدث، وكل ما كان من صفات الحدث فالله عز وجل منزه عنه، فإثباته له سبحانه كفر محقق عند جميع أهل السنة والجماعة» اهـ.
فأما أن يقال إن لله كيفًا لكن نحن لا نستطيع أن نحدد ذلك الكيف فهو ضلال مبين، وهو تشبيه لله بخلقه لأن الكيف معناه صفات الخلق، وإنما الذي يجب اعتقاده والقطع به أن الله تعالى لا كيف له بالمرة، فهو رب الكيف ورب الصور والهيئات والأشكال والألوان والأحجام والأجسام.
ومن هنا يتبين لك أنك لو سئلت من هو المسلم؟ لقلت: هو المنـزه الموحد الذي ينفي عن الله الشبيه والجسمية والكيفية، والأعراض التي هي صفات الخلق من حركة وسكون واجتماع وافتراق واتصال وانفصال إلى غير ذلك مما لا يجوز في حق الخالق سبحانه، إلى غير ذلك مما هو شرط في صحة الإيمان، من نحو الإيمان برسالة النبي محمد ﷺ.
فلا يدخل المشبه بهذا الوصف لأنه يعبد جسما سواء تخيله في باله أم لم يتخيله، لكنه في المحصلة يعتقد أنه يعبد حجما كثيفا كالإنسان والحجر وغيرهما مما يمسك باليد، وسواء في ذلك اعتقد أنه كشىء من أعيان الأجسام الكثيفة التي يراها أو يتخيلها أم اعتقد أنه يخالفها في الشكل والكيف والحجم لكنه في النهاية يتصوره جسما، وسواء قال هو مركب أم ليس مركبا، وكذا لو اعتقد أنه جسم لطيف أي لا يمسك باليد كالضوء والظلام والروح والريح ونحو ذلك، وسواء حدد لمعبوده واحدة من هذه الكيفيات أم لم يحدد، لكنه اعتقده جسما لطيفا فهذا كافر ما شم رائحة الإيمان.
ثم هو لا يختلف عمن اعتقد أن معبوده صنم يراه أمامه ويعبده، لأن هذا العابد للصنم لو جعل صنمه في خزانة أو رفعه على سطح بيته أو برج إيفل أو فوق شاهق جبل أو أرسله في قمر صناعي إما ليبقى فيه أو ليجعل على سطح القمر أو غيره، فإنه يبقى وثني يعبد صنما وصورة، هذه حقيقته، وكذلك عابد جسم يتخيل أنه بذاته فوق العرش ساكن أو في السماء السابعة وسواء اعتقده مستقرا ثابتا كالزمن لا يستطيع الحراك أم اعتقده يتحرك ويتحول من حال إلى حال وينتقل فإنه لم يعرف الله ولم يعبده.
لذلك نودّ أن نتوجه إلى كلّ من يدعي وقوع الخلاف في تكفير المجسمة بسؤال، فنقول لهم: أرأيت لو أن إنسانا اعتقد أن الشمس هي الإله الأزلي الخالق الموجد للعالم الباعث للرسل وتمسك في اعتقاده ذلك بظاهر قول الله عز وجل ﴿الله نور السماوات والأرض﴾ وبقوله تعالى ﴿وهو القاهر فوق عباده﴾ وما أشبه ذلك، وقال إنني أمنت بمحمد رسول الله ﷺ وصلى قِبَل القبلة صلوات الفرض والجمعة والرواتب والنفل المطلق والوتر والعيدين والاستسقاء والكسوف والخسوف، وصام رمضان وصام معه الدهر إلا الأيام الخمس، وحج البيت في كل عام واعتمر في كل شهر، وانخلع من جميع أمواله ما بين زكاة وصدقه، فهل ترون مع ذلك أن الخلاف يجيء في تكفيره، أم تحكمون بكفره لأنه عبد غير الله؟ … وأي شيء ترونه يدفع وقوع الخلاف فيه فإنه يجري في المجسم بعينه.
فإن قلتم هو يعبد غير لله ، قلنا والمجسم يعبد غير الله أيضا، وإيضاح ذلك أننا وجدنا المجسمة يرموننا بالتعطيل لأننا نزهنا الله عز وجل عن الحد والمكان، وقالوا لنا إننا لا نعقل موجودا لا هو داخل العالم ولا هو خارج العالم إلا العدم الصرف فأنتم تعبدون عدما ولا تعبدون موجودا، وعليه فإن المجسم إذا رفع يديه وقال يا رب فإنه يتوجه إلى معبود له تخيله جسما موجودا فوق العرش منفصل عنه بالمسافة أو متصل به (على حسب الخلاف بين المجسمة في ذلك) له حدّ هو بقدر العرش أو أكبر أو أصغر (على حسب ما وقع من الخلاف بينهم في ذلك) وله طول وعرض وسمك كما صرحوا به، وله يدان في جهة اليمين وله أصابع وله ساق وله عيون وله استواء بالذات على العرش ويضحك ويتكلم بالحرف والصوت ويسكت إلى غير ذلك مما نسبوه لله وجعلوه على الحقيقة وقالوا إنّ من لم يؤمن به فقد كفر، بل قال ابن عثيمين منهم لا بد أن نثبت مشاركة بين الخالق والمخلوق لأننا حققنا وجوده، ومعلوم عند أهل السنة والجماعة أنه لا يوجد فوق العرش جسم يبرز من العدم إلى الوجود على الوصف الذي ذكروه، فمن نتوجه نحن إليه بالعبادة هم لا يؤمنون به أصلا ويعتبروننا معطلة لأننا آمنا به، ومن يتوجهون هم إليه بالعبادة نحن أيضا ننكره وننزه الله عز وجل عنه وعن أوصافه، وعليه فالنزاع بيننا وبين المجسمة في أصل المعبود وحقيقته، فكان كالنزاع بيننا وبين عابد الشمس تماما فإن معبوده قد أجمع أهل السنة على عدم استحقاقه للألوهية وكذا المجسم، فكما يمتنع مجيء الخلاف في عابد الشمس المتقدم فإنه يمتنع في المجسم أيضا.
فإن قيل: لكن المجسم شبهته ظاهر القرءان، قلنا وعابد الشمس الذي قدمته شبهته ظاهر الآيات التي تمسك بها ومع ذلك لا يجوز أن يجيء الخلاف فيه.
فإن قيل: لكن القرءان قد جاء بإبطال مذهب عابد الشمس صريحا بآيات كثيرة، قلنا وكذلك جاء بأبطال مذهب المجسم بآيات كثيرة منها {ليس كمثله شيء} و{ولم يكن له كفوا أحد} وغير ذلك من الآيات التي تدل على بطلان مذهبهم بالصريح.
فإن قيل: لكن عابد الشمس ملتزم للوازم الجسم، قلنا وكذا المجسمة فإن عابد الشمس التزم حركة معبوده، والمجسم التزم الحركة والسكون معا أليسوا يقولون إن الله عز وجل ينزل بذاته من فوق العرش إلى السماء الدنيا ثم اختلفوا هل يخلو ذاته منه بعد نزوله أم لا؟ وعابد الشمس مقر بالحدّ والتبعض والتجزؤ والمجسم كذلك.
فإن قيل: لكن المجسم لم يلتزم حدوث الجسم، وقلنا وعابد الشمس الذي قدمناه كذلك اعتقدها أزلية.
فإن قيل: لكن أمارات الحدث ظاهرة ولازمة لزوما بينا للشمس، وقلنا وأليست كذلك في حق المجسم، فإن لم تكن الحركة والسكون والتبعض والتجزؤ المعلومين من التزام الطول والعرض والعمق ولم تكن المقابلة للعرش والكون بقدره أو أكبر منه أو أصغر منه مما يستلزم الحدوث لزوما بينا فليت شعري ما الذي يستلزمه.
وعلى هذا الدرج فكل شيء تريدون أن تدفعوا به التكفير عن المجسم أو تزعموا إنه سبب لمجيء الخلاف فيه هو متحقق في عابد الشمس لأن أصل المجسم وعابد الشمس في معبودهما واحد وهو عبادة الجسم ولا فرق بينهما إلا في كون الجسم متحقق الوجود أو متخيلا وهذا الفرق لا مدخل له في التأثير فيما نحن فيجب أن يكون حكمهما واحدا.
وفي هذا قال إمام الحرمين رحمه الله في العقيدة النظامية: «فذهبت طوائف إلى وصف الرب بما يتقدس في جلاله عنه، من التحيز في جهة حتى انتهى غلاة إلى التشكيل والتمثيل تعالى الله عن قول الزائغين. والذي دعاهم إلى ذلك طلبتهم ربهم من المحسوسات، وما يتشكل في الأوهام ويتقدر في مجاري الوساوس، وخواطر الهواجس، وهذا حيد بالكلية عن صفات الإلهية، وأي فرق بين هؤلاء وبين من يعبد بعض الأجرام العلوية» اهـ.
وها هو القرطبي يكشف في تفسيره لقوله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} خطورة ما ذهبت إليه المشبهة فينقل عن شيخه أبي العباس رحمة الله عليه أن فقال في تفسير القرطبي ما نصه «من متبعي المتشابه من يتبعه طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع، تعالى الله عن ذلك، وأن الصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور ، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد» اهـ.
وقال الملا علي القاري في كتاب الرد على القائلين بوحدة الوجود: «وما أحسن المثل المضروب لمثبت الصفات من غير تشبيه ولا تعطيل باللبن الخالص السائغ للشاربين يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه، فالمعطل يعبد عدما، والمشبه يعبد صنما» اهـ.
ويقول أبو المظفر الأسفراييني في التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية: «والكرامية من جملة المشبهة لقولهم: بأنه جسم وله حد ونهاية، وأنه محل الحوادث، وأنه مماس للعرش ملاق له، فهؤلاء كلهم مشبهة ذاته بالذوات، ……ومن تأمل قول هؤلاء المشبهة علم كفرهم وضلالتهم ولم يبق له في ذلك شبهة فاستغنى بذكرها عن إقامة الحجة عليها» اهـ.
ثم من العلل التي حكمنا بها على كفر النصارى واليهود أنهم وصفوه بصفات الجسمية فإنَّ الكلام في التجسيم في حقّ الله تعالى إنما نشأ من كلام اليهود ومن اتَّبعهم في الخوض في المتشابه بغير حقّ ولا يخفى على عاقل خطر مقالة التجسيم، حيث إنها لا تستند إلى صريح النقل أو صحيح العقل، بل هي مقالة أساسها اعتقادات المشركين واليهود الذين نسبوا القعود إلى الله تعالى، وأخبار مُنكَرة متشابهة وشبهات واهية في مقابلة نصوص محكمة متواترة من كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، لذلك قال الشيخ سليم البِشْري المصريّ شيخ الجامع الأزهر في فرقان القرءان: «من اعتقد أنّ الله جسم أو أنّه مماسّ للسطح الأعلى من العرش كافر، وبه قال الكرَّاميّة واليهود، وهؤلاء لا نزاع في كفرهم» اهـ.
وجاء في شرح النووي على صحيح مسلم: «قال القاضي عياض رحمه الله: هذا يدل على أنهم ليسوا بعارفين الله تعالى، وهو مذهب حذاق المتكلمين في اليهود والنصارى أنهم غير عارفين الله تعالى وإن كانوا يعبدونه ويظهرون معرفته، لدلالة السمع عندهم على هذا وإن كان العقل لا يمنع أن يعرف الله تعالى من كذب رسولا. قال القاضي عياض رحمه الله : ما عرف الله تعالى من شبهه وجسمه من اليهود، أو أجاز عليه البداء أو أضاف إليه الولد منهم أو أضاف إليه الصاحبة والولد، وأجاز الحلول عليه والانتقال والامتزاج من النصارى، أو وصفه مما لا يليق به أو أضاف إليه الشريك والمعاند في خلقه من المجوس والثنوية فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله وإن سموه به، إذ ليس موصوفا بصفات الإله الواجبة له، فإذن ما عرفوا الله سبحانه» اهـ.
واسمع معي أيها الطالب للحق هذه القصة فيما يظهر لك أن المجسم لم يعبد الله ومن عبد غير الله فهو كافر فقد قال القاضي عياض في تدريب المدارك وتقريب المسالك: «جرت بالقيروان مسألة في الكفار هل يعرفون الله أو لا؟ فوقع فيها تنازع عظيم بين العلماء وتجاوز ذلك إلى العامة وكثر التمادي بينهم حتى كان يقوم بعضهم إلى بعض في الأسواق ويخرجون عن حد الاعتدال إلى القتال، وكان المتهجم بذلك رجل مؤدب يركب حماره ويذهب من واحد إلى آخر فلا يترك متكلماً ولا فقيهاً إلا سأله فيها وناظره، فقال قائل لو ذهبتم إلى الشيخ أبي عمران لشفانا من هذه المسألة، فقام إليه أهل السوق بجماعتهم حتى أتوا باب داره واستأذنوا عليه، فأذن لهم، فقالوا له أصلحك الله، أنت تعلم أن العامة إذا حدثت بها حادثة إنما تفزع إلى علمائها وهذه المسألة قد جرى فيها ما بلغك وما لنا في الأسواق شغل إلا الكلام فيها.
فقال لهم إن أنصتّم وأحسنتم الاستماع أجبتكم بما عندي، فقالوا له ما نحب منك إلّا جوابا بينا على مقدار أفهامنا، فقال لهم بالله التوفيق، وقال لا يكلمني منكم إلا واحد ويسمع الباقون، فقصد واحدا منهم فقال له أرأيت لو لقيت رجلاً فقلت له أتعرف أبا عمران الفاسي؟ فقال أعرفه، فقلت صفه لي، فقال هو رجل يبيع البقل والحنطة والزيت في سوق ابن هشام ويسكن صبرة، أكان يعرفني؟ قال لا.
قال فلو لقيت آخر فقلت تعرف الشيخ أبا عمران؟ فقال نعم فقلت صفه لي، فقال نعم، يدرس العلم ويدرسه، يفتي الناس ويسكن بقرب السماط، أكان يعرفني؟ قال نعم، قال والأول ما كان يعرفني؟ قال لا، قال لهم الشيخ كذلك الكافر إذا قال إن لمعبوده صاحبة وولداً وأنه جسم وعبد مَن هذه صفته فلم يعرف الله ولم يصفه بصفاته ولم يقصد بالعبادة إلا مَن هذا صفته وهو بخلاف المؤمن الذي يقول إن معبوده الله الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد فهذا قد عرف الله ووصف بصفته وقصد بعبادته من يستحق الربوبية سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، فقامت الجماعة وقالوا له جزاك الله خيراً من عالم فقد شفيت ما بنفوسنا ودعوا له ولم يخوضوا في المسألة بعد هذا» اهـ.
فإن قيل: لكن المجسم قد وقع في كتب العلماء الخلاف في تكفيره وليس كذلك عابد الشمس، قلنا لم يقع الخلاف ولكن أنتم لم تفهموا كلام العلماء وسنبينه لكم في مقال مستقل إن شاء الله تعالى ومما يدل أنه لم يقع خلاف وأنه لا فرق بين عابد الشمس والمجسم أن الغزالي اعتبر عابد الصنم والمجسم واحدا فلم يفرق بينهما في الحكم كما ذكرنا سابقا ونعيد قوله في هذا المقال فقد قال الغزالي في إلجام العوام: «فعلى العامي أن يتحقق قطعا ويقينا أن الرسول ﷺ لم يرد بذلك جسما هو عضو مركب من لحم ودم وعظم، وأن ذلك في حق الله تعالى محال وهو عنه مقدس، فإن خطر بباله أن الله جسم مركب من أعضاء فهو عابد صنم، فإن كل جسم فهو مخلوق، وعبادة المخلوق كفر، وعبادة الصنم كانت كفرا لأنه مخلوق، وكان مخلوقا لأنه جسم، فمن عبد جسما فهو كافر بإجماع الأمة السلف منهم والخلف»اهـ وقال أيضًا في إحياء علوم الدين: «ولو جاز أن يُعتقد أن صانع العالم جسم لجاز أن يُعتقد الألوهية للشمس والقمر أو لشىء آخر من أقسام الأجسام »اهـ.
فهنا قد ظهر لك يا طالب الحق التمايز بين المسلم المنـزه والمشبه المجسم وأن وصف الله بالجسم أو بصفات الجسم تكذيب للشرع والعقل وأن صفات الجسمية من دلائل الحدوث، فوصف الله بها، أو ببعضها لا يكون إلا وصفا لله بما هو دالٌّ على الحدوث، فلا يكون إذا وصف الله بها إلا تنقيصا في حقه تعالى، وذلك أي نسبة النقص والحدوث إلى الله تعالى كفر لا شَكَّ فيه.
ولا يجوز أن يكون المسلم في دينه مذبذبا تائها، لا يميز المسلم من غيره، وإلا خلط الإيمان بالكفر، وأدخل في دائرة الإيمان من رد قول الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وتخبط في جهالات الكفر فإما أن يقول هذا المراوغ: إن القائل بالجسمية أي بالتركيب والحجم في حق الله يكون كافرا أيا كان قائله، وإن مات على ذلك فهو مخلد في نار جهنم ولا يشك في كفره وإلا كان أخا له في الكفر، وإما أن يعاند ويجاهر بأنه ليس كذلك، فيسقط من مرتبة العقلاء إلى درك الأنعام وهو هلاك وكفر أيضا، والعياذ بالله تعالى.
فنسأل الله لنا ولكم الهداية والعصمة من الغي والضلال، والحمد لله رب العالمين.
من نصوص الإجماع على كفر المجسم والجهوي
بسم الله الرحمن الرحيم
1- قال الإمام أبو جعفر الطّحاوي: “ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر” انتهـى.
وقد ذكر الطحاوي في أول المتن أن ما سيذكره هو عقيدة أهل السنة والجماعة. ولا شكّ أن الجسميّة والجهة من صفات البشر عند أصحاب العقول السوية.
2- قال الحافظ ولي الدين العراقي ابن شيخ الحفاظ زين الدين العراقي في أماليه ما نصه: “اتفق السلف والخلف أن من اعتقد أن الله في جهة فهو كافر”. انتهـى
3- قال حجة الإسلام والإمام الكبير الشيخ أبو حامد الغزالي في رسالته “إلجام العوام عن علم الكلام” ما نصه: “فإن خطر بباله أن الله جسم مركب من أعضائه فهو عابد صنم فإن كل جسم فهو مخلوق، وعبادة المخلوق كفر، وعبادة الصنم كانت كفرًا لأنه مخلوق، وكان مخلوقًا لأنه جسم فمن عبد جسمًا فهو كافر بإجماع الأمة السلف منهم والخلف. انتهـى
4- قال الإمام السبكي: قال أبو نعيم بن حمّاد شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه كفر، وإجماع الأمة المحمدية على ذلك. انتهى
5- قال الملاّ علي القاري الحنفي في كتابه “شرح المشكاة” ما نصه: قال جمع من السلف والخلف إن معتقِد الجهة (أي في حق الله) كافر كما صرح به العراقيّ وقال إنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني. انتهـى
وقال: قال النووي في شرح مسلم في هذا الحديث (حديث النزول) وشبهه من أحاديث الصفات وآياتها، مذهبان مشهوران فمذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين الإيمان بحقيقتها على ما يليق به تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ولا نتكلم في تأويلها مع اعتقادنا تنزيه الله سبحانه عن سائر سمات الحدوث، والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعة من السلف وهو محكي عن مالك والأوزاعي إنما يتأول على ما يليق بها بحسب مواطنها، فعليه الخبر مؤول بتأويلين أي المذكورين وبكلامه وبكلام الشيخ الرباني أبي إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم من أئمتنا وغيرهم، يعلم أن المذهبين متفقان على صرف تلك الظواهر كالمجيء والصورة والشخص والرجل والقدم واليد والوجه والغضب والرحمة والاستواء على العرش والكون في السماء وغير ذلك مما يفهمه ظاهرها لما يلزم عليه من محالات قطعية البطلان، تستلزم أشياء يحكم بكفرها بالإجماع، فاضطر ذلك جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ .انتهى وقال أيضا في “شرح الفقه الأكبر” صحيفة 355 ما نصه: “البدعة لا تزيل الإيمان والمعرفة” ثم استثنى منها فقال “إلا التجسيم وإنكار علم الله سبحانه بالجزئيات فإنه يكفر بهما بالإجماع من غير نزاع. انتهى
6- قال الإمام أبو منصور البغدادي في “تفسير الأسماء والصفات”: “وأما أصحابنا فإن شيخنا أبا الحسن الأشعري وأكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل السنة والجماعة قالوا بتكفير كل مبتدع كانت بدعته كفرا أو أدته إلى كفر كقول من يزعم أن معبوده صورة أو له حد أو نهاية، أو يجوز عليه الحركة والسكون أو أنه روح ينتقل في الأجساد، وأنه يجوز عليه الفناء أو على بعضه، أو قال أنه ذو أبعاض وأجزاء” اهـ.
7- قال الإمام تقي الدين الحصني الشافعي رحمه الله في كتابه “دفع شبه من شبّه وتمرّد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد” ما نصه: “الكيف من صفات الحدث وكل ما كان من صفات الحدث فالله عز وجل منزه عنه فإثباته له سبحانه كفر محقق عند جميع أهل السنة والجماعة” انتهـى وقال: في الصحيفة 88 ما نصه: ” من شبهه أو كيفه طغى وكفر. هذا مذهب أهل الحق والسنة، وإن دليلهم لجلي واضح، من شبهه أو مثل أو جسم فهو مع السامرة واليهود ومن حزبهم”. انتهى
8- قال القاضي عبد الوهاب البغدادي وهو من أصحاب الوجوه في المذهب المالكي في شرح عقيدة مالك الصغير:” ولأن ذلك يرجع إلى التنقل والتحول وإشغال الحيّز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤول إلى التجسيم وإلى قِدم الأجسام وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام” انتهى
9- قال أبو المظفر الإسفراييني الشافعي في كتابه “التبصير في الدين” ما نصه: وأما الهشامية فإنهم أفصحوا عن التشبيه بما هو كفر محض باتفاق جميع المسلمين. انتهى
10- قال الإمام الحافظ محمد زاهد الكوثري رحمه الله وهو يرد على كلام الدارمي المجسم: “فإذا معبود هذا الخاسر يقوم ويمشي ويتحرك، ولعل هذا الاعتقاد ورثه هذا السجزي من جيرانه عباد البقر، ومن اعتقد ذلك في إله العالمين يكون كافرًا باتفاق” انتهى
11- قال ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي: «وهذا مُنتَظمٌ مَن كفرُهُ مُجمَعٌ عَليهِ ومَن كفَّرناهُ مِن أهلِ القِبلةِ كالقائلينَ بِخَلقِ القُرآنِ وَبأنَّهُ لا يَعلَمُ المَعدوماتِ قَبلَ وُجودِها ومَن لا يُؤمِنُ بالقَدرِ وكذا مَن يَعتقدُ أنَّ اللهَ جالسٌ على العَرشِ كما حَكاهُ القاضي حُسَينُ عن نَصِّ الشَّافِعيِّ”. انتهى
12- قال محدث العصر الأصولي الفقيه المفسر اللغوي الشيخ عبد الله الهرري في رسالته “التعاون على النهي عن المنكر” ما نصه: والمجسم كافر بإجماع الأئمة الأربعة وغيرهم لأن من جسم الله تعالى كذب قوله تعالى “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ” سورة الشورى فإنه جعل لله أمثالا كثيرة لا تحصى. انتهى.
13- ذكر أبو شامة المقدسي الدمشقي الشافعي شيخ الإمام النووي في “كتاب الذيل على الروضتين ” في الصحيفة 24 عند ذكر أخبار 595 هجري ما نصه: فكان ما اشتهر من إحضار اعتقاد الحنابلة، وموافقة أولاد الفقيه النجم بن الحنبلي الجماعة، وإصرار عبد الغني المقدسي على لزوم ما ظهر من اعتقاده وهو الجهة، والاستواء، والحرف، وإجماع العلماء على الفتيا بكفره، وأنه مبتدع لا يجوز أن يُترك بين المسلمين، ولا يحل لولي الأمر أن يمكنه من المقام معهم. انتهى
وقد نقل علماء بعض الأمصار الإجماع على كفر المجسمة كعلماء المغرب وتونس ومكة وبجاية ومصر وواسط: فمن علماء المغرب الذين نقلوا الإجماع على كفر المجسمة:
14- القاضي عياض المالكي رحمه الله. فقد قال في كتابه “ترتيب المدارك” ما نصه:” فذلك كله كفر بإجماع المسلمين كقول الإلهيين من الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين؛ وكذلك من ادعى مجالسة الله والعروج إليه ومكالمته أو حلوله في أحد الأشخاص كقول بعض المتصوفة والباطنية النصارى والقرامطة’. انتهى
وقوله “من ادعى مجالسة الله والعروج إليه” هو تكفير لمن قال بلوازم الجسمية وان لم يصرح بأن الله جسم.
15- قال الإمام العلّامة محمّد بن أحمد الفاسي المشهور بميّارة في كتابه مختصر الدّر الثّمين بتحقيق الأستاذ فوزي بن نيتشة التونسي من سلسلة إصدارات: الجمعية التونسية لإحياء التراث الزيتوني صحيفة 47 ما نصّه: ” وخرج بوصفه بالمطابق الجزم غير المطابق ويُسمّى الاعتقاد الفاسد والجهل المركّب كاعتقاد الكافرين التّجسيم أو التّثليث أو نحو ذلك والإجماع على كفر صاحبه أيضا، و أنّه آثم غير معذور مخلّد في النّار اجتهد أو قلّد.” انتهى
16- قال الشيخ محمد التاويل المغربي في كتابه اللباب في شرح تحفة اللباب صحيفة 24 ما نصه: وأما المبتدع المتفق على كفره كالمجسمة وأشباههم فإنه كغيره من الكفار، لا توارث بينه وبين المسلمين. انتهى
وكذلك علماء الجزائر عموما وبجاية خصوصا، قد نقلوا الإجماع على إكفار المجسمة:
17- قال الشيخ محمد العربي التبان في كتابه براءة الأشعريين عند قوله “الخامسة زعمه –أي ابن تيمية- : أن كل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية، تعالى وتقدس عن افكه هذا” ما نصه: والأمة كلها ما عدا مشايخه المجسمة، تُنزه الله تبارك وتعالى عن الحد والمكان، وتقول: العجز عن إدراكه تعالى إدراك والخوض في ذاته إشراك. انتهى
18- نقل فقهاء بجاية الإجماع على كفر المجسمة وأقرهم على ذلك الإمام السنوسي. فقد جاء في كتاب المعيار المعرب للوانشريسي في المجلد الثاني الصحيفة 882 أن فقيه بجاية سيدي عبد الرحمن الواغليسي المالكيّ سئل عن شخص ينطق بكلمتي الشهادة ولا يعرف معناها وقد يعتقد أن الله جسم كبير وغير ذلك. فأجاب بقوله: ” فقد وصل إلي ما كتبتموه مما فهمتم من فتوى الشيخين أبي العباس بن إدريس وأبي العباس أحمد بن عيسى فيمن يقول لا إله إلا الله ولم يدر ما انطوت عليه أن فتوى سيدي أحمد بن إدريس نصها من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن حقا، فمقتضى هذا الفهم من جواب الشيخ أن من نطق بالشهادة يجزئه نطقه وإن جهل معناه وما انطوت عليه الكلمة من مدلولها، فاعلم أن هذا الفهم عن الشيخ رحمه الله باطل لا يصح، فإنه يلزم منه أن من قال ذلك وهو معتقد في الإله تعالى شبه المخلوقات وصورة من صور الموجودات أن يكون مؤمنا حقا، وقد وجدنا من الجهلة من هو كذلك وكتب إلينا بذلك وأشباهه. ومن اعتقد ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين. وقد نص أئمتنا على ذلك وعلى غيره مما هو كفر بإجماع، فلا يصح ذلك عن الشيخ أصلا ولا يصح أن يختلف في هذا أو شبهه. وفي هذا أجاب سيدي أحمد بن عيسى. وقد تحدثت أنا مع سيدي أحمد بن إدريس وذكرت له ما يقول صاحبنا فوافق عليه وقال هذا حق لا يقال غيره”. انتهى من المعيار المعرّب للونشريسيّ
وقد أشار الشيخ محمد الصالح الأَوْجَلي (كان حيا سنة 1092 هجري) في كتابه شرح سبك الجواهر في الصحيفة 91 إلى هذه الفتوى فقال ما نصه: “وقد سُئل فقهاء بجاية وغيرهم من الأئمة في أوائل القرن التاسع أو قبله بيسير عن شخص ينطق بكلمتي الشهادة و يصلي ويصوم ويحج ويفعل كذا وكذا، لكن إنما يأتي بمجرد هذه الأقوال والأفعال فقط على حسب ما يرى الناسَ يقولون ويفعلون، حتى انه ينطق بكلمتي الشهادة ولا يفهم لها معنى، ولا يدرك معنى الاله، ولا معنى الرسول، وبالجملة فلا يدري من كلمتي الشهادة ما أثبت ولا ما نفى، وربما توهم أن الرسول عليه الصلاة و السلام نظير الاله لما يراه لازم الذكر معه في كلمتي الشهادة وفي كثير من المواضع، فهل ينتفع هذا الشخص بما صدر منه من صورة الفعل والقول ويصدق عليه حقيقة الإيمان فيما بينه وبين ربه؟ فأجابوا كلهم بأن مثل هذا لا يُضرب له في الإسلام نصيب وأن صدر منه من صور أقوال الإيمان وأفعاله ما وقع. قال الشيخ السنوسي رحمه الله: وهذا الذي أفتوا به في حق هذا الشخص ومن كان في حالته جليٌّ في غاية الجلاء، لا يُمْكِنُ أن يختلف فيه اثنان. انتهى كلام الأوجلي
وكذلك علماء الزيتونة رحمهم الله بتونس المحروسة فإنهم على إكفار المجسم والجهوي. ولقد نقل الإمام البرزلي والشيخ المارغني الإجماع على كفر من قال بلوازم الجهة الجسمية.
19- قال البرزلي في نوازله في المجلد السادس من نوازله صحيفة 271 ما نصه: ” وكذا من اعترف بالألوهية والوحدانية لكنه اعتقد أنه غير حي أو غير قديم أو محدث أو مُصور أو له ولد أو صاحبة أو متولد من شئ أو كائن عنه أو أن معه في الأزل شيئا قديما غيره أو أن ثم صانع للعالم سواه غيره أو مدبرا غيره. فهذا كفر بإجماع المسلمين كقول الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين. وكذا من ادعى مجالسة الله والعروج إليه”. انتهى
20- قال شيخ جامع الزَّيتونة إبراهيم المارغني التُّونُسيُّ في “طالع البُشرَى على العقيدة الصُّغرَى” ما نصُّه: ” وخرج – بالمطابق للواقع – الجزم الغير مطابق له ، ويُسمَّى الاعتقاد الفاسد، كاعتقاد قدم العالم أو تعدُّد الإله أو أنَّ الله تعالَى جسم، وصاحب هذا الاعتقاد مُجمع على كُفره” انتهَى.
وهذا الكتاب متحصل على إجازة النظارة العلمية بجامع الزيتونة من الشيوخ الجامع الأكبر الأفاضل وهم: الشيخ أحمد بيرم والإمام الأكبر محمد الطاهر بن عاشور والشيخ محمد رضوان والشيخ محمد الصادق النيفر. هذا الكتاب مكتوب على غلافه أيضا “هذا الشرح كان مقررا من طرف المشيخة الزيتونية لطلبة العلوم الشرعية”.
ثم إن قول الشيخ المارغني: “مُجمع على كُفره” يعني لا خلاف في كونه كافرًا.
وهذا لمن يفهم من الجسم معناه وهو المؤلَّف المركَّب.
وأما قول بعض أدعياء العلم تعقيبا على كلام الشيخ المارغني بأن هذا من النصوص المطلقة التي تقيدها نصوص أخرى في غير هذا الكتاب، بمعنى أن الإجماع على كفر المجسم منحصر فقط في من قال عن الله جسم كالأجسْام” أو في من التزم لوازم مقالته الباطلة ولم يصرّح بنفيها.
بل زعم هؤلاء أن هذه القيود مشهورة في كثير من كتب أهل الفقه، وأنهم يفرّقون بين حكم القائل بأن الله جسمٌ كالأجسام، والقائل بأنه جسم لا كالأجسام، فيحكمون بابتداع الثاني وبإكفار الأول.
والحق أن هذه القيود متعلقة في الأصل بمن تستر بالبلكفة، أو كان جاهلا بمعاني بعض الألفاظ التي يطلقها في حق الله، فهذا هو المختلف في كفره بين علماء أهل السنة.
وليعلم أن تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات وأنه ليس كمثله شىء معلوم من الدين بالضرورة، بل هو من القطعيات الدينية لذلك اعتبر الكثير من العلماء أن الذي يثبت له تعالى صفة يجب تنزيهه عنها إجماعا، أو يثبت له لوازم الجسمية أيضا كاللون والاتصال والانفصال يكفر.
والشيخ المارغني متبع في ذلك لكلام من سبقه من علماء تونس في هذه المسألة، كالإمام المازِرِيُّ، فقد قال : “وَهَذَا كَقَوْلِ الْمُجَسِّمَةِ جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ لَمَّا رَأَوْا أَهْلَ السُنَّةِ يَقُولُون: البارِئُ سُبحانَه وتَعالى شَىءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ، طَرَدُوا الِاسْتِعْمَالَ -أي قاسُوا هذه علَى تِلكَ فأجْرَوْها في الاسْتِعْمالِ- فَقَالُوا: جِسْمٌ لَا كالأجسام، والفَرْقُ أنّ لَفْظَ شىءٍ لَا يُفِيدُ الْحُدُوثَ وَلا يَتَضَمَّنُ مَا يَقْتَضِيهِ، وَأَمَّا جِسْمٌ وَصُورَةٌ فَيَتَضَمَّنَانِ التَّأْلِيفَ وَالتَّرْكِيبَ وَذَلِكَ دَلِيلُ الحُدُوثِ” انتهى
فانظر لقوله “وذلك دليل الحدوث”، فالمجسِّم لا يعبد خالقا أزليا بل يعبد شيئا حادثا مخلوقا وإن ادعى أنه لا كالمخلوقين كما عبدَ أتباعُ السامري عِجلًا لا كالعجولِ ولم يفدهم أنه لا كالعجول شيئا في إنجاءهم من الحكم عليهم بالتكفير لكونهم عبدوا جسما.
21- وكذلك علماء واسط أجمعوا على إكفار المجسمة فقد جاء في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم هبة الله ابن الحسن بن منصور الطبري تحت باب جماع توحيد الله عز وجل وصفاته وأسمائه، سياق ما روي في تكفير المشبهة ما نصه: “ذكره عبد الرحمن قال: ثنا إسماعيل بن أبي الحارث، ثنا سويد بن سعيد ، قال : ثنا علي بن عاصم ، قال تكلم داود الجواربي في التشبيه فاجتمع فيها أهل واسط ، منهم محمد بن يزيد ، وخالد الطحان ، وهشيم ، وغيرهم ، فأتوا الأمير وأخبروه بمقالته ، فأجمعوا على سفك دمه. فمات في أيامه، فلم يصل عليه علماء أهل واسط.” انتهى
وكذلك علماء مكة المكرمة مجمعون على إكفار المجسمة:
22- قال الإمام أحمد بن زيني دحلان في كتابه فتنة الوهابية: ” و كانوا – أي الوهابية- في ابتداء أمرهم أرسلوا جماعة من علمائهم ظنا منهم أنهم يفسدون عقائد علماء الحرمين ويدخلون عليهم الشبه بالكذب والمين، فلما وصلوا إلى الحرمين وذكروا لعلماء الحرمين عقائدهم وما تملكوا به رد عليهم علماء الحرمين وأقاموا عليهم الحجج والبراهين التي عجزوا عن دفعها، وتحقق لعلماء الحرمين جهلهم وضلالهم ووجدوهم ضحكة و مسخرة، كحمر مستنفرة فرت من قسورة، ونظروا إلى عقائدهم فوجدوها مشتملة على كثير من المكفرات، فبعد أن أقاموا البرهان عليهم كتبوا عليهم حجة عند قاضي الشرع بمكة تتضمن الحكم بكفرهم بتلك العقائد ليشتهر بين الناس أمرهم .
وقد تناقل علماء مصر الإجماع أيضا على كفر معتقد الجسمية والجهة في حق الله:
23- ورد على علماء الأزهر الشريف سؤال يقول فيه السائل: ما قول السادة العلماء حفظهم الله تعالى فيمن يعتقد أن الله عز وجل له جهة وأنه جالس على العرش في مكان مخصوص؟ فأجاب الشّيخ محمود بن محمّد بن أحمد خطّاب السّبكِيّ المصريّ على هذا السؤال فقال ما نصه:” اعتقادُ أنّ الله يتحيَّز في جهة أو مكان باطل ومعتقده كافر بإجماع من يُعتـدّ به من علماء المسلمين “انتهـى
وقد عرضت هذه الإجابة على جمع من أفاضل علماء الأزهر فأقروها وكتبوا عليها أسماءهم وهم أصحاب الفضيلة :الشيخ محمد النجدي شيخ السادة الشافعية، والشيخ محمد سبيع الذهبي شيخ السادة الحنابلة ، والشيخ محمد العزبي رزق المدرس بالقسم العالي ، والشيخ عبد الحميد عمار المدرس بالقسم العالي ، والشيخ علي النحراوي المدرس بالقسم العالي ، والشيخ دسوقي عبدالله العربي من هيئة كبار العلماء ، والشيخ علي محفوظ المدرس بقسم التخصص بالأزهر ، والشيخ إبراهيم عيارة الدلجموني المدرس بقسم التخصص بالأزهر ، والشيخ محمد عليان من كبار علماء الأزهر ، والشيخ أحمد مكي المدرس بقسم التخصص بالأزهر ، والشيخ محمد حسين حمدان.
و قد نقل الشيخ المحدث عبد ربه بن سليمان القليوبي الأزهري شارح جامع الأصول في فيض الوهاب الإجماع على كفر من يعتقد أن الله تعالى موجود في السماء أو يجلس على العرش. بل سبق أن أفتى علماء مصر بإباحة دم أبو محمد عبد الغني المقدسي لكونه مجسما صرفا كما ذكر ذلك أبو شامة المقدسي الدمشقي الشافعي في كتابه تراجم رجال القرنين السادس والسابع المعروف بالذيل على الروضتين في الصحيفة 69 – طبعة دار الكتب العلمية بتحقيق ابراهيم شمس الدين- في حوادث سنة 600 هجري قال: “ثم سافر إلى مصر فنزل عند الطحانين وصار يقرأ الحديث، فأفتى فقهاء مصر بإباحة دمه وكتب أهل مصر إلى الصفي بن شكر وزير العادل يقولون قد أفسد عقائد الناس ويذكر التجسيم على رؤوس الأشهاد”. انتهى
وخالف الإجماع الذي نقله علماء مصر البجيرمي في حاشيته على الخطيب والبيجوري الذي قال في شرحه على جوهرة التوحيد في الصحيفة 96 ما نصه: “لكن المجسمة لا يكفرون إلا إن قالوا (عن الله) جسم كالأجسام. انتهى.
فتبين بذلك أنهم مخالفون لما قاله علماء الأزهر الشريف فلا يُعتد بهم فيما ينقلونه
24- قال الشيخ علاء الدين البخاري الحنفي في كتابه ملجمة المجسمة صحيفة 61 – ما نصه: ” فإذن يكون القول بأن الله متمكن على العرش متحيز فيه وأنه في جهة الفوق قولا بأنه جسم لأن الجسمية من اللوازم العقلية للمتحيز ولذي الجهة ومن قال بأن الله جسم فهو كافر إجماعا. ولهذا قال إمام الحرمين في الإرشاد: “إثبات الجهة لله كفر صُراح”. انتهى
25 – قال الإِمَامُ صَفِيُّ الدِّيْنِ الهِنْدِيُّ المتوفى سنة 715 هـجري في كِتَابه نِهَايَة الوُصُوْلِ الجزء 8 صحيفة 3842 مَا نَصُّهُ: فَإِنَّ الأُمَّةَ مِنَ السَّلَفِ قَبْلَ ظُهُوْرِ الْمُخَالِفِ مُجْمِعَةٌ عَلَى ذَمِّ مَنْ كَفَرَ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَتَوْبِيْخِهِ كَالفَلَاسِفَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ. انتهـى
26- قال أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي في دفع شبه التشبيه: “قال ابن حامد (المجسم): يجب الإيمان بما ورد من المماسة والقرب من الحق لنبيه في إقعاده على العرش. قال: وقال ابن عمر:
“وإن له عندنا لزلفى”. قال: ذكر الله الدنو منه حتى يمس بعضه. قلت: وهذا كذب على ابن عمر ومن ذكر تبعيض الذات كفر بالإجماع. انتهى
27- ذكر أبو البقاء الكفوي الحنفي في كلياته ما نصه: “وقد اتفق الأئمة على إكفار المجسمة المصرحين بكونه جسما وتضليل المستترين بالبلكفة”. انتهى
وهذا نص صريح في نقل الإجماع على كفر المجسمة وتحرير نقطة الخلاف في الذين اختلف في تكفيرهم، وهم فقط المتسترون بالبلكفة، أي الذين يطلقون على الله جسم ولا يفهمون معنى الجسمية، يظنون مثلا أن معناه القائم بذات.
