الأدلَّة في دحر فتنة الجَهَلَة المُتصولحة في عصمة الأنبياء

*الرِّسالة الأشعريَّة*

*في أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها حقيقيَّة*

*عشرات الأدلَّة في دحر فتنة الجَهَلَة المُتصولحة في عصمة الأنبياء*

*في هذا المقال:*

أ) جدول بأسماء العُلماء الَّذين نقلنا عنهُم في هذا المقال.

ب) مُقدِّمة في إضافة الذَّنب إلى الأنبياء عليهمُ السَّلام.

ج) تعريف المعصية الحقيقيَّة وما يجوز منها على الأنبياء عند الجُمهور.

د) عشرات الأدلَّة في أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها حقيقيَّة.

هـ) خاتمة.

و) الهامش: وفيه سائر النُّصُوص المنقولة عن عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة.

*أ) جدول بأسماء العُلماء الَّذين نقلنا عنهُم في هذا المقال:*

1. أكثر مُفسِّري الصَّحابة والتَّابعين.

2. الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه المُتوفَّى 179هـ.

3. الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالَى عنه المُتوفَّى 241هـ.

4. الإمام الطَّبريُّ رضي الله عنه وهُو مِن المُجتهدين المُتوفَّى 310هـ.

5. الإمام الماتُريديُّ المُتوفَّى 333هـ.

6. ابن بطَّال الأندلُسيُّ المُتوفَّى 449هـ.

7. الإمام أبو إسحاق الشِّيرازيُّ المُتوفَّى 476هـ.

8. الإمام المُتولِّي شيخ الشَّافعيَّة المُتوفَّى 478هـ.

9. إمام الحرمين عبدالملك الجُوينيُّ المُتوفَّى 478هـ.

10. الإمام الغزاليُّ المُتوفَّى 505هـ.

11. الفقيه ابن رُشد الجَدُّ المُتوفَّى 520هـ.

12. الإمام المازريُّ المُتوفَّى 536هـ.

13. القاضي عياض المالكيُّ المُتوفَّى 544هـ.

14. جمال الدِّين الغزنويُّ المُتوفَّى 593هـ.

15. الإمام القُرطبيُّ صاحب التَّفسير المُتوفَّى 671هـ.

16. الإمام النَّوويِّ المُتوفَّى 676هـ.

17. أبو الحَسَن اليفرنيُّ المُتوفَّى 734هـ.

18. ابن الأمير المُتوفَّى 736هـ.

19. تقيُّ الدِّين السُّبكيُّ الكبير المُتوفَّى 756هـ.

20. التَّاج السُّبكيُّ المُتوفَّى 771هـ.

21. السَّعد التَّفتازانيُّ المُتوفَّى 792هـ.

22. ابن المُلقِّن عُمر بن عليٍّ الأنصاريُّ المُتوفَّى 804هـ.

23. الشَّريف الجُرجانيُّ المُتوفَّى 816هـ.

*ب) مُقدِّمة في إضافة الذَّنب إلى الأنبياء عليهمُ السَّلام*

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فاعلم أنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام معصومون مِن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة قبل النُّبُوَّة وبعدها، واختلف أهل السُّنَّة فيما سوَى ذلك أي في الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها على ما سَنُبَيِّنُ فيما يلي.

2

فقد جاء في القُرآن والحديث إضافة الذَّنب إلى الأنبياء -عليهمُ السَّلام- كما قال الله تعالَى: {لِيَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح/2] وكما في قوله تعالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه/121].

3

قال الفقيه ابن بطَّال في [شرح البُخاريِّ]: (وقالَ أهلُ السُّنَّةِ: جائزٌ وُقوعُ الصَّغائرِ مِنَ الأنبياءِ. واحتجُّوا بقولِهِ تعالَى مُخاطبًا لرسولِهِ: {لِيَغفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فأضافَ إليهِ الذَّنبَ) انتهَى.

4

وهذه الإضافة لا يخلو أن تكُون إمَّا إضافة حقيقيَّة وإمَّا إضافة مجازيَّة، فقال الجُمهور إنَّها إضافة حقيقيَّة بينما قال الأقلُّ مِن العُلماء إنَّها مجازيَّة أي أُطلِقَت على نحو ترك الأولَى مِن باب التَّشبيه بالذَّنب.

5

فمَن قال إنَّها إضافة حقيقيَّة حمل لفظ الذَّنب على الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه ومَن قال إنَّها مجازيَّة حمل لفظ الذَّنب على ما ليس بذنب تشبيهًا لنحو ترك الأولَى بالذَّنب بالنِّسبة إلى كمال طاعة الأنبياء.

6

وقد ادَّعَى أهل الفتنة إجماعًا مكذوبًا بأنَّ إضافة الذَّنب إلى الأنبياء لا تكون إلَّا مجازيَّة فأنكروا بذلك ما اعترفوا به مِن اختلاف عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في قضيَّة المعصية الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها.

7

وذلك أنَّ ما جاء في القُرآن مِن إضافة الذَّنب إلى الأنبياء لو كانت لا تقع إلَّا على سبيل المجاز لاقتضَى أن لا يختلف عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بعد ذلك في قضيَّة المعصية الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها.

8

وكُتُب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة ترُدُّ دعوَى أهل الفتنة وتشهد بكذبهم وبأنَّهُم حرَّفوا مذاهب العُلماء في عصمة الأنبياء لأنَّها مشحونة بما يدُلُّ على اختلاف أهل السُّنَّة في الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها.

*ج) تعريف المعصية الحقيقيَّة وما يجوز منها على الأنبياء عند الجُمهور*

9

والمعصية الحقيقيَّة هي الَّتي تُسمَّى في حقيقة الشَّرع معصية أو ذنبًا؛ لا مِن باب التَّشبيه بالمعصية أو بالذَّنب. والمعصية الحقيقيَّة لا تُطلَق على ترك الأولَى ولا على ما يقع على وجه السَّهو بغير تعمُّد.

10

قال شيخ الأزهر الشَّيخ حسن العطَّار في حاشيته على [شرح الجلال المحليِّ على جمع الجوامع] في تعريف المعصية حقيقة: <وهي فعل المَنهيِّ عنه مع قيام النَّهي عنه وعدم انقطاعه> انتهَى.

11

والمعاصي الحقيقيَّة بعضُها مِن الكبائر لا يجوز إضافتها إلى نبيٍّ مُطلَقًا. وبعضُها مِن الصَّغائر ولا يجوز أن يُضاف إلى الأنبياء مِن كُلِّ ذلك -في مذهب الجُمهور- إلَّا المعصية الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها.

12

وقد رسمنا هذا المقال ردًّا على تُرَّهات الجاهلين وضمَّنَّاه عشرين دليلًا مِن أقوال عُلماء أهل السُّنَّة وتحدَّينا أهل الفتنة أن يُجيبوا ولو على واحد منها فعُقولهم في شكٍّ وقُلوبُهُم تحتار والله يخلُق ما يشاء ويختار.

*د) عشرات الأدلَّة في أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها حقيقيَّة.*

1- *الأفعال الفاضلة بريئة مِن الخسَّة.*

إنَّ ترك الأفضل (عُدول مِن الأفضل إلى فاضل) فيُعلَم أنَّ الصَّغائر الَّتي قسَّمها الجُمهور إلى خسيسة وغير خسيسة: حقيقيَّة، لأنَّ الأفعال الفاضلة بريئة مِن الخسَّة ولأنَّ المعاصي الحقيقيَّة هي الَّتي تنقسم إلى ما فيه خسَّة وإلى ما لا خسَّة فيه.

راجع الهامش مِن [1] [2] [3] [4] [5] نهاية المقال.

2- *مُقابلة الكبائر بالصَّغائر.*

اعلم أنَّ الذُّنوب الحقيقيَّة منها كبائر ومنها صغائر ثُمَّ إنَّ الجُمهور عندما جوَّزوا الصَّغائر في حقِّ الأنبياء جعلوها في مُقابل الكبائر المُمتنعة عليهم فدلَّ ذلك على أنَّهُم أرادوا الصَّغيرة الحقيقيَّة لأنَّ الصَّغيرة المجازيَّة كترك الأولَى لا تُقابل الكبائر.

راجع الهامش [6] نهاية المقال.

3- *وُقوعُ كلام العُلماء في مقام البيان.*

اعلم أنَّ أكثر عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة قالوا: (جَائِزٌ وُقُوعُ الصَّغَائِرِ مِنَ الأَنبِيَاءِ) وإنَّما قالوا ذلك في مقام البيان أي بقصد التَّوضيح ومَن أراد التَّوضيح يستعمل كلامًا واضحًا ولا يستعمل كلامًا يحتاج إلى أن نتأوَّله فنخرجه عن سياقه لنفهمه.

راجع الهامش [7] [8] [9] [10] نهاية المقال.

4- *عدم سُكوت العُلماء عن الصَّغائر الحقيقيَّة*.

اعلم أنَّ الجُمهور نصُّوا على امتناع الكبيرة وجواز الصَّغيرة على الأنبياء، والكبيرةُ لا تشمل الصَّغائر الحقيقيَّة فلو أراد الجُمهور بالصَّغيرةِ المجازيَّةَ وحسب فأين ذهبوا بالكلام عن الصَّغائر الحقيقيَّة وهل تُراهُم سكتُوا عن بيان حُكم الشَّرع فيها!

راجع الهامش [11] نهاية المقال.

5- *اتِّفاق العُلماء على جواز وُقوع الصَّغيرة سهوًا.*

اتَّفق عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة على جواز وُقوع المعصية الصَّغيرة سهوًا وهذا يعني اتِّفاقهُم على وُقوع صُورة المعصية أي وُقوع المعصية مجازًا. فأين اختلافُهُم؟ الجواب أنَّه لا يبقَى إلَّا أنَّهُم اختلفوا في الحقيقيَّة الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها.

راجع الهامش [12] نهاية المقال.

6- *أكثر مُفسِّري الصَّحابة والتَّابعين.*

اعلم أنَّ أكثر مُفسِّري الصَّحابة والتَّابعين قرنوا بين لفظ الوزر ولفظ الإثم في تفسير قوله تعالَى: {وَوَضَعنَا عَنكَ وِزرَكَ} وقرنوا كذلك بين لفظ الذَّنب وبين لفظ الوزر فدلَّ أنَّهُم حملوا الذَّنب على ظاهره أي على حقيقته الشَّرعيَّة لا على المجاز.

راجع الهامش [13] نهاية المقال.

7- *كلام الإمام مالك رضي الله عنه.*

وقد نقل المالكيَّة أنَّ الإمام مالكًا قال بوُقُوع الصَّغائر مِن الأنبياء مُستدِلًّا بقوله تعالَى: {لِيَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وهذا معناه أنَّ مالكًا رضي الله عنه أخذ بظاهر لفظ الذَّنب أي حمله على حقيقة الشَّرع ولم يحمله على المجاز.

راجع الهامش [14] نهاية المقال.

8- *كلام الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالَى عنه.*

نصَّ الإمام أحمد بن حنبل أنَّ المُعتزلة الَّذين يُكفِّرون بالذَّنب مُؤدَّى قولهم تكفير نبيِّ الله آدمَ عليه السَّلام وهذ يدُلُّ أنَّه يعتقد أنَّ الصَّغيرة الَّتي فعلها آدم وتاب عليه السَّلام منها هي صغيرة حقيقيَّة لأنَّ المُعتزلة كفَّروا بالذَّنب الحقيقيِّ لا بالمجازيِّ.

راجع الهامش [15] نهاية المقال.

9- *كلام الإمام الطَّبريِّ رضي الله عنه وهُو مِن المُجتهدين.*

حمل الإمام الطَّبريُّ الذَّنب الَّذي أُضِيف إلى الأنبياء على الحقيقة بدليل أنَّه رأَى مِن المُحال أن يُقال: (اللَّهُمَّ اغفر لي ذنبًا لم أعمله) لأنَّه لو حمله على المجاز لاقتضَى أن يقبل تأويل ذلك فلمَّا لم يقبل دلَّ أنَّه أراد الذَّنب الحقيقيَّ لا المجازيَّ.

راجع الهامش [16] نهاية المقال.

10- *كلام الإمام الماتُريديِّ (أ).*

نصَّ الإمام الماتُريديُّ في [كتاب التَّوحيد] أنَّ مما يُرَدُّ به على الخوارج الذين كفَّروا بالذَّنب أنَّ الله تعالَى ابتلَى الأنبياء عليهمُ السَّلام بها. فهذا نصٌّ منه أنَّ الأنبياء ابتُلُوا بالصَّغائر الحقيقيَّة لأنَّ الخوارج لم يُكفِّروا بالصَّغائر المجازيَّة.

راجع الهامش [17] نهاية المقال.

11- *كلام الإمام الماتُريديِّ (ب).*

ويرَى الإمام الماتُريديُّ في أحد قولَيه جواز وُقُوع الأنبياء في الصَّغائر فقد أشار أنَّ الأنبياء (لَو أُهلِكُوا لَأُهلِكُوا بِالصَّغَائِرِ) هذا كلامُه بحُروفه. والله تعالَى لا يُعذِّب على ترك الأولَى فدلَّ أنَّه ما أراد بالصَّغائر في هذا الموضع إلَّا الحقيقيَّة.

راجع الهامش [18] نهاية المقال.

12- *كلام الإمام الماتُريديِّ (ج)*.

ونصَّ الإمام الماتُريديُّ في [تأويلات أهل السُّنَّة] أنَّ الله تعالَى له على الأنبياء امتنان بأن لم يُعذِّبهُم على الصَّغائر بل غفرها لهُم وقد علم أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ الله تعالَى لا يُعذِّب أحدًا على ترك الأولَى فدلَّ أنَّه أراد بالصَّغائر الحقيقيَّة.

راجع الهامش [18] نهاية المقال.

13- *كلام الإمام ابن بطَّال الأندلُسيِّ شارح البُخاريِّ.*

نصَّ ابن بطَّال أنَّ أهل السُّنَّة جوَّزوا الصَّغائر على الأنبياء، وأنَّ المُعتزلة قالوا: (إنَّ ما يغفرُه الله لأنبيائه هُو ما كان مِن قَبيل السَّهو) ثُمَّ وصف قولَهُم هذا بأنَّه (بعيد عن الصَّواب) فدلَّ أنَّ جُمهور أهل السُّنَّة إنَّما جوَّزوا الصَّغيرة الحقيقيَّة.

راجع الهامش [19] [20] [21] [22] [23] نهاية المقال.

14- *كلام الإمام المُتولِّي شيخ الشَّافعيَّة.*

اعلم أنَّ المُتولِّي نصَّ على جواز الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها على الأنبياء وأفاد بأنَّ هذا ما يدُلُّ عليه ظاهر القرآن فتأكَّد زيادة أنَّه يقصد الصَّغيرة الحقيقيَّة لا المجازيَّة لأنَّ ظاهر النُّصوص الشَّرعيَّة إنَّما يُفيد الحقيقة الشَّرعيَّة بلا خلاف.

راجع الهامش [24] نهاية المقال.

15- *كلام إمام الحرمين عبدالملك الجُوينيِّ (أ).*

نصَّ الإمام الجُوينيُّ على اختلاف العُلماء في عصمة الأنبياء مِن الصَّغائر ثُمَّ أشار إلى أنَّ قول الجُمهور تشهد له آيات القُرآن فدلَّ ذلك أنَّه قصد الصَّغيرة الحقيقيَّة لأنَّ الاستشهاد على المعنَى يكون في ظاهر النَّصِّ لا باطنه.

راجع الهامش [25] نهاية المقال.

16- *كلام إمام الحرمين عبدالملك الجُوينيِّ (ب).*

سمَّى الإمام الجُوينيُّ الذَّنب الصَّغير الَّذي جوَّزه الجُمهور على الأنبياء بالمُحرَّم وحرَّم الاتِّباع فيه. وهذا دليل أنَّه لم يفهم مِن ذلك إلَّا الذَّنب الصَّغير الحقيقيَّ لأنَّه لا يجوز عند أحد مِن أهل السُّنَّة تحريم الاتِّباع في الأفعال الفاضلة.

راجع الهامش [26] نهاية المقال.

17- *كلام الإمام الغزاليِّ.*

اعلم أنَّ الإمام الغزاليَّ قال بتقسيم المعاصي إلى كبائر وصغائر. وأفاد أنَّ الصَّغائر مُختلف في جوازها على الأنبياء فدلَّ أنَّه قصد الصَّغائر الحقيقيَّة لأنَّ المعاصي لا تنقسم إلى كبائر وترك الأولَى وإلَّا فأين تكون الصَّغائر الحقيقيَّة!

راجع الهامش [27] نهاية المقال.

18- *كلام الفقيه ابن رُشد الجَدِّ.*

بيَّن ابن رُشد أنَّه خالف العُلماء الَّذين جوَّزوا على الأنبياء صغائر لا خسَّة فيها وأوضح أنَّه يعتقد أنَّ الأنبياء إنَّما يُعاتبون على ما ليس بكبائر ولا صغائر لعُلُوِّ مكانتهم فدلَّ أنَّ الجُمهور قالوا بجواز الصَّغيرة الحقيقيَّة وإلَّا فكيف يكون خالفهم!

راجع الهامش [28] [29] نهاية المقال.

19- *كلام الإمام المازريِّ.*

صرَّح الإمام المازِريُّ أنَّ العُلماء الَّذين جوَّزوا الصَّغائر على الأنبياء مرجعُهُم الآيات وأمَّا الآخَرون فتأوَّلوها فدلَّ ذلك أنَّ الجُمهور تركوا تأويل تلك الآيات المذكورة وهذا معناه أنَّهُم حملوا الذَّنب على الحقيقة الشَّرعيَّة لا على المجاز.

راجع الهامش [30] نهاية المقال.

20- *كلام القاضي عياض.*

نصَّ القاضي عياض على أنَّ الجُمهور قالوا بجواز الصَّغيرة على الأنبياء ثُمَّ بيَّن أنَّها لا تكثُر منهُم لأنَّ ذلك يُلحقُها بالكبائر. وترك الأَولَى لا يلتحق بالكبائر مهما كثُر وتكرَّر وإنَّما الصَّغيرة الحقيقيَّة قد تلتحق بالكبائر إن تكرَّرت وكثُرت.

راجع الهامش [31] [32] [33] نهاية المقال.

21- *كلام جمال الدِّين الغزنويِّ.*

قال الفقيه الحنفيُّ جمال الدِّين الغزنويُّ في [أُصول الدِّين] إنَّ بعض أهل السُّنَّة قالوا إنَّ ذُنوب الأنبياء ترك الأولَى وقال إنَّ مِن أهل السُّنَّة مَن خالف هؤُلاء فجوَّز الصَّغائر فدلَّ أنَّ المذكورين -أخيرًا- إنَّما جوَّزوا الصَّغائر الحقيقيَّة. راجع الهامش [34] نهاية المقال.

22- *كلام الإمام النَّوويِّ.*

نصَّ الإمام النَّوويُّ على قول الجُمهور ثُمَّ بيَّن أنَّ دليل الجُمهور في ذلك ظواهر النُّصوص الشَّرعيَّة أي أنَّهُم أخذوا بظواهر تلك الآيات والأحاديث الثَّابتة ولم يتأوَّلُوها فثبت أنَّهُم حملوا لفظ الذَّنب على حقيقته الشَّرعيَّة لا على المجاز.

راجع الهامش [35] نهاية المقال.

23- *كلام التَّاج السُّبكيِّ (أ).*

نصَّ تاج الدِّين السُّبكيُّ أنَّه يُخالف الجُمهور في عصمة الأنبياء عن الصَّغائر وصرَّح بمُوافقة والده بأنَّهُم معصومون منها كُلِّها وتقيُّ الدِّين يقول بجواز المجازيَّة عليهم فتبيَّن أنَّ الصَّغيرة الَّتي جوَّزها الجُمهور على الأنبياء حقيقيَّة.

راجع الهامش [36] [37] نهاية المقال.

24- *كلام التَّاج السُّبكيِّ (ب).*

نصَّ التَّاج السُّبكيُّ أنَّ الجُمهور جوَّزوا الصَّغائر على الأنبياء لإثباتهمُ الشَّفاعة وأنَّ المُعتزلة منعوا ذلك لإنكارهمُ الشَّفاعة وأنَّه أي التَّاج يقول بامتناع الصَّغيرة مع إثباته للشَّفاعة ولا يُنكر المجازيَّة فدلَّ أنَّ الجُمهور جوَّزوا الحقيقيَّة.

راجع الهامش [38] نهاية المقال.

*هـ) خاتمة:*

هذا والمُنصف يكفيه دليل واحد ولكن لمَّا كان خصمُنا كأنَّه مجبول على ترك الإنصاف والخلط بين المسائل رأينا أن نجمع له في هذا المقال الكثير مِن الاستدلالات الَّتي هرب من الجواب عنها ولو تجرَّأ على التَّفكير بالرَّدِّ لصار مثل ناموس نفخ على جبل فخرَّ ميتًا مِن شدَّة النَّفخ والجبل شامخ فكان حالُه كما قال الشَّاعر:

أقول لمحرز لمَّا التقينَا * تنكَّب لا يُقطِّرك الزِّحامُ

*و) الهامش:*

1- قال السَّعد التَّفتازانيُّ في [التَّلويح على التَّوضيح لمتن التنقيح]: <قولُه: (وهُو فعلُه مِن الصَّغائر) ردٌّ لِمَا ذكره بعض المشايخ (مِن أنَّ زلَّة الأنبياء هي الزَّلل مِن الأفضل إلى الفاضل ومِن الأصوب إلى الصَّواب لا عن الحقِّ إلى الباطل وعن الطَّاعة إلى المعصية لكن يُعاتبون لجلالة قدرهم ولأنَّ ترك الأفضل عنهُم بمنزلة ترك الواجب عن الغير)> انتهَى.

2- قال المُفسِّر أبو عبد الله القُرطبيُّ في [الجامع لأحكام القُرآن]: <وقيل: (لذنب نفسك) على مَن يجوِّز الصَّغائر على الأنبياء> إلخ..

