بيان كيف يُحرِّف أهل الفتنة مذهب الجُمهور
بتعبيرات ومُصطلحات يفترونها على العُلماء
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
1
وبعدُ فإنَّ أهل الفتنة يفترون فيزعُمون أنَّ الجُمهور جوَّزوا أن (يقتحم) الأنبياء (الحرام)! والاقتحام الدُّخول في شيء بلا رويَّة ومَن دخل في شيء بلا رويَّة لم يرجع عنه فورًا! وأمَّا الجُمهور فقالوا: (الأنبياء يرجعون فورًا) وقيَّدوا ما يقع بأنَّه (صغيرة لا خسَّة فيها) وليس الحرام على إطلاقه كما يفتري الجَهَلَة.
2
وهذا التَّحريف مِن أهل الفتنة مقصود لأنَّهُم يُريدون أن يتوصَّلوا بذلك إلى تنفير العامَّة مِن قول الجُمهور بحيث يستدرجُونَهُم إلى تكفير مَن قال بقول الجُمهور وهذه فتنة عظيمة يريدون للأُمَّة أن تقع فيها ولن يتسنَّى لهُم التَّوصُّل إلى ذلك فإنَّنا لهُم بالمرصاد نرُدُّ تُرَّهاتِهم ونفضح جهالاتِهم بعون الله تعالَى.
3
يقول القاضي الباقلانيُّ عن الأنبياء في الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها: <وَكَثِيرٌ مِن أَهلِ الحَقِّ يَقُولُونَ إِنَّهُم وَإِن وَاقَعُوهَا فَإِنَّمَا يُوَاقِعُونَهَا وَيَفعَلُونَهَا مَعَ خَوفٍ شَدِيدٍ وَإِعظَامٍ لَهَا وَتَعقِيبِهَا بِالنَّدَمِ وَالاِستِغفَارِ> انتهَى مِن [شرح الأنصاريِّ على (الإرشاد للجُوينيِّ)] فهل يحكُم أهل الفتنة بكُفر كثير مِن أهل الحقِّ!
4
وانظُروا يا إخواني إلى الفرق بين قول القاضي الباقلانيِّ: <َيَفعَلُونَهَا مَعَ خَوفٍ شَدِيدٍ وَإِعظَامٍ لَهَا وَتَعقِيبِهَا بِالنَّدَمِ وَالاِستِغفَارِ> انتهَى وبين قول أهل الفتنة: (يقتحمون الحرام)! وذلك لأن أهل الفتنة لا يعرفون أنَّ الاقتحام هُو الدُّخول في شيء بقوَّة وليس هذا ما جوَّزه الجُمهور على الأنبياء عليهمُ السَّلام.
5
والعُلماء قالوا: (صغائر لا خسَّة فيها) وقالوا: هي أصغر الصَّغائر. وقالوا: لا تُزري بالأنبياء ولا تقدح بمناصبهم. ولكنَّ أهل الفتنة لا يتقيَّدون بعبارات العُلماء بل يُطلقون لفظ الحرام بدون أن يُقيِّدوا بصغائر لا خسَّة فيها لكي يتوصَّلوا إلى استدراج العامَّة إلى تكفير جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة!
6
راقبوا كلمات أهل الفتنة مِن الجَهَلَة المُتصولحة عاملَهُمُ الله بما يستحقُّون وكيف يستعملون عبارات يختلف معناها ومُقتضاها عمَّا قال الجُمهور بجوازه ووُقوعه مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام لتعلموا صدق ما أُخبرُكُم به عن مُرادهم استدراج العامَّة إلى تكفير أهل الحقِّ والعياذ بالله مِن شُرُورهم.
7
وقال كثير مِن العُلماء إنَّ الجُمهور جوَّزوا الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عمدًا؛ استعمل العُلماء لفظ (العمد) عندما ذكروا بيان جواز وُقوع تلك الصَّغائر مِن الأنبياء ثُمَّ يزيد أهل الفتنة كلمات نحو (عامدًا مُتعمِّدًا قاصدًا مُختارًا) قبل أن يُطلقوا حُكم التَّكفير بحقِّ مَن قال ذلك!