28- جاء في كتاب توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني المتوفى سنة 1182 هجري، – بعد أن نقل كلام جمال الدين الإسنوي الشافعي في كفر المجسمة- ما نصه: ” فأنت ترى أن ظاهر كلامه يدل على أن الأصوليين بعد اتفاقهم على تكفير المبتدع بالتجسيم مثلا، مختلفون في قبول روايته”. انتهى
29- نقل الشيخ أبو بكر بن محمد المَلا الأحسائي الحنفي المتوفى سنة 1270 ھجري اتفاق أهل السنة في تكفير من قال أن الله جسم لا كالأجسام، فقال في كتابه “مسلك الثقات في نصوص الصفات” ما نصه : ” إن كلمة أهل الحق من أهل السنة والجماعة، متفقة على أن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجسمية ولواحِقِها، فلا يقال: إنه جسم لا كالأجسام، لاستحالة ذلك عليه تعالى عقلًا ونقلًا، وكفّروا القائل بذلك، وكذا كلمتهم متفقة على أنه تعالى لا يتمكن بمكان، ولا يمر عليه زمان، ولا يتصف بالفوقية المكانية، ولا بالتحتية، ولا بالقُرب، ولا بالبُعد بالمكان، ولا يُقال : إنه في جهة من الجهات، لا جهة فوق ولا غيرها “. انتهى
والإجماع على إكفار المجسمة قد نقله أيضا المدعو حسن بن علي السقاف – وهو منتقد بين أهل العلم – فقد قال في كتابه التّنديد بمن عدد التّوحيد: وقد قال الإمام الحافظ القرطبي في كتابه ” التذكار في شأن المجسمة ص 208:”والصحيح القول بتكفيرهم إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور” اه. وكذلك قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في “المجموع” شرح المهذب (4/253). بل أجمعت الأمة على تكفير المجسمة كما هو معلوم. انتهى
فلتكن يا طالب الحق على يقين أن المجسم كافر بإجماع كالجبال وأهل السنة لا خلاف بينهم أن إطلاق لفظ الجسم على الله تعالى باختيار من قائله أي من غير إكراه مع العلم بما فيه من النقص، استخفاف وكفر بالله. وما أجمع عليه سلف الأمة وخلفها لا يجوز أن يخالف به أحد ممن جاء بعدهم، وهذا معلوم مفهوم لأن الإجماع حجة كما ﻗﺎل العز بن عبد السلام في كتابه ﺗﻔﺴير اﻟﻘﺮآن اﻟﻌظيم جزء 2 صحيفة 567 – ﺗﺤﻘيق اﻟﺸﺎﻣسي ونص عبارته: “ﻗﻮله صلى الله عليه وسلم: وإنﱠ ﻣﻦ أﻣﺘﻲ ﻗﻮﻣًﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺤﻖﱢ ﺣﺘﻰ ينزلَ عيسى” . فيها دليل ﻋﻠﻰ أن إﺟﻤﺎع ﻛﻞ ﻋﺼﺮ ﺣﺠﺔ” انتهى
وحتى الإمام العز بن عبد السلام نفسه لم يخالف هذا الإجماع فقد قال في كتابه مقاصد الصلاة صحيفة 21 ما نصه: اﻟﺜﺎﻧﻲ: اﻹﺷﺮاك ﺑﺎﻟﺘﺸبيه: وﻧفيه ﺑﺎﻻﻋﺘﺮاف ﺑﺄن ” ليس كمثله شئ وهو السميع العليم” ، ﻓﺘﺒﺮأ ﺑﺬﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﺤﺸﻮية وأﺿﺮاﺑهم. انتهى
كشف شبهات المتمشعرة وبيان أوهام المشبهة
وحقية القول بتكفير المجسم (1)
في هذه السلسلة سنتكلم عن عدة نقاط سننشرها بإذن الله:
– القول الفصل بتكفير المجسم وبيان أن الإجماع قائم على تكفير المجسم.
– التمايز بين المسلم المنـزه والمشبه المجسم.
– مدار الحكم بالتكفير على من وصف الله بالجسم أو الجهة.
– تحقيق حول من هم أهل القبلة.
– تحقيق في مسألة لازم المذهب.
– بيان ما أشكل من كلام بعض العلماء كالأشعري والباقلاني والغزالي والعز بن عبد السلام.
أولا: بيان أن الإجماع قائم على تكفير المجسم والجهوي
قد نقل جمهرة من الأعلام الإجماع على تكفير المجسم والجهوي، وهذا التكفير لمثبت الجهة لله تعالى واضح، لأن معتقد الجهة لا يمكنه إلا أن يعتقد التحيز والجسمية، وإن قال غير ذلك فهو قول متناقض، وممن نقل ذلك:
قال الشيخ ابن حجر الهيتمي في المنهاج القويم: «واعلم أن القرافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم ، وهم حقيقون بذلك» اهـ أي جديرون بالحكم عليهم بالكفر.
قال الشيخ ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية (ص/144 – 145): «عقيدة إمام السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه وجعل جنان المعارف متقلَّبه ومأواه وأفاض علينا وعليه من سوابغ امتنانه وبوأه الفردوس الأعلى من جنانه، موافقة لعقيدة أهل السنة والجماعة من المبالغة التامة في تنزيه الله تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا من الجهة والجسمية وغيرهما من سائر سمات النقص، بل وعن كل وصْف ليس فيه كمال مطلق، وما اشتهر بين جهلة المنسوبين إلى هذا الإمام الأعظم المجتهد من أنه قائل بشىء من الجهة أو نحوها فكذب وبُهتان وافتراء عليه، فلعن الله من نسب ذلك إليه، أو رماه بشىء من هذه المثالب التي برَّأه الله منها، وقد بين الحافظ الحجة القدوة الإمام أبو الفرج بن الجوزي من أئمة مذهبه المبرئِّين من هذه الوصمة القبيحة الشنيعة، أنَّ كل ما نسب إليه من ذلك كذب عليه وافتراء وبهتان وأن نصوصه صريحة في بطلان ذلك وتنزيه الله تعالى عنه فاعلم ذلك فإنه مهم.
وإياك أنْ تصغى إلى ما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهما ممن اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله، وكيف تجاوز هؤلاء الملحدون الحدودو وتعدوا الرسوم وخرقوا سياج الشريعة والحقيقة، فظنوا بذلك أنهم على هدى من ربهم وليسوا كذلك، بل هم على أسوأ الضلال وأقبح الخصال وأبلغ المقَّتْ والخسران وأنهى الكذب والبهتان فخذل الله متَّبِعهم وطهر الأرض من أمثالهم.
وإياك أن تغتر أيضًا بما وقع في الغُنْية لإمام العارفين وقطب الإسلام والمسلمين الأستاذ عبد القادر الجيلاني، فإنه دسَّه عليه فيها مَنْ سينتقم الله منه وإلا فهو برىء من ذلك وكيف تنروّج عليه هذه المسألة الواهية مع تضَّلُعه من الكتاب والسنة وفقه الشافعية والحنابلة حتى كان يفتي على المذهبين، هذا مع ما انضَّم لذلك من أن الله منّ عليه من المعارف والخوارق الظاهرة والباطنة وما أنبأ عنه ما ظهر عليه وتواتر من أحواله، ومنه ما حكاه اليافعي رحمه الله وقال: مما علمناه بالسند الصحيح المتصل أن الشيخ عبد القادر الجيلاني أكل دجاجة ثم لما لم يبق غير العظيم توجه إلى الله في إحيائها فأحياها الله إليه وقامت تجري بين يديه كما كانت قبل ذبحها وطبخها، فمن امتَّن الله عليه بمث هذه الكرامات الباهرة يتصور أو يتوهم أنه قائل بتلك القبائح التي لا يصدر مثلها إلا عن اليهود وأمثالهم ممن استحكم فيه الجهل بالله وصفاته وما يجب له وما يجوز وما يستحيل: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [سورة النور] . ومما يقطع به كل عاقل أن الشيخ عبد القادر لم يكن غافلاً عما في (رسالة القشيري) وإذا لم يجهل ذلك فكيف يتوَّهم فيه هذه القبيحة الشنيعة، وفيها عن بعض رجالها أئمة القوم السالمين عن كل محذور ولوم أنه قال: كان في نفسي شىء من حديث الجهة فلما زال ذلك عني كتبتُ إلى أصحابنا إني قد أسلمت الآن، فتأمل ذلك واعتن به لعلك توفق للحق إن شاء الله تعالى وتجري على سنن الاستقامة» اهـ.
ونقل السيوطي في الأشباه والنظائر (1/488) هذا المعنى فقال: «قاعدة: قال الشافعي: لا يكفر أحد من أهل القبلة، واستثنى من ذلك المجسم ، ومنكر علم الجزئيات، وقال بعضهم: المبتدعة أقسام: الأول: ما نكفره قطعا، كقاذف عائشة رضي الله عنها، ومنكر علم الجزئيات، وحشر الأجساد، والمجسمة ، والقائل بقدم العالم.
الثاني: ما لا نكفره قطعا، كالقائل بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وعلي على أبي بكر.
الثالث والرابع: ما فيه خلاف، والأصح التكفير أو عدمه، كالقائل بخلق القرآن صحح البلقيني التكفير والأكثرون عدمه، وساب الشيخين صحح المحاملي التكفير والأكثرون عدمه» اهـ.
انظر إلى قوله: «ما نكفره قطعا» أقولا واحدًا بلا خلاف ثم عد المجسمة فيهم.
ثم ها هو الأصولي أبو جعفر الطحاوي المولود سنة 227هـ في عقيدته المشهورة والتي ارتضاها المسلمون ودرسوها في معاهدهم وجامعاتهم، والتي ذكر أنها عقيدة أهل السنة والجماعة حيث قال فيها أي العقيدة الطحاوية: « تعالى (الله) عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات » اهـ.
ثم أوضح أن المتحيز في الجهة مشبه لسائر المبتدعات أي المخلوقات، وفي نفس المتن يقول: «ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر» اهـ.
وبالنظر إلى أنه قال في أول هذه الرسالة: إنها عقيدة أهل السنة والجماعة، ثم بين تكفير من وصف الله بصفة من صفات الخلق يتبين أنه ينقل إجماع أهل السنة على تكفير القائل بالجسمية والجهة في حق الله.
قال الحافظ البيهقي في شعب الإيمان ناقلا عن الحليمي (وهو من أكابر أصحاب الوجوه في المذهب): «وأما البراءة من التشبيه بإثبات أنه ليس بجوهر ولا عرض، فلأن قوما زاغوا عن الحق فوصفوا البارئ جل وعز ببعض صفات المحدثين، فمنهم من قال: إنه جوهر. ومنهم من قال: إنه جسم. ومنهم من أجاز أن يكون على العرش قاعدا كما يكون الملك على سريره، وكل ذلك في وجوب اسم الكفر لقائله كالتعطيل والتشريك، فإذا أثبت المثبت أنه ليس كمثله شىء. وجماع ذلك أنه ليس بجوهر ولا عرض فقد انتفى التشبيه، لأنه لو كان جوهرا أو عرضا لجاز عليه ما يجوز على سائر الجواهر والأعراض، وإذا لم يكن جوهرا ولا عرضا لم يجز عليه ما يجوز على الجواهر من حيث إنها جواهر كالتأليف، والتجسيم وشغل الأمكنة والحركة والسكون، ولا ما يجوز على الأعراض من حيث إنها أعراض كالحدوث، وعدم البقاء»اهـ.
قال القاضي أبو علي المحسن بن علي بن محمد التنوخي المتوفى سنة 384 للهجرة، في نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة ما نصه: «حضرت مجلس أبي محمد المهلبي، وكانت العامة ببغداد قد هاجت في أيام وزارته وعظمت الفتنة وقبض على جماعة من العيارين وحملة السكاكين وجعلهم في زوارق مطبقة وحملهم إلى بيروذ[وهي من نواحي أهواز] وحبسهم هناك. فاستهانوا بالقصة وكثف أمرهم وكثر كلام القصاص في الجوامع ورؤساء الصوفية فخاف من تجديد الفتنة، فقبض على خلق منهم وحبسهم، وأحضر أبا السائب قاضي القضاة إذ ذاك، وجماعة من القضاة والشهود، والفقهاء وكنت فيهم لمناظرتهم، وأصحاب الشرط لنأمن مضرتهم إذا قامت الحجج عليهم.
فاتفق أن بدئ برجل من رؤساء الصوفية يعرف بأبي إسحاق بن ثابت ينزل بباب الشام أحد الربانيين عند أصحابه، فقال له: بلغني أنك تقول في دعائك: «يا واحدي بالتحقيق يا جاري اللصيق» فمن لا يعلم بأن الله لا يجوز أن يوصف بأنه لصيق على الحقيقة فهو كافر لأن الملاصقة من صفات الأجسام، ومن جعل الله جسما كفر، فمن يكون محله في العلم هذا يتكلم على الناس» اهـ.
ولا فرق بين الذي يقول: الله جسم، ويسكت وبين من يقول: الله جسم كالأجسام، أو الله جسم لا كالأجسام، أليس قال الله جسم؟ أليس الوصف بالجسم من صفات المخلوقات من بشر وجن وملائكة وحجر وجبل وهواء وروح وريح ونار ونور وغير ذلك؟
وقال الفخر الرازي في معالم أصول الدين: «بل الأقرب أن المجسمة كفار لأنهم اعتقدوا أن كل ما لا يكون متحيزا ولا في جهة فليس بموجود، ونحن نعتقد أن كل متحيز فهو محدث وخالقه موجود ليس بمتحيز ولا في جهة، فالمجسمة نفوا ذات الشىء الذي هو الإله فيلزمهم الكفر»اهـ.
وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب البغدادي المالكي في شرح عقيدة الإمام مالك الصغير: «واعلم أن الوصف له تعالى بالاستواء إتباع للنص، وتسليم للشرع، وتصديق لما وصف نفسه تعالى به، ولا يجوز أن يثبت له كيفية، لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشىء، ولا سألته الصحابة عنه، ولأن ذلك يرجع إلى التنقل والتحول وإشغال الحيز والافتقار الى الأماكن، وذلك يؤول إلى التجسم، وإلى قدم الأجسام، وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام، وقد أجمل مالك رحمه الله الجواب عن سؤال من سأله: الرحمـن على العرش استوى، كيف استوى؟ فقال: الاستواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، ثم أمر بإخراج السائل»اهـ.
وقال ابن الملقن في التوضيح لشرح الجامع الصحيح: «ما ذكره في تفسير: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} هو قول قتادة، وهو معروف في اللغة يقال: صنعت الفرس وصنعته إذا أحسنت القيام عليه، واستدلاله من هذه الآية والحديث على أن لله تعالى (صفة) سماها (عينا) ليست هو ولا غيره، وليست كالجوارح المعقولة بيننا، لقيام الدليل على استحالة وصفه بأنه ذو جوارح وأعضاء تعالى عن ذلك، خلافا لما تقوله المجسمة من أنه تعالى جسم لا كالأجسام، واستدلوا على ذلك بهذه، كما استدلوا بالآيات المتضمنة لمعنى الوجه، واليدين. ووصفه لنفسه بالإتيان والمجيء والهرولة في حديث الرسول، وذلك كله باطل وكفر من متأوله، لقيام الدليل على تساوي الأجسام في دلائل الحدث القائم بها واستحالة كونه من جنس المحدثات، إذ المحدث إنما كان محدثا من حيث متعلق هو متعلق بمحدث أحدثه، وجعله بالوجود أولى منه بالعدم»اهـ.
وقد قال ملا علي القاري في أثناء كلامه على مذهب العلماء في المتشابهات في كتاب مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ما نصه: «بكلامه -أي النووي- وبكلام الشيخ الرباني أبي إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم من أئمتنا وغيرهم يعلم أن المذهبين متفقان على صرف تلك الظواهر، كالمجيء والصورة والشخص والرجل والقدم واليد والوجه والغضب والرحمة والاستواء على العرش والكون في السماء وغير ذلك مما يفهمه ظاهرها، لما يلزم عليه من محالات قطعية البطلان تستلزم أشياء يحكم بكفرها بالإجماع، فاضطر ذلك جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ عن ظاهره» اهـ.
وضبط هذه المسئلة الشيخ محمد بن أحمد ميارة المالكي، فقال في الدر الثمين والمورد المعين: «وأما القسم الثاني وهو الاعتقاد، فينقسم قسمين: مطابق في نفس الأمر: ويسمى الاعتقاد الصحيح، كاعتقاد عامة المؤمنين المقلدين. وغير مطابق: ويسمى الاعتقاد الفاسد، والجهل المركب كاعتقاد الكافرين، فالفاسد أجمعوا على كفر صاحبه، وأنه آثم غير معذور مخلد في النار، اجتهد أو قلد، ولا يعتد بخلاف من خالف في ذلك من المبتدعة»اهـ.
يلخص هذا كله ما قاله الشيخ تقي الدين الحصني رحمه الله في دفع شبه من شبه وتمرد ما نصه: «الكيف من صفات الحدث، وكل ما كان من صفات الحدث فالله عز وجل منزه عنه، فإثباته له سبحانه كفر محقق عند جميع أهل السنة والجماعة» اهـ.
وقال محمد مرتضى الزبيدي في إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين: «وقال السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: اعلم أن حكم الجواهر والأعراض كلها الحدوث، فإذًا العالم كله حادث. وعلى هذا إجماع المسلمين بل كل الملل، ومن خالف في ذلك فهو كافر لمخالفته الإجماع القطعي»اهـ.
وقال النسفي في تفسيره المشهور عند تفسير ءاية: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ومن الإلحاد تسمية الله بالجسم والجوهر والعقل والعلة» اهـ.
قال الشيخ محمد بن أحمد الفاسي المالكي الشهير بميارة والمتوفى سنة 1072هـ في مختصر الدر الثمين والمورد المعين ما نصه «وخرج بوصفه بالمطابق الجزمُ غيرُ المطابق ويسمى الاعتقاد الفاسد والجهل المركب كاعتقاد الكافرين التجسيم أو التثليث أو نحو ذلك والإجماع على كفر صاحبه أيضًا، وأنه ءاثمٌ غيرُ معذور مخلدٌ في النار اجتهد أو قلّد. قال في شرح الكبرى: ولا يُعتدُّ بخلاف من خالف في ذلك من المبتدعة»اهـ.
وهذه نقول عن العلماء في بيان كفر من يعتقد أن الله يسكن السماء أو يتحيَّز فوق العرش أو في غير ذلك من الأماكن، لتأكيد ما نبهنا عليه من أمر الإجماع على هذه المسألة، وإنما خصصناها بمزيد من العناية والنقول لأن بعض الناس يتهاون فيها ما لا يتهاون في تكفير المجسم.
1 – قال الإمام المجتهد أبو حنيفة رضي الله عنه في كتابه الفقه الأبسط ما نصه: «من قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقد كفر، وكذا من قال إنه على العرش، ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض» اهـ.
2 – ووافقه على ذلك الشيخ العزّ بن عبد السلام في كتابه حلّ الرموز فقال ما نصه: «لأن هذا القول يوهم أن للحق مكانًا، ومن توهم أن للحق مكانًا فهو مُشَبِّه» اهـ.
3 – وارتضاه الشيخ ملا علي القاري الحنفي في شرح الفقه الأكبر وقال ما نصه: «ولا شك أن ابن عبد السلام من أجلّ العلماء وأوثقهم، فيجب الاعتماد على نقله» اهـ.
4 – وقال ابن معلم القرشي في نجم المهتدي وحكى القاضي حسين عن نص الشافعي أنه قال: «وهذا منتظم من كفره مجمع عليه، ومن كفرناه من أهل القبلة، كالقائلين بخلق القرآن، وبأنه لا يعلم المعدومات قبل وجودها، ومن لا يؤمن بالقدر، وكذا من يعتقد أن الله جالس على العرش » اهـ. وذكر مثله في شرح التنبيه في فقه الإمام الشافعي لابن الرفعة المتوفى سنة 710هـ.
5 – وقال أبو القاسم القشيري في رسالته القشيرية ما نصه: «سمعتُ الإمام أبا بكر بن فورك رحمه الله تعالى يقول: سمعتُ أبا عثمان المغربي يقول: كنتُ أعتقدُ شيئًا من حديث الجهة، فلما قدِمتُ بغداد زال ذلك عن قلبي، فكتبتُ إلى أصحابنا بمكة: إني أسلمتُ الآن إسلامًا جديدًا»اهـ.
6 – وقال أبو منصور البغدادي في تفسير الأسماء والصفات: «إن أصحابنا أكفروا أهل البدع في صفات البارئ عز وجل بإجماع الأمة على إكفار من أنكر النبوات أو شك في عقائد الأنبياء، فما كان شكه في صفة من صفات بعض الناس يورثه الكفر فشكه في صفة لازمة لله تعالى أو جهله بها أولى بأن يوجب تكفيره» اهـ.
7 – وقال أبو منصور البغدادي رحمه الله تعالى أيضا في أصول الدين: «وأما جسمية خراسان من الكرامية فتكفيرهم واجب لقولهم إن الله تعالى له حد ونهاية من جهة السفل ومنها يماس عرشه» اهـ.
8 – أبو حامد الغزالي يقول في إلجام العوام عن علم الكلام: «فعلى العامي أن يتحقق قطعا ويقينا أن الرسول ﷺ لم يرد بذلك جسما هو عضو مركب من لحم ودم وعظم، وأن ذلك في حق الله تعالى محال وهو عنه مقدس، فإن خطر بباله أن الله جسم مركب من أعضاء فهو عابد صنم، فإن كل جسم فهو مخلوق، وعبادة المخلوق كفر، وعبادة الصنم كانت كفرا لأنه مخلوق، وكان مخلوقا لأنه جسم، فمن عبد جسما فهو كافر بإجماع الأمة السلف منهم والخلف»اهـ.
9 – وقال الأسفراييني أبو المظفر في التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية: «وأما الهشامية فإنهم أفصحوا عن التشبيه بما هو كفر محض باتفاق جميع المسلمين ، وهم الأصل في التشبيه، وإنما أخذوا تشبيههم من اليهود حين نسبوا إليه الولد، وقالوا: عزير ابن الله، وأثبتوا له المكان والحد والنهاية والمجيء والذهاب، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا» اهـ.
10 – وقال لسان المتكلمين أبو المعين ميمون بن محمد النسفي الحنفي في تبصرة الأدلة ما نصه: «والله تعالى نفى المماثلة بين ذاته وبين غيره من الأشياء، فيكون القول بإثبات المكان له ردًّا لهذا النص المحكم – أي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} – الذي لا احتمال فيه لوَجْهٍ ما سوى ظاهره، ورادُّ النص كافر، عصمنا الله عن ذلك» اهـ.