3- وقال القُرطبيُّ في [التَّذكرة]: <واختلف العُلماء أيضًا هل وقع مِن الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين بعد النُّبوَّة صغائر مِن الذُّنوب يُؤاخذون بها ويُعاقبون عليها ويُشفقون على أنفسهم منها أم لا> انتهَى.

4- ثُمَّ قال: <فقال الطَّبريُّ وغيرُه مِن الفُقهاء والمُتكلِّمِين والمُحدِّثِين: (تقع الصَّغائر منهم خلافًا للرَّافضة)> انتهَى.

5- وقال أبو الحسن اليفرنيُّ المالكيُّ فِي [المباحث العقليَّة]: <وأمَّا ما ليس بكبيرة فإمَّا أن يكون مِن قبيل ما يُوجب الحُكمَ على فاعله بالخسَّة ودناءة الهِمَّة وسقوط المُروءة فالحُكم فيه كالحُكم فِي الكبيرة. وأمَّا ما ليس مِن هذا القَبيل فهذا ممَّا اتَّفق أكثر أصحابنا وأكثر المُعتزلة على جوازه عمدًا وسهوًا خلافًا للشِّيعة وذهب الجبَّائيُّ إلى أنَّ ذلك لا يجوز إلَّا بطريق السَّهو أو الخطإ فِي التَّأويل>  انتهَى مُختصَرًا.

6- في كتاب [الكامل فِي أُصول الدِّين] لابن الأمير فِي اختصار كتاب [الشَّامل فِي أُصول الدِّين لإمام الحرمَين الجُوَينيِّ]: <وكُلُّ ذلك يدُلُّ على صُدور بعض الذُّنوب منهم وليس فِي العقل ما يُحيله. نعم لا يجوز إصرارُهُم على الصَّغائر وتُواطؤُهم عليها وِفاقًا لأنَّه يُلحق بالكبائر> انتهَى.

7- قال الغزاليُّ في [المُستصفى]: <مَسأَلَةٌ إذَا دَارَ اللَّفظُ بَينَ الحَقِيقَةِ وَالمَجَازِ فَاللَّفظُ لِلحَقِيقَةِ إلَى أَن يَدُلَّ الدَّلِيلُ أَنَّهُ أَرَادَ المَجَازَ> انتهَى.

8- وقال الآمديُّ في [أبكار الأفكار]: <والأصل فى الإطلاق الحقيقة> انتهَى.

9- وقال [فيه]: <ولا يخفَى أنَّ ترك الظَّاهر مِن غير دليلٍ ممتنِعٌ> انتهَى.

10- وقال الإمام أبو إسحق الشيرازي في [المعونة في الجدل][ص/55]: <وظاهر بوضع الشَّرع كالأسماء المنقولة مِن اللُّغة إلى الشَّرع، كالصَّلاة في اللُّغة اسم للدُّعاء؛ وفي الشَّرع اسم لهذه الأفعال المعروفة، والحجِّ في اللُّغة اسم للقصد؛ وفي الشَّرع اسم لهذه الأفعال المعروفة، وغير ذلك مِن الأسماء المنقولة مِن اللُّغة إلى الشَّرع. وحكمُه أن يُحمل على ما نُقل إليه في الشَّرع ولا يُحمل على غيره إلَّا بدليل> انتهَى.

وقال ابن المُلقِّن أبو حفص عُمر بن عليٍّ الأنصاريُّ الشَّافعيُّ فِي [التَّوضيح لشرح الجامع الصَّحيح]: <فَذَهَبَ الجُمهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عَلَيهِمُ الكَبَائِرُ لِوُجُوبِ عِصمَتِهِم. وَتَجُوزُ عَلَيهِمُ الصَّغَائِرُ. وَذَهَبَتِ المُعتَزِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عَلَيهِمُ الصَّغَائِرُ كَمَا لَا تَجُوزُ عَلَيهِمُ الكَبَائِرُ وَتَأَوَّلُوا قَولَهُ تَعَالَى: {لِيَغفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فَقَالُوا: (إِنَّمَا غَفَرَ لَهُ تَعَالَى مَا يَقَعُ مِنهُ عَلَيهِ السَّلَامُ مِن سَهوٍ وَغَفلَةٍ؛ وَاجتِهَادٍ فِي فِعلِ خَيرٍ لَا يُوَافِقُ بِهِ حَقِيقَةَ مَا عِندَ رَبِّهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي غَفَرَ لَهُ وَسُمِّيَ ذَنبًا لِأَنَّ صِفَتَهُ صِفَةُ الذَّنبِ المَنهِيِّ عَنهُ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ تَعمُّدٌ وَهَذَا بِغَيرِ قَصدٍ) وَهَذَا تَأوِيلٌ بَعِيدٌ مِنَ الصَّوَابِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَو كَانَ السَّهوُ وَالغَفلَةُ ذُنُوبًا لِلأَنبِيَاءِ يَجِبُ عَلَيهِمُ الِاستِغفَارُ مِنهَا: لَكَانُوا أَسوَأَ حَالًا مِن سَائِرِ النَّاسِ غَيرِهِم لِأَنَّهُ قَد وَرَدَتِ السُّنَّةُ المُجمَعُ عَلَيهَا أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ العِبَادُ بِالخَطَإِ وَالنِّسيَانِ فَلَا يَحتَاجُونَ إِلَى الِاستِغفَارِ مِن ذَلِكَ. وَمَا لَم يُوجِبِ الِاستِغفَارَ فَلَا يُسَمَّى عِندَ العَرَبِ ذَنبًا. فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هُوَ المُخبِرُ لَنَا بِذَلِكَ عَن رَبِّهِ تَعَالَى أَولَى بِأَن يَدخُلَ مَعَ أُمَّتِهِ فِي مَعنَى ذَلِكَ. وَلَا يَلزَمُهُ حُكمُ السَّهوِ وَالخَطَإِ. وَإِنَّمَا يَقَعُ استِغفَارُهُ عَلَيهِ السَّلَامُ كَفَّارَةً لِلصَّغَائِرِ الجَائِزَةِ عَلَيهِ. وَهِيَ الَّتِي سَأَلَ اللَّه غُفرَانَهَا لَهُ بِقَولِهِ: (اغفِر لِي مَا قَدَّمتُ وَمَا أَخَّرتُ)> انتهَى.

11- قال السَّيِّد الشَّريف عليُّ بن مُحمَّد الجُرجانيُّ فِي [شرح المواقف]: <(ومَن جوَّز الصَّغائر عمدًا فله زيادة فُسحة) في الجواب إذ يزداد له وجه آخَرُ وهُو أن يقول جاز أن يكون الصَّادر عنهم صغيرة عمدًا لا كبيرة> انتهَى.

12- قال التَّفتازانيُّ فِي [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمدًا عِندَ الجُمهُورِ خِلَافًا لِلجُبَّائِيِّ وَأَتبَاعِهِ (((وَيَجُوزُ سَهوًا بِالِاتِّفَاقِ))) إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقمَةٍ وَالتَّطفِيفِ بِحَبَّةٍ لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشتَرَطُوا أَن يُنَبَّهُوا عَلَيهِ فَيَنتَهُوا عَنهُ هَذَا كُلُّهُ بَعدَ الوَحيِ> انتهَى.

13- قال الإمام الماتُريديُّ في [تأويلات أهل السُّنَّة]: <وقولُه تعالَى: {وَوَضَعنَا عَنكَ وِزرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهرَكَ} يحتمل وجهَين أحدُهُمَا ما قال عامَّة أهل التَّأويل على تحقيق الوزر له والإثم كقوله: {لِيَغفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقوله: {وَاستَغفِر لِذَنبِكَ وَلِلمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ} يقولون: أثبت له الذَّنب والوزر فوَضع ذلك عنه> انتهَى.

14- قال الفقيه الأُصوليُّ أبو الحَسَن عليُّ بن إسمعيل الأبياريُّ المالكيُّ في [التَّحقيق والبيان فِي شرح البُرهان فِي أصول الفقه]: <وقوله: (إنَّ الصَّغائر مُختلف فِي وقوعها مِن الأنبياء) فهو كذلك ومذهب مالك رحمه الله أنَّها واقعة مِن حيث الجُملة واستدلَّ على ذلك بقول الله عزَّ وجلَّ: {لِيَغفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}> انتهَى.

15- قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: <وَأَمَّا المُعتَزِلَةُ فَقَد أَجمَعَ مَن أَدرَكنَا مِن أَهلِ العِلمِ أَنَّهُم يُكَفِّرُونَ بِالذَّنبِ فَمَن كَانَ مِنهُم كَذَلِكَ فَقَد زَعَمَ أَنَّ آدَمَ كَافِرٌ> رواه ابن الجوزيِّ فِي [مناقب أحمد] ومثله فِي [طبقات الحنابلة].

16- قال الإمام محمد بن جرير الطبري المجتهد والمفسر: <وَلَو كَانَ القَولُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مِن خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنَّهُ قَد غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ عَلَى غَيرِ الوَجهِ الَّذِي ذَكَرنَا. لَم يَكُن لِأَمرِهِ إِيَّاهُ بِالِاستِغفَارِ بَعدَ هَذِهِ الآيَةِ وَلَا لِاستِغفَارِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ مِن ذُنُوبِهِ بَعدَهَا مَعنًى يُعقَلُ. إِذِ الِاستِغفَارُ مَعنَاهُ: طَلَبُ العَبدِ مِن رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ غُفرَانَ ذُنُوبِهِ. فَإِذَا لَم يَكُن ذُنُوبٌ تُغفَرُ لَم يَكُن لِمَسأَلَتِهِ إِيَّاهُ غُفرَانَهَا مَعنًى. لِأَنَّهُ مِنَ المُحَالِ أَن يُقَالَ: اللَّهُمَّ اغفِر لِي ذَنبًا لَم أَعمَلهُ> انتهَى.

17- قال الإمام الماتُريديُّ فِي [كتاب التَّوحيد]: <ثُمَّ الَّذِي يَنقُضُ قَولَ الخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالصَّغَائِرِ مَا بُلِيَ بِهَا الأَنبِيَاءُ وَالأَولِيَاءُ> انتهَى.

18- قال الإمام الماتُريديُّ في [تأويلات أهل السُّنَّة]: <وَفِي قَولِهِ: {قُل أَرَأَيتُم إِن أَهلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَعِيَ أَو رَحِمَنَا} دِلَالَةٌ أَنَّ للهِ تَعَالَى أَن يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَن سَبَقَهُ مِنَ الأَنبِيَاءِ عَلَيهِمُ السَّلَامُ قَد عُصِمُوا عَنِ ارتِكَابِ الكَبَائِرِ فَلَا يَجُوزُ أَن يَرتَكِبُوا الكَبَائِرَ فَيَهلِكُوا لِأَجلِهَا. فَثَبَتَ أَنَّهُم لَو أُهلِكُوا لَأُهلِكُوا بِالصَّغَائِرِ. فَلَو لَم يَكُن للهِ تَعَالَى أَن يُعَذِّبَ أَهلَ الصَّغَائِرِ لَصَارَ هُوَ بِإِهلَاكِهِ إِيَّاهُ بِمَن مَعَهُ جَائِرًا ظَالِمًا وَجَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الوَصفِ بِالجَورِ. وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَغفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وَلَو لَم يَكُن للهِ تَعَالَى أَن يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَحَدًا لَم يَكُن لَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَوضِعُ الِامتِنَانِ بِمَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ> انتهَى.

19- قال ابن بَطَّال الأندلُسيُّ -مِن كبار الفُقهاء المالكيَّة فِي زمانه- في [شرحه على البُخارِيِّ]: <وأمَّا ذِكرُ الأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ فِي حديثِ الشَّفاعةِ لخطاياهُم فإنَّ النَّاسَ اختلفوا هل يجوزُ وقوعُ الذُّنوبِ منهُم. فأجمعتِ الأُمَّةُ على أنَّهم معصومونَ فِي الرِّسالةِ وأنَّهُ لا تقعُ منهم الكبائرُ واختلفوا في جوازِ الصَّغائر عليهم> انتهَى.

20- وقال في [شرح صحيح البُخاريِّ]: <وقالَ أهلُ السُّنَّةِ: جائزٌ وقوعُ الصَّغائرِ مِنَ الأنبياءِ. واحتجُّوا بقولِهِ تعالَى مُخاطبًا لرسولِهِ: {لِيَغفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فأضافَ إليهِ الذَّنبَ> انتهَى.

21- وقال: <وفي كتابِ اللهِ تعالَى مِن ذِكرِ خطايَا الأنبياءِ ما لا خفاءَ بِهِ وقد تقدَّم الاحتجاجُ فِي هذه المسألة فِي كتابِ الدُّعاءِ فِي بابِ قولِ النَّبيِّ: (اللَّهُمَّ اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرت) ما لم أذكُرهُ ها هُنا> انتهَى.

22- وقال: <قَالَ غَيرُ الطَّبَرِيِّ: وَقَدِ اختَلَفَ العُلَمَاءُ فِي الذُّنُوبِ هَل تَجُوزُ عَلَى الأَنبِيَاءِ. فَذَهَبَ أَكثَرُ العُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عَلَيهِمِ الكَبَائِرُ لِعِصمَتِهِم. وَتَجُوزُ عَلَيهِمُ الصَّغَائِرُ. وَذَهَبَتِ المُعتَزِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عَلَيهِمُ الصَّغَائِرُ كَمَا لَا تَجُوزُ عَلَيهِمُ الكَبَائِرُ وَتَأَوَّلُوا قَولَهُ تَعَالَى: {لِيَغفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فَقَالُوا: إِنَّمَا غَفَرَ لَهُ تَعَالَى مَا يَقَعُ مِنهُ عَلَيهِ السَّلَامُ مِن سَهوٍ وَغَفلَةٍ.. وَاجتِهَادٍ فِي فِعلِ خَيرٍ لَا يُوَافِقُ بِهِ حَقِيقَةَ مَا عِندَ رَبِّهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي غَفَرَ لَهُ.. وَسَمَّاهُ ذَنبًا لِأَنَّ صِفَتَهُ صِفَةُ الذَّنبِ المَنهِيِّ عَنهُ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ تَعمُّدٌ وَهَذَا بِغَيرِ قَصدٍ: وَهَذَا تَأوِيلٌ بَعِيدٌ مِنَ الصَّوَابِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَو كَانَ السَّهوُ وَالغَفلَةُ ذُنُوبًا لِلأَنبِيَاءِ يَجِبُ عَلَيهِمُ الِاستِغفَارُ مِنهَا: لَكَانُوا أَسوَأَ حَالًا مِن سَائِرِ النَّاسِ غَيرِهِم لِأَنَّهُ قَد وَرَدَتِ السُّنَّةُ المُجمَعُ عَلَيهَا أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ العِبَادُ بِالخَطَإِ وَالنِّسيَانِ فَلَا يَحتَاجُونَ إِلَى الِاستِغفَارِ مِن ذَلِكَ. وَمَا لَم يُوجِبِ الِاستِغفَارَ فَلَا يُسَمَّى عِندَ العَرَبِ ذَنبًا> انتهَى.

23- وقال: <فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ هُوَ المُخبِرُ لَنَا بِذَلِكَ عَن رَبِّهِ تَعَالَى أَولَى بِأَن يَدخُلَ مَعَ أُمَّتِهِ فِي مَعنَى ذَلِكَ. وَلَا يَلزَمُهُ حُكمُ السَّهوِ وَالخَطَإِ. وَإِنَّمَا يَقَعُ استِغفَارُهُ عَلَيهِ السَّلَامُ كَفَّارَةً لِلصَّغَائِرِ الجَائِزَةِ عَلَيهِ وَهِيَ الَّتِي سَأَلَ اللَّهَ غُفرَانَهَا لَهُ بِقَولِهِ: (اغفِر لِي مَا قَدَّمتُ وَمَا أَخَّرتُ)> انتهَى.

24- قال المُتولِّي -شيخ الشَّافعيَّة- فِي [الغُنية]: <وأمَّا الصَّغائرُ فاختلفُوا فِي جوازِها عليهم..> انتهَى. وقال: <ومنهم مَن جوَّزها وعليه يدلُّ قَصَصُ الأنبياءِ وهوَ ظاهرٌ فِي القرآنِ> انتهَى.

25- قال إمام الحرمَين عبد الملك الجُوينيُّ فِي كتاب [الإرشاد إلى قواطع الأدلَّة فِي أُصول الاعتقاد]: <ولم يقُم عندي دليلٌ على نفيِها ولا على إثباتِها إذِ القواطعُ نُصوصٌ أو إجماعٌ ولا إجماعَ إذِ العُلماءُ مُختلِفونَ فِي تجويزِ الصَّغائرِ على الأنبياءِ والنُّصوصُ الَّتي تَثبتُ أُصولُها قطعًا ولا يَقبلُ فحواها التَّأويلَ غيرُ مَوجودةٍ فإن قِيلَ إذَا كانتِ المسألةُ مظنونةٌ فمَا الأغلبُ على الظَّنِّ عندَكم؟ قُلنا: الأغلبُ على الظَّنِّ عندَنا جوازُها وقد شَهِدَت أقاصيصُ الأنبياءِ فِي آيٍ مِن كتابِ اللهِ تعالَى على ذلكَ. فاللهُ أعلمُ بالصَّوابِ> انتهَى.

26- قال إمام الحرمَين عبد الملك الجُوينيُّ فِي كتاب [التَّلخيص]: <فأمَّا ما بَدَرَ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مُحَرَّمًا -على المذهب الَّذي يجوز عليه الصَّغائر- فلا يجوز اتِّباعه فيه> انتهَى.

27- قال أبو حامد الغزاليُّ فِي [المنخول مِن تعليقات الأُصول]: <لا يُتوصَّلُ إلى ذلكَ إلَّا بذكرِ مُقدِّمةٍ فِي عصمةِ الأنبياءِ عنِ المعاصِي وهيَ مُنقسمةٌ إلى الصَّغائرِ والكبائرِ وقد تقرَّرَ بمسلَكَ النَّقلِ كونُهم معصومِينَ عنِ الكبائرِ وأمَّا الصَّغائرُ ففيهِ تردُّدُ العُلماءِ والغالبُ على الظَّنِّ وقوعُهُ وإليهِ يُشيرُ بعضُ الآياتِ والحكاياتِ؛ هذا كلامٌ فِي وقوعِهِ> انتهَى.

28- قال ابن رشد الجَدُّ الفقيه فِي [البيان والتَّحصيل]: <وفي قولِهِ: (كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأتِي يَومَ القِيَامَةِ وَلَهُ ذَنبٌ إِلَّا مَا كَانَ مِن يَحيَى بنِ زَكَرِيَّاءَ) دليلٌ ظاهرٌ على أنَّ الأنبياءَ غيرُ معصومِينَ مِنَ الذُّنوبِ الصَّغائرِ. إذ لا اختلافَ أنَّهم معصومونَ مِنَ الكبائرِ. ويدلُّ على ذلكَ مِنَ القُرآنِ قولُهُ عزَّ وجلَّ: {لِيَغفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقد قيلَ: إِنَّهُم معصومونَ مِنَ الصَّغائرِ والكبائرِ> إلخ..

29- وقال: <والَّذي أقولُ بِهِ: إِنَّ الأنبياءَ معصومونَ مِنَ القصدِ إلى إتيانِ الصَّغائرِ كما أنَّهُم معصومونَ مِنَ القصدِ إلى إتيانِ الكبائرِ إلَّا أنَّهُم يُؤاخَذُونَ لِمكانِهِم ومنزلِهِم بما ليسَ بكبائرَ ولا صغائرَ فِي حَقِّ مَن سِواهُم> إلخ..

30- قال الإمام المازريُّ فِي [إيضاح المحصول مِن بُرهان الأُصول]: <فبَينَ أئمَّتِنا اختلافٌ فِي وُقوعِ الصَّغائرِ فمنهُم مَن منعَها ومنهُم مَن أجازَها. وجنحَ المُجيزونَ لها إلى أن وَرَدَت فِي الشَّرعِ أخبارٌ تُشيرُ إلى أنَّها قد وَقَعَت مِنَ الأنبياءِ كقولِهِ تعالَى: {لِيَغفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وتأوَّلَ الآخَرونَ على أنَّ المُرادَ بِهِ ما تقدَّمَ وما تأخَّرَ ممَّا أحدثَهُ قبلَ النُّبوَّة أو على أنَّ المُراد بهذا الخطاب أُمَّته صلَّى الله عليه وسلَّم وهكذا يتأوَّلون ما استُدِلَّ به مِن الآيات المُشيرة إلى هذا كقوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاستَغفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرنَا لَهُ ذَٰلِكَ} والمغفرة تقتضي ذنبًا> إلخ..

31- وقال القاضي عياض اليحصبيُّ المالكيُّ فِي [الشِّفا بتعريف حُقوق المُصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام]: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيرُهُم عَلَى الأَنبِيَاءِ وَهُوَ مَذهَبُ أَبِي جَعفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> انتهَى.

32- وقال: <مَن جَوَّزَ الصَّغَائِرَ؛ وَمَن نَفَاهَا عَن نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مُجمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى مُنكَرٍ..> انتهَى.

33- وقال: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَولَينِ أَن يُختَلَفَ أَنَّهُم مَعصُومُونَ عَن تَكرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثرَتِهَا إِذ يُلحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ. وَلَا فِي صَغِيرَةٍ أَدَّت إِلَى إِزَالَةِ الحِشمَةِ وَأَسقَطَتِ المُرُوءَةَ وَأَوجَبَتِ الإِزرَاءَ وَالخَسَاسَةَ فَهَذَا أَيضًا مِمَّا يُعصَمُ عَنهُ الأَنبِيَاءُ إِجمَاعًا> انتهَى.

34- قال جمال الدِّين أحمدُ بنُ مُحمَّدِ بنِ محمودِ بن سعيدٍ الغزنويُّ الحنفيُّ فِي [أُصول الدِّين]: <وقال بعض أهل السُّنَّة والجماعة بأنَّ الزَّلل لا يكون مِن الأنبياء إلَّا بترك الأفضل وهذا القَول وإن كان حسنًا مِن حيث الصُّورة لكنَّه غير سديد مِن وجه آخَر لأنَّ الأفضل يقتضي فاضلًا فِي مُقابلته فيقتضي أن يكون أكل الشَّجرة مِن آدم عليه السَّلام فاضلًا مع كونه منهيًّا عنه مع قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}. وقال بعض أهل السُّنَّة هُم معصومون عن الكبائر دون الصَّغائر لأنَّه أثبت لهم مقام الشَّفاعة ولأنَّ مَن لم يُبتلَ بالبليَّة لا يرقُّ على المُبتلى بها>  انتهَى.

35- قال أبو زكريا النَّوويُّ فِي [شرح مُسلم]: <وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّهُم مَعصُومُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي تُزرِي بِفَاعِلِهَا وَتَحُطُّ مَنزِلَتَهُ وَتُسقِطُ مُرُوءَتَهُ. وَاختَلَفُوا فِي وُقُوعِ غَيرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ مِنهُم فَذَهَبَ مُعظَمُ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا مِنهُم وَحُجَّتُهُم ظَوَاهِرُ القُرآنِ وَالأَخبَارِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِن أَهلِ التَّحقِيقِ وَالنَّظَرِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِن أَئِمَّتنَا إِلَى عِصمَتِهِم مِنَ الصَّغَائِرِ كَعِصمَتِهِم مِنَ الكَبَائِرِ وَأَنَّ مَنصِبَ النُّبُوَّةِ يَجِلُّ عَن مُوَاقَعَتِهَا وَعَن مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَمدًا> انتهَى وقال النَّوويُّ فِي [روضة الطَّالِبِين وعُمدة المُفتين]: <واختلفوا فِي الصَّغائر فجوَّزها الأكثرون. ومنعها المُحقِّقون وقطعوا بالعصمة منها وتأوَّلوا الظَّواهر الواردة فيها> انتهَى.

36- قال تاج الدِّين السُّبكيُّ في [قصيدته النُّونيَّة]: <والأشعريُّ إمامُنا لكنَّنا ~ فِي ذا نُخالفه بكُلِّ لسانِ> انتهَى.

37- قال تقيُّ الدِّين السُّبكيُّ في [شفاء السِّقام]: (وهذه كُلُّها في حقِّ غيرهم ليست بذُنوب لكنَّهُم أشفقوا منها إذ لم تكُن عن أمر الله تعالَى وعتب على بعضهم فيها لعُلُوِّ منزلتهم مِن معرفة الله تعالَى) انتهَى وهُو دليل أنَّه يقول بجواز المعصية المجازيَّة فلا يبقَى إلَّا أنَّه خالف الإمام الأشعريَّ في جواز الصغيرة الحقيقيَّة.

38- قال تاج الدِّين السُّبكيُّ في [السَّيف المشهور فِي شرح عقيدة أبي منصور]: <قال صاحب هذه العقيدة تَبَعًا لجماهير أئمَّتنا: (ولكن لم يُعصَموا مِن الصَّغائر لئلَّا تضعُف شفاعتُهم لأنَّ مَن لا يُبتلَى لا يَرِقُّ على المُبتلَى) وقالت المُعتزلة: (هُم معصومون عن الكُلِّ) لأنَّهم لا يرَون الشَّفاعة فحيث أنكروا الشَّفاعة لم يُجوِّزوا الصَّغائر إذ فائدتها -كما ذكرنا- الرِّقَّة. وأنا أقول: هُم معصومون عن الكبائر والصَّغائر مع قولي بثُبوت الشَّفاعة وهذا ما اختاره الأستاذ أبو إسحق والإمام أبو الفتح الشَّهرستانيُّ والقاضي عياض وأبي رحمهم الله> انتهَى.

نهاية المقال.

الحقيقة والمجاز في النُّصوص الشَّرعيَّة

متَى يُحمَل ظاهر الكلام على الحقيقة ومتَى يُحمَل على المجاز؟

فائدة في بيان أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها: معصية حقيقيَّة

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فاعلم أخي أيَّدك الله بتوفيقه أنَّ الكلام المُستعمل في اللُّغة العربيَّة إمَّا يكون المُراد منه في الحقيقة المعنَى القريب الظَّاهر له وهُو الغالب؛ أو يكون المُراد الحقيقيُّ منه معنًى بعيدًا غير ظاهر ويُسمَّى مجازًا.

2

والنُّصوص الشَّرعيَّة يُحمل المُراد الحقيقيُّ منها على ظاهرها أي على المعنى القريب الَّذي يتبادر إلى الذِّهن أوَّلاً، ولا يجوز حمل المُراد الحقيقيِّ منها على المعنى البعيد لها إلَّا بقرينة أي بدليل يدُلُّ على ذلك.

3

وقد اتَّفق الأُصوليُّون من عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة على أنَّ القُرآن الكريم والحديث الثَّابت عن الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم لا يُترك ظاهرُه إلَّا لدليل سمعيٍّ ثابت أو عقليٍّ قاطع وقالوا: لا يجوز تأويل النَّصِّ لغير ذلك.

4

فإذَا أوَّل أحد نصًّا شرعيًّا مِن آية أو حديث ثابت بدون قرينة دالَّة أي بدون دليل شرعيٍّ فهذَا يُسمَّى عَبَث -أي لَعِب- تُصان عنه النُّصوص الشَّرعيَّة -أي تُحفظ عن ذلك- ذكره الإمام الرَّازيُّ في [المحصول] وغيرُه.

5

وقد اتَّفق عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة على عصمة الأنبياء عن الكُفر والكبائر والصَّغائر ذات الخسَّة، واختلفوا في عصمة الأنبياء عمَّا سوى ذلك أي عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة وهي ذُنوب غير مُنفِّرة.

6

ولذلك اختلف عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة المُتقدِّمون والمُتأخِّرون عند تفسير الآيات والأحاديث الَّتي جاء فيها إضافة الذُّنوب إلى ساداتنا الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامُه، وانقسموا في تفسيرها وشرحها إلى فريقَين اثنَين.

7

فأمَّا الفريق الأوَّل -وهُم أكثر المُجتهدين والعُلماء مِن المُتقدِّمين- فحملوا ظاهر النُّصوص مِن الآيات والأحاديث على أنَّها هي المعنَى المُراد حقيقةً مِن لفظ الذَّنب والمعصية والإثم والوزر والخطيئة ونحو ذلك.

8

ولأنَّهُم لا يقولون بعصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها؛ انعدم عندهُم دليل تأويل هذه النُّصوص عن ظواهرها إلى معانٍ أُخرى بعيدة فصارت عندهُم هذه الظَّواهر حقيقيَّةً فقالوا: ذنب صغير لا خسَّة فيه.

9

وأمَّا الفريق الثَّاني -وهُم الأقلُّ مِن المُجتهدين والأكثر في المُتأخرين- فقد تأوَّلوا هذه النُّصوص وقالوا إنَّ المعنى المُراد في الحقيقة ليس هُو الظَّاهر مِنَ النَّصِّ وإنَّما هُو معنًى آخَرُ تحتمله ألفاظ النَّصِّ وإنْ كان بعيدًا.

10

وهؤُلاء كانتِ الضَّرورة الشَّرعيَّة عندهُم في إخراج النَّصِّ عن ظاهره: اعتقادَهُم عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها؛ فهُم لم يتأوَّلوا عَبَثًا؛ وقولُهُم مُعتبَر كما أنَّ قول الجُمهور -الفريق الأوَّل- مُعتبَر.

11

وللتَّقريب فإنَّ كلمة ذنب معناها القريب المُتبادر إلى الذِّهن هُو الذَّنب الحقيقيُّ أي ذنب في حقيقة الشَّرع؛ ولكن إنْ دلَّ دليل فقد تُحمل على (ترك الأَولى) مِن باب التَّشبيه المجازيِّ رغم كونه معنًى بعيدًا.

12

وشيخُنا الهرريُّ باستعماله لفظ (الذَّنب الحقيقيِّ) في بيان مذهب الجُمهور وافق عُلماءَ أهل السُّنَّة والجماعة لأنَّ الذَّنب الحقيقيَّ الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه هُو ظاهر النَّصِّ؛ والجُمهور على جوازه فامتنع عندهُم التَّأويل.

13

فلا سبيل إلى إنكار كون الصَّغائر ذُنوبًا حقيقيَّة في الإطلاق الشَّرعيِّ، وإنكار ذلك مُكابرة لا تصدُر إلَّا مِن جاهل مُتصولح شأنُه التَّظنِّي والتَّجرُّؤ على الفتوى بغير عِلم إذ لا يعرف مِن قواعد الشَّرع واللُّغة شيئًا.

14

ووصف الذَّنب الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه بـ(الحقيقيِّ) القصد منه بيان مذهب الجُمهور وأنَّهُم ما قصدوا بإطلاقه معنى بعيدًا لكلمة الذَّنب كما فعل غيرُهُم مِن العُلماء في مسألة العصمة عن الصَّغائر غير المُنفِّرة.

15

ولكنَّ الجَهَلَة المُتصولحة تجرَّأوا على تحريم بيان مذهب جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في مسألة العصمة لِمَا في نُفوسهم مِن أغراض خبيثة ومقاصد في الفتنة الَّتي كانت نائمة فلعنة الله على مَن أيقظها.

16

ووصف الذَّنب الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه بـ(الحقيقيِّ) ليس بدعة لأنَّ العُلماء بيَّنوا أنَّ الأصل في الإطلاق أنْ يُحمل على الحقيقة لا على المجاز إلَّا لضرورة كما صرَّح عُلماؤُنا وسأذكُر بعض أقوالهم في آخر المقال.

17

ولكنَّ أهل الفتنة قاسوا وصف الذَّنب الَّذي لا خسَّة فيه بالحقيقيِّ على ما لو أطلق الجَهَلَة المُتصولحة على ربِّ العالمين اسمًا لم يُسَمِّ به نفسَه ولا أجمعتِ الأُمَّة على تسميته به؛ وقياسُهُم هذا لم يأتِ به الشَّرع.

18

فائدة: قال جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة ما معناه: إنَّ الأنبياء لم يُعصَموا مِنَ الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة؛ كي تقوَى شفاعتُهُم يومَ القيامة لأهل الذُّنوب مِن المُسلمين والَّذين ماتوا بدون توبة.

19

قال التَّاج السُّبكيُّ في [السَّيف المشهور فِي شرح عقيدة أبي منصور]: <قالَ صاحبُ هذهِ العقيدةِ تَبَعًا لجماهيرِ أئمَّتِنا: (ولكن لم يُعصَموا مِنَ الصَّغائرِ لئلَّا تضعُفَ شفاعتُهم لأنَّ مَن لا يُبتلَى لا يَرِقُّ على المُبتلَى)> انتهى.

20

وقد علمتُم أنَّه إنَّما أراد الشَّفاعة الَّتي تكون لمَن احتاج أنْ تَرِقَّ عليه قُلوب الشَّافعين لاقترافه الذُّنوب الحقيقيَّة ثُمَّ الموت دون توبة صحيحة ولم يُغفَر له؛ وهذه لا تكون لمَن كان تقصيره في ترك الأَولى حصرًا.

21

وجَهَرَ التَّاج السُّبكيُّ بمُخالفة إمامنا الأشعريِّ فقال: <والأشعريُّ إمامُنا لكنَّنا * في ذا نُخالفه بكُلِّ لسانِ> انتهى لأنَّه فَهِم أنَّ مذهب الأشعريِّ يقول بجواز الذُّنوب الحقيقيَّة الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها على الأنبياء.

22

ومعنى قول التَّاج السُّبكيِّ: أنَّ الأشعريَّ يبقى إمامَهُم وهُم مُتمسِّكون بأذيال أقواله لأنَّها على النَّهج الحقِّ وإنْ كانوا خالفوه في هذه المسألة لكن لا يُكفِّرونه ولا يُضلِّلونه كما فعل الجَهَلَة المُتصولحة مِن أهل الفتنة.

23

وقد قال الإمام الماتُريديُّ في [تأويلاته]: <وَلَوْ لَمْ يَكُن للهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَحَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ بِمَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ> انتهى.

24

وقد اشترك العالم والجاهل في معرفة أنَّ الشَّرع دلَّ أنَّه لا عذاب على ترك الأفضل والأَولى فلا يقع العذاب يوم القيامة إلَّا على اقتراف الذُّنوب الحقيقيَّة مع ترك التَّوبة الصَّحيحة بشُروطها وعدم إدراك أسباب المغفرة.

25

وقد تسأل -أخي القارئ- أليس مذهب الماتُريديِّ القول بالعصمة حتَّى مِن صغيرة لا خسَّة فيها؟ والجواب: أنَّه أحد قولَيه؛ وإلَّا ففي ردِّه على الخوارج والمُعتزلة قال بقول الجُمهور كما نسخنا مِن كريم قوله وبيانه.

26

وفيما يلي بعض نُصوص وأقوال عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في فهم الحقيقة والمجاز في النُّصوص الشَّرعيَّة وبيان متَى يُحمَل ظاهر الكلام على الحقيقة ومتَى يُحمَل على المجاز وفوائد أُخرى فاحفظوها تربحوا.

27

قال الغزاليُّ في [المُستصفى]: <مَسْأَلَةٌ إذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَاللَّفْظُ لِلْحَقِيقَةِ إلَى أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَجَازَ> انتهى.

28

قال الآمديُّ في [أبكار الأفكار]: <والأصل فى الإطلاق الحقيقة> انتهى وقال [فيه]: <ولا يخفى أنَّ ترك الظَّاهر مِن غير دليلٍ ممتنِعٌ> انتهى وقال في موضع آخر [منه]: <فإنَّه لا مُناسبة بين الغُفران والذَّنب بهذا المعنى كيف وأنَّه على خلاف الظَّاهر مِن اللَّفظ فيمتنع المصير إليه إلَّا بدليل> انتهى.

29

وقال ابن التلمسانيِّ المُتوفَّى 658 للهجرة في شرح [معالم أُصول الدِّين للرَّازيِّ]: <وحَمْلُ اللَّفظ على احتماله البعيد مجاز وشرطُه القرينة؛ ومع انتفاء القرينة لا يُمكن المصير إليه لِمَا فيه مِن إثبات المشروط بدون شرطه، فتعيَّن البقاء مع تلك الظَّواهر وهكذا القول في جميع ما ورد مِن أحكام الآخرة؛ متَى كان ظاهرُه جائزًا وجب اعتقادُه إلَّا أنْ يدُلَّ دليل على امتناعه> انتهى.

30

وقال [فيه]: <المسألة الثَّالثة في بيان أنَّ الأصل في الكلام هُو الحقيقة، ويدُلُّ عليه وُجوه: الأوَّل: أنَّ الأمر إذَا تجرَّد مِنَ القرينة: -1- فإمَّا أنْ يُحمل على حقيقته وهُو المطلوب، أو -2- على مجازه وهو باطل لأنَّ شرط كونه مجازًا: ألَّا يُحمَل اللَّفظ عليه إلَّا لقرينة مُنفصلة لأنَّ الواضع لو أمر بحمل اللَّفظ عليه -عند تجرُّده- على ذلك المعنَى لكان ذلك اللَّفظ حقيقة فيه إذ لا معنَى للحقيقة إلَّا ذلك، أو 😚 عليهمَا معًا وهُو أيضًا باطل لأنَّ الواضع لو قال: “احملوا هذا اللَّفظ عند تجرُّده عليهمَا معًا” لكان ذلك اللَّفظ حقيقة في ذلك المجموع؛ ولو قال: “احملوه إمَّا على هذا أو على ذاك لكان ذلك مُشترَكًا بينهُما” أو لا على واحد منهُمَا ألبتَّة وحينئذ: يصير هذا اللَّفظ مِنَ المُهملات لا مِن المُستعملات، فلمَّا بطلت هذه الأقسام تعيَّن القسم الأوَّل وهو أنَّه يجب حمله على حقيقته فقط فقد ثبت أنَّ ذلك هُو الحقُّ> انتهى.

31

والخُلاصة أنَّ وصف الذَّنب الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه بالحقيقيِّ كان بقصد بيان مذاهب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في مسألة العصمة عن الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها وردِّ دعوى الإجماع المُفترى على الشَّرع.

32

فيُعلَم أنَّ ذلك ليس فيه إساءة للأنبياء صلوات الله عليهم وسلامُه وأنَّه ليس تنقيصًا للأنبياء ولا طعنًا بهم ولا ذمًّا لهُم لأنَّه مبنيٌّ في قَول الجُمهور على ما يجوز في حقِّهم شرعًا ولأنَّ المرجع فيه كتاب الله الكريم.

نهاية المقال.

بُطلان فتاوَى أهل الفتنة في مسألة العصمة

أهل الفتنة يتَّهمون عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بالقدح بالأنبياء عليهمُ السَّلام

وبعدُ فإنَّ أهل الفتنة استخرجوا فتاوَى تكفير مَن أطلق نسبة معصية حقيقيَّة لنبيٍّ مِن الأنبياء دون قيد، ثُمَّ طبَّقوا الفتوَى على مَن ذكر ذلك بقُيود كثيرة! وهذا مِن أهل الفتنة تدليس خبيث وجهل عظيم لأنَّ الكُفر والكبائر والصَّغائر ذات الخسَّة وغير ذات الخسَّة كُلَّ ذلك مِن المعاصي الحقيقيَّة، ولم يُجوِّز الجُمهور مِن ذلك على الأنبياء إلَّا الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها.

فإذا أُطلِقَتِ المعصية الحقيقيَّة ليس كما لو قُيِّدَت بكونها (أ) صغيرة (ب) لا خسَّة فيها (ج) لا تتكرَّر منهُم (د) ولا تكثُر (هـ) وأنَّ الأنبياء لو وقعوا فيها يتوبون منها فورًا قبل أنْ يقتديَ بهم فيها أحد، فضلًا أنَّ القائلين بذلك لم يُريدوا الطَّعن بالأنبياء وإنَّما مُوافقةَ ظاهر القُرآن وبيانَ محلِّ اختلاف العُلماء في مسألة العصمة وصيانةَ الشَّرع مِن الدَّعاوي الكاذبة.

فلا معنَى لاستفتاء أهل الفتنة لبعض المشايخ في مسألة المعصية الحقيقيَّة لأنَّ السَّائل تعمَّد وبخبث جليٍّ إغفال كُلِّ القُيود المذكورة آنفًا؛ وتَعَمُّد أهل الفتنة ذلك ليس بريئًا لأنَّهُم يعلمون أنَّنا ما نقلنا عن الجُمهور إلَّا جواز ووُقوع صغيرة لا خسَّة فيها مِن الأنبياء، ولكنَّهُم يُحرِّفون ليخرُجوا بما يُوهمون به العوامَّ بغير الحقِّ وسعيًا لإشعال فتيل الفتنة والعياذ بالله.

وكذلك لا معنَى لتلك الفتاوَى لأنَّ المشايخ لم يُصرِّحوا بتكفير مَن حمل قوله تعالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقولَه تعالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} على ظاهرهما فقال: إنَّ الذَّنب المذكور هُو -عند الجُمهور- ذنب صغير حقيقيٌّ لا خسَّة فيه ولا دناءة تاب منه صلَّى الله عليه وسلَّم وغفره الله تعالَى له وستره كرامة لنبيِّه المُصطفَى عليه السَّلام.

فأيُّ معنًى لفتاوَى أُغفل فيها ذكر عماد المبحث في الحوار وهُو أنَّ الذَّنب الوارد في الآيات مُضافًا إلى النَّبيِّ لو لم يكُن في مذهب الجُمهور ذنبًا حقيقيًّا صغيرًا لا خسَّة فيه لَمَا قال العُلماء: “إنَّه لا يتكرَّر ولا يكثُر مِن الأنبياء لأنَّ ذلك يُلحقه بالكبائر” انتهَى وقد علمتَ أنَّ عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة لم يقُل أحد منهُم: إنَّ الذَّنب المجازيَّ يصير ذنبًا مِن الكبائر إنْ تكرَّر وكثُر!

فبعد أنْ ذكر أنَّ جُمهور العُلماء على القول بجواز الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها على الأنبياء قال القاضي عياض في [الشِّفا]: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ> انتهَى فكيف يرَى أهل الفتنة أنَّ الذَّنب مجازيٌّ ومع ذلك يلتحق بكبائر الذُّنوب والمعاصي والآثام بالتَّكرار والكثرة لولا أنَّهُم مِن الجَهَلَة على التَّحقيق!؟

وليت شعري هل تلك الفتاوَى أراد بها مُطلِقوها ردَّ كلام المُتكلِّم التَّفتازانيِّ في [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ، هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهَى أم يُوافقون عليه لو لم يُغفله سائل أهل الفتنة!؟

وليت شعري هل أُريد بتلك الفتاوَى تكفير الإمام الماتُريديِّ رضي الله عنه لأنَّه أخذ بقول جُمهور العُلماء مرَّة خلال ردِّه على المُعتزلة في [تفسيره] فقال: <وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وَلَوْ لَمْ يَكُن للهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَحَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ بِمَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ> انتهَى.

وهل أُريد بتلك الفتاوَى تكفير الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لأنَّه ردَّ على المُعتزلة فقال: <وَأَمَّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَذَلِكَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ آدَمَ كَافِرٌ> رواه ابن الجوزيِّ فِي [مناقب أحمد] ومثله في [طبقات الحنابلة] وهُو دليل أنَّ ذنب آدم عليه السَّلام عنده صغير حقيقيٌّ لأنَّ المُعتزلة لم يُكفِّروا بالذُّنوب المجازيَّة.