8
فإن كان مُراد الجَهَلَة المُتصولحة بتلك الزِّيادة نفس معنَى (العمد) الَّذي قال به الجُمهور: فإنَّهم يحكُمون بكُفر الجُمهور نهارًا جهارًا وإن كانوا أرادوا بتلك الزيِّادة زيادة على معنَى العمد الَّذي قال به الجُمهور فإنَّهُم ظالمون مُفترون عن سابق إصرار وتصميم فلعنة الله على الظَّالمين كُلَّما طلعت الشَّمس.
9
وإنَّك أخي القارئ ستجد في ذيل هذا المقال كلام الكثير مِن عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة ينسبون إلى الجُمهور القول بجواز ووُقوع صغائر لا خسَّة فيها (عمدًا) مِن الأنبياء فهُؤلاء كُلُّهُم كُفَّار في لازم قول أهل الفتنة فهل علمتَ كم هُو خطير تجرُّؤ أهل الفتنة على تكفير مَن قال بقول الجُمهور!؟
10
ذيل المقال:
قال الفخر الرازيُّ في [تفسيره]: <(ثَالِثُهَا) الصَّغَائِرُ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ عَلَى الأَنبِيَاءِ بِالسَّهوِ وَالعَمدِ وَهُوَ يَصُونُهُم عَنِ العُجبِ> إلخ.. وقال الأرمويُّ الهندي في [نهاية الوصول] فِي الذَّنبِ الصَّغِيرِ غَيرِ المُنفِّرِ: <أَحَدُهَا: جَوَازُ صُدُورِهِ مِنهُم عَمدًا وَسَهوًا وَعَلَيهِ الأَكثَرُونَ مِنَّا> إلخ.. وقال أبو الحسن اليفرنيُّ المالكيُّ في [المباحث العقليَّة]: <فَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ أَكثَرُ أَصحَابِنَا وَأَكثَرُ المُعتَزِلَةِ عَلَى جَوَازِهِ عَمدًا وَسَهوًا خِلَافًا لِلشِّيعَةِ> انتَهَى وقال ابن جُزَيِ الكلبيُّ الغَرناطيُّ في [التَّسهيل لعُلوم التَّنزيل]: <وَقِيلَ أَكَلَ عَمدًا وَهِيَ مَعصِيَةٌ صُغرَى وَهَذَا عِندَ مَن أَجَازَ عَلَى الأَنبِيَاءِ الصَّغَائِرَ> انتَهَى وقال السَّعد التَّفتازانيُّ في [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمدًا عِندَ الجُمهُورِ إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشتَرَطُوا أَن يُنَبَّهُوا عَلَيهِ فَيَنتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعدَ الوَحيِ> انتَهَى بِاختِصَارٍ وقال ابن عَرَفَة التُّونسيُّ في [المُختصر الكلاميِّ]: <الأَكثَرُ مِنَّا وَمِنَ المُعتَزِلَةِ عَلَى جَوَازِهِ وَلَو عَمدًا> انتَهَى وقال الشَّريف الجُرجانيُّ في [شرح المواقف]: <ومَن جَوَّزَ الصَّغَائِرَ عَمدًا فَلَهُ زِيَادَةُ فُسحَةٍ فِي الجَوَابِ إِذ يَزدَادُ لَهُ وَجهٌ آخَرُ وَهُوَ أَن يَقُولَ جَازَ أَن يَكُونَ الصَّادِرُ عَنهُم صَغِيرَةً عَمدًا لَا كَبِيرَةً> انتَهَى وَقَالَ: <وَلَا اعتِرَاضَ عَلَى مَا يَصدُرُ عَنهُم مِنَ الصَّغَائِرِ سَهوًا أَو عَمدًا عِندَ مَن يُجوِّزُ تَعَمُّدَهَا> انتَهَى وقال الكمال بن الهُمام في [التَّحرير في أُصول الفقه] بَعدَ أَن ذَكَرَ امتِنَاعَ الكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الخِسَّةِ: (وَجَازَ تَعَمُّدُ غَيرِهَا بِلَا إِصرَارٍ عِندَ الشَّافِعِيَّةِ وَالمُعتَزِلَةِ) انتَهَى وقال المَرداويُّ الحنبليُّ في [تحرير المنقول وتهذيب علم الأُصُول]: <وَتَجُوزُ صَغِيرَةٌ عَمدًا عِندَ القَاضِي وَابنِ عَقِيلٍ وَابنِ الزَّاغُونِيِّ وَالأَشعَرِيَّةِ وَقِيلَ لَا. وَعِندَ الحَنَفِيَّةِ مَعصُومٌ مِن مَعصِيَةٍ مَقصُودَةٍ> انتَهَى وقال في [التَّحبير]: <وَالنَّوعُ الثَّانِي الصَّغَائِرُ وَهُوَ أَيضًا قِسمَانِ: أَحَدُهُمَا فِعلُهَا عَمدًا وَالثَّانِي سَهوًا. فَالأَوَّلُ: وَهُوَ فِعلُهَا عَمدًا هَل يَجُوزُ وُقُوعُهَا مِنهُ أَم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ: أَحَدُهُمَا الجَوَازُ وَهُوَ قَولُ القَاضِي وَابنِ عَقِيلٍ وَالأَشعَرِيَّةِ وَالمُعتَزِلَةِ وَغَيرِهِم وَالقَولُ الثَّانِي عَدَمُ الجَوَازِ وَهُوَ قَولٌ فِي مَذهَبِنَا> انتَهَى وقال ابن زكري التِّلمسانيُّ في [بُغية الطَّالب] لَهُ: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ الَّتِي لَا خِسَّةَ فِيهَا فَجَائِزَةٌ مِن غَيرِ إِصرَارٍ عَمدًا وَسَهوًا؛ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ مُطلَقًا؛ وَالجُبَّائِيِّ وَالنَّظَّامِ فِي العَمدِ؛ كَذَا نَقَلَ غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَئِمَّةِ>إلخ.. وقال مُصلح الدِّين الكستليُّ في [حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرحِ التَّفتَازَانِيِّ عَلَى مَتنِ العَقَائِدِ لِلنَّسَفِيِّ]: <وَإلَّا فَيُحمَلُ عَلَى أَنَّهُ تَركُ الأَولَى أَو عَلَى الصَّغِيرَةِ سَهوًا أَو عَمدًا أَو عَلَى أَنَّهُ قَبلَ البِعثَةِ> انتَهَى وقال مُلَّا عليٍّ القاري الحنفيُّ في [مرقاة المفاتيح]: <وَالجُمهُورُ جَوَّزُوا وُقُوعَ الكَبَائِرِ سَهوًا وَالصَّغَائِرِ عَمدًا> انتَهَى وقال في [شرح الشِّفا]: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَتَجُوزُ عَمدًا عِندَ الجُمهُورِ> انتَهَى وقال إسمعيل حقِّي البُرُوسَوِيُّ الحَنَفِيُّ في الجِلدِ التَّاسِعِ مِن تَفسِيرِ [رُوحِ البَيَانِ]: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَتَجُوزُ عَمدًا عِندَ الجُمهُورِ> انتَهَى وقال داود القرصيُّ الحنفيُّ في [شرح القصيدة النُّونيَّة]: <وَأَمَّا صُدُورُ صَغَائِرَ غَيرِ مُنَفِّرَةٍ بَعدَهَا فَجَوَّزَهُ الجُمهُورُ عَمدًا وَسَهوًا> انتَهَى وقال مفتي مصر مُحمَّد بخيث المُطيعيُّ في [حاشيته على شرح الدَّردير على الخريدة البهيَّة]: <وَقَالَ فِي شَرحِ العَقَائِدِ النَّسَفِيَّةِ: وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَتَجُوزُ عَمدًا عِندَ الجُمهُورِ> انتَهَى.
نهاية المقال.