11 – وقال الشيخ زين الدين الشهير بابن نُجَيْم الحنفي في البحر الرائق ما نصه: «ويكفر بإثبات المكان لله تعالى، فإن قال: الله في السماء، فإن قصد حكاية ما جاء في ظاهر الأخبار لا يكفر، وإن أراد المكان كفر»اهـ.
12 – وقال الشيخ ملا علي القاري الحنفي في شرح الفقه الأكبر ما نصه: «فمن أظلم ممن كذب على الله، أو ادعى ادعاءً معينًا مشتملاً على إثبات المكان والهيئة والجهة من مقابلة وثبوت مسافة وأمثال تلك الحالة، فيصير كافرًا لا محالة» اهـ.
13 – وقال الشيخ ملا علي القاري الحنفي في شرح الفقه الأكبر ما نصه: «من اعتقد أن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها فهو كافر، وإن عُدّ قائله من أهل البدعة، وكذا من قال: بأنه سبحانه جسم وله مكان ويمرّ عليه زمان ونحو ذلك كافر، حيث لم تثبت له حقيقة الإيمان» اهـ.
14 – وقال أيضًا في مرقاة المفاتيح ما نصه: «بل قال جمع منهم -أي من السلف- ومن الخلف إن معتقد الجهة كافر كما صرح به العراقي، وقال: إنه قول لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني»اهـ.
15 – وقال الشيخ العلامة كمال الدين البَياضي الحنفي في شرح كلام الإمام أبي حنيفة في إشارات المرام ما نصه: «فقال -أي أبو حنيفة- (فمن قال: لا أعرف ربي أفي السماء أم في الأرض فهو كافر) لكونه قائلا باختصاص البارئ بجهة وحيّز وكل ما هو مختص بالجهة والحيز فإنه محتاج محدَث بالضرورة، فهو قول بالنقص الصريح في حقه تعالى (كذا من قال إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض) لاستلزامه القول باختصاصه تعالى بالجهة والحيز والنقص الصريح في شأنه سيما في القول بالكون في الأرض ونفي العلوّ عنه تعالى بل نفي ذات الإله المنزه عن التحيز ومشابهة الأشياء. وفيه إشارات:
الأولى: أن القائل بالجسمية والجهة مُنكِر وجود موجود سوى الأشياء التي يمكن الإشارة إليها حسًّا، فمنهم منكرون لذات الإله المنزه عن ذلك، فلزمهم الكفر لا محالة. وإليه أشار بالحكم بالكفر.
الثانية: إكفار من أطلق التشبيه والتحيز، وإليه أشار بالحكم المذكور لمن أطلقه، واختاره الإمام الأشعري فقال في النوادر: من اعتقد أن الله جسم فهو غير عارف بربه وإنه كافر به، كما في شرح الإرشاد لأبي قاسم الأنصاري»اهـ.
16 – قال الشيخ عبد الغني النابلسي الحنفي في الفتح الرباني والفيض الرحماني ما نصه: «وأما أقسام الكفر فهي بحسب الشرع ثلاثة أقسام ترجع جميع أنواع الكفر إليها، وهي: التشبيه، والتعطيل، والتكذيب… وأما التشبيه: فهو الاعتقاد بأن الله تعالى يشبه شيئًا من خلقه، كالذين يعتقدون أن الله تعالى جسمٌ فوق العرش، أو يعتقدون أن له يدَين بمعنى الجارحتين، وأن له الصورة الفلانية أو على الكيفية الفلانية، أو أنه نور يتصوره العقل، أو أنه في السماء، أو في جهة من الجهات الست، أو أنه في مكان من الأماكن، أو في جميع الأماكن، أو أنه ملأ السموات والأرض، أو أنَّ له الحلول في شىء من الأشياء، أو في جميع الأشياء، أو أنه متحد بشىء من الأشياء، أو في جميع الأشياء، أو أن الأشياء منحلَّةٌ منه، أو شيئًا منها. وجميع ذلك كفر صريح والعياذ بالله تعالى، وسببه الجهل بمعرفة الأمر على ما هو عليه» اهـ.
17 – وقال الشيخ محمد بن أحمد عليش المالكي عند ذِكر ما يوقع في الكفر والعياذ بالله في منح الجليل شرح مختصر خليل ما نصه: «وكاعتقاد جسمية الله وتحيّزه، فإنه يستلزم حدوثه واحتياجه لمحدِث» اهـ.
18 – وذكر هذا الحكم أيضًا الشيخ العلامة المحدث الفقيه أبو المحاسن محمد القاوقجي الطرابلسي الحنفي في كتابه الاعتماد في الاعتقاد فقد قال: «ومن قال لا أعرِفُ الله في السماء هو أم في الأرض كفَر – لأنه جعل أحدَهما له مكانًا -»اهـ.
19 – وفي كتاب الفتاوى الهندية لجماعة من علماء الهند ما نصه: «يكفر بإثبات المكان لله تعالى. ولو قال: الله تعالى في السماء، فإن قصد به حكاية ما جاء فيه ظاهر الأخبار لا يكفر، وإن أراد به المكان يكفر» اهـ.
20 – وقال تقي الدين الحصني في كفاية األخيار في حل غاية الختصار: «إلا أن النووي جزم في صفة الصلاة من شرح المهذب بتكفير المجسمة، قلت (تقي الدين الحصني): وهو الصواب الذي لا محيد عنه، إذ فيه مخالفة صريح القرآن ، قاتل الله المجسمة والمعطلة، ما أجرأهم على مخالفة من {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }، وفي هذه الآية رد على الفرقتين» اهـ.
21 – وقال الشيخ محمود بن محمد بن أحمد خطاب السبكي المصري في إتحاف الكائنات ببيان مذهب السلف والخلف في المتشابهات ما نصه: «سألني بعض الراغبين في معرفة عقائد الدين والوقوف على مذهب السلف والخلف في المتشابه من الآيات والأحاديث بما نصه: ما قول السادة العلماء حفظهم الله تعالى فيمن يعتقد أن الله عز وجل له جهة، وأنه جالس على العرش في مكان مخصوص، ويقول: ذلك هو عقيدة السلف، ويحمل الناس على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد، ويقول لهم: من لم يعتقد ذلك يكون كافرًا مستدلا بقوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أهذا الاعتقاد صحيح أم باطل؟ وعلى كونه باطلا أيكفر ذلك القائل باعتقاده المذكور ويبطل كل عمله من صلاة وصيام وغير ذلك من الأعمال الدينية وتبين منه زوجه، وإن مات على هذه الحالة قبل أن يتوب لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وهل من صدّقه في ذلك الاعتقاد يكون كافرًا مثله؟ فأجبت بعون الله تعالى، فقلت: بسم الله الرحمـن الرحيم الحمد لله الهادي إلى الصواب، والصلاة والسلام على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وعلى ءاله وأصحابه الذين هداهم الله ورزقهم التوفيق والسداد. أما بعد: فالحكم أن هذا الاعتقاد باطل ومعتقده كافر بإجماع من يعتد به من علماء المسلمين ، والدليل العقلي على ذلك قِدَم الله تعالى ومخالفته للحوادث، والنقلي قوله تعالى: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ… *} ، فكل من اعتقد أنه تعالى حلّ في مكان أو اتصل به أو بشىء من الحوادث كالعرش أو الكرسي أو السماء أو الأرض أو غير ذلك فهو كافر قطعًا ، ويبطل جميع عمله من صلاة وصيام وحج وغير ذلك، وتبين منه زوجه، ووجب عليه أن يتوب فورًا، وإذا مات على هذا الاعتقاد والعياذ بالله تعالى لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ومثله في ذلك كله من صدَّقه في اعتقاده أعاذنا الله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وأما حمله الناس على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد المكفر، وقوله لهم: من لم يعتقد ذلك يكون كافرًا، فهو كفر وبهتان عظيم»اهـ.
ثم قال الشيخ محمود محمد خطاب السبكي عقب هذه الفتوى: «هذا وقد عرضت هذه الإجابة على جمع من أفاضل علماء الأزهر فأقروها، وكتبوا عليها أسمائهم، وهم أصحاب الفضيلة:
الشيخ محمد النجدي شيخ السادة الشافعية.
والشيخ محمد سبيع الذهبي شيخ السادة الحنابلة.
والشيخ محمد العربي رزق المدرس بالقسم العالي.
والشيخ عبد الحميد عمار المدرس بالقسم العالي.
والشيخ علي النحراوي المدرس بالقسم العالي.
والشيخ دسوقي عبد الله العربي من هيئة كبار العلماء.
والشيخ علي محفوظ المدرس بقسم التخصص بالأزهر.
والشيخ إبراهيم عيارة الدلجموني المدرس بقسم التخصص بالأزهر.
والشيخ محمد عليان من كبار علماء الأزهر.
والشيخ أحمد مكي المدرس بقسم التخصص بالأزهر.
والشيخ محمد حسين حمدان» اهـ.
22 – وقال الشيخ محمود بن محمد بن أحمد خطاب السبكي المصري أيضًا في كتاب الدين الخالص: «إن من اعتقد وصفه تعالى بشىء من الجسمية أو الاستقرار على العرش أو الجهة … فهو كافر بإجماع السلف والخلف» اهـ.
23 – وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري وكيل المشيخة الإسلامية في دار الخلافة العثمانية في مقالات الكوثري ما نصه: «إن القول بإثبات الجهة له تعالى كفر عند الأئمة الأربعة هداة الأمة كما نَقل عنهم العراقي على ما في شرح المشكاة لعلي القاري» اهـ.
فبان من هذه النصوص الواضحة عن جملة من علماء الأمة الإسلامية من السلف الصالح والخلف أن معتقد الجهة والمكان في حق الله تعالى مكذب للقرءان الكريم ولنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ومخالف لما اتفقت عليه كلمة هذه الأمة.
فمن ادعى أن انحرافه في العقيدة من نحو اعتقاد الجسمية والجهة في حق الله اجتهاد منه فقد نادى على نفسه بالجهل والكفر والشذوذ عن إجماع الأمة.
كشف شبهات المتمشعرة وبيان أوهام المشبهة
وحقية القول بتكفير المجسم (3)
*ثالثا: مدار الحكم بالتكفير على من وصف الله بالجسم أو الجهة*
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أما بعد فإنه جرت عادة العلماء إن سمعوا بمسألة تذاغ على خلاف المذهب الذي يعتقدون حقيته أن يبينوا للناس القول الحق وينصروه بكلام علمي لكل ذي لب وفهم سليم ولا يرى في الرد العلمي أنه ناتج عن تكبر أو عن رد للحق على قائله بل هو بيان المسألة على الوجه الذي يعتقد صاحبه أنه الحق فإن كان الحق كما يقول فمن الله، وإن كان فيما يقوله خطأ فحري به أن يتراجع.
وظهر لك أيها الطالب للحق أن مدار الحكم على من وصف الله بالجسمية أو الجهة فأكفر هؤلاء العلماء كما رأيت فيما تقدم من النقول من زعم أن البارئ جسم متركب مؤلف محدود، أما من لم يدرك معنى الجسم في لغة العرب، ظنا منه أن معناه مقصور في اللغة على الموجود مثلا، إن كان حاله في ذلك أنه كالأعجمي، ولم يصفه مع ذلك بمعانى الأجسام، فلم يكفروه أي مع كونه سماه جسما.
ومما يبين ذلك ما قاله الإمام أبي المعالي الجويني في رسائل أجاب بها أبو محمد الصقلي في كتاب المعيار المعرب ما نصه: « أنّ من اعتقد أن الرب عظيم بالذات، على معنى كثرة الأجزاء وتركيبها في تأليفها، وأنه عز وجل مختص ببعض الجهات والمحاذات، وأن الأجسام المحدودة والأجرام المتقررة بأقطارها وآثارها تقابله في بعض جهاته، فهو غير عالم بالله رب العالمين.
فإنه علق معتقده بموجود ليس بإله، بل هو على صفات المخترعات وسمات المحدثات، فقد اعتقد موجودًا غير الإله، واعتقد الإلهية [فيه]، فينزل منزلة من يعتقد أن الأصنام آلهة!!
فهذا مذهب بعض الأئمة، وهو الذي لا يصح غيره، وقد ارتضاه القاضي في “نقض النقض”».
تأمل أخي القارئ إلى الآتي: قوله: «فهذا مذهب بعض الأئمة، وهو الذي لا يصح غيره » اهـ.
وقوله وقد ارتضاه القاضي يقصد الإمام الباقلاني في نفض النقض هو كتاب له فيدلك أيضا على صحة ما ذكرنا عن الباقلاني في المقال السابق وأنه ليس له إلا قول واحد في إكفار المجسم وانظر قوله (وهو الذي لا يصح غيره) تجده نصًا في بطلان كل قول ينفي التكفير عن المجسم الذي يعتقد الجسمية بمعنى التراكب والأجزاء في الله.
على أن لإمام الحرمين الجويني كتب أخرى يؤكد ما قلناه هنا ومنها كتابه الإرشاد، وفيه ما نصه: «وكل ما حاذى الأجسام لم يخل من أن يكون مساويا لأقدارها، أو لأقدار بعضها، أو يحاذيها منه بعضه، وكل أصل قاد إلى تقدير الإله أو تبعيضه فهو كفر صراح» اهـ.
ليس ذلك فحسب، بل إنك تقرأ في نفس المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب ما نصه: قال أحمد الونشريسي: «وسئل سيدي أحمد بن عيسى فقيه بجاية عمن نشأ بين ظهراني المسلمين وهو يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ويصلي ويصوم، إلا أنه لا يعرف ما انطوت عليه الكلمة العليا فيما يعتقده لعدم معرفته بها إلخ ……. ثم قال: فقد وصل إلي ما كتبتموه مما فهمتم من فتوى الشيخين أبي العباس بن إدريس وأبي العباس أحمد بن عيسى فيمن يقول لا إله إلا الله ولم يدر ما انطوت عليه أن فتوى سيدي أحمد بن إدريس نصها من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن حقا، فمقتضى هذا الفهم من جواب الشيخ أن من نطق بالشهادة يجزئه نطقه وإن جهل معناه وما انطوت عليه الكلمة من مدلولها، فاعلم أن هذا الفهم عن الشيخ رحمه الله باطل لا يصح، فإنه لا يلزم منه أن من قال ذلك وهو معتقد في الإله تعالى شبه المخلوقات، وصورة من صور الموجودات، أن يكون مؤمنا حقا. وقد وجدنا من الجهلة من هو كذلك وكتب إلينا بذلك وأشباهه. ومن اعتقد ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين. وقد نص أئمتنا على ذلك وعلى غيره مما هو كفر بإجماع، فلا يصح ذلك عن الشيخ أصلا ولا يصح أن يختلف في هذا أو شبهه. وفي هذا أجاب سيدي أحمد بن عيسى. وقد تحدثت أنا مع سيدي أحمد بن إدريس وذكرت له ما يقول صاحبنا فوافق عليه وقال هذا حق لا يقال غيره» اهـ.
وهو إجماع كما مر بك في هذا الكتاب، والإجماع قطعي، وهو أسلم من تخبط وتوهم المشبه المجسم الجهوي.
وقال الحافظ الفقيه اللغوي مرتضى الزبيدي في شرحه على الإحياء، ما نصه: «من جعل الله تعالى مقدرا بمقدار كفر» اهـ.
وقال الشيخ محمد أمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيره أضواء البيان عند قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} «ومن اعتقد أن وصف الله تعالى يشابه صفات الخلق فهو مشبه ملحد ضال» اهـ.
ويقول الإمام أحمد الرفاعي رضي الله عنه في البرهان المؤيد: «صونوا عقائدكم من التمسك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسنة، فإن ذلك من أصول الكفر» اهـ.
ثم يقال لهم :
أ) وصف الله بالجسم أو بصفات الجسم تكذيب أم تصديق للآية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ؟. إنه – قطعا – تكذيب.
ب) وتكذيب النص القرءاني أليس كفرا بالإجماع؟.
ج) وصفات الجسمية من دلائل الحدوث، فوصف الله بها، أو ببعضها لا يكون إلا وصفا لله بما هو دالٌّ على الحدوث، فلا يكون إذا وصف الله بها إلا تنقيصا في حقه تعالى، وذلك أي نسبة النقص والحدوث إلى الله تعالى كفر لا شَكَّ فيه.
ويكفي في الرد على الخلاف المزعوم بأن تعلم أن ما في المنهج القويم لابن حجر الهيتمي «القرافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم، وهم حقيقون بذلك»اهـ.
وقد تقدم النقل عن جمهرة من الأعلام الذين لهذا الإجماع، فلا يلتفت بعد هذا إلى ما لا يعول عليه من النقول إما لعدم ثبوته عمن نسب إليه أو لنـزول القائل عن درجة الاحتجاج به، لكونه ليس من أهل الاجتهاد ولا من أصحاب الوجوه في المذهب، أو خالف قوله قول إمامه، مع نزول القائل عن رتبة الاجتهاد، مهما تردد ذكرها في الكتب أو تكرر الاعتماد عليها من قبل بعض من شأنه أن يجمع الأقوال من غير تحقيق وضبط، ومن ذلك ما نبه إليه الزركشي في تشنيف المسامع شرح جمع الجوامع: «ونقل صاحب الخصال من الحنابلة عن أحمد أنه قال: من قال: جسم لا كالأجسام كفر، ونقل عن الأشعرية أنه يفسق، وهذا النقل عن الأشعرية ليس بصحيح» اهـ.
وهو عين ما نبه إليه البرزلي المالكي بقوله في الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي: «وأنكر عليه شيخنا الإمام نقله عن بعض الأشعرية إنكارا شديدا»، وقال: «لم يقله أحد منهم فيما علمته واستقريته من كتبهم» اهـ، وذلك لأن الصواب الذي لا محيد عنه أنه يكفر لمعارضته صريح القرءان والسنة.
وهو منسجم تماما مع ما قاله تقي الدين الحصني في كفاية الأخيار: «إلا أن النووي جزم في صفة الصلاة من شرح المهذب بتكفير المجسمة، قلت (تقي الدين الحصني): وهو الصواب الذي لا محيد عنه، إذ فيه مخالفة صريح القرآن ، قاتل الله المجسمة والمعطلة، ما أجرأهم على مخالفة من {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }، وفي هذه الآية رد على الفرقتين» اهـ.
وقد قال العلامة فخر الدين أحمد بن حسن الجاربردي التبريزي (المتوفى سنة 746 هجرية) في السراج الوهاج: «اعلم أنه قال الأصوليون شرطه الإسلام. وإنما عدل المصنف إلى هذه العبارة لأن المجسمة كفار عند الأشاعرة» اهـ.
فأنت تلاحظ هنا الإطلاق، ولو كان الكلام موجبا للتخصيص لخصص، وانظر إلى من نسب الحكم بتكفير المجسم، نسبه إلى الأصوليين، ويكفيك ذلك دلالة.
وإذا وضح ما ذكرناه لك فإنه من المفيد أن نقف معا على ما يكشف اللبس الذي وقع فيه بعض الناس، من الضياع في أمر الفارق بين من ينطق بهذا اللفظ وهو فاهم لمعناه وبين من ينطق به وهو لا يفهم المعنى أو يظن أن لفظة جسم أو جهة فوق ترد في لسان العرب بمعنيين، أحدهما المعنى الكفري الفاسد، والآخر المعنى الذي يوافق العقيدة السليمة، كما مر بك قريبا، على أنه تجدر الإشارة أن أغلب الناس اليوم ممن ينتسب للعربية يفهمون معنى الجسم والجهة إجمالا، وعليه يأتي كلام بعض المشايخ إجماليا بما يؤدي للاضطراب في فهم كلامهم، وكان الأولى بمن يقرأ كلامهم أن يحرص على تلقيه وفهمه من أهل العلم لا أن يتجاسر على هذا الأمر الخطير الذي يؤدي به إلى التناقض في القول تارة بتكفير معتقد الحجم أو الجهة في حق الله، وتارة بأنه لا يكفر بمجرد إطلاق هذا اللفظ على الله، ووجه حل ذلك التناقض أن يقال: إن قائل هذا اللفظ إما أنه يعي ويفهم ما يقول، وإما أنه لا يعي ولا يفهم ما يقول.
وهذا عينه نقله الشيخ ابن حجر الهيتمي، الذي قال بعد جمع نقول في هذه المسئلة في الفتاوى الحديثية ما نصه: «إذا تقرر هذا، فقائل هذه المقالة التي هي القول بالجهة فوق إن كان يعتقد الحلول والاستقرار والظرفية أو التحيز فهو كافر، يُسلك به مسلك المرتدين إن كان مظهرًا لذلك»اهـ.
فقول ابن حجر: «إن كان يعتقد الحلول والاستقرار والظرفية أو التحيز فهو كافر»، كاف في تأكيد هذا المعنى مهما حاول بعض الناس اليوم أن يدوروا حول هذه المسئلة دوران التائه في تيه بني اسرائيل في سينا حين خالفوا أمر الله ونبي الله موسى عليه الصلاة والسلام.
بل يحسم هذه القضية ما قاله القرطبي في تفسيره ونصه: «وقد قال هشام الجوالقي وطائفة من المجسمة: هو نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام، وهذا كله محال على الله تعالى عقلا ونقلا على ما يعرف في موضعه من علم الكلام. ثم إن قولهم متناقض، فإن قولهم: جسم أو نور، حكم عليه بحقيقة ذلك، وقولهم: لا كالأنوار ولا كالأجسام نفي لما أثبتوه من الجسمية والنور، وذلك متناقض، وتحقيقه في علم الكلام، والذي أوقعهم في ذلك ظواهر اتبعوها» اهـ.