وهل أُريد بتلك الفتاوَى تكفير الكستليِّ الفقيه الحنفيِّ لقوله في [حاشية على شرح السَّعد التَّفتازانيِّ]: <أو المُراد الصَّغيرة سهوًا أو عمدًا أو ما كان منه قبل النُّبوَّة، والآية على الوجه الأوَّل مصروفة عن ظاهرها بخلاف الوُجوه الأُخَر إذ ليس فيها إخراجها عن ظاهرها بالكلمة فتدبَّر وقِس عليها نظائرها> انتهَى لأنَّه أشار إلى صحَّة قول مَن حمل الآيات على ظاهرها!؟

وليت شعري هل احتجَّ أحد مِن أولئك المشايخ بكلام ابن حزم الظَّاهريِّ كما فعل أهل الفتنة! وهل يُوافق أولئك المشايخ على أنَّ لفظ المعصية له إطلاقات ثلاثة (1) الأوَّل حقيقيٌّ (2) والثَّاني مجازيٌّ (3) وثالث لا هُو حقيقيٌّ ولا مجازيٌّ كما افترَى أهل الفتنة! وهل يُوافق أولئك المشايخ على بدعة أهل الفتنة في قولهم: إنَّه لا يُوجد صغائر غير ذات الخسَّة والدَّناءة!؟

وهل أحد مِن أولئك المشايخ تجرَّأ على شتم الفقيه الحنفيِّ الشَّيخ مُلَّا عليٍّ القاري رحمه الله لأنَّ الشَّيخ المذكور بيَّن أنَّ قول الجُمهور -بحمل الآيات الَّتي أُضيف فيها الذَّنب للأنبياء على ظاهرها- لا يُناقض إجماع الصَّحابة على التَّأسِّي بالرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم لأنَّ قول الجُمهور فيه شرط وهُو أنَّ النَّبيَّ لو وقع في صغيرة لا خسَّة فيها يُنبَّه للتَّوبة قبل أنْ يُقتدَى به فيها.

وقال ابن بَطَّال -شيخ المالكيَّة- في [شرح البُخارِيِّ]: <وقالَ أهلُ السُّنَّةِ: جائزٌ وقوعُ الصَّغائرِ مِنَ الأنبياءِ. واحتجُّوا بقولِهِ تعالَى مُخاطبًا لرسولِهِ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فأضافَ إليهِ الذَّنْبَ> انتهَى وقال فيه: <وَإِنَّمَا يَقَعُ اسْتِغْفَارُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَفَّارَةً لِلصَّغَائِرِ الجَائِزَةِ عَلَيْهِ وَهِيَ الَّتِي سَأَلَ اللَّهَ غُفْرَانَهَا لَهُ بِقَوْلِهِ: {اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ}> انتهَى.

وقال المُتولِّي -شيخ الشَّافعيَّة- فِي [الغُنية]: <وأمَّا الصَّغائرُ فاختلفُوا فِي جوازِها عليهمْ..> انتهَى وقال: <ومنهمْ مَن جوَّزها وعليه يدلُّ قَصَصُ الأنبياءِ وهوَ ظاهرٌ فِي القُرآنِ> انتهَى فهل ظاهر القُرآن إلَّا إضافة الذَّنب؟ وهل يرى أهل الفتنة بحملهم  تلك الفتاوَى في غير محلِّها وُجوب استتابة ابن بطَّال شيخ المالكيَّة واستتابة المُتولِّي شيخ الشافعيَّة بعلَّة القدح بالأنبياء!؟

ولو كان الإجماع مُنعقدًا على أنَّ الأنبياء لا يقعون في صغيرة لا خسَّة فيها -كما يفتري أهل الفتنة- فلماذا قال الإمام الغزاليُّ فِي [المنخول مِن تعليقات الأُصول]: <وأمَّا الصَّغائرُ ففيهِ تردُّدُ العُلماءِ والغالبُ على الظَّنِّ وقوعُهُ وإليهِ يُشيرُ بعضُ الآياتِ والحكاياتِ؛ هذا كلامٌ فِي وقوعِهِ> انتهَى أم تُراهم كذلك يُوجبون استتابة الإمام الغزاليِّ لقوله بوُقوع الصَّغائر مِن الأنبياء!

وقال المازريُّ المالكيُّ في [إيضاح المحصول]: <فبَيْنَ أئمَّتِنا اختلافٌ فِي وُقوعِ الصَّغائرِ> إلخ.. وقال القاضي عياض في [الشِّفا]: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> انتهَى وقال النَّوويُّ الشَّافعيُّ مثله في [شرح مُسلم] فهل كُلُّ عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة  يُستتابون عند أهل الفتنة!

وقال الأبياريُّ الأُصوليُّ المالكيُّ فِي [التَّحقيق والبيان فِي شرح البُرهان فِي أصول الفقه] ما نصُّه: <وَقَوْلُهُ: (إِنَّ الصَّغَائِرَ مُخْتَلَفٌ فِي وُقُوعِهَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ) فَهُوَ كَذَلِكَ “وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ” مِنْ حَيْثُ الجُمْلَةُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}> انتهَى فهل يودُّ أهل الفتنة أنْ يستتيبوا الإمام مالكًا رضي الله عنه!

وقبل أنْ يهجم أهل الفتنة والزَّيغ على تكفير المُؤمنين -المُعظِّمين للأنبياء- بغير حقٍّ؛ نسألُهُم هل أخفَوا عن أُولئك المشايخ -لغرض خبيث- أم بيَّنوا لهُم أنَّ مَن قال بوُقوع صغيرة لا خسَّة فيها مِن الأنبياء اشترط أنَّ الأنبياء لا يُصرُّون عليها وبيَّن أنَّهُم صلوات الله عليهم وسلامُه لا يقتحمونها اقتحامًا ولا يتلبَّسون بها وإنَّما تكون طارئة على جليل أحوالهم يتبرَّأون منها فورًا!؟

ولو كان أهل الفتنة صادقين في تبرئة الأنبياء مِن مُخالفة الأمر والنَّهي فلماذَا زعموا أنَّ القول بنُبُوَّة إخوة يُوسف هُو قول مُعتبَر صحيح يجوز اعتقادُه! مع أنَّ القُرآن الكريم أثبت في حقِّهم أنَّهُم كَذَبُوا وفعلوا الكبائر والخسائس؛ ولمَّا نبَّهناهُم إلى هذه السَّقطة وقُلنا لهُم هذا منكُم طعن بمقام النُّبُوَّة ركبوا رُؤوسَهُم وأخذتهُمُ العزَّة بالإثم وتكبَّروا عن قَبول النُّصح.

وفي الختام هل يجرُؤ أهل الفتنة على قراءة مثل هذا المقال بحروفه كاملًا أمام أُولئك المشايخ الَّذين يستفتونهُم في مسألة عصمة الأنبياء؟ أم أنَّهُم يخافون لو فعلوا أنْ تنكشف ألاعيبُهُم ومُخادعاتُهُم لهُم في صِيَغ السُّؤال وأنْ يفوتَهُم ما يبتغون مِن الشُّرور وتحريف الشَّرع الشَّريف وأنْ يُطرَدوا مِن مجالسهم طرد الكلاب الشَّاردة.. وما قول بعضهم (ترجم) عنهُم ببعيد!

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المعصوم من كل دناءة ورذالة وعيب وشين، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد،

فقد كثر في الآونة الأخيرة الكلام في عصمة الأنبياء من بعض الجهال الذين يُعرفون بإثارة الفتن واتباعها ونصرتها، ففضحوا جهلهم وأظهروا سخفهم بتكفيرهم جمهور العلماء القائلين (بوقوع معاصي صغائر لا خسة فيها من بعض الأنبياء عمدًا وأن الله رزقهم التوبة منها فورًا  قبل أن يقتدي بهم فيها أحد)،

والمراد بالعمد ما يقابل السهو والنسيان ونحوهما

فقال بعض أراذلهم: (القول بأن تلك المخالفات الصغائر  قد وقعت عمدًا من أولئك الأنبياء هو كفر بلا مرية)،

وقد كذبوا والله، بل هذا القول الذي زعموه كفرًا هو الذي عليه كثير من  فقهاء الأمة المجتهدين وأئمتها كالفقيه الحافظ المؤرخ الأصولي المجتهد الكبير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري رضي الله عنه صاحب التفسير الأثري المشهور.

وكنت فيما مضى قد رددت على أقلهم فهمًا وأسخفهم عقلاً بأن هذا الذي ذكرتُه عن الجمهور من وقوع ذلك عمدًا منهم قد ذكره صريحًا القاضي عياض المالكي في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) وأثبته عنهم بما لا يقبل التشكيك، هذا مع أنه هو رحمه الله قد اختار القول بالعصمة المطلقة إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يكون منصفًا ويذكر الخلاف في هذه المسئلة ويذكر أن الخلاف هو  في وقوعها عمدًا منهم.

فجن جنون جاهلهم – وكلهم جاهل- وأطلق لسانه بتكفيري!! فعجباً كيف كفرني وأنا  ما قلت له إلا أن القاضي عياض أثبت ان الخلاف هو  في وقوع ذلك عمدًا منهم!! 

فجنايته علي بالتكفير ليست فقط تطالني بل تطال أيضًا جمهور الفقهاء والعلماء و أيضاً يدخل فيه القاضي عياض نفسه! اذ هو المثبت للخلاف المذكور!!!

والعجب أن كتاب الشفا هو بمتناولهم فكان يمكنهم ان يطالعوا كلامه بتروٍ ليعرفوا أن الخلاف الذي ذكره إنما هو في وقوع المعاصي الصغيرة التي لا خسة فيها عن عمد، ولكن الله يغلق قلوب بعض الناس عن الحق ليزدادوا إثمًا إلى إثمهم فسبحان واهب الفهم .

فأسخف بعقول مآل ما تستنتجه تكفير فقهاء الأمة وعلمائها الأكابر.

ولأهمية هذه المسئلة قمت بتلخيص ما ذكره القاضي عياض عن طريق التشجير ليكون أسهل للقارىء أن يطلع على ما قاله القاضي من غير لبس ولا تطويل،

فوضعت ذلك في صورتين مرفقتين مع هذا البوست،

سائلًا الله لي السداد في أموري كلها وأن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم ونصرة لأئمة الدين الذين كفرهم  أولئك الحاقدون،

وما توفيقي إلا بالله.

القاضي عياض يُثبت الخلاف

في عصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام عن صغائر لا خسَّة فيها

(ردًّ على المدعو محمود الشَّاعر)

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

[1] وبعدُ فإنَّ المدعو محمود الشَّاعر قد زعم أنَّنا قوَّلنا القاضي عياضًا القول بجواز صُدور صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء وهذا منه خلط ناتج عن سُوء فهمه أو تدليس مقصود. وأمَّا الصَّواب فهُو أنَّنا قُلنا إنَّ القاضي عياضًا نقل قول الجُمهور بجواز ذلك مع أنَّه كان ممَّن يرَى امتناعَه.

[2] قال القاضي عياض فِي [الشِّفا بتعريف حُقوق المُصطفَى عليه السَّلام]: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيرُهُم عَلَى الأَنبِيَاءِ وَهُوَ مَذهَبُ أَبِي جَعفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> انتهَى فهذا دليل أنَّه نقل عن الجُمهور جواز صغائر لا خسَّة فيها على الأنبياء.

[3] وهذا النَّقل مِن القاضي عياض عن الجُمهور وافقه فيه الإمام النَّوويُّ الشَّافعيُّ في [شرح صحيح مُسلم] فقال: <وَاختَلَفُوا فِي وُقُوعِ غَيرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ مِنهُم فَذَهَبَ مُعظَمُ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا مِنهُم وَحُجَّتُهُم ظَوَاهِرُ القُرآنِ وَالأَخبَارِ> انتهَى.

[4] وشرح بدر الدِّين الزَّركشيُّ فِي كتابه [البحر المُحيط فِي أُصول الفقه] كلام القاضي عياض فيما نقله عن الجُمهور فقال: <وَنَقَلَ القَاضِي عِيَاضٌ تَجوِيزَ الصَّغَائِرِ وَوُقُوعَهَا عَن جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَقَالَ فِي [الإِكمَالِ]: إِنَّهُ مَذهَبُ جَمَاهِيرِ العُلَمَاءِ> انتهَى.

[5] وشرح عليٌّ القاري الحنفيُّ كلام القاضي عياض فقال: <(وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا) أَي وُجُودَهَا وَوُقُوعَهَا (جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيرُهُم) مِنَ الخَلَفِ كَإِمَامِ الحَرَمَينِ مِنَّا وَأَبِي هَاشِمٍ مِنَ المُعتَزِلَةِ حَيثُ جَوَّزُوا الصَّغَائِرَ غَيرَ المُنَفِّرَةِ (عَلَى الأَنبِيَاءِ وَهُوَ مَذهَبُ أَبِي جَعفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ) أَي المُجتَهِدِينَ..> انتهَى.

[6] فالقاضي عياض أقرَّ بكون المسألة خلافيَّة مع أنَّه كان يرَى امتناع هذه الصَّغائر مِن الأنبياء فلم يُحرِّف مذهب الجُمهور. وأمَّا ما نسبه “محمود الشَّاعر” لنا فهُراء ولو كان مُنصِفًا لأقرَّ بصوابيَّة قولنا ولكن كما قالت العرب قديمًا: (إنَّما يجزي الفتَى ليس الجَمَل) يعنِى الفتَى الكَيِّس لا الأحمق‏.‏

نهاية المقال.

*كيف تُعدم دعوى أهل الفتنة الكاذبة بنقل واحد*

*اختلاف عُلماء أهل السُّنَّة في عصمة*

*الأنبياء بعد النُّبُوَّة عن الصَّغائر غير المُنفِّرة*

*عضد الدين الإيجي: “بعد الرِّسالة: الأكثرُ على جوازه ومَنَعَه الأقلُّ”*

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

وبعدُ فلمَّا أقرَّ أهل الفتنة بأنَّ جُمهور الأُمَّة قالوا بجواز صُدور صغيرة لا خسَّة فيها مِن الأنبياء؛ قُلنا لهُم: فإذًا مَن نسب صغيرة لا خسَّة فيها لنبيٍّ اعتمادًا على القُرآن الكريم والسُّنَّة الصَّحيحة لا يكون نسب إليه ما لا يجوز في حقِّه؛ فأين الكُفر والضَّلال الَّذي تصفون به جُمهور العُلماء الَّذين أخذوا قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} على ظاهره!؟

فلم يجد رأس الفتنة جوابًا يهرب به ففكَّر وقدَّر فلُعِنَ كيف قدَّر لأنَّه زعم أنَّ العُلماء أجمعوا على عصمة الأنبياء -بعد النُّبُوَّة- من الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها؛ يعني ادَّعى الإجماع المكذوب على وجه يقول جُمهور عُلماء الأُمَّة بخلافه! فرأس الفتنة مِن الوقاحة والقباحة بأنْ يأتيَ بدعوى إجماع مكذوب في مسألة مِن أشهر مسائل الخلاف عند أهل السُّنَّة والجماعة.

قال القاضي عضُد الدِّين الإيجي المتوفى 756 للهجرة في شرح [مُختصر ابن الحاجب المالكيِّ]: <وأمَّا بعد الرِّسالة: فالإجماع على عصمتهم مِن تعمُّد الكذب، وأمَّا غير الكذب مِن الذُّنوب فإنْ كانت مِن الكبائر؛ أو مِن الصَّغائر الخسيسة كسرقة حبَّة ممَّا يُنفِّر؛ فالإجماع على عصمتهم منها، وإنْ كانت مِن غيرها فالأكثرُ على جوازه ومَنَعَه الأقلُّ> انتهى مُختصَرًا.

وقوله: <فالأكثرُ> أي مِن عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة <على جوازه> أي على جواز ما لم يكُن مِن الكبائر ولا مِن الصَّغائر الخسيسة <ومَنَعَه الأقلُّ> مِن العُلماء فلم يرَوا جوازه عليهم شرعًا، وكُلُّ هذا الخلاف <بعد الرِّسالة> كما قال بحروفه. وعضُد الدِّين الإيجي أُطلق عليه (شيخ الشَّافعيَّة) وكان عالمًا بالمعقول والمنقول؛ وقوله وحده كافٍ في إبطال شُبهة أهل الفتنة.

انتهى

بيان كلام للإمام البُلقينيِّ

في الرَّدِّ على مَن طعن بعصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فاعلم أنَّ الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامُه معصومون مِن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة قبل النُّبُوَّة وبعدها؛ وقال الجُمهور: لا يجوز عليهم إلَّا صغيرة لا خسَّة فيها ولا دناءة يتوبون منها فورًا قبل أن يُقتدى بهم فيها.

2

وقد أجمع أهل السُّنَّة والجماعة على وصف الأنبياء بالعصمة، لا خلاف بينَهُم في هذا الإطلاق، وإنَّما الخلاف بينَهُم كان في الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها حصرًا فهذه الَّتي اختلفوا في عصمة الأنبياء منها وهُو خلاف لا يقتضي التَّبديع.

3

فأمَّا الكُفر والكبائر والخسائس والرَّذالات والأمراض المُنَفِّرَة وسبق اللِّسان وترك التَّبليغ وكذلك كُلُّ صغيرة تُناقض مدلول المُعجزة كالكذب وأشياءَ أُخرَى؛ كُلُّها أُمور انعقد الإجماع على عصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام منها.

4

وحصل أنَّ مُبتدعًا أنكر وصف نبيِّنا بالمعصوم بل وقال: (إنَّ السُّكوت عن إطلاق ذلك واجب)! وليس في ظاهر كلامه نفي عصمة النّبيِّ عما لا خسَّة فيه بل نفاها عن كُلِّ معصية مُطلَقًا عن الكبائر وصغائر الخسَّة والعياذ بالله!

5

ولا يخفَى أنَّ كلام هذا المُبتدع كُفر لا توقُّف فيه لأنَّه جوَّز على النَّبيِّ ما يجب عصمته منه بإجماع أهل السُّنَّة والجماعة وجوَّز عليه ما يُناقض مدلول المُعجزة وهذا مُستحيل في الشَّرع فاقتضَى الأمر تكفير هذا المُبتدع.

6

وحصل أنَّ كلام المُبتدع بلغ مسامع الإمام سراج الدِّين عُمر بن رسلان البُلقينيِّ فانتهض إلى الرَّدِّ مِن ثلاثة وُجوه فجاء بعبارات قصَّرت أفهام الجَهَلَة عن فهمها! ونحن إن شاء الله تعالَى نُبَيِّن الصَّواب والله الهادي إلى الأسباب.

7

الوجه الأوَّل:

ذكر البلقينيُّ أنَّ المسلمين أجمعوا على عصمة الأنبياء مِن كُلِّ زلَّة تُنافي مدلول المُعجزة؛ كنحو الكذب فإنَّه يُنافي المعجزة حيث إنَّها تدُلُّ على صدق النَّبيِّ فيستحيل عليه الكذب، وممَّا لا يخفَى أنْ ليس كُلُّ زلَّة تُنافي المُعجزة.

8

الوجه الثَّاني:

وذكر فيه البُلقينيُّ أنَّ المُبتدع أنكر أمرًا مُجمَعًا عليه معلومًا مِن الدِّين بالضَّرورة؛ ومُرادُه أن هذا ممَّا يُوجب التَّبديع والتَّكفير؛ وهُو حقٌّ لا خلاف فيه وذلك لأنَّ المُبتدع أنكر عصمة الأنبياء بالكُلِّيَّة دونما قيد في ظاهر كلامه.

9

الوجه الثَّالث:

وفيه ما نصُّه: <أنَّ الإجماع قد قام على أنَّ إنباء الله لهُم اقتضَى عصمتَهُم مِن أن يقع منهُم كبيرة أو صغيرة البتَّة> انتهَى ولفظ (البتَّة) -في المخطوط- غير واضح فيحتمل أنَّها تصحيف لكلمة (الخسَّة) ويدُلُّ عليه أُمُور منها.

10

أوَّلًا: أنَّ مشاهير العُلماء كالقاضي عياض (المالكيِّ) والإمام النَّوويِّ (الشَّافعيِّ) والمَردَاوِيِّ (الحَنبَلِيِّ) ومُلَّا عليٍّ القاري (الحنفيِّ) ومئات غيرهم ذكروا أنَّ الجُمهور يقول بجواز صغيرة لا خسَّة فيها على الأنبياء عليهمُ السَّلام.

– – – [نذكُر بعض نُصوصهم في ذيل المقال (أ.ب.ج.د)]

11

والإمام البُلقينيُّ لا يخفَى عنه الخلاف في جواز صغائر لا خسَّة فيها كما سترى فيما يلي؛ لأنَّه خلاف مشهور نصَّ عليه أكثر العُلماء وشحنوا بذكره كُتُبَهُم ولا يُنكرُه إلَّا مُعاند مُتكبِّر لم يُوَفَّق إلى الصَّواب ولم يُكتَب له الإنصاف.

12

ثانيًا: دلَّ سياق كلام البُلقينيِّ أنَّ المُبتدع لو أتَى في كلامه بما يدُلُّ على أنَّه أراد أنَّ إطلاق العصمة لا يجُوز في صُورة مِن الصُّور لَمَا حكم بتبديعه وتكفيره لكن لَمًّا كان ظاهر كلامه مُطلَقًا لا قيد فيه اقتضَى الحُكم عليه بما تقدَّم.

13

قال البُلقينيُّ: <فإن قال هذا الجاهل: (لم أقصد بقولي “فالسُّكوت عن إطلاق ذلك واجب” أنَّ إطلاق العصمة لا يجوز في صُورة مِن الصُّوَر وإنَّما قصدت أنَّ إطلاق العصمة مِن غير تقييد بمحلِّ الإجماع السُّكوت عنه مِن غير قيد واجب) قُلنا: لم تأتِ في كلامك بما يدُلُّ على هذا> إلخ..

14

ثالثًا: دلَّ كلام البُلقينيِّ بوُضوح أنَّ في العصمة محلَّ خلاف بين العُلماء بل إنَّه صرَّح تصريحًا بذكر عبارة (محلِّ الخلاف) بحُروفها وهذا يُحيلنا إلى ما بيَّنه العُلماء في أنَّهُم مُختلفون في عصمة الأنبياء مِن صغائر لا خسَّة فيها.

15

فتأكَّد أنَّ أهل الفتنة جَهَلَة مُتصولحة لا يفقهون قولًا ولا يُحقِّقون مذهبًا شرعيًّا وأنَّهُم كما قال إمامُنا الشَّافعيُّ: <مَثَلُ الَّذِي يَطلُبُ العِلمَ بِلَا حُجَّةٍ كَمَثَلِ حَاطِبِ لَيلٍ يَحمِلُ حُزمَةَ حَطَبٍ وَفِيهِ أَفعَى تَلدَغُهُ وَهُوَ لَا يَدرِي> انتهَى.