وبناء على ما تقدم من بيان أن لفظ الجسم والجهة صريح في إفادته معنى تشبيه الله بخلقه كما تقدم وأن قائل هذه الألفاظ داخل تحت حكم المكذب للنصوص القطعية تواترا ودلالة من القرآن والسنة، بالإضافة لإنكار الحكم العقلي القاطع على تنـزيه الله عن مشابهة الخلق ومن ذلك تنـزيهه سبحانه عن الجسمية والمكان والجهة، فهو منكر لضروري من ضروريات الدين وقطعياته فلا يكون معدودا من المسلمين.
فلم يبق إلا النظر في فهم هذا القائل لهذا اللفظ، فإما أنه يفهم المعنى الفاسد حين تكلم به، وإما أنه لا يفهم ما يقول، ويحتمل أن يقال: إن من سمى الله بالجسم يظن أن معناه موجود أو قائم بالنفس أي مستغن عن غيره أو هو كمعنى شىء عنده أي متحقق الوجود، وهو وإن كان وهما من مطلقه على الله، لكنه إن لم يصرح بوصف الله بصفات الجسم وكان صادق الدعوى فيما يدعيه من ظنه ما تقدم بيانه في فهمه لمعنى الجسم، فهو كالأعجمي الذي لا يفهم ما يقول، وإلا بأن فهم ما يقول لكنه ادعى هذا المعنى للفظة الجسم أي ابتكره فلا عذر له، وهو بذلك متستر يخفي عقيدة التجسيم لا غير.
وفي هذا قال الأستاذ أبو منصور التميمي البغدادي رحمه الله في أصول الدين: «وقد شاهدنا قوما من عوام الكرامية لا يعرفون من الجسم إلا اسمه، ولا يعرفون أن خواصهم يقولون بحدوث الحوادث في ذات الله البارئ تعالى، فهؤلاء -أي عوامهم- يحل نكاحهم وذبائحهم والصلاة عليهم»اهـ.
ويساعدنا على هذا البيان ما قاله إمام الحرمين الجويني في الشامل في أصول الدين: «وغلت طائفة من المثبتين، فاقتربوا من التشبيه، واعتقدوا ما يلزمهم القول بمماثلة القديم صنعه وفعله. فذهب ذاهبون إلى أن الرب سبحانه وتعالى جسم، ثم اختلفت مذاهب هؤلاء فزعم بعضهم أن معنى الجسم: الوجود، وأن المعنى بقولنا: إن الله جسم، أنه موجود. وصار آخرون إلى أن الجسم هو القائم بالنفس، وقد مال إلى هذين المذهبين طائفة من الكرامية. وذهب بعض المجسمة إلى وصف الرب تعالى بحقيقة أحكام الأجسام، وصار إلى أنه متركب متألف من جوارح وأبعاض، تعالى الله عن قولهم» اهـ.
وقال في موضع آخر: «القول في الجسم ومعناه. اختلف الناس في حقيقة الجسم وحده. فالذي صار إليه الفلاسفة: أن الجسم هو الطويل العريض العميق، وإلى ذلك صار معظم المعتزلة. وربما عبروا عن هذا المعنى بعبارات ومحصول جميعها واحد. فقال بعضهم: الجسم هو الذهاب في الجهات، وعنى بالذهاب فيها ما قدمناه من جهة العرض والطول والعمق. وقال بعضهم: الجسم هو الذي له الأبعاد الثلاثة، وفسر الأبعاد بما قدمناه. وذهب الصالحي إلى: أن الجسم هو القائم بنفسه. وذهب هشام في آخر أقواله إلى أن الجسم إذا سمي به الإله تعالى وقيل: هو جسم لا كالأجسام، فالمراد به أنه شىء لا كالأشياء.
واختلفت مذاهب الكرامية في الجسم، فذهب شرذمة منهم إلى أن الجسم: هو الموجود. وصار آخرون إلى أن الجسم: هو القائم بالنفس، وذهب الأكثرون منهم إلى أن الجسم: هو الذي يماس غيره من إحدى جهاته. وهؤلاء افترقوا فصار صائرون منهم إلى تجويز المماسة من جهة تحت ومنعها من سائر الجهات.
وذهب آخرون إلى تجويز المماسة من سائر الجهات، وألزم هؤلاء تجويز ذلك ليكون القديم محاطا بالأجسام، فالتزموا ذلك، ولم يكترثوا به.
والذي صار إليه أهل الحق أن: الجسم هو المؤلف والمتألف. والدليل على ما صرنا إليه أن نقول: وجدنا أهل اللسان إذا راموا الإنباء عن مفاضلة بين شخصين في الضخامة والعبالة وكثرة الأجزاء يقولون: هذا أجسم من هذا، فقد علمنا قطعا أنهم قصدوا بإطلاق هذه اللفظة التعرض لتفاضل بين الذاتين، ثم نظرنا في جملة صفات الذات وتتبعناها سبرا وتقسيما، فعلمنا أنهم لم يريدوا بالأجسم التفاضل في معنى، عدا كثرة الأجزاء والتأليف فيها» اهـ.
إلى أن قال: «وأما من قال: الجسم هو القائم بالنفس، فكل ما قدمناه رد عليه، إذ الجسم مما يسوغ التفاضل في معناه، وليس كذلك القائم بالنفس. وبقريب من ذلك نرد على هشام في تسميته وتفسيره الجسم بالشىء، ونزيده وجها آخر فنقول: أقصى ما تصير إليه أن الرب جسم لا كالأجسام، بمعنى أنه شىء لا كالأشياء، فيلزمك على طرد ذلك تسمية الأعراض أجساما من حيث كانت أشياء، هو يمنع تسمية العرض جسما، فإن اعترف بذلك، فقد نقض مذهبه، وإن أبى وامتنع من تسمية الأعراض أشياء فقد جحد اللغة، وراغم آيا من كتاب الله منها: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ}. والمراد بذلك تبديلهم وتحويلهم، وهو من أفعالهم وأفعال المحدثين أعراض. وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} إلى غير ذلك من الآيات. ووجه جحده اللغة واضح، فإن من أنكر تسمية اللون والأصوات أشياء، فقد راغم. ويتسرع إلى الرد عليه أقل من شدا طرفا من كلام العرب، وهذا سبيل الرد على الكرامية إذا زعموا أن الجسم: هو الموجود» اهـ.
وقال الحافظ البيهقي في شعب الإيمان: «فإن قال قائل فإذا كان القديم سبحانه شيئا لا كالأشياء ما أنكرتم أن يكون جسما لا كالأجسام؟
قيل له: لو لزم ذلك للزم أن يكون صورة لا كالصور، وجسدا لا كالأجساد، وجوهرا لا كالجواهر، فلما لم يلزم ذلك لم يلزم هذا، وبعد فإن الشىء سمة لكل موجود، وقد سمى الله سبحانه وتعالى نفسه شيئا، قال الله عز وجل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ} لم يسم نفسه جسما، ولا سماه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا اتفق المسلمون عليه، ونحن فلا نسمي الله عز وجل باسم لم يسم هو به نفسه ولا رسوله ولا اتفق المسلمون عليه ، قال الله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ »اهـ.
وقد اختصر هذا البحث الآمدي في أبكار الأفكار فقال ما نصه: «المسئلة الثانية في أن البارئ تعالى ليس بجسم. مذهب أهل الحق: إن البارئ تعالى ليس بجسم، وذهب بعض الجهال: إلى أنه جسم. ثم اختلفوا: وذهب بعض الكرامية: إلى أنه جسم، بمعنى أنه موجود. وذهب بعضهم: إلى أنه جسم، بمعنى أنه قائم بنفسه. وذهب بعض المجسمة: إلى أنه جسم حقيقة، وأنه متصف بأحكام الأجسام (وأنه متصف بصفات الجسمية). ثم إن منهم من قال: إنه مركب من لحم ودم، كمقاتل بن سليمان، وغيره. ومنهم من قال: إنه نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء، وطوله سبعة أشبار بشبر نفسه. ومن المجسمة من غالى وقال: إنه على صورة إنسان. لكن منهم من قال: على صورة شاب أمرد جعد قطط. ومنهم من قال: إنه على صورة شيخ أشمط الرأس واللحية، تعالى الله عن قول المبطلين» اهـ.
فإذا تبين ذلك كله عرف السبب في عدم حكم بعض العلماء بالكفر على من استجاز إطلاق لفظة الجسم على الله سبحانه، وإلا فإن الإجماع منعقد على تكفير من أفصح بوصف الله بالتركيب والحجم أو وصف الله بالجسمية وهو مدرك لمعناه الحقيقي في اللغة، فإنه لا تأويل لكلامه بالمرة، لا خلاف بينهم في هذا الحكم، فإن إطلاق لفظ الجسم على الله تعالى باختيار من قائله أي من غير إكراه مع العلم بما فيه من النقص استخفاف.
يوضح هذا ما قاله أبو المعين النسفي في التمهيد، ونصه: «ومن أطلق اسم الجسم على الله تعالى وعنى به القائم بالذات لا المتركب كما ذهب إليه الكرامية أخزاهم الله، وهو إحدى الراويتين عن هشام بن الحكم، فالخلاف بيننا وبينه في الاسم دون المعنى وهو مخطئ. لما أنه في اللّغة اسم للمتركب، فمن أطلق اسم الجسم ولم يرد به معنى التركب فقد أمال الاسم عن موجبه لغة إلى غير موجبه، وهو معنى الإلحاد ، ولو جاز ذا لجاز لغيره أن يسميه رجلا، ويقول: عنيت به القائِم بالذات وكذا في كل اسم مستنكر، وتجويزه خروج عن الدين ، والامتناع عنه تناقض» اهـ.
وقال الفقيه المتكلم ابن المعلم القرشي في نجم المهتدي ورجم المعتدي: «إن قسما من القائلين بالتحيز بالجهة أطلقوا الجسمية ومنعوا التأليف والتركيب، وقالوا: «عنيت بكونه جسما وجوده، وهؤلاء كفروا» اهـ. وإنما كفرهم لفهمهم ما تعطيه هذه اللفظة من التأليف والتركيب.
ومع ذلك فقد قال الدواني في شرحه للعقائد العضدية: «ومنهم من تستر بالبلكفة، فقال هو جسم لا كالأجسام» ….. ثم قال «ينفي جميع الخواص للجسم عنه، ولا يبقى إلا اسم الجسم، وهؤلاء لا يكفرون بخلاف المصرحين بالجسمية»اهـ.
وفي قوله: «ومنهم من تستر بالبلكفة»، تنبيه على حال هؤلاء القوم من أنهم ادعوا أنهم يظنون أن لفظة جسم معناه الموجود أو القائم بنفسه، لاحظ قوله: «وهكذا ينفي جميع الخواص للجسم عنه، ولا يبقى إلا اسم الجسم» اهـ، فنبه العلماء أنه إن كان هذا هو حالهم حقيقة لا ادعاء كاذبا فإنهم لا يكفرون، معتبرين حالهم بأنهم في هذا كالأعاجم، أي هذا إن كانوا صادقين في دعواهم هذه، كما مر بيانه، لا أنهم يفهمون ما يراد من كلمة الجسم في لسان العرب ومع ذلك يبتكرون لها معنى آخر، وهو الموجود ونحوه، فليتنبه لهذا القيد فإنه دقيق.
ولا يجوز في مثل هذا الأمر الخطير والشأن الجلل أن يتناقض كلام أهل العلم، وإنما ينـزّل على المعنى الذي كشفناه وبيناه، وإلا فهو قول بعدم تكفير من وصف الله بصفة من صفات الخلق كالتركيب والتأليف والصورة ونسبة الجهة إليه سبحانه وهو الكفر الصراح المتفق على اعتباره كفرا بين أهل الإسلام قاطبة وهو قول متهافت ينقض بعضه بعضا، ولا ينصره صاحب فهم بدين الله تعالى، وهدي الكتاب والسنة، وما جرى عليه أعلام الأمة من التصريح بكفر المجسم لمعارضته ومصادمته لمعنى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.} وصريح ما عليه العقل.
فنسأل الله لنا ولكم الهداية والعصمة من الغي والضلال، والحمد لله رب العالمين
بيان أنَّ الأشعريَّ لم يرجع عن تكفير المُجسِّم
– وأنَّ مَن خالف في اللَّفظ دون المعنَى لم يكفُر
– وأنَّ مَن خالف في المعنَى فهُو كافر بلا خلاف
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
1
وبعدُ فقد كان الإمام الأشعريُّ يحكُم بتكفير المُجسِّم وقد ثبت أنَّه قال في [النَّوادر]: <مَن اعتقد أنَّ الله جسم فهُو غير عارف بربِّه وإنَّه كافر به> انتهَى؛ ولو ثبت عنه غير ذلك قبل موته لَمَا رأيتَ الأشاعرة قد أجمعوا على تكفير المُجسِّمة وهُم أعلم بمذهبه مِن الجَهَلَة المُتصولحة أهل الفتنة.
2
وقد خالف في هذا؛ فئتانِ مِن المُنتسبين إلى الإسلام نسبوا لفظ (الجسم) إلى الله تعالَى والعياذ بالله؛ فأمَّا الفئة الأُولَى: فقد خالفت في اللَّفظ والإطلاق والعبارة ولم يفهموا أنَّ لفظ (الجسم) يعني الحجم بل فهموا منه الوُجود أو القيام بالنَّفس؛ فهؤُلاء لم يحكُم الأشعريُّ بتكفيرهم لجهلهم بالمعنَى.
3
وأمَّا الفئة الثَّانية: فقد نسبوا الجسم إلى الله وهُم يفهمون مِن لفظ (الجسم) الحجم الَّذي لازمُه السُّكنَى في الأمكنة والتَّحيز في الجهات فهُم الَّذين لا فرق بينهُم وبين عُبَّاد الأصنام والأوثان؛ فهؤُلاء هُمُ المُجسِّمة الحقيقيُّون وهُم كُفَّار بإجماع الأشاعرة بل وسائر عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة.
4
فلا معنى لاحتجاج المُخالف بأنَّه رُوِيَ عن الأشعريِّ أنَّه قال: (اشهد عليَّ أنِّي لا أُكفِّر أحدًا مِن أهل هذه القِبلة لأنَّ الكُلَّ يُشيرون إلى معبود واحد وإنَّما هذا اختلاف العبارات) انتهَى لأنَّ المقصود به الَّذين خالفوا في اللَّفظ والعبارة دون المعنَى، وأمَّا الَّذين خالفوا في المعنَى فكُفَّار بالإجماع.
5
قال الإمام الجوينيُّ في [الشَّامل]: <اعلموا أرشدكُم الله أنَّ الخلاف في ذلك يدُور بيننا وبين فئتَينِ: (إحداهُمَا) تُخالف في اللَّفظ والإطلاق دون المعنى، و(الأُخرَى) تُخالف في المعنى. فأمَّا الَّذين خالفوا في الإطلاق دون المعنى فهُمُ الَّذين قالوا: المعنَى بالجسم الوُجود أو القيام بالنَّفس> إلخ..
6
وقال أبو منصور البغداديُّ في التَّبصرة البغداديَّة: <وقد شاهدنا قومًا مِن الكرَّاميَّة لا يعرفون مِن الجسم إلَّا اسمه ولا يعرفون أنَّ خواصَّهُم يقولون بحُدوث الحوادث في ذات الباري تعالَى فهؤُلاء يحِلُّ نكاحُهُم وذبائحُهُم والصَّلاة عليهم> انتهَى فلم يُكفِّر مَن خالف في اللَّفظ دون المعنَى.
7
فهذا كلام أكابر الأشاعرة -وليس كلامنا وحسب- وهُو واضح في أنَّ الَّذي نجَا مِن الحُكم بالتَّكفير أُولئك الَّذين خالفوا في اللَّفظ والإطلاق والعبارة دون المعنَى، وكذلك قال البزدويُّ شيخ الفُقهاء الحنفيَّة في [أُصُول الدِّين] له: <إلَّا أنَّ بعضهُم قالوا: نعني بالجسم الوُجود لا غير> انتهَى.
8
وقال المُحدِّث مُحمَّد زاهد الكوثريُّ في [مقالاته]: <وإنَّ العزَّ بن عبد السَّلام يَعذُر –في قواعده- مَن بَدَرَت منه كلمة مُوهِمة لكنَّه يُريد بذلك العاميَّ الَّذي تخفَى عليه مدلولات الألفاظ> إلخ.. معناه أنَّ مَن لم يَخفَ عليه مدلول ومعنَى لفظ الجسم ومع ذلك نسبه إلى الله تعالَى فهُو كافر ولا يُعذر.
9
فقد أجمع الأشاعرة على تكفير مَن نسب الجسم إلى الله مع العلم بمعناه أي مع العلم بأنَّ لفظ الجسم يُفيد معنَى الحجم والعرض والعُمق والطُّول ونحوِ ذلك ممَّا هُو لازم مِن السُّكنَى في الأمكنة؛ والتَّحيزِ في الجهات.. وفيما يلي بعض أقوال العُلماء في بيان ما صرَّحنا به ونقلناه عنهُم.
10
قال القاضي عبد الوهَّاب البغداديُّ ت/422هـ أحد أعلام المالكيَّة وشيخ الحافظ الخطيب البغداديِّ في [شرح عقيدة مالك الصَّغير]: <ولأنَّ ذلك يرجع إلى التَّنقُّل والتَّحوُّل وإشغال الحيِّز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤُول إلى التَّجسيم وإلى قِدَم الأجسام وهذا كُفر عند كافَّة أهل الإسلام> انتهَى.
11
وقال أبو منصور البغداديُّ في [تفسير الأسماء والصِّفات]: <فأمَّا أصحابُنا فإنَّهم وإنْ أجمعوا على تكفير المُعتزلة والغُلاة مِن الخوارج والنَّجاريَّة والجهميَّة والمُشبِّهة فقد أجازوا لعامَّة المُسلمين معاملتَهُم> إلخ.. وحشَا كتابه المُسمَّى [الفَرق بين الفِرَق] بما يدُلُّ على تكفير تلك الفِرَق جميعِها.
12
وقال الشَّيخ إبراهيم المارغني التُّونُسيُّ شيخ جامع الزَّيتونة المُتوفَّى 1349هـ في كتابه المُسمَّى [طالع البُشرَى على العقيدة الصُّغرَى] ما نصُّه: <ويُسمَّى الاعتقاد الفاسد كاعتقاد قدم العالم أو تعدُّد الإله أو أنَّ الله تعالَى جسم، وصاحب هذا الاعتقاد مُجمع على كُفره> إلى آخر كلامه.
13
وقال الفقيه تقيُّ الدِّين الحصنيُّ في [كفاية الأخيار] في تكفير المُجسِّمة: <وهُو الصَّواب الَّذي لا محيد عنه إذ فيه مُخالفة صريح القُرآن> انتهَى وقال المُفسِّر القُرطبيُّ في كتابه المُسمَّى بـ [التَّذكار]: <والصَّحيح القول بتكفيرهم إذ لا فرق بينهُم وبين عُبَّاد الأصنام والصُّور> انتهَى.
14
وقد زعم بعض المُصنِّفين أنَّ الأشاعرة يُفسِّقُون المُجسِّم ولا يُكفِّرونه وهذا افتراء على الأشاعرة؛ ولذلك ردَّ الحافظ بدر الدِّين الزَّركشيُّ هذا الادِّعاء وبيَّن أنَّه غير صحيح فقال في كتابه [تشنيف المسامع]: <ونُقِلَ عن الأشعريَّة أنَّه يَفْسُقُ؛ وهذا النَّقل عن الأشعريَّة ليس بصحيح> انتهَى.
15
وأمَّا مَن حمل قول الأشعريِّ: (اشهد عليَّ أنِّي لا أُكفِّر أحدًا مِن أهل هذه القِبلة لأنَّ الكُلَّ يُشيرون إلى معبود واحد وإنَّما هذا اختلاف العبارات) انتهَى على أنَّه لا يحكُم بتكفير أحد مِن المُنتسبين إلى الإسلام أبدًا فهذا افتراء عظيم على الأشعريِّ لا يُصدِّقه عاقل ولا يُوافق عليه صاحب رُشد.
16
فإنَّ مِن الفِرَق المُنتسبة إلى الإسلام -زُورًا وباطلًا- فرقة البَيَانِيَّة وفرقة السَّبئيَّة وفرقة الجَنَاحِيَّة ولكُلٍّ مِن هذه الفِرَق ولغيرها مِن الكُفر القبيح ما يجعل الوِلدانَ شِيبًا والعياذ بالله تعالَى فكيف يُصدِّق مُسلم عاقل أنَّ الإمام الأشعريَّ لا يحكُم بتكفير مَن قال بمقالات هذه الفِرَق الضَّالَّة!؟
17
ففي فرقة البَيَانِيَّة يقول أبو منصور البغداديُّ في [الفَرق بين الفِرَق] صـ/208 فصل [ذكر البَيَانيَّة مِن الغُلاة وبيان خُروجها عن فِرق الإسلام]: <واختلف هؤُلاء في بيانٍ زعيمهم فمنهُم مَن زعم أنَّه كان نبيًّا وأنَّه نسخ بعض شريعة مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم ومنهُم مَن زعم أنَّه كان إلهًا> إلخ..
18
ويقول في فرقة الجناحيَّة [الفَرق بين الفِرَق] صـ/216: <وحكوا لأتباعهم أنَّ عبدالله بن مُعاوية بن عبدالله بن جعفر زعم أنَّه ربٌّ وأنَّ رُوح الإله كانت في آدم ثُمَّ في شيث ثُمَّ دارت في الأنبياء والأئمَّة إلى أنِ انتهَت إلى عليٍّ ثُمَّ دارَت في أولاده الثَّلاثة ثُمَّ صارت إلى عبدالله بن مُعاوية> إلخ..
19
ويقول في فرقة السَّبئيَّة [الفَرق بين الفِرَق] صـ/215: <السَّبئيَّة أتباع عبدالله بن سبإ الَّذي غلَا في عليٍّ رضي الله عنه فزعم أنَّه كان نبيًّا ثُمَّ غلَا فيه حتَّى زعم أنَّه إله ودعا إلى ذلك قومًا مِن غُواة الكُوفة ورُفع خبرُهُم إلى عليٍّ رضي الله عنه فأمر بإحراق قوم منهُم في حُفرتَين> إلخ..
20
بالله عليك أخي القارئ.. هل تُصدِّق أنَّ الإمام الأشعريَّ لا يحكُم بتكفير مَن جعل الإلهيَّة في إنسان؟ وهل تُصدِّق أنَّه لا يحكُم بتكفير مَن نسب لله تعالَى رُوحًا ثُمَّ جعلها تحِلُّ وتدور في الأنبياء والأئمَّة؟ وهل تُصدِّق أنَّه لا يحكُم بتكفير مَن ادَّعَى النُّبُوَّة بعد مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم!؟
21
فإنْ لم تُصدِّق أنَّ الأشعريَّ يحكُم بالإسلام على أُولئك فقد حكمتَ بأنَّ قولَه المذكور آنفًا لا يعني أنَّه لا يُكفِّر المُجسِّمة الحقيقيِّين بل يترُك تكفير مَن خالف في اللَّفظ والإطلاق والعبارة دون المعنَى؛ وأمَّا مَن خالف في المعنَى فإنَّه كافر عند الأشعريِّ كما عند سائر العُلماء كما صرَّحَت أقوالُهُم.
22
ثُمَّ إنَّ أبا منصور البغداديَّ أخذ مِن أبي إسحاق الإسفراينيِّ الَّذي أخذ مِن أبي الحسن الباهليِّ تلميذ الإمام الأشعريِّ؛ فلو كان الإمام الأشعريُّ تراجع عن تكفير المُجسِّمة قبل موته لَمَا خفي ذلك عن أبي منصور البغداديِّ الَّذي نقل إجماع الأشاعرة على تكفير المُجسِّمة المُشبِّهة.
23
قال أبو منصور البغداديُّ في [تفسير الأسماء والصِّفات]: <فأمَّا أصحابُنا فإنَّهم وإنْ أجمعوا على تكفير المُعتزلة والغُلاة مِن الخوارج والنَّجاريَّة والجهميَّة والمُشبِّهة فقد أجازوا لعامَّة المُسلمين معاملتَهُم في عُقود البياعات والإجارات والرُّهون وسائر المُعاوضات دون الأنكحة> انتهَى.
24
ثُمَّ الَّذين يزعُمون أنَّ الإمام الأشعريَّ تراجع عن تكفير المُجسِّمة يجعلونه مُضطربًا في عقيدته إلى آخر حياته، فهُو عندهُم عاش جاهلًا لا يعرف على مَن يجب الحُكم بالتَّكفير حتَّى أزف رحيلُه إلى ديار الآخرة! وهذا الكلام حطٌّ مِن قدر الإمام الأشعريِّ وهُو إمام الأئمَّة رضي الله عنه.
25
وأُولئك يجعلون الإمام الأشعريَّ مُخالفًا لِمَا أثبته الإمام الطَّحاويُّ عقيدةً للسَّلف بقوله: <ومَن وصف الله بمعنًى مِن معاني البشر فقد كفر> انتهَى فلا تكُن في مرية مِن أنَّ مَن زعم أنَّ الإمام الأشعريَّ تراجع عن تكفير المُجسِّمة الحقيقيِّين ما هُو في الحقيقة إلَّا عدُوٌّ للإمام الأشعريِّ.
نهاية المقال.
بيان أنَّ المُجسِّمة كُفَّار بالإجماع
وأنَّ الصَّحيح أنَّه لا خلاف في كُفر المُجسِّمة عند الأشاعرة
في هذا المقال:
أ) مُقدِّمة في بيان ما أجمعت عليه الأُمَّة مِن تكفير المُجسِّمة.
ب) ذكر بعض أقوال العُلماء في الإجماع على تكفير المُجسِّمة
ج) دفع شُبهة مِن شُبُهات المُنحرفين
هـ) فائدة في بيان كُفر مَن قال بأزليَّة العالَم ولو بمادَّته وحسب
و) بيان بعض العبارات المُوهمة عدم تكفير الأشاعرة للمُجسِّمة
ز) دفع شُبهة أُخرَى مِن شُبُهات المُنحرفين
ح) فائدة في بيان اختلاف العُلماء في كُتُب الغزاليِّ
– الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
أ) مُقدِّمة في بيان ما أجمعت عليه الأُمَّة مِن تكفير المُجسِّمة
1
وبعدُ فاعلم أنَّ العُلماء مُجمعون على كُفر المُجسِّمة أي الَّذين زعموا أنَّ الله تعالَى جسم، واعلم أخي أنَّه لا يُشترط للوُقوع في الكُفر القصد إلى مُشاققة الرَّسول لأنَّ مَن وصف الله بما لا يليق به هُو شاتم لله تعالَى ومُشاقِق له عزَّ وجلَّ قبل أنْ يكون مُشاقِقًا لرسوله الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم.
2
فقد ورد في الحديث القُدسيِّ: <وأمَّا شتمُهُ إيَّايَ فقولُهُ اتَّخذَ اللهُ ولدًا> انتهَى لأنَّه نسب الابن إلى الله تعالَى كان بذلك شاتمًا لله؛ فكذلك مَن نسب الجسم إلى الله تعالَى فقد نسب إليه ما لا يليق به سُبحانه فهُو في حُكم شاتم الله والعياذ بالله، ولا خلاف بين المُسلمين في كُفر مَن شتم الله تعالَى.
3
وهذا مذهب إمامنا الأشعريِّ فقد ثبت أنَّه قال في [النَّوادر]: <مَن اعتقد أنَّ الله جسم فهُو غير عارف بربِّه وإنَّه كافر به> انتهَى ولا يثبُت عنه أنَّه تراجع آخِرَ حياته عن مذهبه كما يزعُم الوهَّابية ولا تراجع عن تكفير المُجسِّمة كما يزعُم بعض المُنحرفين وهذا ما سنُؤكِّدُه زيادة في هذا المقال.
4
ولذلك لم يُفرِّق عُلماء المُسلمين بين عبادة الأجسام وبين عبادة الأوثان والأصنام وبين عبادة النَّار والشَّمس والعياذ بالله تعالَى فكُلُّ هذا كُفر عند أهل السُّنَّة والجماعة ولذلك قال الغزاليُّ في [الاقتصاد في الاعتقاد]: <فإنَّ القائلَ بأنَّ اللهَ سُبحانَه جسمٌ؛ وعابدَ الوثن والشَّمس: واحد> انتهَى.
5
بل إنَّ بعض العُلماء قال ما معناه: إنَّ مَن عبد الأوثان فقد عبد مخلوقًا لا يستحقُّ العبادة فهُو كافر بذلك؛ وأمَّا مَن عبد جسمًا توَّهم أنَّه فوق العرش فهذا لم يعبُد خالقًا ولا مخلوقًا بل عبد العدم المحض إذ ليس فوق العرش جسم هو الإله. فلا حول ولا قُوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم.
ب) ذكر بعض أقوال العُلماء في الإجماع على تكفير المُجسِّمة
6
قال القاضي أبو مُحمَّد عبد الوهَّاب البغداديُّ أحد أعلام المالكيَّة في زمانه ت/422 للهجرة في [شرح عقيدة مالك الصَّغير]: <ولأنَّ ذلك يرجع إلى التَّنقُّل والتَّحوُّل وإشغال الحيِّز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤُول إلى التَّجسيم وإلى قِدَم الأجسام وهذا كُفر عند كافَّة أهل الإسلام> انتهَى.
7
وهذا القاضي عبدالوهَّاب مِن شُيوخ الحافظ الخطيب البغداديِّ وهُو أعلم مِن أهل الفتنة بما أجمع عليه أئمَّة أهل السُّنَّة والجماعة في هذه المسألة فانظُر إلى قوله: (وهذا كُفر عند كافَّة أهل الإسلام) لتعلم أنَّ تكفير المُجسِّمة ليس مسألة خلافيَّة كما يدَّعي أُولئك اليوم الجَهَلَة المُتصولحة.
8
وقال أبو منصور البغداديُّ في [تفسير الأسماء والصِّفات]: <فأمَّا أصحابُنا فإنَّهم وإنْ أجمعوا على تكفير المُعتزلة والغُلاة مِن الخوارج والنَّجاريَّة والجهميَّة والمُشبِّهة فقد أجازوا لعامَّة المُسلمين معاملتَهُم في عُقود البياعات والإجارات والرُّهون وسائر المُعاوضات دون الأنكحة> انتهَى.
9
قولُه: (أصحابنا) يعني الأشاعرة. قولُه: (أجمعوا) أفاد أنَّ الأشاعرة غير مُختلِفين في تكفير المُجسِّمة كما تُوهِمُ عبارات نجدُها في بعض كُتُب المُتأخِّرين. وأبو منصور البغداديُّ مِن أئمَّة المُتكلِّمين وأعيان فُقهاء الشَّافعيَّة وهُو مِن أكابر أشعريَّة زمانه فهُو أدرَى بما أجمع عليه الأشاعرة.
10
فالأشاعرة مُجمعون على كُفر المُجسِّمة، وغير صحيح أنَّهُم يُفسِّقون المُجَسِّم ولا يُكفِّرونه، فقد قال بدر الدِّين الزَّركشيُّ في [تشنيف المسامع]: <ونُقِلَ عن الأشعريَّة أنَّه يَفْسُقُ وهذا النَّقل عن الأشعريَّة ليس بصحيح> انتهَى ومعناه أنَّ الصَّحيح أنَّ الأشاعرة يُكفِّرون مَن وصف الله بالجسم.
11
وقال تقيُّ الدِّين الحصنيُّ في [كفاية الأخيار] في تكفير المُجسِّمة: <وهُو الصَّواب الَّذي لا محيد عنه إذ فيه مُخالفة صريح القُرآن> انتهَى فلمَّا قال (لا محيد عن تكفيرهم) علمنا أنَّ المسألة ليست خلافيَّة؛ إذ لا يختلف مُسلمانِ في أنَّ تكذيب صريح القُرآن الكريم كُفر والعياذ بالله.
12
وكان أهل الفتنة زعموا أنَّ تشبيه العُلماء للمُجسِّمة بعُبَّاد الأصنام لم يكُن مِن قبيل الحُكم بالتَّكفير وكذبوا فقد قال المُفسِّر القُرطبيُّ صاحب جامع أحكام القُرآن في [التَّذكار]: <والصَّحيح القول بتكفيرهم إذ لا فرق بينهُم وبين عُبَّاد الأصنام والصُّور> انتهَى فماذا بعد الهُدَى إلَّا الضَّلال!
13
وقال شيخ جامع الزَّيتونة إبراهيم المارغني التُّونُسيُّ في [طالع البُشرَى على العقيدة الصُّغرَى] ما نصُّه: “ويُسمَّى الاعتقاد الفاسد كاعتقاد قدم العالم أو تعدُّد الإله أو أنَّ الله تعالَى جسم، وصاحب هذا الاعتقاد مُجمع على كُفره> انتهَى وقولُه: (مُجمع على كُفره) يعني لا خلاف في كونه كافرًا.
14
فهذا غيض مِن فيض مَا يُفيد إجماع أهل السُّنَّة والجماعة -وليس الأشاعرة وحسب- على تكفير مَن قال: (الله جسم) أو قال: (العبد يخلُق أفعاله) أو قال: (العالم أزليٌّ بمادَّته وصُورته أو بمادَّته فقط) لأنَّه لا عُذر لمَن تأوَّل فخالف أصل الشَّهادتَين أو أنكر ما علم أنَّه إجماع المُؤمنين.
ج) دفع شُبهة مِن شُبُهات المُنحرفين
15
وقد رُوِيَ عن الأشعريِّ أنَّه قال: (اشهد عليَّ أنِّي لا أُكفِّر أحدًا مِن أهل هذه القِبلة لأنَّ الكُلَّ يُشيرون إلى معبود واحد وإنَّما هذا اختلاف العبارات) انتهَى وليس حُجَّة لأُولئك الَّذين يتَّهمونه بأنَّه تراجع لمَّا حضره الموت عن تكفير المُجسِّمة وأهل الأهواء الَّذين وصلت بدعتُهُم إلى الكُفر بالله تعالَى.
16
وذلك لأنَّ مُراد الإمام الأشعريِّ عدم تكفير أحد مِن أهل القِبلة ما لم يُوجد شيء مِن أمارات الكُفر وعلاماته وما لم يصدُر عن الواحد منهُم شيء مِن مُوجبات الكُفر وأمَّا مَن زعم أنَّ الله تعالَى جسم أو زعم أنَّ العبد يخلُق أفعاله أو أنَّ العالَم قديم ولو بمادَّته فقط: فهذا كافر والعياذ بالله تعالَى.
17
ولو كان الأشعريُّ ترك تكفير المُجسِّمة لرأينا كُلَّ الأشاعرة على ذلك؛ بينما وكما بيَّنَتِ النُّصوص والنُّقول الآنفة الذِّكر فإنَّ الأشاعرة مُجمعون على تكفير المُجسِّمة كما وعلى تكفير مَن قالوا بأزليَّة العالم ولو بمادَّته فقط بل وكُلُّ الأُمَّة مُجمِعة على ذلك بلا خلاف بين الأئمَّة المُعتبَرين.
هـ) فائدة في بيان كُفر مَن قال بأزليَّة العالَم ولو بمادَّته وحسب
18
وقد نقل المُحدِّث الأُصوليُّ بدر الدِّين الزَّركشيُّ في [تشنيف المسامع] اتِّفاق المُسلمين على كُفر مَن يقول بأزليَّة نوع العالم فقال بعد أنْ ذكر أنَّ الفلاسفة قالوا: (إنَّ العالَم قديم بمادَّته وصُورته) وبعضُهُم قال: (قديم المادَّة مُحدَث الصُّورة) ما نصُّه: <وضلَّلهُمُ المُسلمون في ذلك وكفَّرُوهُم> انتهَى.
و) بيان بعض العبارات المُوهمة عدم تكفير الأشاعرة للمُجسِّمة
19
وتجد في الكُتُب ما يُوهم عدم تكفير المُجسِّمة؛ وحقيقة الأمر أنَّهُم أرادوا ترك تكفير مَن نَسَبَ الجسم إلى الله ولكنَّه لشدَّة جهله ظنَّ أنَّ لفظ (الجسم) يأتي بمعنَى (الموجود) فهذا أطلق عليه بعضُهُم صفة (مُجسِّم) مجازًا ولكنَّه لا يكون مُجسِّمًا حقيقةً لأنَّه لا يعرف معنَى اللَّفظ فلا يكفُر.
20
وزعم المُنحرفون أنَّنا ابتدعنا هذا التَّصويب وخَسِئُوا فقد قال به قبلنا جُملة مِن العُلماء منهُمُ الشَّيخ المُحدِّث مُحمَّد زاهد الكوثريُّ حيث قال في [مقالاته]: <وإنَّ العزَّ بن عبد السَّلام يعذُر –في قواعده- مَن بَدَرَت منه كلمة مُوهِمة لكنَّه يُريد بذلك العاميَّ الَّذي تخفَى عليه مدلولات الألفاظ> إلخ..
21
وقال البغداديُّ في التَّبصرة البغداديَّة المُسمَّاة [أُصول الدِّين]: <وقد شاهدنا قومًا مِن الكرَّاميَّة لا يعرفون مِن الجسم إلَّا اسمه ولا يعرفون أنَّ خواصَّهم يقولون بحُدوث الحوادث في ذات الباري تعالى فهؤُلاء يحِلُّ نكاحُهُم وذبائحُهُم والصَّلاة عليهم> انتهَى فهؤُلاء الَّذين لم يُكفِّرهُمُ الأشاعرة.
22
وقال إمام الحرمين الجوينيُّ في [الشَّامل]: <اعلموا أرشدكُم الله أنَّ الخلاف في ذلك يدُور بيننا وبين فئتَين: إحداهُمَا تُخالف في اللَّفظ والإطلاق دون المعنى، والأُخرى تُخالف في المعنى. فأمَّا الَّذين خالفوا في الإطلاق دون المعنى فهُمُ الَّذين قالوا: المعنى بالجسم الوُجود أو القيام بالنَّفس> إلخ..
23
وقال البزدويُّ الحنفيُّ في [أُصُول الدِّين] له: <إلَّا أنَّ بعضهُم قالوا: نعني بالجسم الوُجود لا غير> انتهَى وكُلُّ هذا يُوضح أنَّ الأشاعرة إنَّما تركوا تكفير مَن نسب لفظ الجسم إلى الله مُتَوَهِّمًا لشدَّة جهله أنَّ لفظ الجسم معناه الموجود وهذا دليل أنَّهُم لا يتركون تكفير المُجسِّم الحقيقيِّ.
ز) دفع شُبهة أُخرَى مِن شُبُهات المُنحرفين
24
واستدلَّ المُنحرفون بكلام للغزاليِّ مِن كتابه [الاقتصاد في الاعتقاد] يقول فيه بعد أنْ ذكر المُعتزلة والمُشبِّهة وغيرهُم ما نصُّه: <ودليل المنع مِن تكفيرهم أنَّ الثَّابت عندنا بالنَّصِّ تكفيرُ المُكذِّب للرَّسول وهؤُلاء ليسوا مُكذِّبين أصلًا ولم يثبُت لنا أنَّ الخطأ في التَّأويل مُوجِب للتَّكفير> إلخ..
25
ويكفي في الرَّدِّ على هذه الشُّبهة قول الغزاليِّ في الكتاب نفسه: <فإنَّ القائلَ بأنَّ اللهَ سُبحانَه جسمٌ؛ وعابدَ الوثن والشَّمس: واحد> انتهَى وحيث لا شكَّ في كُفر عابد الوثن والشَّمس فلا شكَّ في كُفر القائل بأنَّ الله سُبحانه جسم؛ والكلام صريح لا يحتاج إلى مزيد مِن شرح أو توضيح.
26
فلو اقتصر الأمر على أنَّ في كتاب [الاقتصاد في الاعتقاد] هذا التَّناقُض الصَّريح الواضح: فكيف يحتجُّ به المُنحرفون في مثل هذا الأمر الخطير والحُكم فيه إيمان أو كُفر! فنعوذ بالله مِن أُناس جرَّهُمُ الكِبر والغُرور إلى اعتقاد عدم كُفر مَن شتم الله ومَن وصفه بما لا يليق به سُبحانه.
ح) فائدة في بيان اختلاف العُلماء في كُتُب الغزاليِّ
27
واختلف العُلماء في الغزاليِّ فطعن به القاضي عياض المالكيُّ وغيرُه؛ ومنهُم مَن برَّأه ممَّا في بعض كُتُبه ورأى أنَّ تلك المُخالفات لا تثبُت عنه بل دُسَّت في كُتُبه؛ ومنهُم مَن احتمل عنده أنَّه وضعها أوَّل أمره ثُمَّ رجَع عنها. ووُقوع الدَّسِّ في كُتُب الغزاليِّ مشهور عند عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة.
28
قال مُحمَّد بن الوليد بن مُحمَّد بن خلف القُرشيُّ الفهريُّ الأندلسيُّ أبو بكر الطرطوشيُّ المالكيُّ المُتوفَّى 520هـ: <شحن كتابه بالكذب على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم> إلخ.. ونقله الونشريسيُّ في [المعيار المُعرب].
29
وقال القاضي عياض المُتوفَّى 544هـ: <وألَّف فيه تواليفه المشهورة أُخِذَ عليه فيها مواضع وساءت به ظُنون أُمَّة والله أعلم بسرِّه ونفذ أمر السُّلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفُقهاء بإحراقها والبُعد عنها فامتُثل ذلك> إلخ..
30
وقال ابن حجر الهيتميُّ المُتوفَّى 974ه: <وعبارتُه الَّتي أشار إليها القاضي [عياض] -على تقدير كونها عبارته- وإلَّا فقد دُسَّ عليه في كُتُبه عبارات حسَدًا لا تُفيد ما فهمه القاضي ولا تقرُب ممَّا ذكره> انتهى.
31
فانظر كيف استعمل ابن حجر عبارة: (على تقدير كونها عبارته) وهي مِن العبارات الَّتي أخذ علينا أهل الفتنة استعمالها حيث لا تثبُت عبارة عن عالِم بالطَّريقة الشَّرعية المُعتبرة! فتأمَّل أخي القارئ يرحمك الله تعالَى.
32
وقال أبو الفرج ابن الجوزيِّ الحنبليُّ المُتوفَّى 597هـ في [منهاج القاصدين]: <فاعلم أنَّ في كتاب [الإحياء] آفات لا يعلمُها إلَّا العُلماء> وقال في كتابه [تلبيس إبليس]: <وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بُطلانها> إلخ..