– – – ذيل المقال

16

أ) قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي [شَرحِ صَحِيحِ مُسلِمٍ]: <وَاختَلَفُوا فِي وُقُوعِ غَيرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ مِنهُم فَذَهَبَ مُعظَمُ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا مِنهُم وَحُجَّتُهُم ظَوَاهِرُ القُرآنِ وَالأَخبَارِ> انتَهَى.

17

ب) وَقَالَ المَردَاوِيُّ الحَنبَلِيُّ فِي [تَحرِيرِ المَنقُولِ وَتَهذِيبِ عِلمِ الأُصُولِ]: <وَتَجُوزُ صَغِيرَةٌ عَمدًا عِندَ القَاضِي وَابنِ عَقِيلٍ وَابنِ الزَّاغُونِيِّ وَالأَشعَرِيَّةِ وَقِيلَ لَا. وَعِندَ الحَنَفِيَّةِ مَعصُومٌ مِن مَعصِيَةٍ مَقصُودَةٍ> انتَهَى.

18

ج)  وَقَالَ الفَقِيهُ الحَنَفِيُّ عَلِيٌّ القَارِي فِي [شَرحِ الشِّفَا لِلقَاضِي عِيَاضٍ]: <(وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا) أَي وُجُودَهَا وَوُقُوعَهَا (جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيرِهِم) مِنَ الخَلَفِ كَإِمَامِ الحَرَمَينِ مِنَّا وَأَبِي هَاشِمٍ مِنَ المُعتَزِلَةِ حَيثُ جَوَّزُوا الصَّغَائِرَ غَيرَ المُنَفِّرَةِ (عَلَى الأَنبِيَاءِ وَهُوَ مَذهَبُ أَبِي جَعفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ) أَيِ المُجتَهِدِينَ (وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ) أَي فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالمُرَادُ بَعضٌ مِن كُلٍّ مِنهُم> انتَهَى.

19

د) وَقَالَ فِي [مِرقَاةِ المَفَاتِيحِ] بَعدَ ذِكرِ إِجمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: <وَالجُمهُورُ جَوَّزُوا وُقُوعَ الكَبَائِرِ سَهوًا وَالصَّغَائِرِ عَمدًا لَكِنِ المُحَقِّقُونَ مِنهُمُ اشتَرَطُوا أَن يُنَبَّهُوا عَلَيهِ فَيَنتَهُوا عَنهُ فَعَلَى هَذَا قَولُ الجُمهُورِ لَا يُنَافِي الإِجمَاعَ المَذكُورَ> انتَهَى.

20

وَقَالَ إِمَامُ الحَرَمَينِ أَبُو المَعَالِي الجُوَينِيُّ (الأَشعَرِيُّ) فِي [غِيَاثِ الأُمَمِ]: <فَإِن قَالُوا: كَانَ الأَنبِيَاءُ يَستَغفِرُونَ أَيضًا مَع وُجُوبِ العِصمَةِ لَهُم. قُلنَا مَذهَبُنا الَّذِي ندِينُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عِصمَةُ الأَنبِيَـاءِ عَن صَغَائِرِ الذُّنُوبِ، وَآيُ القُرآنِ فِي أَقَاصِيصِ النَّبِيِّينَ مَشحُونَةٌ بِالتَّنصِيصِ عَلَى هَنـَّاتٍ كَانَت مِنهُم، استَوعَبُوا أَعمَارَهُم فِي الاِستِغفَارِ مِنهَا> إلخ..

نهاية المقال.

No photo description available.

مسألة عصمة الأنبياء عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها:

دليل القائلين بالجواز: كون القُرآن نصَّ على الوُقوع

دفع افتراءات أهل الفتنة في مسألة العصمة

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله. وبعدُ فهذه خمس نِقاط في دفع افتراءات أهل الفتنة في مسألة عصمة الأنبياء عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها.

أوَّلًا:

زعم أهل الفتنة بأنَّنا نبذُل الجُهد بقصد إثبات المعصية في حقِّ الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام، وهذا محض كذب وافتراء. أمَّا الحقيقة فهي أنَّنا بذلنا الجُهد في إثبات كون عصمة الأنبياء عن الصَّغائر غير المُنفِّرة مسألةً خلافيَّة على قولَين عند أهل السُّنَّة والجماعة دفعًا لتضليل وتكفير أهل الفتنة لمَن قال بأحد القولَين المُعتبَرَين بغير حقٍّ؛ ولم نُصرِّح على أيِّ القولَين نحن لعدم تعلُّق المبحث العلميِّ بذلك ولكنَّ أهل الفتنة كذَّابون خرَّاصون.

ثانيًا:

وزعم أهل الفتنة أنَّ الأنبياء معصومون عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها بعد النُّبُوَّة -بالإجماع-، وهذه إحدى دعاويهم الكاذبة ويكفي في الدِّلالة على تحريفهمُ الشَّرعَ في هذه المسألة قول التَّفتازانيِّ في [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى.

ثالثًا:

وزعم بعض سُفهاء أهل الفتنة أنَّ مُراد التَّفتازانيِّ أنَّ الجُمهور قال بالجواز دون الوُقوع حقيقة، وهذه شُبهة سخيفة مِن شُبُهات أهل الفتنة ويرُدُّها قول التَّفتازانيِّ وغيره: <لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ> انتهى، فلا يصحُّ عند ذوي الأفهام السَّليمة أنْ يكون التَّنبيه المذكور مُقدَّرًا على القول بالجواز دون حقيقة الوُقوع لأنَّ الانتهاء لا يكون إلَّا عن الوُقوع حقيقة، وهذا يُبطل ويفضح تُرَّهات وتخرُّص أهل الفتنة على الباطل.

رابعًا:

ويرُدُّ شُبهة أهل الفتنة كذلك قول النَّوويِّ في [شرح مُسلم]: <فَذَهَبَ مُعْظَمُ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ وَحُجَّتُهُمْ ظَوَاهِرُ القُرْآنِ وَالأَخْبَارِ> انتهى ووجه الدَّليل في كلام النَّوويِّ قوله: <وَحُجَّتُهُمْ ظَوَاهِرُ القُرْآنِ وَالأَخْبَارِ> انتهى وذلك لأنَّ ظواهر القُرآن والأخبار الصَّحيحة الثَّابتة في الحديث النَّبويِّ الشَّريف لم تنُصَّ على الجواز وإنَّما نصَّت على وُقوع وصُدور ذلك مِن أنبياء الله صلوات الله عليهم وسلامُه.

خامسًا:

وفي كُلِّ مرَّة نحتجُّ على أهل الفتنة بنقل بعض العُلماء يهرُبون إلى ذكر اعتقاد العالم نفسه ويُعدمون ما ينقُلُه عن الجُمهور ليُدلِّس على المُسلمين وبُغية الانتصار للدَّعاوي الكاذبة الَّتي يفترونها على الشَّرع ليتوصَّلوا بذلك إلى تضليل وتكفير العالِم العامل وما يُضلِّلون ويُكفِّرون إلَّا جُمهور عُلماء الأُمَّة المُحمَّديَّة مِن السَّلف والخلف والعياذ بالله تعالى لأنَّ هذا الخلاف قديم بَين عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة وكُتُبُهُم مشحونة بذكره وتقريره.

انتهى.

اختلاف العُلماء في العصمة عن تعمُّد الصَّغائر

هُو في الجواز السَّمعيِّ وفي الامتناع السَّمعيِّ

أمَّا الجواز العقليُّ في ذلك فلم يقُل أحد بِعَدَمِه

تكفير أهل الفتنة لمَن جوَّز على الأنبياء تعمُّد الصَّغائر:

هُو تكفير لجُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فهذا مقال طوَّلنا فيه الكلام لحكمة ذكرناهَا في محلِّها وأنا أنصح كُلَّ طالب علم يُريد الحقَّ والوُقوف على الصَّواب في مسألة عصمة الأنبياء عن تعمُّد الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها بأنْ يقرأ المقال بعينَيه وقلبه بحيث لا يفوتُه منه شيء فإنَّ فيه مِن الفوائد ما ليس في غيره مِن المقالات.

2

إنَّ أهل الفتنة قوم بُهت يفترون على الشَّرع بأهوائهم ويُموِّهون على البُسطاء بقراءة كلمات لم يُدركوا معانيها ولا فهموا دِلالاتها؛ وإنَّ ممَّا يفترونه ادِّعاؤُهُم أنَّ العُلماء اختلفوا في الجواز العقليِّ في امتناع الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها على الأنبياء -عليهمُ السَّلام- وهذا كذب بشهادة عُلماء الأُمَّة.

3

قال الفقيه المالكيُّ شهاب الدِّين القرافيُّ في [نفائس الأُصول]: <قلتُ هذا النَّقل غير مُتَّجه فإنَّ الجواز العقليَّ لم يقُل أحد بعَدَمِه> إلخ.. وقال: <فمتَى صرَّح القاضي بالامتناع السَّمعيِّ فلا يُعَدُّ مع هؤُلاء؛ وعَدُّهُ مِن هؤُلاء يُشعر بأنَّ الخلاف في الجواز العقليِّ والامتناع العقليِّ وليس كذلك> إلخ..

4

فإذَا علمتُم هذا فاعلموا أنَّ أهل الفتنة يكذبون عليكُم مُنذ سنوات زاعمين (أنَّ اختلاف العُلماء في عصمة الأنبياء عن تعمُّد الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها) هُو حصرًا في الجواز والامتناع عقلًا وقد فضح القرافيُّ كذبَهُم ودجلَهُم فهل بعد هذا يُعلنون تراجُعهُم عن الفرية الَّتي أصرُّوا عليها مُنذ سنوات؟

5

ودعوى أهل الفتنة بأنَّ إجماع العُلماء مُنعقد أنَّه لا تصدُر مُخالفة صغيرة لا خسَّة فيها مِن نبيٍّ بعد النُّبُوَّة مُطلَقًا لا سهوًا ولا عمدًا هي دعوى كاذبة افتروا بها على الشَّرع؛ وليس في هذا قول مُعتبَر بعد إثبات القُرآن لمُخالفة آدم عليه السَّلام مع اختلاف العُلماء في كونه نبيًّا في ذلك الوقت.

6

ولا يصحُّ أنْ يُقال إنَّ آدم عليه السَّلام لم يكُن منهيًّا عن الأكل مِن الشَّجرة لأنَّ هذا تكذيب لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ} إلى قوله تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} الآية.. وحُكمٌ أثبته القُرآن لا ترُدُّه أغاليط المُصنِّفين.

7

وقد نصحنا أهل الفتنة مرارًا وتكرارًا بأنْ لا يقرأوا في كُتُب العُلماء لأنَّهُم لا يفهمون ما يقرأون فيغلَطون في فهم بعض عبارات العُلماء ممَّا لا يفطُن له الجَهَلَة المُتصولحة أمثالُهُم ولكنَّهُم لم ينتصحوا فزادوا في الغلط وضلَّلوا عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بسبب سُوء أفهامهم والعياذ بالله تعالى.

8

وقد حصل أنْ قُمنا بالاستدلال بكلام للقاضي عياض في إثبات كون العُلماء مُختلِفين في عصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة فإنَّه يقول في كتابه [الشِّفا بتعريف حُقوق المُصطفى]: <وَبِحَسْبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُقُوعِ الصَّغَائِرِ وَقَعَ خِلَافٌ فِي امْتِثَالِ الفِعْلِ> انتهى.

9

فقام ناعق أهل الفتنة -وهُو رجُل مِن أخبث خلق الله- بادِّعاء أنَّنا دلَّسنا وزعم أنَّنا اقتطعنا مِن كلام القاضي عياض بحيث غيَّرنا معناه ومدلوله؛ واستشهد الجاهل بقول القاضي عياض -قبل الجُملة الَّتي نقلناها مِن كلامه- ما نصُّه: <وَعِصْمَتُهُ مِنَ المُخَالَفَةِ فِي أَفْعَالِهِ عَمْدًا> انتهى.

10

وهذه الجُملة مِن كلام القاضي عياض فيها حكاية مذهبه وما قرَّره هُو مِن فوائد بكلامه في عصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام فهذا مذهبُه ونحن لا نُنكره عليه.. ومثلُه قال غيرُه مِن العُلماء وهُو قول مُعتبَر عندنا ولكنَّه لا يعني انعقاد إجماع الأُمَّة على ما قرَّره القاضي عياض في العصمة!؟

11

ونحن لم نبحث في مذهب القاضي عياض ليُعتَبَر تركُنا نقلَ تلك الجُملة تدليسًا وإنَّما المبحث: (هل وُقوع الأنبياء في الصَّغائر ممتنع بالإجماع؟) فاقتصرنا على نقل ما يتعلق بالمبحث، فأهل الفتنة باتِّهامهم لنا بالتَّدليس -لأجل ترك نقل ما لا يتعلَّق له بالبحث والحوار- أوقح مِن ذئب!

12

والإمام النَّوويُّ يشهد معنا أنَّ القول بذلك هُو قول بعض العُلماء وليس إجماعًا كما فهم أهل الفتنة فقد قال في [شرح مُسلم] ناقلًا عن القاضي عياض: <وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي تُزْرِي بِفَاعِلِهَا وَتَحُطُّ مَنْزِلَتَهُ وَتُسْقِطُ مُرُوءَتَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ غَيْرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ مِنْهُمْ فَذَهَبَ مُعْظَمُ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ وَحُجَّتُهُمْ ظَوَاهِرُ القُرْآنِ وَالأَخْبَارِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ وَالنَّظَرِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَئِمَّتنَا إِلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الصَّغَائِرِ كَعِصْمَتِهِمْ مِنَ الكَبَائِرِ وَأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ يَجِلُّ عَنْ مُوَاقَعَتِهَا وَعَنْ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَمْدًا> انتهى.

13

فانظُر كيف دلَّ النَّوويُّ على قول مَن ذكر أنَّهُم (مُعْظَم الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ) ثُمَّ بيَّن كيف يُخالفُهُم قسم مِن العُلماء ذكر أنَّهُم (جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ وَالنَّظَرِ) فيقول الأخيرون بأنَّ منصب النُّبُوَّة يُجِلُّ عن مُواقعة الصَّغائر عمدًا؛ فالفريق الثَّاني منع ما جوَّزه الأوَّل.

14

وإنْ تمسَّك أهل الفتنة بادِّعائهم أنَّ القاضي عياض أراد أنَّ قوله إجماع؛ يُقال لهم: لا معنى لِمَا تمسَّكتُم به لأسباب ثلاثة: الأوَّل: أنَّكُم تنسبون الكلام لساكت لأنَّه لم ينُصَّ على الإجماع في ذلك فكيف تحكمون أنَّه أراد الإجماع بينما كتابُه المذكور مشحون بذكر الخلاف الواسع في العصمة!؟

15

والسَّبب الثَّاني: أنَّ ادِّعاء أهل الفتنة أنَّ القاضي عياض أراد النَّصَّ على الإجماع في ذلك الموضع: هُو في حقيقة الأمر نسبة القاضي عياض إلى الجهل بمذاهب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة فإنَّ الكثير منهُم نصَّ على جواز ذلك وسوف أضع في ختام المقال بعض نُصوصهم في جواز ذلك.

16

والسَّبب الثَّالث: أنَّ القاضي عياضًا نفسه قال: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ، وَلَا فِي صَغِيرَةٍ أَدَّتْ إِلَى إِزَالَةِ الحِشْمَةِ وَأَسْقَطَتِ المُرُوءَةَ وَأَوْجَبَتِ الإِزْرَاءَ وَالخَسَاسَةَ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْصَمُ عَنْهُ الأَنْبِيَاءُ إِجْمَاعًا> انتهى.

17

فهذا صريح في أنَّ الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها ذُنوب حقيقيَّة وإلَّا لَمَا ذكر عياض أنَّ تكرارها وكثرتها يُلحقها بالكبائر لأنَّ ترك الأَولى مهمَا تكرَّر ومهمَا كثُر لا يصير ذنبًا حقيقيًّا صغيرًا فكيف يصير مِن كبائر الذُّنوب! فتعيَّن أنَّ العُلماء مُختلِفون في جواز الذُّنوب الحقيقيَّة لا المجازيَّة.

18

فإذَا تقرَّر أنَّ القاضي عياض يُثبت اختلاف العُلماء في جواز الصَّغيرة الحقيقيَّة الَّتي لا خسَّة فيها على الأنبياء؛ وأنتَ علمتَ أنَّ الذَّنب لا يكون حقيقيًّا إلَّا إذَا تعمَّد فاعلُه فعلَه؛ فكيف يُنسَب بعد هذا للقاضي عياض أنَّه نصَّ على الإجماع بينما ينُصُّ الرَّجُل على الخلاف بصريح القول!

19

وبرَّأ القاضي عياض الأنبياء مِن الكذب فقال في [الشِّفا]: <وَتَجْوِيزُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا قَادِحٌ فِي ذَلِكَ وَمُشَكِّكٌ فِيهِ مُنَاقِضٌ لِلْمُعْجِزَةِ، فَلْنَقْطَعْ عَنْ يَقِينٍ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ خُلْفٌ فِي الْقَوْلِ فِي وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ؛ لَا بِقَصْدٍ وَلَا بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَلَا تَتَسَامَحْ مَعَ مَنْ سَامَحَ فِي تَجْوِيزِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ> إلخ..

20

يقول القاضي عياض في بقيَّة كلامه: <وَلَا تَتَسَامَحْ مَعَ مَنْ سَامَحَ فِي تَجْوِيزِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَالَ السَّهْوِ مِمَّا لَيْسَ طَرِيقُهُ الْبَلَاغَ؛ نَعَمْ، وَبِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَلَا الِاتِّسَامُ بِهِ فِي أُمُورِهِمْ وَأَحْوَالِ دُنْيَاهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يزْرِي وَيُرِيبُ وَيُنَفِّرُ الْقُلُوبَ عَنْ تَصْدِيقِهِمْ بَعْدُ> انتهى.

21

فالقاضي عياض يُوجِّه إلى ترك التَّسامح مع مَن نسب تلك المُنفِّرات إلى الأنبياء عليهمُ السَّلام لأنَّها تُزري بهم وتُنفِّر القلوب عن تصديقهم فهُم معصومون منها إجماعًا فكيف تزعُمون يا أهل الفتنة أنَّ القول بنُبُوَّة إخوة يُوسف (مُعتبَر) مع أنَّهُم كذبوا على أبيهم كما أثبت القُرآن الكريم!؟

22

قال السَّعد التَّفتازانيُّ فِي [شرح العقائد النَّسفيَّة] ما نصُّه: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ (عَمْدًا) عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى.

23

وقال الأرمويُّ الهنديُّ فِي [نهاية الوُصول فِي دراية الأُصول] فِي معرض حديثه عن الذَّنب الصَّغير -الَّذي لا خسَّة فيه- ما نصُّه: <أحدها: جواز صُدوره منهم (عمدًا) وسهوًا وعليه الأكثرون منَّا ومِن المُعتزلة. وثانيها: عدم جواز صُدوره منهم (عمدًا) وسهوًا وهو مذهب الرَّوافض> انتهى.

24

وقال أبو الحسن عليُّ بن عبد الرَّحمن اليفرنيُّ المالكيُّ فِي [المباحث العقليَّة فِي شرح معاني العقيدة البرهانيَّة]: <فهذا ممَّا اتَّفق أكثر أصحابنا وأكثر المُعتزلة على جوازه (عمدًا) وسهوًا خلافًا للشِّيعة وذهب الجبَّائيُّ إلى أنَّ ذلك لا يجوز لا بطريق السَّهو أو الخطإ فِي التَّأويل> انتهى.

25

وفي [المُختصر الكلاميِّ] لابن عرفة التُّونسيِّ -مِن كبار فُقهاء المالكيَّة في زمانه- ما نصُّه: <الأكثرُ منَّا ومِن المُعتزلة على جوازه ولو (عمدًا)؛ ومنعه الشِّيعة مُطلقًا والجُبَّائيُّ والنَّظَّام عمدًا> انتهى.

26

وقال الجُرجانيُّ فِي [شرح المواقف]: <(وأمَّا الصَّغائر عمدًا فجوَّزه الجُمهور إلَّا الجبَّائيَّ)> انتهى وقال: <(ومَن جوَّز الصَّغائر عمدًا فله زيادة فُسحة) في الجواب إذ يزداد له وجه آخَرُ وهُو أنْ يقول جاز أنْ يكون الصَّادر عنهم صغيرة (عمدًا) لا كبيرة> انتهى ثُمَّ قال: <(ولا اعتراض على ما يصدُر عنهُم مِن الصَّغائر) سهوًا أو (عمدًا) عند مَن يُجوِّز تعمُّدها> انتهى.

27

وقال المرداويُّ الحنبليُّ فِي [تحرير المنقول وتهذيب عِلم الأُصول] ما نصُّه: <وتجوز صغيرة (عمدًا) عند القاضي وابن عقيل وابن الزَّاغونيِّ والأشعريَّة وقيل لا. وعند الحنفيَّة معصوم مِن معصية مقصودة..> انتهى ولاحظ كيف خصَّ الحنفيَّة أي الماتُريديَّة بالقول بالعصمة مِن معصية مقصودة.

28

وقال فِي [التَّحبير]: <والنَّوع الثَّاني الصَّغائر وهو أيضًا قسمانِ: أحدهما فعلها (عمدًا) والثَّاني سهوًا. فالأوَّل: وهو فعلها (عمدًا) هل يجوز وقوعها منه أم لا. فيه قولان: أحدهما الجواز وهو قول القاضي وابن عقيل والأشعريَّة والمُعتزلة وغيرهم والقول الثَّاني عدم الجواز وهو قولٌ فِي مذهبنا> انتهى.

29

وفي [بُغية الطَّالب فِي شرح عقيدة ابن الحاجب] لأحمد بن مُحمَّد بن زكري التِّلمسانِيِّ المانويِّ المغرانيِّ ما نصُّه: <وأمَّا الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها فجائزة مِن غير إصرار؛ (عمدًا وسهوًا خلافًا للشِّيعة) مُطلقًا؛ والجبَّائيِّ والنَّظَّامِ فِي العمد؛ كذا نقل غير واحد مِن الأئمَّة> إلخ..