33
وقال أبو علي عمر السَّكونيُّ المالكيُّ الأشعريُّ الإشبيليُّ نزيل تونس المُتوفَّى 717هـ في [لحن العامَّة والخاصَّة في المُعتقدات] عندما ذكر كُتُب الغزاليِّ: <فإنَّها إمَّا مدسوسة عليه أو وضعها أوَّل أمره ثُمَّ رجَع عنها> إلخ..
34
والدَّسُّ على الغزاليِّ بدأ قبل موته ففي [فضائل الأنام]: <هاج حسد الحُسَّاد ولم يجدوا أيَّ طعن مقبول غير أنَّهُم لبَّسوا الحقَّ بالباطل وغيَّروا كلمات مِن [المُنقذ مِن الضَّلال] و[مشكاة الأنوار] وأدخلوا فيها كلماتِ كُفر> إلخ..
35
فكيف يحتجُّ المُنحرفون ببعض عبارات مُشكلة مِن كُتُب الغزاليِّ في مثل هذا الأمر العظيم فيترُكون بسبب ذلك تكفير مَن أطبقت الأُمَّة على تكفيرهم مِن المُجسِّمة والقائلين (بقِدم العالَم) و(أنَّ الله لا يعلم الجُزئيَّات) و(أنَّ مشيئة الله ليست نافذة) ونحو هذا مِن الكُفر القبيح والعياذ بالله تعالَى.
36
فإذا علمتَ ما تقدَّم فقد ثبت عندك أنَّه لا يجوز الأخذ بتلك العبارات الَّتي تُوهم خلاف القُرآن الكريم والحديث الصَّحيح الثَّابت وإجماع الأُمَّة المُحمَّديَّة ولا سيَّما وأنَّك علمتَ أنَّها لا تثبُت بحُروفها عمَّن تُوجد في كُتُبه والأمرُ أكثر خطرًا مِن أنْ يخوض فيه الإنسان بالمُغامرة الخاسرة.
ح) بيان أنَّ تحصيل العلم لا يكون بمُطالعة الكُتُب
37
اعلم أخي القارئ أنَّ الكتاب لا يكون مُعتمَدًا لمُجرَّد شُهرة صاحبه ولا لمُجرَّد نسبته إلى مُصنِّفه بل لا بُدَّ مِن توفُّر نُسخة شهد الثِّقات أنَّها بخطِّ المُصنِّف أو شهدوا أنَّها مُقابلة على نُسخة بخطِّه لأنَّ الكُتُب وقع في نسخها الدَّسُّ والتَّصحيف ولذلك قال التَّاج السُّبكيُّ: <آفة الكُتُب نُسَّاخُها> انتهَى.
38
قال شيخُنا المُحقِّق المُدقِّق الشَّيخ عبدالله الهرريُّ الحبشيُّ رحمه الله ما معناه: <إنَّ النُّسَخ الَّتي لم تكُن مُقابَلة بيد ثقة على نُسخة قابَلها ثقة وهكذا إلى أصل المُؤلِّف الَّذي كتبه بخطِّه أو كتبه ثقة بإملاء المُؤلِّف فقابَله على المُؤلِّف لا تُعتبر نُسَخًا صحيحة بل هي نُسخ سقيمة> انتهَى.
39
فلا يصحُّ الأخذ من نُسخة لا يُعرف حال مَن خطَّها وكذلك إنْ لم تُقابل على نُسخة صحيحة، ولذلك قال النَّوويُّ في [التَّقريب]: <وَمَنْ أَرَادَ الْعَمَلَ بحديث مِنْ كِتَابٍ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ قَابَلَهَا هُوَ أَوْ ثِقَةٌ بِأُصُولٍ صَحِيحَةٍ فَإِنْ قَابَلَهَا بِأَصْلٍ مُحَقَّقٍ مُعْتَمَدٍ أَجْزَأَهُ وَاللهُ أَعْلَمُ> إلخ..
40
وكان الطَّلَبَة يكتبون على هامش المخطوط فتتداخل السُّطور فإنِ احتاج الكتاب إلى إعادة نسخ خلط النَّاسخ بين المتن والهامش فيُنسب إلى المُصنِّف ما كان وضعه غيرُه في الهامش ولذلك فإنَّ الأَولَى أنْ نعمل بقول نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام: <إنَّما العلم بالتَّعلم> أي بالتَّلقِّي عن الضَّابط الثِّقة.
نهاية المقال.
افتضاح جهل الحبتري في مسألة تكفير المجسمة
هل سيحذر أهل الفتنة من الحبتري بعدما تأكد أنه لا يوافق على تكفير من وصف الله بالجسمية وهو عالم بالمعنى الفاسد!؟
واعلم يا أخي المسلم أن المجسم كافر قولا واحدا لا يُقبل له تأويل لمعنى الجسم، لأن الجسم لفظ صريح في كونه حادث مركب، فقد نقل الإمام أبو الفضل عبد الواحد بن عبد العزيز بن الحارث التميميّ (توفّي 410هـ) رئيس الحنابلة ببغداد وابن رئيسها في كتابه اعتقاد الإمام أحمد عن الإمام أحمد أنه قال: <وأنكر (يعني أحمد) على من يقول بالجسم، وقال: إنَّ الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة وأهل اللغة وضعوا هذا الإسم على ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف والله تعالى خارج عن ذلك كله فلم يجز أن يسمى جسما لخروجه عن معنى الجسمية ولم يجئ في الشريعة ذلك فبطل> انتهى.
ومعلوم أن مدار الألفاظ الصريحة مبني على فهم المعنى فلا يجوز تأويلها وحملها على غير ما وضعت في اللغة، قال الإمام السبكي في كتابه السيف الصقيل: <ومن أطلق القعود وقال إنه لم يرد صفات الأجسام قال شيئا لم تشهد به اللغة فيكون باطلا وهو كالمقر بالتجسيم المنكر له فيؤاخذ بإقراره ولا يفيد إنكاره> الخ..
ومن تلك الألفاظ الصريحة في نسبة الجسمية لله تعالى مما لا يقبل التأويل هو قول بعض الناس: (الله جسم لا كالأجسام) والعياذ بالله، فإن الشق الأول من العبارة كاف في وصف الله بأنه حادث متركب فلا ينفعه -في النجاة من الكفر- بعد ذلك أن يقول لا كالحوادث المتركبين، هذا هو الأصل التي تبنى عليه المسألة، قال المازري: <وقد غلط ابن قتيبة في هذا الحديث [حديث فإن الله خلق ءادم على صورته] فأجراه على ظاهره وقال الله صورة لا كالصور. قال وهذا كقول المجسمة جسم لا كالأجسام، لما رأوا أهل السنة يقولون الله تعالى شيء لا كالأشياء، والفرق أن لفظة شيء لا تفيد الحدوث ولا تتضمن ما يقتضيه، وأما جسم وصورة فيتضمنان التأليف والتركيب وذلك دليل الحدوث> انتهى، وقال الامام احمد: <من قال جسم لا كالأجسام كفر> انتهى.
وأما ما ذُكر في بعض كتب الأشاعرة من المتأخرين الذين لا تتعدى رتبتهم في المذهب كونهم من النقلة أن من قال (الله جسم لا كالأجسام) الراجح أنه يُبدَّع ولا يُكفَّر فكلامهم هذا محمول على من لم يفهم معنى الجسم وإلا كان مخالفا لكلام أئمتهم المجتهدين كالشافعي الذي قال: <المجسم كافر>، فضلا عن مخالفته لمذهب الأشاعرة، فقد قال الإمام بدر الدين الزركشي في تشنيف المسامع: <ونقل صاحب الخصال من الحنابلة عن أحمد أنه قال: (من قال جسم لا كالأجسام كفر) ونُقِلَ عن الأشعرية أنه يفسق وهذا النقل عن الأشعرية ليس بصحيح> انتهى.
وقد ابتُلينا بقوم لا يعرفون من الجسم إلا معنى الموجود أو الشيء الثابت الوجود، فمثل هؤلاء الناس هم الذين ذكر بعض العلماء في كتبهم أنهم لا يكفرون. وبناء على الفهم الخاطئ لِمَا جاء في بعض كتب أولئك المتأخرين من عدم تكفير (من قال جسم لا كالأجسام) قام بعض أهل زماننا من الحاقدين على شيخنا وجمعيته كالمدعو محمود قرطام الحبتري وزمرته بإشعال فتنة خطيرة أردوا بذلك تبرئة ساحة المجسمة من التكفير مطلقا وزعموا أنه لا إجماع على تكفير من قال (الله جسم لا كالأجسام) حتى وإن كان يفهم معنى الجسم والعياذ بالله! وزعموا أن القول الراجح أنه يُبدَّع ولا يُكفَّر! فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فبعد سماع هذا الكلام الخطير قام مشايخنا وكعادتهم بالرد على الشبهات الباطلة تارة بالنصح وتارة بالتغليظ، وقد بعثنا للحبتري عدة رسائل ندعوه فيها إلى التراجع عن قوله الضال هذا فلم يستجب، وأرسلنا من يبين للمعترض معنى كلام أولئك العلماء على أن مدار الحكم في هذه القضية هو (فهم وعدم فهم المعنى لكلمة الجسم) وإلا فإن عبارة (جسم لا كالأجسام) لا تخلص من الوقوع في الكفر مَن أطلقها في حق الله ما دام يعرف معناها الكفري.
وأخيرا وبعد مدة طويلة من الأخذ والرد تم الاتفاق على ما كان قد بينه لنا الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله تعالى في حياته، وكان من ضمن الذين أقحموا أنفسهم بهذه الوساطة وشهدوا بعض الحوارات المضلَّل من قبل الحبتري في هذه القضية المدعو نايف عمورة الذي قال إن الله شهيد أنه كتب المسألة بيده وفيها أن من قال عن الله (جسم لا كالأجسام) يكفر إن كان يعرف معناها والحالة الوحيدة التي لا يكفر فيها هو إن ظن أن الجملة بهذا التركيب تعني (موجود لا كالموجودات) فهذا الذي يستثنى من الوقوع في الكفر أما في الأصل فالذي قالها وهو يعرف معناها يكفر؛ ووافق الحبتري على هذا الكلام ولدينا كل الوثائق التي تثبت هذا على الحبتري وبصوت المدعو نايف عمورة فإن أنكروا أظهرنا الوثائق بإذن الله.
فما الذي حصل مؤخرا؟
الذي حصل مؤخرا أن الحبتري مخادع فهو لا يُكفِّر من قال هذه العبارة وهو عالم بمعناها والعياذ بالله وهذا يكشف كونه كان يكذب علينا وعلى بعض المقربين منه. وزاد على كلامه الفاسد أن زعم أن أحدا من العلماء لم يأتِ على ذكر هل يفهم المتكلم معنى لفظ الجسم أو لا؛ وهذه كذبة أخرى من كذباته الكثيرة التي سوف يطحنها إخواننا المشايخ بالأدلة والبراهين والتي كشفت حقيقة كون الحبتري رجلا ضالا يخلط في المسائل الأصولية فيجعل من الكفر المجمع عليه مسألة خلافية والعياذ بالله تعالى.
وبهذا أصبح الأمر واضحا لا لبس فيه وصدق فيه ظن المشايخ الكرام فالحبتري خدع الناس عامة ومن صدقوه خاصة ولا سيما في اعتراضه على الشيخ جميل حليم حفظه الله.
ويبقى السؤال: أين الذين كانوا اتهمونا سابقا بالافتراء على الحبتري بعدما انكشف من حاله ما انكشف والعياذ بالله!
تنزيه الله عن الجسمية والمكان
قَالَ حجة الإسلام الْفَقِيْهُ الْأُصُولِيُّ أبو حامد الْغَزَالِيُّ فِي كَتَابِهِ إِلْجَامُ الْعَوَامِ مَا نَصُّهُ:
« فَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللهَ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَعْضَاءٍ فَهُوَ عَابِدُ صَنَمٍ؛ فَإِنَّ كُلَّ جِسْمٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَعِبَادَةُ الْمَخْلُوقِ كُفْرٌ، وَعِبَادَةُ الصَّنَمِ كَانَتْ كُفْرًا لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَكَانَ مَخْلُوقًا لِأَنَّهُ جِسْمٌ، *فَمَنْ عَبَدَ جِسْمًا فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ السَّلَفِ مِنْهُمْ وَالْخَلْفِ* ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ كَثِيفًا كَالْجِبَالِ الصُّمِّ الصِّلَابِ، أَوْ لَطِيفًا كَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُظْلِمًا كَالْأَرْضِ أَوْ مُشْرِقًا كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، أَوْ مُشِفًّا لَا لَوْنَ لَهُ كَالْهَوَاءِ، أَوْ عَظِيمًا كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالسَّمَاءِ، أَوْ صَغِيرًا كَالذَّرَّةِ وَالْهَبَاءِ أَوْ جَمَادًا كَالْحِجَارَةِ، أَوْ حَيَوَانًا كَالْإِنْسَانِ». اهـ.
فهذا تصريح وتقرير من الإمام الغزالي على انعقاد إجماع السلف والخلف على تكفير المجسم فعلى هذا يُحمل كل ما جاء في كتب الإمام مما يخالف هذا الإجماع على أنه مدسوس عليه، فإن أبى المعترض إلا أن يثبتها – أي المخالفات – للغزالي يقال له: رسالة إلجام العوام هي من ءاخر تصانيف الإمام فلو سلّمنا لك ما تدعيه قلنا – من باب التنزل – قد رجع الغزالي عن ذاك المعتقد الباطل ووافق الإجماع في قوله الأخير والحمد لله على ذلك.
كيف أعرف من على الحق ؟
السؤال:
لقد كثر الكلام في العقيدة وصفات الله، فمنهم من يأخذ الآيات المتشابهة على الظاهر ومنهم من يؤول.. هل للأئمة الأربعة خلاف في العقيدة؟ هل الحنابلة والحنفية مختلفون في معنى الاستواء مثلاً؟ وكيف أعرف من هم على حق؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
السبيل لمعرفة الحق ومن على الحق التمسك بما عليه الجمهور أي جمهور الأمة الاسلامية. فعليك باتباع المذاهب الأربعة واياك والفرقة كالوهابية المجسمة وحزب الاخوان وحزب التحرير وزنادقة التصوف الحلولية.. تمسك بما عليه الجمهور، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وءاله وصحبه وسلم: “المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد” وقال عليه الصلاة والسلام: “عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة، فليلزم الجماعة”.
وقال تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) لهذا دعوتنا للتمسك بالجماعة وما أجمعت عليه الأمة الاسلامية والحذر الحذر من الفرق المنحرفة وأفكارها الهدامة التي حذرنا منها الشرع الحنيف.
وأئمة المذاهب الأربعة مجمعون باتفاق على العقيدة، كلهم على نفس العقيدة في الله وصفاته، ليس منهم واحد من يزعم أن الله جسم أو يشبه الخلق أو قاعد على العرش أو يسكن السماء أو الجهات، كلهم ينزهون الله عن الحد والمكان والجسم. إنما خلافهم كان في الفقه ولكل أدلته الشرعية وخلاف الأئمة رحمة للأمة. أما من خالف في الأصول أي في العقيدة، كمن يعتقد أن الله جسم، أو أن الله يسكن السماء أو الجهات، أو اعتقد أن النبي محمد ليس بشرا، أو أنه خلق من نور، أو أن النبي جزء من الله، أو أنكر نبوة أحد من الأنبياء، فهذا ليس بمسلم لأنه كذب القرءان والحديث والاجماع.
اجماع الأمة في العقيدة
وبالنسبة لعقيدة الأئمة الأربعة، فكلهم متفقون أن المجسم كافر.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه فيما نقل ابن المعلم القرشي عنه في كتاب “نجم المهتدي” ص ]551 [عن “كفاية النبيه في شرح التنبيه” ما نصه : ” وكذا من يعتقد أن الله جالس على العرش كافر” كما حكاه القاضي حسين هنا عن نص الشافعي رضي الله عنه” انتهى كلام ابن المعلم القرشي. والقَاضِي حُسَين مِن كِبَار الشّافِعيّة كَان يُلَقَّبُ حَبْرَ الأُمّةِ كَما كانَ عَبدُ اللهِ بنُ عَبّاس رضيَ اللهُ عَنهُمَا،وهوَ مِن الطّبقَةِ التي تَلِي الإمامَ الشّافِعيَّ وهُمُ الذينَ يُقَالُ لهُم أَصحَابُ الوُجُوه . وذكر ابن المعلم القرشي أيضا في ص ]588[ما نَصُّه :”عن عَليّ رضيَ اللهُ عنهُ قَالَ سَيَرجِعُ قَومٌ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ عِندَ اقتِرَابِ السّاعَةِ كُفّارًا فقَالَ رَجُلٌ يَا أَمِيرَ المؤمنينَ كُفرُهُم بماذَا أَبِالإحْدَاثِ أَم بِالإنْكَارِ فَقالَ بل بالإنكَارِ يُنْكِرُونَ خَالِقَهُم فيَصِفُونَه بالجِسمِ والأَعضَاء.”
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه أيضا: “المجُسّم كافر” ذكره الحافظ السيوطي في “الأشباه والنظائر” ص ]488[ والمشبهة مجسمة فالشافعيّ كفرهم.
وقال الإمام أحمد رضي الله عنه : “مَن قَالَ اللهُ جِسمٌ لا كالأجسَام كفَر” رواه عن الإمام أحمد أبو محمد البغدادي صاحب الخصال من الحنابلة كما رواه عن أبي محمد الحافظ الفقيه الزركشي في كتابه “تشنيف المسامع” [684/4]
وسُئِلَ الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل عن الاستواءِ فقالَ: استَوَى كما أخبرَ لا كَمَا يخطُرُ للبشر.
وقال الإمامُ أبو حنيفةَ في رسالتهِ (الوصيّة) : ونُقِرُّ بأنَّ اللهَ على العرشِ استوَى مِنْ غيرِ أنْ يكونَ لهُ حاجةٌ إليهِ واستقرارٌ عليهِ.
وقال الامام مالك: “الاستواء معلوم والكيف عنه مرفوع”، وفي رواية: “والكيف غير معقول” أي الله منزه عن الكيفية.
وعلى هذا أجمع السلف والخلف، أي على تنزيه الله عن الكيفية “أمروها -أي صفات الله- كما جاءت بـــــلا كيف”. ومن وصف الله بالكيفية ولو قال كيفية مجهولة كالذي يقول: الله جسم ولا ندري كيف، أو الله له جوارح ولا ندري كيف، هذا يكفر لأنه شبّه الله بخلقه. الله منزه عن الجسم والكيفية. والكيفية هي صفات الأجسام، صفات الخلق من جسم وطول وعرض وحجم. والجسم والحجم هو ما كان محدوداً أي ما له حد سواء كان حجما صغيرا كالذرة أو كبيرا كالعرش، أو لطفيا كالنور أو الهواء أو كثيفاً كالحجر والشجر والبشر، الله لا يشبه شىء من هذا كله لأنه قال تعالى: (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير).
قال الإمام أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه في كتاب النوادر: “من اعتقد أن الله جسم فهو غير عارفٍ بربه وإنّه كافر به”
وقَد نَقَل الحافظُ تقِيّ الدّين السّبكي أنّ الأئِمّةَ الأربعَة قَالُوا بتَكفِيرِ مَن نَسَبَ الجهَةَ إلى اللهِ.
ونَقلَ ابنُ حَجرٍ الهيتَميُّ في كتابِه المنهَاج القَويم عن الأئِمّة تكفِيرَهُم للمُجَسِّم فقَالَ فيص ]144[ما نَصُّه: “واعلَم أنّ القَرافيَّ وغَيرَه حكَوا عن الشّافِعيّ ومَالكٍ وأحمدَ وأبي حَنيفَة رضيَ اللهُ عَنهُم القَولَ بكُفرِ القَائِلينَ بالجِهةِ والتّجسِيم وهُم حَقِيقُونَ بذَلكَ” اهـ
وذكر ملا علي القاري الحنفي في كتابه “شرح المشكاة”[137/2] إجماع الأمة على كفر من اعتقد أن الله تعالى في جهة. وقال محمود الخطاب السبكي في كتابه “إتحاف الكائنات”[2-3] بأن الإمام العراقي صرح بكفر معتقد الجهة وبه قال أبوحنيفة ومالك والشافعي وأبو الحسن الأشعري والباقلاني. ونقله عنهم أيضا القرافي المالكي وابن حجر الهيتمي الشافعي.
وقال الكوثري (1371هـ) وكيل المشيخة الإسلامية في دار الخلافة العثمانية في مقالاته ما نصه [231]: “إن القول بإثبات الجهة له تعالى كفر عند الأئمة الأربعة هداة الأمة كما نقل عنهم العراقي على ما في شرح المشكاة لعلي القاري” اهـ
أما الذي يعتقدُ أنَّ اللهَ جالسٌ أو مُستَقِّرٌ على العرشِ فقد وافَقَ اليهودَ في عقيدتهم الكفريّة. فاعلم يا طالب الحق والهدى أنه لو لم يكن دليل على كفر المشبهة المجسمة الذين يصفون الله بالمكان أو الجهة أو الجلوس أو الاستقرار على العرش أو فوقه والقائلين بالحركة أو السكون فى حق الله تعالى إلا قوله تعالى: (ليس كمثله شئ) ، لكفى.