30

وفي [حاشية المولى مُصلح الدِّين] مُصطفى بن مُحمَّد الكستليِّ على [شرح] السَّعد التَّفتازانيِّ على [متن العقائد] للنَّسفيِّ: <وإلَّا فيُحمَل على أنَّه ترك الأَولى أو على الصَّغيرة سهوًا أو (عمدًا) أو على أنَّه قبل البعثة> انتهى.

31

وقال مُلَّا عليٌّ القاري فِي [شرح الشِّفا] ما نصُّه: <وأمَّا الصَّغائر فتجوز (عمدًا) عند الجُمهور> انتهى وقال مُلَّا عليٌّ القاري فِي [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح]: <وأمَّا الصَّغائر فتجوز (عمدًا) عند الجُمهور> انتهى.

32

وقال الكلبيُّ فِي [التَّسهيل لعلوم التَّنزيل]: <وقيل أكل (عمدًا) وهي معصية صُغرى وهذا عند مَن أجاز على الأنبياء الصَّغائر> انتهى.

33

وفي الجلد التَّاسع مِن تفسير [رُوح البيان] لإسماعيل حقِّي البُروسويِّ الحنفيِّ ما نصُّه: <وأمَّا الصَّغائر فتجوز (عمدًا) عند الجُمهور> انتهى.

34

وفي [حاشية الشَّيخ مُحمَّد بخيت المُطيعي 1354هـ] على شرح الشَّيخ أحمد الدَّردير على منظومته المُسمَّاة الخريدة البهيَّة فِي علم العقائد الدينيَّة ما نصُّه: <وقال فِي [شرح العقائد النَّسفيَّة]: (وأمَّا الصَّغائر فتجوز (عمدًا) عند الجُمهور)> انتهى.

35

وقال فخر الدِّين الرَّازيُّ فِي تفسيره عند قوله تعالى {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} ما نصُّه: <قلنا الجواب عنه قد تقدَّم مرارًا مِن وجوه أحدها المُراد ذنب المُؤمنين ثانيها المُراد ترك الأفضل ثالثُها الصَّغائر فإنَّها جائزة على الأنبياء بالسَّهو والعَمْد..> إلخ..

36

وقال الشَّيخ داود القرصيُّ الحنفيُّ فِي [شرحه على القصيدة النُّونيَّة لخضر بيك]: <وأمَّا صدور صغائر غير مُنفِّرة بعدَها فجوَّزه الجُمهور (عمدًا) وسهوًا> انتهى.

37

وفي بقية كلام الشَّيخ داود القرصيِّ فائدة حيث يقول: <وزعم جمهور الشِّيعة والرَّوافض أنَّه لا يجوز عليهم ذنب أصلًا لا كبيرة ولا صغيرة لا عمدًا ولا سهوًا لا قبل النُّبوَّة ولا بعدها وهذا كما تَرى يُرى أنَّه تعظيم لهم ولذا اشتهر بين (الجهَلة المُتصَولحة) زعمًا منهم أنَّه هو التَّعظيم> انتهى.

38

ومعنى كلامه أنَّ مَن زعم أنَّه لا يجوز ذلك على الأنبياء لا سهوًا ولا عمدًا فهُو مِن الجَهَلَة المُتصولحة لأنَّه خرج عن القَولين المُعتبرَين عند أهل السُّنَّة والجماعة؛ وهذا عين ما نتَّهم به أهلَ الفتنة المُتمظهرين بالعفاف والصَّلاح وحقُّهُم التَّحرُّز مِن الاقتراب منهُم لِعِلَّة الزَّيغ الَّذي في قُلوبهم.

39

فهذه أكثر مِن عشَرة أقوال لعُلماء مِن أهل السُّنَّة والجماعة كُلُّها تنُصُّ على أنَّ الجُمهور يقول بجواز وُقوع الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عمدًا، أمَّا أهل الفتنة فلا يُنكرون كون هذا القَول قول الجُمهور وحسب بل ويُضلِّلون ويُكفِّرون مَن قال به! وهذا مِن جُملة افترائهم على الشَّرع.

40

فهل بعد هذا المقال الواضح -والبيان المرسوم بعشرات أقوال عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة- مِن أثر لشُبُهات أهل الفتنة في مسألة عصمة الأنبياء عن تعمُّد الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها!؟ وهذا بعض ما عندنا؛ ولدينا مزيد.. ولو كان أهل الفتنة طُلَّاب حقٍّ لكفاهُم دليل واحد ولكنَّهُم قَوم بُهت.

41

فإذَا ثبت لك أنَّ جُمهور العُلماء قالوا بجواز تعمُّد الأنبياء للصَّغائر غير ذات الخسَّة؛ وثبت أنَّ أهل الفتنة يُضلِّلون مَن قال بجواز ذلك على الأنبياء ويعتبرونه كافرًا غير مُسلم: فاعلم أنَّ أهل الفتنة جاءُوا ببدعة يُكفِّرون بها جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بغير حقٍّ والعياذ بالله تعالى.

42

ورَدُّ شُبُهات أهل الفتنة في تكفير عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة واجب شرعيٌّ لأنَّه لا يجوز السُّكوت عمَّن يُحرِّف الشَّرع ويأتي بدعاوى الإجماع المكذوبة والَّتي مِن شأن السُّكوت عنها أنْ يعمد الجَهَلَة المُتصولحة إلى تلقين النَّاس تكفير العُلماء واستحلال دماء المُسلمين بغير حقٍّ والعياذ بالله.

43

وهذا هُو سبب نُهوضنا للرَّدِّ على أهل الفتنة في العصمة وليس بحثًا عن ذُنوب ساداتنا الأنبياء عليهمُ السَّلام كما يفتري أهل الفتنة، وكذلك عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة أكثروا التَّصنيف في العصمة ليس بحثًا عن ذُنوب الأنبياء وإنَّما ردًّا للدَّعاوي الكاذبة ومنعًا لتحريف الشَّرع.

44

ولعلَّ جاهلًا لا يعلم فائدة الكلام في المسألة لشدَّة جهله ويرى أنَّ السُّكوت عن الخوض فيها أَوْلى حتَّى لمَن يعلم! وقد استبان لك أخي القارئ أنَّ الكلام في مسألة العصمة مُتعيِّن لِمَا ذكرتُ لك مِن فوائد.. وكذلك بُغية منع الجَهَلَة المُتصولحة مِن تكفير عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بغير حقٍّ.

45

ويكفيك أخي القارئ أنْ تعلم أنَّ العُلماء مُتَّفقون على عصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام مِن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة وأنَّهُم مُختلفون بعد ذلك على قولَين مُعتبَرَين، الأوَّل: القول بجواز تعمُّدهم الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها، والثَّاني: القول بعصمتهم حتَّى مِن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها.

46

أمَّا القول بعصمة الأنبياء مِن كُلِّ مُخالفة لنهيٍ أبدًا مُطلَقًا فهذا قول غير مُعتبَر لأنَّ فيه تكذيبًا لصريح ما في القُرآن الكريم مِن أنَّ آدم عليه السَّلام كان منهيًّا عن الشَّجرة كما قال تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} الآية.. وقد مرَّ معنا في أوَّل مقالنا فلا نُطوِّل المقال بتكراره.

47

ونحن ما أبدينا آراءنا الخاصَّة في المُفاضلة بين القولَين المُعتبَرين لأنَّ آراءنا ليست محلَّ البحث واكتفينا بذكر أنَّ القولَين مُعتبَران عند أهل السُّنَّة والجماعة وهذا كاف لمنع التَّكفير والتَّضليل في هذا القدر مِن المسألة لأنَّ التَّكفير والتَّضليل حرام في مسألة اختلف فيها الأئمَّة المُعتبَرون.

48

ونحن ما كتبنا لإثبات الذُّنوب الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها على الأنبياء وإنَّما كتبنا لإثبات كون المسألة خلافيَّة بين عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة ورسمنا المقالات لإثبات بُطلان التَّضليل والتَّكفير الَّذي حكم به أهل الفتنة على جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة وعلى مَن أخذ بقولهم في المسألة.

49

وأهل الفتنة الَّذين ضلَّلوا شيخنا الهرريَّ واتَّهموه زُورًا بإساءة الأدب مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع أنَّ كلامه كان لضرورة البيان الشَّرعيِّ وردِّ الدَّعاوى المُفتراة على الشَّرع.. اسألوهم: مَن علَّمهُم محبَّة النَّبيِّ وتعظيمَه عليه الصَّلاة والسَّلام.. أليس شيخَنا الهرريَّ وتلامذته مِن المشايخ الكرام! بلى..

50

والخُلاصة أنَّ أهل الفتنة كفَّروا بذلك جُمهور العُلماء الَّذين نصَّ على قولهم بجواز وُقوع الصَّغائر عمدًا التَّفتازانيُّ؛ والأرمويُّ؛ واليفرنيُّ؛ وابن عرَفة؛ والجُرجانيُّ؛ والمرداويُّ؛ وابن زكري؛ والكستليُّ؛ وعليٌّ القاري؛ والكلبيُّ؛ وإسمعيل حقِّي؛ والمطيعيُّ؛ والرَّازيُّ؛ وداود القرصيُّ وغيرُهُم كثير..

51

وهؤُلاء العُلماء أخذوا ذلك عن مشايخهم.. وأخذه عنهُم تلامذتُهُم.. فإنْ كان القول بذلك كُفرًا وزندقة -كما عند أهل الفتنة- فمَن يبقى مُسلمًا مِن عُلماء مذهبنا بحسب أهل الفتنة الَّذين كانوا يتَّهمون أهل السُّنَّة والجماعة بإطلاق أحكام التَّكفير بغير حقٍّ؛ والحقيقة كما قيل: رمتني بدائها وانسلَّت! 

52

وفي الختام أقول إنَّ حُمق أهل الفتنة أكثر عداوة لهُم مِن كُلِّ خصم؛ وإنَّهُم جاءُوا بقرنَي حمار.. بالكذب والباطل؛ فأمَّا الكذب: فادِّعاؤُهُم الإجماع في مسألةٍ – الخلافُ فيها أشهر مِن نار على عَلَم؛ وأمَّا الباطل: فتكفيرُهُم لمَن قال بقول الجُمهور في العصمة.. فلا حَول ولا قُوَّة إلَّا بالله.

نهاية المقال.

أهل الفتنة في الميزان 1

مُختصر بيان حال يوسف ميناوي

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فإنَّ يُوسف ميناوي رجل لا يُحسن القراءة ولا الكتابة ولكنَّه يتجرَّأ على الكلام في كُلِّ مسائل الشَّرع فيُفتي في الفقه والحديث والعقائد وغيرها بينما لم يُتقن بابًا واحدًا في أيٍّ مِن هذه العلوم الشَّرعيَّة.

2

يُوسف ميناوي يدفعُه حقد شخصيٌّ كبير ولُؤم عظيم في طبعه على الطَّعن بجمعيَّة المشاريع ولكنَّه يخلط بَين كونه جاهلًا وبين كونه حقودًا فيَخرُج بافتراءات تدُلُّ أنَّ صاحبها صاحبُ فَهْمٍ سقيم جدًّا.

3

وهذا الرَّجُل كان يُقرُّ بأنَّ الشَّيخ عبداللهِ الهرريَّ هُو مُجدِّد الزَّمان ثُمَّ غيَّر رأيه نكاية بوليِّ الله! وصار يقول بل عبداللهِ الغماريُّ هُو المُجدِّد؛ فلمَّا رَددنا عليه مرَّة بقول الغماريِّ ترك اعتقاد كونه مُجدِّدًا!

4

وكما هُو في هذا؛ كذلك في كُلِّ مسألة شرعيَّة؛ يتنقَّل فيها مِن مذهب إلى مذهب إلى مذهب لم يُرزق الثَّبات على الحقِّ؛ قال العُلماء: <وَمَن جَعَلَ عِلمَهُ غَرَضًا لِلخُصُومَاتِ كَثُرَ تَنَقُّلُهُ> انتهى.

5

ويزعُم يُوسف ميناوي أنَّ الأنبياء يستنطقون النَّاس بالكُفر؛ وذلك لأنَّه نظر في الآية: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} فلم يفهم أنَّه سؤال استنكاريٌّ لم يطلُب إبراهيم عليه السَّلام به جوابَ كُفرٍ.

6

وخالف يُوسف ميناوي أهلَ السُّنَّة في مسألة عصمة الأنبياء وكفَّر جُمهور العُلماء لأنَّهم يُجوِّزون وُقوع نبيٍّ في صغيرة لا خسَّة فيها ولو قالوا: “يتوب منها فورًا قبل أنْ يُقتدَى به فيها” فيا للعجب!

7

وخالف يُوسف ميناوي فأفتى بإخراج الفدية عن الأموات على معنى القطع بكونها كفَّارة لترك الصَّلاة؛ وهذا خلاف الحديث: <مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ> انتهى.

8

وافترى يُوسف ميناوي إجماعًا مكذوبًا بأنَّ إخوة يُوسف ما وقعوا في الكُفر؛ غافلًا أنَّ القُشَيريَّ يقول: <بسطوا في أبيهم لسان الوقيعة> انتهى. والمعنى: شتموه؛ وشتم الأنبياء كُفر بالإجماع.

9

وأخذ يُوسف ميناوي بمذهب النَّواصب الَّذين زعموا أنَّ البُغاة مأجورون مُثابون لأنَّهم قاتلوا سيِّدنا عليًّا وقتلوا سيِّدنا عمَّار بن ياسر! غافلًا عن قول الله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ}.

10

والخُلاصة أنَّ هذا الرُّوَيْبِضَةَ ليس على شيء وإنَّما يتنطَّع. وقد سُئل نبيُّنا عمَّا ورد في أشراط السَّاعة مِن أنَّ الرُّوَيبضة ينطِق في أمر العامَّة فقال: <الرَّجُلُ التَّافِهُ الْحَقِيرُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ>.

– وختامًا؛ هذه قصيدة في بيان حال يُوسف ميناوي:

أَبُو اعْرِفُوْنِيْ

1. بلَى واللهِ أنتَ “أبُو اعْرِفوني” ~ وفيكَ اليومَ قد صَدَقَتْ ظُنوني

2. تريدُ إمامةَ الطُّلاب طُرًّا ~ وتجهلُ كيفَ تقرأُ في المُتونِ

3. وتَبغي الشَّأنَ بينَ النَّاسِ زُورًا ~ فشأنُك سَاقطٌ بين الشُّؤونِ

4. أراكَ و خَنْجَرُ الشَّيطانِ أضحَى ~ رفيقَكَ في التَّحرُّكِ والسُّكونِ

5. تَظنُّ الجاهَ بالبُهتانِ عِزًّا ~ أمِ المقصودُ في مَلْءِ البُطونِ

6. ألَا يا يُوسفُ المملوءُ زيفًا ~ كفاكَ تنطُّعًا واقْنَعْ بدُونِ

7. تذكَّرْ يومَ عَزرائيلُ يأتي ~ ويومَ ستَحتَسي كأسَ المَنونِ

8. عَساكَ تَتوبُ قبلَ الفَوْتِ يا مَنْ ~ تعمَّقَ في الجَهالةِ والفُتونِ

9. تُعادي الأولياءَ بقولِ بُهْتٍ ~ ألَا تبَّتْ يَداكَ بكُلِّ هُوْنِ

10. مذاهبُ شيخِنا الهَرريِّ تبقَى ~ برغمِكَ في القلوبِ وفي العُيونِ

* نهاية المقال.

ردُّ كيد المُفتري على الإمام الهرري <3>

في مسألة عصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

* وبعدُ فهذه سلسلة مِن المقالات؛ فيها [ردُّ كيد المُفتري على الإمام الهرري] وهُو العالِم العلَّامة والحَبر الفهَّامة، وبيان أقواله في مسائل شرعيَّة مُهمَّة افترى عليه أهل الفتنة الَّذين يتلقَّفون مِن الكُتُب كُلَّ صحيح وسقيم.

* في مسألة عصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام

1

وزعم أهل الفتنة أنَّ الشَّيخ عبداللهِ الهرريَّ نسب إلى الأنبياء ما لا يليق بهم، وهذا بُهتان عظيم، فإنَّ شيخنا على ما عليه جُمهور العُلماء مِن عصمة الأنبياء عن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة قبل النُّبُوَّة وبعدها.

2

وتمسَّك أهل الفتنة بالدَّعاوي الكاذبة فزعموا أنَّ الأنبياء معصومون بعد النُّبُوَّة عن كُلِّ معصية بالإجماع، وكذبوا، فليس هذا مذهب الجُمهور بل جوَّز الجُمهور وُقوع الأنبياء في صغائر لا خسَّة فيها قبل النُّبُوَّة وبعدها.

3

وقال التَّفتازانيُّ فِي [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ> إلى قوله: <لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى وقوله: <بَعْدَ الوَحْيِ> أي بعد النُّبُوَّة.

4

ونقل كثير مِن العُلماء مذهب الجُمهور في جواز وُقوع الأنبياء في صغائر لا خسَّة فيها كالطَّبريِّ -الموصوف بالاجتهاد- وابن بطَّال والبيهقيِّ والمُتولِّي والجُوينيِّ والقاضي عياض ومُلَّا عليٍّ والزَّركشيِّ وكثير غيرهم.

5

وقال الغزاليُّ فِي [المنخول]: <وأمَّا الصَّغائرُ ففيهِ تردُّدُ العُلماءِ والغالبُ على الظَّنِّ وقوعُهُ وإليهِ يُشيرُ بعضُ الآياتِ والحكاياتِ؛ هذا كلامٌ فِي وقوعِهِ> انتهى وقال في [المُستصفى]: <فقد دلَّ الدَّليل على وُقوعها منهُم> إلخ.

6

وقال النَّوويُّ فِي [شرح مُسلم]: <وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ غَيْرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ مِنْهُمْ فَذَهَبَ مُعْظَمُ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ وَحُجَّتُهُمْ ظَوَاهِرُ القُرْآنِ وَالأَخْبَارِ> إلى آخر كلامه.

7

وأنكر أهل الفتنة على شيخنا تسميته الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها: حقيقيَّة، فذكرنا لهُم قول عياض فِي [الشِّفا]: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ> انتهى.

8

ثُمَّ علَّمناهُم أنَّ كلام القاضي عياض المذكور آنفًا يُفيد بأنَّ الصَّغيرة الَّتي جوَّز الجُمهور وُقوع الأنبياء فيها: هي الصَّغيرة الحقيقيَّة غير المُنفِّرة لأنَّ المعصية المجازيَّة مهمَا تكرَّرت وكثُرت فإنَّها لا تلتحق بالكبائر.

9

ثُمَّ قرأ أهل الفتنة أنَّ بعض العُلماء اشترطوا في المعصية الحقيقيَّة العلمَ بكونها معصية، وغاب عنهُم أنَّه اصطلاح عند بعض العُلماء القائلين بالعصمة المُطلقة فهُو خاصٌّ بهم ليس أصلًا في المعنى الشَّرعيِّ.

10

أمَّا في اللُّغة فالحقيقة تُقابل المجاز ولذلك ميَّز سائر العُلماء بَين الصَّغيرة وترك الأَوْلى؛ لكون الصَّغيرة حقيقيَّة والثَّانية مجاز، ولا يُوجد بين أيديهم قول مُعتبَر واحد فيه إنكار أنَّ ما جوَّزه الجُمهور المعصية على الحقيقة.

11

وزعم أهل الفتنة أنَّ المعصية تُطلق على ثلاثة وُجوه: إطلاق حقيقيٌّ وإطلاق مجازيٌّ وإطلاق ثالث مُجرَّد مِن الحقيقة والمجاز! وهذا الثَّالث المكذوب هُمُ افترَوه على اللُّغة والدِّين، وهو منهُم بدعة لم يُسبقوا إليها في العالَمِين.

12

وأنكر أهل الفتنة استعمال لفظ الحقيقيَّة بقصد بيان قول الجُمهور في العصمة وزعموا أنَّه إساءة أدب بحقِّ الأنبياء؛ ولا معنى لإنكارهم فإنَّه لفظ لا يزيد على ما أطلقه الجُمهور مِن جواز الصَّغيرة على الأنبياء عَمْدًا.

13

ولو كان أهل الفتنة مُنصفين لأنكروا على مشايخهم نسبة الكبائر للأنبياء فإنَّ ذلك مُخالف لِمَا أجمع عليه عُلماء أهل السُّنَّة مِن عصمة الأنبياء عن الكبائر قبل النُّبُوَّة وبعدها؛ ولكنَّهُم سكتوا عن إنكار ذلك ففضحهُمُ الله.

14

وكُلُّ مَن جالس الشَّيخ الهرريَّ وعَرَفَه يشهد كيف استفاد منه محبَّة الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامُه- وتعظيمَهُم وتنزيهَهُم عمَّا لا يليق بهم وكيف قضى الشَّيخ عُمُرَه في الدِّفاع عن الأنبياء والتَّحذير ممَّا افتُري عليهم.

نهاية المقال.

منقول من صفحة أهل السنة

أهل الفتنة في الميزان 3

مُختصر بيان حال المدعو نور الدِّين إسلام

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فإنَّ المدعو نُور الدِّين إسلام رجُل لا يُحسن حتَّى قراءة أسماء الكُتُب الَّتي يحملها بَين يدَيه ولا أسماء مُصنِّفيها؛ ومع ذلك فهُو يتجرَّأ على مُخالفة العالِم العامل دون أنْ يَرِفَّ له جفن والعياذ بالله.

2

والمدعو نور الدِّين إسلام كان يُظهر المودَّة للمشايخ مِن أهل السُّنَّة والجماعة؛ ثُمَّ قلب ظهر المِجَنِّ دون أنْ يمنح نفسه فُرصة سماع الحقِّ والاطِّلاع على الأدلَّة والبراهين مِن أهل العلم.

3

وخاض المدعو نور الدِّين إسلام في عصمة الأنبياء دون أنْ يفهم أنَّ الأشعريَّ لا يرى تناقُضًا بين عصمة الأنبياء وبين وُقوع صغائر غير مُنفِّرة منهُم؛ فخَلَطَ وخَبَطَ خَبْطَ عشواء؛ سلَّمَنا الله.

4

والمدعو نور الدِّين إسلام لم يُعجبه قول الأشعريِّ في اجتهاد مُعاوية: <كان خطأً وباطلًا ومُنكرًا وبغيًا>؛ فعمد إلى الأخذ بـ[الإبانة] و[رسالة إلى أهل الثَّغر] مع اتِّفاق الأشاعرة على وُقوع الدَّسِّ فيهما.

5

وغفَل الجاهل أنَّ في بعض هذه النُّسَخ السَّقيمة ما يُناقض العقيدة كما أفاد مَن اطَّلع عليها مِن العُلماء. قال المُؤرِّخ الصَّفديُّ: <وُضِع كتابُ الإبانة على لسان الشَّيخ أبي الحَسَن الأشعريِّ> انتهى.

6

وقد كذَّب المدعو نور الدِّين إسلام على بعض المشايخ الطَّيِّبين في مصرَ الحبيبة وهُم لا يعرفون حاله على الحقيقة فيفتري عندهم على العُلماء والمشايخ لأنَّه لم يفهم الحقَّ والصَّواب.

7

وقد افترى المدعو نور الدِّين إسلام بأنَّ المشايخ غيَّروا في كُتُب الشَّيخ عبدالله الهرريِّ بعد وفاته؛ فكذَّبَتْهُ كُتُب الشَّيخ المطبوعة في حياته رحمه الله. فتكبَّر الثَّرثار عن قبول النَّصيحة.

8

والجاهل افترى علينا فزعم أنَّنا نطعن بالصَّحابة لمُجرَّد أنَّنا خطَّأنا البُغاة؛ وزعم أنَّنا نطعن بأُمِّ المُؤمنين عائشة رضي الله عنها لمُجرَّد أنَّنا نذكر ما رواه العُلماء مِن ندمها على خروجها، والنَّدم توبة.

9

وقد خالف المدعو نور الدِّين إسلام قواعد الدِّين؛ وتغافل عن قول الله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} فأثبت للبُغاة أجرًا وهُم ظالمون عُصاة بنصِّ كلام رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام.

10

والخلاصة أنَّ المدعو نور الدِّين إسلام لا يعدو كونه واحدًا مِن أهل الفتنة المُتعولمة المُتصولحة الَّذين يتمظهرون بالعلم والتَّقوى وهُم أبعد ما يكون عن ذلك فلا حَول ولا قُوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم.

– وختامًا؛ هذه أبيات قيلت في المدعو نور الدِّين إسلام عندما أراد الاستدلال بالدَّسائس النَّاصبيَّة والحشويَّة؛ قال ناظمُها:

أين الوَرَع!

أَوَمَا عَلِمْتَ قَدِ انْقَطَعْ ~ مَتْنُ [الْإِبَانَةِ] يَا لُكَعْ

أَنَّ [الْإِبَانَةَ] حُرِّفَتْ ~ فِيْهَا الْمُشَبِّهُ قَدْ وَضَعْ

أَنَّ الْأَئِمَّةَ حَذَّرُوْا ~ مِنْ مُجْرِمٍ فِيْهَا ابْتَدَعْ

مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ بِهَا ~ كَمْ عَارِفٍ ثِقَةٍ مَنَعْ

بَلْ قَدْ عَلِمْتَ وَإِنَّمَا ~ طَبْعٌ إِلَى الزَّيْغِ انْدَفَعْ

فَذَهَبْتَ أَقْبَحَ مَذْهَبٍ ~ بِالدَّسِّ تَسْعَىْ وَالْخُدَعْ

وَرَفَعْتَ مَا قَدْ حَرَّفَ الـ ~ ـشَّيْطَانُ أَنْتَ لَهُ تَبَعْ

يَا أَيُّهَا الدَّسَّاسُ قُلْ ~ أَيْنَ الْإِنَابَةُ وَالْوَرَعْ

اَلْأَشْعَرِيُّ إِمَامُنَا ~ مَعَنَا عَلَيْكُمْ قَدْ جَمَعْ

هَذَا [الْمُجَرَّدُ] شَاهِدٌ ~ أَنَّ الْبُغَاةَ عَلَىْ فَزَعْ

“خَطَأٌ وَبَغْيٌ بَاطِلٌ ~ بَلْ مُنْكَرٌ” وَبِذَا صَدَعْ

قُلْنَا فَمَعْنَاهُ “عَصَىْ” ~ وَأَبَى الْحِمَارُ فَمَا اقْتَنَعْ

اَللهُ رَبِّي قَدْ نَهَىْ ~ عَنْ بَغْيِ أَصْحَابِ الْبِدَعْ

وَحَدِيْثُ أَحْمَدَ قَدْ أَتَىْ ~ مُتَوَاتِرًا وَلَقَدْ نَفَعْ

“يَا وَيْحَ عَمَّارٍ” بَلَىْ ~ يَغْتَالُهُ أَهْلُ الطَّمَعْ

حَقًّا عَلَى الدُّنْيَا سَمَا ~ عَلَمُ النُّبُوَّةِ وَارْتَفَعْ

يَا وَيْلَ غِرٍّ جَاهِلٍ ~ سَمِعَ الدَّلِيْلَ فَمَا ارْتَدَعْ

مُتَفَيْهِقٍ مُتَكَبِّرٍ ~ طَلَبَ الظُّهُوْرَ فَلَمْ يَدَعْ

يَا أَيُّهَا الْمَفْتُوْنُ لَا ~ تَسْمَعْ لِمَا الْبَاغِيْ صَنَعْ

وَلَقَدْ نَصَحْتُكَ مَرَّةً ~ فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَقَعْ

فِيْ فِتْنَةٍ مَلْعُوْنَةٍ ~ فِيْهَا لَكُمْ صَارَ الْوَلَعْ

فَسَمِعْتُمُ وَعَصَيْتُمُ ~ عِصْيَانَ هِرٍّ فِيْ هَلَعْ

وَدَفَعْتُمُ عَنْ كُلِّ بَا ~ غٍ ذَلَّ مَنْ عَنْهُ دَفَعْ

لَا أَشْبَعَ الْمَوْلَىْ لَكُمْ ~ بَطْنًا فَلَا كَانَ الشِّبَعْ

* نهاية المقال.

تحقيق مذهب الأشعريِّ في عصمة الأنبياء

وُقوع الصَّغيرة مِن الأنبياء لا يُنافي العصمة عند الأشعريِّ

لم يُنكر وصف المعصية الصَّغيرة بالحقيقيَّة عالِم مُحقِّق

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فإنَّ الأنبياء عليهم السَّلام معصومون مِن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة قبل الوحي وبعده، وليسوا معصومين مِن صُدور الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها ولكنَّهُم يتوبون منهَا فورًا قبل أنْ يقتدي بهم فيهَا غيرُهم.

2

ويجوز وصف (المعصية الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها) بـ(المعصية الحقيقيَّة) لأنَّ (الحقيقيَّة) هنا وصف للمعصية لبيان نوع إطلاقها وهي عبارة لا تُفيد السَّبَّ ولا الشَّتم ولا نحو ذلك ممَّا توهَّمه بعض الأغرار المُبتدئين.

3

وإنَّما أنكر استعمال لفظ (الحقيقيَّة) بعض المُتعالِمِين الجَهَلَة ولم يكُن لهُم أنْ يتكلَّموا في مثل هذه المسألة بأفهامِهِمُ السَّقيمة إذ ليس لهم بذلك مرجع صالح ولا سَنَد صحيح إلى عالِم مُعتبَر فلا يُلتفَتُ إلى كلامهم.

4

قال التَّاج السُّبكيُّ فِي [السَّيف المشهور فِي شرح عقيدة أبي منصور]: <قالَ صاحبُ هذهِ العقيدةِ تَبَعًا لجماهيرِ أئمَّتِنا: (ولكن لم يُعصَموا مِنَ الصَّغائرِ لئلَّا تضعُفَ شفاعتُهم لأنَّ مَن لا يُبتلَى لا يَرِقُّ على المُبتلَى)> انتهى.

5

وكلام التَّاج السُّبكيِّ صريح في أنَّ جماهير الأئمَّة على أنَّ الأنبياء لم يُعصَموا مِن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها؛ والإمام الأشعريُّ داخل في الكلام لأنَّه لم يكُن يرى صُدور المعصية الصَّغيرة مِن الأنبياء مُنافيًا للعصمة.

6

قال الأشعريُّ فِي [المُجرَّد]: <إِنَّ أَنْوَاعَ هَذِهِ الأَلْطَافِ إِذَا تَوالَتْ وَفَعَلَهَا اللهُ بِالمُكَلَّفِ وَلَمْ تَتَخَلَّلْهَا كَبِيرَةٌ قِيْلَ لِمَنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ إِنَّهُ مَعْصُومٌ مُطْلَقًا. وَذَلِكَ كَأَحْوَالِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ..> إلى آخر كلامه وهُو كاف في البيان.

7

ولم ينطقِ [المُجرَّد] بعصمة الأنبياء مِن الصَّغائر بعد الوحي وإنَّما فيه: <فَأَمَّا بَعْدَ إِرْسَالِهِمْ فَلَمْ نَجِدْ عَنْهُ نَصًّا فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ> انتهى فإنْ لم تجد نصًّا له على الجواز لا يعني أنَّه يقول بخلافه كما توهَّم المُتعالِمون.

8

وممَّا يدُلُّ على أنَّ الأشعري كان يُجوِّز الصَّغائر على الأنبياء قولُه في [المُجرَّد] عن النَّبيِّ مِن الأنبياء عليهم السَّلام: <كَمَا لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} لِأَجْلِ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ صَغِيرَةٌ> انتهى.

9

ولهذا فإنَّ التَّاج السُّبكيَّ لمَّا خالف إمامه الأشعريَّ لم يكذب عنه ولم يأتِ بدعوى كاذبة بل بيَّن أنَّه خالف مذهب إمامه فقال فِي [قصيدته النُّونيَّة]: <والأشعريُّ إمامُنا لكنَّنا ~ فِي ذا نُخالفه بكُلِّ لسانِ> انتهى.

10

ومعنى كلام السُّبكيِّ أنَّ الأشعريَّ يبقى إمامَنا ولو خالفناه في مسألة وهذا يُؤكِّد كون الأشعريِّ على جواز صُدور الصَّغائر غير المُنفِّرة مِن الأنبياء بعد الوحي، فاحذروا الدَّعاوي الكاذبة فإنَّها كثيرة مثلُ قَطْرِ الماء.

نهاية المقال.

منقول من صفحة أهل السنة

مُناظرة قصيرة بين أهل السُّنَّة وبين أهل الفتنة

في مسألة عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

أهل السُّنَّة:

وبعدُ فالأنبياء عليهمُ السَّلام معصومون مِن الكبائر وصغائر الخسَّة إجماعًا، وأمَّا مِن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها: فقد اختلف العُلماء على قولَين؛ فقال أكثرُهُم: (مُمكن وُقوعُهُم فيها) وقال بعضُهُم: (النُّبُوَّة تُجلُّ عن فعل الصَّغائر عمدًا) وفي كُلِّ فريق عدد مِن أكابر عُلماء الأُمَّة مِن السَّلف والخلف.

2

أهل الفتنة:

ذنوب الأنبياء مجازيَّة غير حقيقيَّة؛ قال الماتُريديُّ في تفسيره: <وَذَنْبُهُمْ تَرْكُ الأَفْضَلِ دُونَ مُبَاشَرَةِ القَبِيحِ فِي نَفْسِهِ> انتهى. أمَّا شيخُكُم الهرريُّ فقال: <فَنَحْنُ نَقُولُ اقْتِدَاءً بِالْجُمْهُورِ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ هِيَ مَعْصِيَةٌ حَقِيقِيَّةٌ صَغِيرَةٌ لَيْسَ فِيهَا خِسَّةٌ وَلا دَنَاءَةٌ فَأُمِرَ الرَّسُولُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْهَا فَاسْتَغْفَرَ> انتهى.

3

أهل السُّنَّة:

ما نقلتُموه عن الماتُريديِّ هُو أحد قولَي أهل السُّنَّة والجماعة في عصمة الأنبياء مِن صغائر لا خسة فيها؛ وما نقله شيخُنا الهرريُّ هُو القول الآخَر قول أكثر العُلماء مِن السَّلف؛ فهي مِن المسائل الَّتي اختلف فيها العُلماء؛ وقد خالف مذهب الإمام الماتُريديِّ فيها مذهبَ جُمهور العُلماء.

4

أهل الفتنة:

أين الدَّليل على أنَّ ما نقله شيخُكُمُ الهرريُّ هُو قول أكثر العُلماء المُتقدِّمين؟

5

أهل السُّنَّة:

الدَّليل قول الماتُريديِّ في تفسير {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}: <يحتمل وجهَين أحدُهُمَا ما قال عامَّة أهل التَّأويل على تحقيق الوزر له والإثم كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} يقولون: أثبت له الذَّنب والوزر فوَضع ذلك عنه> انتهى فها هُو الماتُريديُّ ينسب لأكثر المُفسِّرين ما نسبه شيخُنا إلى الجُمهور فاتَّفق ما نقله شيخُنا عن الجُمهور مع ما نقله الماتُريديُّ عن أكثر المُفسِّرين؛ فإنكارُكُم لقول شيخنا في المسألة إنكار لقول أكثر المُفسِّرين؛ وتكذيبُكُم لشيخنا في ما نقله عن الجُمهور تكذيب للماتُريديِّ فيما نقله عن أكثر المُفسِّرين. فأنتُم تُضلِّلون جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة وتُضلِّلون أكثر المُفسِّرين.

6

أهل الفتنة:

ولكن الإمام الماتُريديَّ بقوله: <عامَّة أهل التَّأويل> أراد الجَهَلَة الَّذين لا يعرفون قواعد العلم؛ ولم يُرد العُلماء.

7

أهل السُّنَّة:

قال الماتُريديُّ في تفسيره: <قال عامَّة أهل التَّأويل نحو ابن عبَّاس والضَّحَّاك ومُجاهد> إلخ.. فهذا دليل أنَّه لا يقصد الجَهَلَة بقوله: <عامَّة أهل التَّأويل> وإلَّا لَمَا أدخل فيهم ابنَ عبَّاس الَّذي دعا له الرَّسول عليه السَّلام فقال: <اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ> صحَّحه الحافظ العراقيُّ في [تخريج أحاديث الإحياء].

8

أهل الفتنة:

حسنًا؛ نحن نعترف أنَّنا أخطأنا. والصَّواب أنَّ الماتُريديَّ لم يُرد بقوله: (عامة أهل اَّلتأويل) الجَهَلَةَ؛ ولكنَّ الذَّنب الَّذي قال عامَّة أهل التَّأويل إنَّ الله أثبته على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم هُو ترك الأَوْلَى وليس ذنبًا حقيقيًّا.

9

أهل السُّنَّة:

قد أخطأتُم مرَّة أُخرَى لأنَّ كلامهُم لو كان محمولًا على الذَّنب المجازيِّ كترك الأَوْلَى لوافقهُم الماتُريديُّ -وقد نقلتُم قوله ومذهبه بأنفسكُم قبلُ- ولكنَّ الماتُريديَّ صرَّح بمُخالفة قول عامَّة أهل التَّأويل؛ فدلَّ ذلك أنَّ عامَّة أهل التَّأويل أرادوا الذَّنب الحقيقيَّ الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه.

10

أهل الفتنة:

حسنًا؛ ولكنَّ كلام عامَّة أهل التَّأويل لم يكُن فيه تصريح بأنَّ هذا الذَّنب وقع بعد النُّبُوَّة.

11

أهل السُّنَّة:

ولا في كلام شيخنا الهرريِّ -فيما نقله عن الجُمهور في المسألة- تصريح بأنَّ الذَّنب المذكور وقع بعد النُّبُوَّة؛ فتضليلُكُم لشيخنا الهرريِّ مع مُوافقة كلامه لِمَا نقله الماتُريديُّ عن عامَّة أهل التَّأويل يدُلُّ أنَّكُم تُكفِّرون جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة وأكثرَ مُفسِّري السَّلف بغير حقٍّ والعياذ بالله.

نهاية المُناظرة.

ترياق السَّلامة

في الرَّد على مَن ضلَّ طريق الاستقامة

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

وبعدُ فقد اتَّفق العُلماء على عصمة الأنبياء مِن الكُفر والرَّذالات الَّتي تُنفِّر النَّاس مِن قبول الحقِّ منهم فلا يُوجد خلاف مُعتبَر في هذا الأمر أبدًا.

1

وقد أراد الجاهل المدعو (سامر العم) الاحتجاج علينا بأنَّ شيخنا أفاد أنَّ بعض الحنفيَّة عندهم يجوز على الأنبياء قبل النُّبُوَّة الذُّنوب سوى الكُفر والرَّذالات؛ دون أنْ يتنبَّه أنَّ شيخنا لا يُوافق على هذا القول ولكنَّه لا يُخرِج مَن قاله مِن أهل السُّنَّة؛ وبين الأمرَين فرق لا يفهمه الجاهل.

2

وأراد المغرور -بقول بعض الحنفيَّة هذا- أنْ ينتصر لشيخه القائل بوُقوع الكبائر مِن الأنبياء قبل النُّبُوَّة؛ غافلًا أنَّه قول غير مُعتبر؛ ولذلك لم يعتبره القاضي عياض لمَّا قال: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِر> انتهى.

3

إذًا؛ وحسب القاضي عياض فإنَّ أهل السُّنَّة على قولَيهم في المسألة لم يختلفوا في عصمة الأنبياء عن الكبائر قبل النُّبُوَّة؛ ونقل ابن بَطَّال الإجماع على ذلك أيضًا فقال فِي [شرحه على البُخارِيِّ]: <فأجمعتِ الأُمَّةُ على أنَّهم معصومونَ فِي الرِّسالةِ وأنَّهُ لا تقعُ منهم الكبائرُ..> انتهى.

4

وقد قال بعض المُجتهدين: <يجوز الأكلُ لمُريد الصَّوم إلى طُلوع الشَّمس> وقولُه غير مُعتبر ولكن مَن اعتقده لا يُكفَّر؛ ومثله في كونه غيرَ مُعتبَر ولا يُكفَّر قائلُه ما حكاه شيخُنا عن بعض الحنفيَّة مِن أنَّه يجوز على الأنبياء قبل النُّبُوَّة الذُّنوب سوى الكُفر والرَّذالات. فهل علم الجاهل المغرور؟

5

وقال خير الدِّين الرَّمليُّ في حاشيته على كتاب [ابن نُجيم]: <ويكفُر مَن أراد بالمعصية الكبيرة>. فكفَّر الرَّمليُّ مَن نسب الكبيرة لآدم -عليه السَّلام- قبل النُّبُوَّة؛ فهل تقول في خير الدِّين الرَّمليِّ -الفقيه الحنفيِّ- مثلَ قولك فينا يا عدُوَّ العُلماء!؟ هذا فيما يتعلَّق بما قاله بعض الحنفيَّة.

6

وشيخنا الهرريُّ رضي الله عنه يقول لا يجوز أنْ يُنبَّأ مَن كان كافرًا؛ ويقول بتكفير مَن قال ذلك إلَّا لو قيَّد كلامه بأنَّ مَن كان على الكُفر أسلم ثُمَّ حسُن إسلامه وصارت سيرته حميدة أي صار في حال لا يُعيَّر عليه فيها شيء ثُمَّ نُبِّئ فإنْ قيَّد كلامه بهذا قال شيخنا: <لا يُكفَّر> ولم يقُل لا يُخطَّأ.

7

فما بالُك يا بريد الكُفر تصرُخ كالثَّكُول وكأنَّنا نحن مَن جوَّزنا على الأنبياء الكبائر وليس شيخَك الَّذي دخلتَ لتُدافع عنه! وما بالُك أيُّها المغرور تُنكر علينا ما لم نقُل به وتُنكر على شيخنا ما لم يقُل به فلا نحن ولا شيخُنا جوَّز أنْ يُنبَّأ مَن كان على الكُفر؛ قد رفعنا بعُرقوبك حتَّى تقوم أيُّها اللَّئيم!

8

وعليه فنحن لا نُكفِّر مَن قال مَن العُلماء بأنَّ إخوة يُوسف كانوا أنبياء -كالقُشيريِّ أو غيره على تقدير أنَّهم قالوا بذلك- لأنَّهم ما قالوا بأنَّ الكافر يُسلم ثُمَّ يُنبَّأ دون مروره بحالة يكون اصطلح أمره فيها بل أفاد السِّياق أنَّهم قالوا ذلك فيمَن حسُنت سيرتُه ولم يكن على حال يُعَيَّرُ عليه فيها شيء.

9

ثُمَّ أنتَ يا بريد الكُفر اعترفتَ بلسانك أنَّ القُشيريَّ نسب أولاد يعقوب إلى شتم أبيهم وبعد هذا تُنكر أنَّه حكم عليهم بالكُفر حتَّى صار القُشيريُّ عندك: مُناقضًا للإجماع في مسألة أُصُوليَّة لا يُعذر فيها جاهل؛ تاركًا لتكفير مَن شتم الأنبياء والعياذ بالله مِن ظنِّك في عُلماء الأُمَّة المُحمديَّة.

10

وكيف تُنكر الخلاف في وُقوع صغائر غير مُنفِّرة مِن الأنبياء قبل النُّبُوَّة حقيقةً؛ ثُمَّ لا تُنكر قول من قال بنبوة أولاد يعقوب الَّذين فعلوا تلك الأفاعيل المُحرَّمة الخسيسة!؟ بل أردتَ الهرب مِن تكفير المُفسِّرين لأولاد يعقوب عليه السَّلام فخالفتَ قولك في العصمة أيُّها الضَّعضاع الجبان.