من كتاب
التعاون على النهي عن المنكر
تأليف
الحافظ المحدث
الشيخ عبد الله الهرري
رحمه الله
فصل
في التحذير من الوهابية المشبهة
ليعلم أن أكثر فِرقِ الضلال وجودًا اليوم المشبهة، والوهابية ها هم صريحًا يشبهون الله بخلقه والمشبهُ كافر، وينشرون هذه العقيدة الفاسدة بين الناس فهل نسكت عنهم فيتوهم الناس أنهم على الإسلام ليتبعهم أكثر ممن تبعهم قبلُ ولتَهُون مخالفتهم لأهل الحق في العقيدة فيظن الجاهل أنهم من جملة المسلمين وأنّ تشبيه الله هو ما جاء به النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم فهذا عبد الله بن حسن حفيد محمد بن عبد الوهاب قال في مكة قبل نحو سبعين سنة وهو ينزل من الدرج: الله ينزل كنزولي هذا. شهد بذلك الشيخ علي بن عبد الرحمن الصومالي وكان مجاورًا بمكة يناقش حسنًا هذا في عقيدتهم الفاسدة أحيانًا سمعه بأذنه يقول هذه الكلمة ثم سُفّرَ لأنه أظهر مخالفتهم، فهل نسكت عن تكفير مثل هذا. ألا نقتدي بالإمام الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك وأبي حنيفة فإن كلاُّ منهم كفّر المجسم ومن أراد الاطلاع على نصوصهم فليطلب منا ذلك.
وهل نسكت كما سكت غيرنا ممن يعرف ضلال هؤلاء بدعوى توحيد الصف الإسلامي بزعمه، وهل إنكار المنكر تفريق لصف المسلمين حاشا وكلا، فإن تكفير الكافر ليس تفريقًا للصف بل بيان للحق وكيف توحّد الصف مع من يكفرك ويستحل دمك. فالوهابية يروننا كفارًا بل يرون كل من ليس وهابيًا كافرًا وقد قال عدد من دعاتهم في مؤلفاتهم: “قاتلوا الصوفية قبل أن تقاتلوا اليهود والمجوس” منهم صاحب الكتاب المسمى “المجموع المفيد من
عقيدة التوحيد” [1] علي بن محمد بن سِنان المدرس في المسجد النبوي والحامعة المسمّاة بالجامعة الإسلامية. والصوفية هم عباد الله الصالحون منهم الخلفاء الأربعة وكثير من التابعين وقد ألف في بيان التصوف الحقيقي الحافظ أبو نعيم كتابه “حلية الأولياء” وذكر من بينهم الخلفاء الأربعة ومن بعدهم من الزهاد المنقطعين إلى الله ولا نعنى بالصوفية من تشبه بهم وليس منهم.
ومن شواهد تكفير الوهابية للمسلمين أن شابًّا حبشيًا درس في جامعة الوهابية المسماة “الجامعة الإسلامية” خمس سنوات ثم رجعه إلى أهل بلده وصار يقول لهم أنتم كفار لأنكم تقولون يا محمد يا عبد القادر وتعبدون قبور المشايخ ثم قال لأبيه يا أبي أنت كافر فلم يتمالك الأب نفسه بل ضربه بالرصاص فقتله ثم سلّم نفسه للحكومة وهذه الحادثة مضى عليها نحو أربع سنوات.
وقد قال محمد بن عبد الوهاب إمامهم من دخل في دعوتنا فله ما لنا وعليه ما علينا ومن لم يدخل فهو كافر مباح الدم اهـ.
وقال مفتي مكة محمد بن عبد الله بن حميد الحنبلي النجدي في كتابه الذي ألفه في تراجم فقهاء الحنابلة من رجال ونساء الذي سماه “السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة” وقد ترجم فيه ثمانمائة عالم وعالمة قال في ترجمة عبد الوهاب بن سليمان والدِ محمد بن عبد الوهاب بعد أن أثنى عليه وعلى ابنه الشيخ سليمان أخي محمد إنه أي محممد بن عبد الوهاب كان يكفر من يخالفه ويستحل قتله وذلك في [ص/276] من النسخة المطبوعة لأول مرة في الرياض.
وقد حصل قبل ثمانين سنة أن هاجموا شرقي الأردن فقتلوا ثلاثة
[1] انظر الكتاب [ص/55].
ءالاف مسلم وزيادة وهم يرونهم كفارًا مستَحلّين سَفْكَ دمائهم بل كانوا يذبحون المسلم كما تذبح الشاة يقولون بسم الله كافر عدو الله اذبحوا الكافر. حتى إن بعض أهل الأردن من المسنين قال شاهدت وهابيًّا يذبح أردنيًّا وأنا صغير وهو يقول بسم الله كافر عدو الله. وبلغنا ذلك أيضًا من طريق خطيب مسجد في الأردن اسمه فراس سعد الدين هو سمع ذلك من رجل ءاخر كبير في السن أخبره أنه شهد ذلك رءاه بعينه وسمعه بأذنه في صغره منذ ثمانين سنة تقريبًا وقال كذلك رأيت الوهابي يقول للوهابي الآخر الذي يذبح الأردني المسلم لا تحرمنا بركته يريد المشاركة في الذبح. وفي المكتبات الأردنية وثائق كثيرة تشهد أيضًا لما ذكرنا.
وأما الوهابية فهم مجسمون وهم كفار لأن الإمام الشافعي رضي الله عنه قال: المجسم كافر [1]، والإمام أحمد قال: من قال الله جسم لا كالأجسام كفر، ذكره صاحب الخصال وهو من مشاهير الحنابلة. وكذلك الإمام مالك رضي الله عنه كفّر المجسم وكذلك الإمام أبو حنيفة.
قال ابن حجر الهيتمي في كتابه “المنهاج القويم” شرح المقدمة الحضرمية: واعلم أنّ القرافيّ وغيره حكوا عن الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم وهم حقيقون بذلك اهـ.
وقال محمد بن بدر الدين بن بلبان الدمشقي الحنبلي في كتابه “مختصر الإفادات” ص 490: ولا يشبه شيئًا ولا يشبهه شئ فمن شبّهه بشئ من خلقه فقد كفر كمن اعتقده جسمًا أو قال إنه جسم لا كالأجسام اهـ.
[1] ذكره السيوطيّ في “الأشباه والنظائر” [ص/488] من طبعة دار الكتب العلمية.
وهذا الطريق هو الطريق السالم الذي كان عليه المحدث الفقيه شيخ الصوفية المحققين سيدنا أبو العباس أحمد بن عليّ الرفاعي رضي الله عنه حيث قال: “صونوا عقائدكم عن التمسك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسنة فإن ذلك من أصول الكفر” اهـ أي أوقع كثيرًا من الناس في الكفر لأن المشبهة يعتقدون أن وجه الله جسم لذلك قال بعض قدماء المشبهة في قوله تعالى: {كُلُّ شئٍ هالِكٌ إلا وجْهَهُ} [سورة القصص/88] إن الله يفنى كله ويبقى منه الوجه فقط وهو بيان بن سمعان التميمي زعيم البيانية لأنه فسر الوجه على الظاهر.
فهذا معتقد متأخري المشبهة ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وأتباعهما وإن قالوا لله وجه بلا كيف لله عين بلا كيف لله يد بلا كيف لكن في الحقيقة هم يعتقدون الكيف ويقولون بلا كيف تمويهًا على الناس بأنهم على مذهب السلف. أولئك السلف كانوا ينفون الكيف مطلقًا اعتقادًا ولفظًا أما هؤلاء يقولون لفظًا بلا كيف وهم يعتقدون الكيف فالسلف بريئون منهم. السلف كانوا يؤولون تأويلاً إجماليًا وهو قول بلا كيف ويؤولون تأويلاً تفصيليًا كتأويل ابن عباس للسّاق في قوله تعالى: {يومَ يُكشَفُ عن ساقٍ} [سورة القلم/42] بالشّدة الشديدة، فلا يوجد من أئمة السلف من يعتقد في الله الجسم والأعضاء والحركات والسكون والانتقال فالعجب من عليّ الجَفري الذي يعتقد أن الوهابية مجسّمة ثم يقول أنا لا أكفّرهم اهـ بل الذي يشُك في كفر المجسّم هو يكفر. فكيف يقول عليّ الجفري عن الوهابية يكفّرون من يتوسل بالأنبياء والأولياء ويحرمون المولد وقراءة القرءان على أموات المسلمين ويقولون الله جسم جالس لكن حاشى لله أن نكفرهم أو نقول عنهم يهود؟!!
ثم إن الوهابية يفسرون العين المذكورة في القرءان مضافة إلى الله
بالجسم واليد المذكورة في القرءان مضافة إلى الله بالجسم وكذلك المجيء الوارد في {وجاءَ ربُّكَ والمَلَكُ} [سورة الفجر/22] بالانتقال من العرش إلى موقفِ يوم القيامة فأدى بهم ذلك إلى تشبيه الله بخلقه والله منزه عن أن يكون جسمًا وعن أن يتصف بصفات الجسم كالحركة والانتقال والسكون لأن الحركة والسكون من صفات الجسم فلو كان الله جسمًا متحركًا لكان له أمثال كثير ولو كان ساكنًا لكان له أمثال كثير ولو كان متحركًا في وقت وساكنًا في وقت كالبشر والجن والملائكة لكان له أمثال كثير والله نفى المثل عن نفسه على الإطلاق وذلك بقوله {ليسَ كمثله شىء} [سورة الشورى/11]، فالعرش والسموات ساكنات دائمًا والنجوم متحركات دائمًا والإنسان والملائكة متحركون وقتًا وساكنون وقتًا فوجب تنزيهه عن الحركة والسكون ولذلك أوَّل الإمام أحمد ءاية: {وجاءَ ربُّكَ} [سورة الفجر/22] فقال: “جاءت قدرته” وذلك صحيح ثابت الإسناد عند الحافظ البيهقي، وقال بعضهم قال أحمد جاء أمره فإنما أوّل أحمد ولم يأخذ بظاهر اللفظ لأن الحركة والسكون من صفات الخلق.
وقال ابن تيمية إنّ الله ينزل من العرش إلى السماء الدنيا ولا يخلو [1] منه العرشُ هذا كلام متناقض فهو كأنه قال ينزل ولا ينزل، وهو بهذا جعل الله كالمطاط يتمدد ويتقلص لأن السماء حجمها صغير بالنسبة للعرش.
ولا يجوز أن يقال كيف يكون الله موجودًا غير متحرك ولا ساكن فإن قال قائل ذلك يقال له العقل يُجَوّزُ ذلك لكن الوهم هو الذي لا
[1] انظر كتابه المسمى “منهاج السنة النبوية” [1/262]، و”شرح حديث النزول” [ص/66 و99]، و”مجموع فتاوى ابن تيمية” [5/131 و415].
يُجَوّز ذلك والوهم لا اعتبار له كما قال الإمام السلفي المحدث ذو النون المصري: “مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك” اهـ وذو النون أخذ العلم والحديث من مالك وغيره وهو من الصوفية الصفوة الذين مدحهم العلماء من طبقة الجنيد. والجنيد وطبقته من الصوفية وكل من جاء بعده على منهجه من خيار خلق الله إلى يومنا هذا حتى إن ابن تيمية قال في الجنيد إنه إمام هدى وكان رئيس الصوفية وقدوتهم. السابقون منهم ومن تبعهم إلى هذا العصر على مذهبه وما عليهم من فساد أكثر المنتسبين إلى التصوف اليوم.
ومثلما قال ذو النون قال الإمام أحمد أيضًا ذكر ذلك عنه أبو الفضل التميمي الحنبلي. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه معناه فإنه قال: “من انتهض لمعرفة مدبره فانتهى إلى موجود ينتهي إليه فكره فهو مشبه ومن انتهى إلى العدم الصرف فهو معطل ومن انتهى إلى موجود واعترف بعجزه عن إدراكه فهو موحد” اهـ وهذا معنى {ليس كمثله شىء}.
والمشبهة لا يعترفون بموجود غير متحيز في جهة ومكان غير متحرك ولا ساكن لأنهم يقيسون الخالق على المخلوق يظنون أن الوجود لا يصح إلا بالمكان وقد فهم بعض المجسمة من هذه الآية {كلُّ شىءٍ هالِكٌ إلا وَجْههُ} أن العالم شئ يفنى كله يوم القيامة ولا يبقى منه شىء وأنّ الله جسم مركب من أعضاء يفنى كله يوم القيامة إلا وجهه، وهؤلاء أتباع بيان بن سمعان التميمي كما تقدم والوهابية مثلهم يعتقدون أن الله جسم مؤلف من بدن وأعضاء وإن لم يقولوا بأن الله يفنى كله ولا يبقى منه إلا الوجه.
نقول: العالم إما جسم لطيف وإما جسم كثيف كالإنسان والشمس والقمر والنجم والأول كالنور والظلام والروح فالآية {ليسَ كمثلهِ شىء} نزهت الله عن أن يكون جسمًا كثيفًا وعن أن يكون جسمًا لطيفًا وعن صفاتهما من الحركة والسكون لأنه لو كان متحركًا لكان له أمثال ولو كان ساكنًا لكان له أمثال.
والوهابية يعتقدون أن الله جسم ويعتقدون أن له ساقًا جسمًا وغيرَ ذلك من الأعضاء فهم كفار حتى إن بعضهم دكاترتهم قال: هو يُدخِلُ رجله في جهنم عندما يقال للنار هل امتلأت فتقول هل من مزيد فلا تحترق رجله اهـ. ومع اعتقادهم أنه جسم يقولون تشبهًا بالسلف في زعمهم وتمويهًا على الناس له وجه لا كالوجوه وله يد لا كالأيدي إيهامًا للناس أنهم على ما قاله بعض السلف من قولهم لله وجه بلا كيف ويد بلا كيف وعين بلا كيف وهم أي الوهابية يعتقدون الكيف لكن للتمويه على الناس يقولون لفظًا بلا كيف وأحيانًا يقولون على ما يليق به ومرادهم أن الله جسم كما قال ابن تيمية: إن الله بقدر العرش لا أصغر ولا أكبر، ومرة قال: بقدر العرش بل أعظم منه اهـ فالوهابية على هذا الاعتقاد. نسب ذلك إليه الحافظ الكبير العلائي شيخ مشايخ الحافظ ابن حجر. وقد قال ابن تيمية في مجموعة فتاويه: إن الله على العرش حقيقة ومعنا حقيقة اهـ وهذا شبيه بعقيدة الحلوليين وهو يذم الحلوليين.
فالله تعالى كما قال الإمام السلفي المحدث ذو النون المصري “مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك”. والمشبهة لا يعترفون بموجود غير متحيز في جهة ومكان غير متحرك ولا ساكن لأنهم يقيسون الخالق على المخلوق. يظنون أن الوجود لا يصح إلا بالمكان مع ثبوت وجود الله قبل المكان بلا مكان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان الله ولم يكن شئٌ غيرُه” أي كان الله موجودًا قبل المكان والزمان وقبل الجهات الستّ والعرش فالله الذي هو موجود قبل المكان بلا مكان هو موجود بعد وجود المكان بلا مكان، فالحديثُ دليل على صحة وجود الله بلا مكان قبل المكان وبعد وجود المكان. والحديث رواه البخاري والحافظ أبو بكر بم الجارود والبيهقي [1].
قال محمد بن بدر الدين بن بلبان الدمشقي الحنبلي في كتابه “مختصر الإفادات” ص489: [فصلٌ] ويجب الجزم بأنه سبحانه وتعالى ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض لا تحله الحوادث ولا يحل في حادث ولا ينحصر فيه فمن اعتقد أو قال إن الله بذاته في كل مكان أو في مكان فكافر اهـ.
ثم إن الوهابية يكفّرون من ليس منهم كما تقدم وهذا الذي كان عليه زعيمهم محمد بن عبد الوهاب فكل وهابيّ يضمر أنّ من ليس على عقيدتهم كافر، وقد قال أحد مدرسيهم في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ثماني سنوات في موسم الحج والزيارة: ثلاثة أرباع المسلمين كفار لأنهم يقولون يا محمد يا عبد القادر وهذا كان مدرسًا رسميًا قال ذلك وهو قاعد على كرسي التدريس. وفي عام 1993 ر كان أبو بكر الجزائري أحد زعماء الوهابية يدرس في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: والله إن الإسلام لن يستقيم حتى يخرجوا هذا الصنم من المسجد وأشار إلى القبر الشريف، وهذا تكفير صريح للمسلمين لأنّ المسلمين علماءَهم وعوامَّهم راضون بذلك. وقد ثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قاتلوا مسيلمة الكذاب كان شعارهم في الحرب يا محمداه [2] ذكر ذلك الحافظ المجتهد محمد بن جرير الطبري في تاريخه.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُوا الخلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ} [سورة الروم/27]، والبيهقي في سننه [9/3].
[2] تاريخ الطبري [2/281]، الكامل في التاريخ لابن الأثير [2/364]، البداية والنهاية لابن كثير [6/243].
فالوهابية على قولهم كفروا الصحابة ومن جاء بعدهم فإن هذه القصة رواها بعض المحدثين بإسناد صحيح قال ابن كثير في تاريخه بعد أن أورده: “وهذا إسناد جيد” أي صحيح وذكر ذلك غيره. وفي تاريخ الطبري ما نصه [1]: “قال أبو مخنف حدثني أبو زهير العبسي عن مرة بن قيس التميمي قال: نظرت إلى تلك النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده صِحْن ولَطمن وجوههن قال فاعترضتُهنَّ على فرس فما رأيت منظرًا من نسوة قط كان أحسنَ من منظر رأيتُه منهن ذلك اليوم والله لهن أحسنُ من مها يَبْرين. قال فما نسيتُ من الأشياء لا أنسى قول زينب ابنة فاطمة حين مرت بأخيها الحسين صريعًا وهي تقول: يا محمداه يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء هذا الحسينُ بالعراء مرمَّلٌ بالدماء مقطعُ الأعضاء، يا محمداه وبناتك سبايا وذريتك مقتَّلة تَسفي عليها الصبا. قال فأبكت والله كل عدو وصديق” اهـ.
وفي صحيفة 648 منه ما نصه: “وذكر ضمرة بن ربيعة عن أبي شَوذب أن عمال الحجاج كتبوا إليه إن الخراج قد انكسر وإن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار فكتب إلى البصرة وغيرها أن من كان له أصل في قرية فليخرج فخرج الناس فعسكروا فجعلوا يبكون وينادون: يا محمداه يا محمداه وجعلوا لا يدرون أين يذهبون فجعل قراء أهل البصرة يخرجون إليهم متقنعين فيبكون لما يسمعون منهم ويرون” اهـ.
هذا وبعض الناس ينتقدوننا حينما نحذر من الوهابية وأمثالهم من أتباع سيد قطب يقولون الآن الوقت وقت توحيد الصف لا يعجبهم بيان كفر من كفر ولا يعجبهم التحذير ممن كفر وهؤلاء لو عرفوا حقيقة الوهابية وحزب الإخوان جماعة سيد قطب ما قالوا ذلك لأن
[1] تاريخ الطبري [3/336].
كلا الفريقين يستحلون دماء من ليس منهم إن تمكنوا فكيف لا نكفرهم هم يكفروننا بغير حق ونحن نكفرهم بحق.
وبعض الجهلة يقولون كيف نكفّرهم وهم يقولون لا إله إلا الله، ولا يدرون أنّ لا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف الله والذي يعتقد أن الله جسم ما عرفه كما قال الإمام أبو الحسن الأشعري: “المجسم جاهل بربه فهو كافر بربه” اهـ قاله في كتابه “النوادر”.
وفي كتاب “نجم المهتدي” لابن المعلم القرشي [1] أن الإمام الشافعي رضي الله عنه كفَّر من يعتقد أن الله جالس على العرش. قال ابن المعلم وكذا من يعتقد أن الله جالس على العرش كما حكاه القاضي حسين عن نص الشافعي اهـ والقاضي حسين هو شيخ الأمة المشهور كان يلقب حبر الأمة كما كان يلقب عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
وقال الكمالُ بنُ الهُمام الحنفي في “فتح القدير” [2]: “من قال الله جسم لا كالأجسام كافر” انتهى.
فالوهابية مجسّمة لأنهم يعتقدون أنّ الله جسم ملأ العرش، فلا يجوز لنا أن نسكت كما سكت أكثر أهل العصر عن تكفير من يستحق التكفير لأن في ذلك تعطيل أحكام الردة. وقد وضع الفقهاء لأحكام الكفر والردة بابًا مستقلاً.
[1] في الدرر الكامنة للحافظ ابن حجر [ج4/ص197]: محمد بن محمد بن عثمان بن عمر بن عبد الخالق بن حسن القرشي المصري فخر الدين بن محيي الدين المعروف بابن المعلم، ولد في شوال سنة 660هـ وسمع من ابن علاق مجالس البطاقة ومن ابن النحاس مشيخته تخريج منصور بن سليم ومن عبد الهادي القيسي والنجيب الحراني وغيرهم وحدّث وكان فاضلاً حفظ المقامات وولي قضاء بلد الخليل وأذرعات وأعاد بالبادرائية وكان جوادًا له مصنفات ونظم ومات في جمادى الآخرة سنة 725 بدمشق.
[2] فتح القدير [1/403: باب الإمامة].
وكما يكفر من ينسب إلى الله تعالى أنه موجود في مكان واحد كذلك يكفر من يعتقد أنه سبحانه وتعالى موجود بذاته في الأماكن كلها وقد صرح بهذه العقيدة الكفرية سيد قطب فمن كفرياته اعتقاده أنّ الله مع الخلق في كل مكان حقيقة لا كناية ومجازًا أي أن الله مخالط لخلقه يتنقل معهم حيثما تنقلوا وهذا كلامه في تفسيره في تفسير سورة الحديد.