11

فشيخنا يُكفِّر مَن نسب الكُفر لنبيٍّ ولو قبل النُّبُوَّة؛ أمَّا مَن قال: إخوة يوسف تابوا وحسُن حالُهم وأُوتوا النُّبُوَّة وأوَّل قولهم في أبيهم على غير الشَّتم فلا يكفُر؛ أمَّا مَن قال: إبراهيم عبد الكواكب ثُمَّ تاب وحسُن حاله وأوتي النُّبُوَّة: فهذا بعضهم كفَّره وبعضُهم لم يُكفِّره؛ وبعضهم قال مَن لم يُكفِّره لا يكفُر أمَّا هُو فقد كفر.

12

وفي الختام تُنكر علينا بشدَّة وتُضلِّلنا وتُكفِّرنا وتُبدِّعنا وتُفسِّقنا لأنَّنا أخذَنا بقول الجُمهور في جواز وُقوع صغائر غير مُنفِّرة مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام بينما تُبرِّئ (صاحبك) الَّذي نسب الكبائر للأنبياء قبل النُّبُوَّة! وهذا يكشف كونك صاحبَ هوًى تُوقظ الفتن النَّائمة.. فعليك مِن الله ما تستحقُّ.

انتهى.

*أهل الفتنة يزعمون أن نسبة الصغائر للأنبياء أشنع من نسبة الكبائر لهم*

وبعد فقد نطق (بريد الكفر) بما يدل على بطلان مذهب أهل الفتنة ويكشف أنهم دعاة إلى مخالفة إجماع المسلمين والعياذ بالله.

فقد قال المدعو سامر العم إن نسبة الصغائر للأنبياء -عليهم السلام- أشنع ألف ألف ألف مرة من نسبة الكبائر إليهم. فيا للعجب!

يدافع عن مشايخه بالباطل….

عصمة الأنبياء عن الصغائر التي لا خسة فيها؛ فيها قولان معتبران عند أهل السنة؛ فالجمهور جوزها وقال بوقوعها منهم.

والعلماء أجمعوا على عصمة الأنبياء عن الكبائر فمن قال إنها تقع منهم فقد خالف الإجماع؛ بخلاف من قال بوقوع الصغائر منهم.

فكيف تكون نسبة الصغائر للأنبياء وهذا يجوزه الشرع؛ أشنع ألف مرة مما لا يجوز الشرع وقوعه إلا في المذاهب الباطلة بل قام الإجماع على خلافه.

ونحن نوجه نداء إلى كل من حول يوسف ميناوي ونايف عمورة وصاحبهما المعكوس ومن دار في دائرتهم ونطالبهم بإنكار ما يقوله هذا المبتدع الضال المدعو سامر العم.

لا تسكتوا عن إنكار المنكر كما سكت يوسف ميناوي (وليس المناوي!) ونايف عمورة وصاحبهما المعكوس ولا تكونوا شياطين خرسا نعوذ بالله من ذلك.

لا تكونوا سببا في ترويج الباطل والدفاع عنه كما يفعل أحدكم وينشر كتابا يقول فيه بجواز قتل الصحابة وعلى رأسهم عمار بن ياسر بل يقول أن فيه الأجر والثواب على القتال أعوذ بالله من ذلك.

فإذا رضيتم بما يقوله بريد الكفر سامر العم فاعلموا أنكم منافقون لا يهمكم دين ولا نبي وإنما محاربة الدعوة إلى الله؛ وحسب.

انتهى

إعداد الأخ شهاب الدين حلاوة

تحقيق مذهب الإمام الجُوينيِّ

في جواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فقد كان إمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك الجُوينيُّ والمُتوفَّى سنة 478 للهجرة إمام الأئمَّة مُجمَعًا على إمامته شرقًا وغربًا وكان رحمه الله شافعيَّ المذهب أشعريَّ العقيدة حُجَّة لم ترَ العُيون مثله في العلم وفرط الذَّكاء.

2

وكُنَّا قد أظهرنا بعض كلام الجُوَينيِّ في جواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام؛ فتجرَّأ المدعو (س. أبو العم) على تكفير الجُوينيِّ والعياذ بالله! بينما خشي أصحابُه البوح بذلك علانية وآثروا الصَّمت زمنًا.

3

ثُم خرج أهل الفتنة بكلام يُحرِّفون فيه مذهب الجُوينيِّ ويزعُمون أنَّه لا يقول بجواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام؛ فلمَّا نظرنا في كلامهم لم نجد شيئًا يُعوَّل عليه في الانتصار لِمَا يدَّعونه مِن كذب.

4

ويكفي في تحقيق مذهب الجُوينيِّ في جواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام قولُه فِي [غِيَاثِ الأُمَمِ]: <فَإِن قَالُوا: كَانَ الأَنبِيَاءُ يَستَغفِرُونَ أَيضًا مَع وُجُوبِ العِصمَةِ لَهُم؛ قُلنَا مَذهَبُنا الَّذِي نَدِينُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عِصمَةُ الأَنبِيَـاءِ عَن صَغَائِرِ الذُّنُوبِ، وَآيُ القُرآنِ فِي أَقَاصِيصِ النَّبِيِّينَ مَشحُونَةٌ بِالتَّنصِيصِ عَلَى هَنـَّاتٍ كَانَت مِنهُم، استَوعَبُوا أَعمَارَهُم فِي الاِستِغفَارِ مِنهَا> إلخ..

5

وقول الجُوينيِّ: (استوعبوا أعمارَهُم في الاستغفار منها) لو قاله واحد منَّا لقام أهل الفتنة بأبشع التَّشنيع في حقِّه كما يفعلون مع بعض المشايخ المُعاصرين ولكن لأنَّ القائل هُنا هُو الجُوينيُّ فقد أُلقِمُوا في أفواههم أحجارًا.

6

ولا شكَّ أنَّ هذا الكلام مِن الجُوينيِّ صريح في أنَّه كان على مذهب الجُمهور في جواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام؛ وقد نسب الجُوينيَّ إلى هذا المذهب كثيرٌ مِن العُلماء نُورد بعض أقوالهم في ذيل المقال.

7

والجُوينيُّ رحمه الله يقول في كتاب [التَّلخيص]: <فأمَّا ما بَدَرَ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (مُحَرَّمًا) -على المذهب الَّذي يُجوِّز عليه الصَّغائر- فلا يجوز اتِّباعُه فيه> انتهَى ومُرادُه بالمُحرَّم الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها.

8

فلمَّا قرأه المدعو (ي. ميناوي) وهُو مِن أهل الفتنة قال: (مُرادُه بالمذهب الَّذي يُجوِّز عليه الصَّغائر مذهب المُعتزلة) انتهَى وكلام الإمام الجُوينيِّ في (غياث الأُمم) يفضح كذب المدعو (ي. ميناوي) ويكشف كونه جاهلًا بليدًا.

9

ومِن المشهور أنَّ مسألة جواز صغائر لا خسَّة فيها على الأنبياء عليهمُ السَّلام مسألة خلافيَّة عند أهل السُّنَّة والجماعة وقد نصَّ الإمام الجُوينيُّ نفسه على ذلك كما بيَّن في كتاب [الإرشاد إلى قواطع الأدلَّة فِي أُصول الاعتقاد] حيث قال ما نصُّه: <العُلماءُ مُختلِفونَ فِي تجويزِ الصَّغائرِ على الأنبياءِ> إلخ..

10

وأين الجُوينيُّ مِن هذا الاختلاف؟ فالجواب كما جاء في كلام الجُوينيِّ نفسه في [الإرشاد] نصُّه التَّالي: <فإن قِيلَ إذَا كانتِ المسألةُ مظنونةٌ فمَا الأغلبُ على الظَّنِّ عندَكم؟ قُلنا: الأغلبُ على الظَّنِّ عندَنا جوازُها وقد شَهِدَت أقاصيصُ الأنبياءِ فِي آيٍ مِن كتابِ اللهِ تعالَى على ذلكَ فاللهُ أعلمُ بالصَّوابِ> انتهَى.

11

ثُمَّ ولأجل أنَّ الطُّيور على أشكالها تقع؛ تنطَّع المدعو (ن. عَمُّورة) فأنكر أنَّ الجُوينيَّ يقول بجواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام؛ فكأنَّه أعلم بمذهب الجُوينيِّ مِن الجُوينِّي نفسه فلا حول ولا قُوَّة إلَّا بالله!

12

وهذا المدعو (ن. عَمُّورة) -عامله الله بما يستحقُّ- كان واحدًا ممَّن شجَّع الجَهَلَة المُتصولحة مِن أهل الفتنة على التَّجرُّؤ على تكفير وتضليل مَن قال بقول جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة في هذه المسألة والعياذ بالله تعالَى.

13

وكعادة أهل الفتنة فقد أغمض المدعو (ن. عَمُّورة) عينيه عن كلام الجُوينيِّ في [غياث الأُمم] -وقد ذكرناه في أوَّل مقالنا هذا- ثُمَّ زعم أنَّ الجُوينيَّ كان مُرادُه بالمُحرَّم الفعلَ الَّذي نُسخ فصار مُباحًا بعد أن كان مُحرَّمًا ممنوعًا!

14

وقول الجُوينيِّ في [التَّلخيص]: <فأمَّا ما بَدَرَ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (مُحَرَّمًا) -على المذهب الَّذي يُجوِّز عليه الصَّغائر- فلا يجوز اتِّباعُه فيه> انتهَى أراد أهل الفتنة أن يُحرِّفوه من خلال تفسير مغلوط لكلام آخرَ للجُوينيِّ وتفسيرُهُم المغلوط مردود عند كُلِّ قارئ يعرف كيف يُفَكُّ الحرف!

15

يقول الجويني: <ومِن الطُّرُق في وُقوع الفعل بيانًا أن يثبُت ويستقرَّ على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وعلى أُمَّته حُكم ثُمَّ يصدُر منه صلَّى الله عليه وسلَّم فعل يُخالف ذلك الحُكم ويُعلَم أنَّه ليس بِسَاهٍ ويتحقَق عندنا أنَّه ليس بمُحَرَّم وإمَّا على منع الصَّغائر أو بأن يتحقَّق بقرائن الحال ذلك فإذا ثبت الفعل على هذا الوجه فيتبيَّن لنا أنَّ الحُكم قد نُسخ في حقِّه صلَّى الله عليه وسلَّم > إلخ..

16

ومعنَى قوله: (ويتحقَّق عندنا أنَّه ليس بمُحرَّم) أي يتحقَّق عندنا نحن أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ هذا الفعل الَّذي بدر مِن الرَّسول ليس مِن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها بأحد أمرين:

– الأوَّل: عند القائلين بأنَّه لا تقع منه صغيرة مُطلَقًا: بمُجرَّد أن يُعلَم أن الفعل المذكور لم يقع منه سهوًا.

– الثَّاني: عند القائلين بجواز أن يقع منه صغيرة لا خسَّة فيها: بأن يُعلَم أن الفعل المذكور لم يقع منه سهوًا أو بأن يتحقَّق بالقرائن أي بالأدلَّة أنَّه ليس معصية صغيرة لا خسَّة فيها بل هُو فعل أُريد به البيان أي التَّبليغ.

إذًا.. الجُوينيُّ رحمه الله لا ينُصُّ مُطلقًا على أنَّ (ذلك) يقع منسوخًا عند فريقَي أهل السُّنَّة (أي عند القائلين بجواز وُقوع الصَّغيرة على الأنبياء وعند القائلين بمنع وُقوعها)..

– بل يشترط عند المانعين لوُقوع الصَّغائر: أن يُعلَم أنَّه لم يقع منه سهوًا

– ويشترط عند المُجوِّزين للصَّغائر: أن يُعلم أنَّه لم يقع منه سهوًا وأن يتأكَّد بالأدلَّة أنَّه وقع بإرادة البيان أي التَّبليغ وإلَّا كان صغيرة لا خسَّة فيها.

– والحالة الأخيرة هي حالة الفعل الَّذي قال فيه الجُوينيُّ: (لا يجوز اتِّباعُه فيه) إلخ..

17

وهُنا قد يسأل سائل: ما الَّذي يُؤكِّد هذا التَّفسير؟ فالجواب: أنَّه زيادة على وُضوح معاني هذه الحُروف فإنَّ الجُوينيَّ صرَّح تصريحًا بأنَّه يَدين بأنَّه لا يجب للأنبياء العصمة عن الصَّغائر أي الَّتي لا خسَّة فيها.

18

ويزيد هذا الأمر تأكيدًا بعد تأكيد أنَّ كثيرًا مِن العُلماء نسبوا الجُوينيَّ إلى القول بمذهب الجُمهور في هذه المسألة أي إلى جواز وُقوع صغائر لا خسَّة فيها من الأنبياء عليهمُ السَّلام.

19

قال التَّفتازانيُّ في [شرح المقاصد]: <وذهب إمام الحرمين منَّا وأبو هاشم مِن المُعتزلة إلى تجويز الصَّغائر عمدًا> إلخ..

20

وقال عليٌّ القاري الحنفيُّ فِي [شرح الشِّفا]: <(وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا) أَي وُجُودَهَا وَوُقُوعَهَا (جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيرُهُم) مِنَ الخَلَفِ كَإِمَامِ الحَرَمَينِ مِنَّا> إلخ..

21

وقال الأبياريُّ المالكيُّ فِي [التَّحقيق والبيان فِي شرح (البُرهان فِي أُصول الفقه للجُوينيِّ)] ما نصُّه: <وَقَولُهُ [1]: (إِنَّ الصَّغَائِرَ مُختَلَفٌ فِي وُقُوعِهَا مِنَ الأَنبِيَاءِ) فَهُوَ كَذَلِكَ وَمَذهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ مِن حَيثُ الجُملَةُ وَاستَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَولِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}> انتهَى.

[1]: أي قول الإمام الجُوينيِّ.

22

وفي كتاب [الكامل فِي أُصول الدِّين] لابن الأمير فِي اختصار كتاب [الشَّامل فِي أُصول الدِّين لإمام الحرمَين الجُوَينيِّ]: <وكُلُّ ذلك يدُلُّ على صُدور بعض الذُّنوب منهم وليس فِي العقل ما يُحيله. نعم لا يجوز إصرارُهُم على الصَّغائر وتُواطؤُهم عليها وِفاقًا لأنَّه يُلحق بالكبائر> انتهَى.

23

وجاء في [مخطوطة شرح أبي القاسم الأنصاريِّ على [الإرشاد] للجُوينيِّ] ما نصُّه: <وَنَحنُ إِنَّمَا نُجوِّزُ عَلَيهِم هَذِهِ الأُمُورَ قَبلَ النُّبُوَّةِ وَقَبلَ أَن جَاءُوا بِتَحرِيمِهَا. فَإِن قَالُوا: “أَلَيسَ قَد جَوَّزتُمُ الصَّغَائِرَ مِنهُم بَعدَ التَّحرِيمِ وَفِي حَالِ النُّبُوَّةِ؟” قُلنَا سَنَذكُرُ اختِلَافَ أَصحَابِنَا فِيهِ: قَالَ الأَكثَرُونَ مِنهُم وَمِن غَيرِهِم مِنَ الطَّوَائِفِ بِالتَّجوِيزِ فِي حَالِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الذُّنُوبَ الَّتِي تُفسِدُ البَلَاغَ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَتَقدَحُ فِي دَلَالَةِ المُعجِزَاتِ وَكَذَلِكَ الذُّنُوبُ الَّتِي أَجمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ مِنهُم وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى كَبَائِرَ>.. إلى أن قال: <وَقَالَ القَاضِي وَكَثِيرٌ مِن أَهلِ الحَقِّ يَقُولُونَ إِنَّهُم وَإِن وَاقَعُوهَا فَإِنَّمَا يُوَاقِعُونَهَا وَيَفعَلُونَهَا مَعَ خَوفٍ شَدِيدٍ وَإِعظَامٍ لَهَا وَتَعقِيبِهَا بِالنَّدَمِ وَالاِستِغفَارِ> انتَهَى.

24

والخلاصة دائما أنَّ أهل الفتنة بسبب شدَّة جهلهم يأتون إلى الصَّغيرة الَّتي قال العُلماء إنَّها لا تُزري بمناصب الأنبياء فيجعلونها مُزرية بهم! ويأتون إلى ما قال العلماء إنَّه لا يقدح بمناصب الأنبياء فيجعلونه قادحًا بهم بُغية أن يستبيحوا الطَّعن بمذهب جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة وأن يتوصَّلوا بذلك إلى تكفير الأُمَّة والعياذ بالله.

نهاية المقال.

أقوال العلماء الحنفية في الرِّدّة

قال الفقيه الحنفي محمد أمين الشهير بابن عابدين (ت1252هـ) في كتاب رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، ج6/354، باب المرتد : شرعا الراجع عن دين الإسلام، وركنها إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد الإيمان. هذا بالنسبة إلى الظاهر الذي يحكم به الحاكم، وإلا فقد تكون بدونه كما لو عرض له اعتقاد باطل أو نوى أن يكفر بعد حين “اهـ.

وقال البدر الرشيد الحنفي (ت 768هـ) في رسالة له في بيان الألفاظ الكفرية ص/19 : ” مَنْ كَفَرَ بلسَانِهِ طائِعا وقلبه على الإيمان إنّهُ كافر ولا ينفَعه ما في قلبه ولا يَكون عند الله مؤمنًا لأنَّ الكافر إنما يعرف من المؤمن بما ينطق به فإنَ نَطقَ بالكُفْرِ كانَ كافرا عندَنا وعندَ اللهِ ” اهـ.

وقال الشيخ ملا علي القاري الحنفي (ت1014 هـ) في شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، ص/274 : ” ثم اعلم أنَّهُ إذا تكلّم بكلمة الكُفر عالِما بمعناها ولا يعتقِدُ معناها لكنْ صدَرتْ عنهُ من غير إكراهٍ بل مع طواعية في تأْديَتِه فإنّه يُحكَم عليه بالكُفرِ “اهـ.

وجاء في كتاب الفتاوى الهندية في مذهب الإمام أبي حنيفة، (قام بتأليفها جماعة من علماء الهند برئاسة الشيخ نظام الدين البلخي بأمر من سلطان الهند أبي المظفر محيى الدين محمد أورنك زيب) ج2/259 و261 ما نصه : ” يكفر بإثبات المكان لله تعالى “، ” وكذا إذا قيل لرجل : ألا تخشى الله تعالى، فقال في حالة الغضب: لا، يصير كافرا،كذا في فتاوى قاضيخان “اهـ

وقال الإمام محمد بن أحمد السرخسي الحنفي (ت 483 هـ ) في كتابه المبسوط، في المجلد الثالث ج5/49، ما نصه : ” باب نكاح المرتد: وإذا ارتد المسلم بانت منه امرأته مسلمة كانت أو كتابية دخل بها أو لم يدخل بها عندنا ” اهـ

وقال الإمام عبد الله بن أحمد النسفي (ت 701 هـ) في كنـز الدقائق،كتاب السير : ” أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الرِدة تُبْطِلُ عِصْمَةَ النِّكَاحِ وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ الرِّدةِ ” اهـ

وقال الشيخ عبد الغني الغنيمي الدمشقي الميداني الحنفي (ت 1298هـ) في اللباب في شرح الكتاب، ج3/28، ما نصه : ” وإذا ارتد أحد الزوجين عن الإسلام وقعت الفرقة بينهما بغير طلاقٍ “اهـ

وقال الشيخ عبد الغني النابلسي الحنفي (1143هـ) في كتاب الفتح الرباني والفيض الرحماني ص/124، ما نصه : ” وأما أقسام الكفر فهي بحسب الشرع ثلاثة أقسام ترجع جميع أنواع الكفر إليها، وهي : التشبيه، والتعطيل، والتكذيب… وأما التشبيه: فهو الاعتقاد بأن الله تعالى يشبه شيئًا من خلقه، كالذين يعتقدون أن الله تعالى جسمٌ فوق العرش، أو يعتقدون أن له يدَين بمعنى الجارحتين، وأن له الصورة الفلانية أو على الكيفية الفلانية، أو أنه نور يتصوره العقل، أو أنه في السماء، أو في جهة من الجهات الست، أو أنه في مكان من الأماكن، أو في جميع الأماكن، أو أنه ملأ السموات والأرض، أو أنَّ له الحلول في شىء من الأشياء، أو في جميع الأشياء، أو أنه متحد بشىء من الأشياء، أو في جميع الأشياء، أو أن الأشياء منحلَّةٌ منه، أو شيئًا منها. وجميع ذلك كفر صريح والعياذ بالله تعالى، وسببه الجهل بمعرفة الأمر على ما هو عليه ” اهـ.

قال الإمام ملّا علي القاري الحنفي في كتابه المرقاة: « قال الشافعي واحمد ومالك وابو حنيفة والأشعري والباقلاني والسلف والخلف بكفر المجسمة والقائلين بنسبة الجهة والمكان لله ولا تصح الصلاة منهم ولا ورائهم ولا عليهم »…انتهى

بيان مذاهب العُلماء ليس تنقيصًا للأنبياء

الحكمة في وُقوع الأنبياء في صغائر لا خسَّة فيها

لا يُخرَج لفظ الذَّنْب عن معناه في اللُّغة والشَّرع إلَّا لضرورة

الحمدلله وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمَّد رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

1. مُقدِّمة

أمَّا بعدُ فقد كان الإخوة مِن السُّودان الحبيب قد نقلوا لنا رُؤيا فيها أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام وجَّه إلى السُّكوت عن الكلام في مسألة العصمة؛ ولأنَّنا نُصدِّق الطَّيِّبين قرَّرنا التَّوقُّف عن نشر الرُّدود الشَّرعيَّة في هذه المسألة على أهل الفتنة الَّذين لم يسكتوا بعد ذلك عن الغَيِّ والعياذ بالله تعالى.

..

2. أهل الفتنة قالوا بإجماع مكذوب لا أصل له في ديننا

ونحن عند كلامنا؛ وإنَّما نردُّ هذه المرَّة ليعلم المُنحرفون أنَّهم ليسوا على شيء وإنَّما يستثيرون مسائل خلافيَّة ليبثُّوا الفُرقة بَين المُسلمين ويُحاولون تحريف شرع الله بادِّعاء إجماع مكذوب لا وُجود له أصلًا إلَّا في أوهامهم وهيهات أنْ يتمكَّنوا مِن ذلك؛ واللهُ يحفظ دينه ولو كره أهل الفتنة ذلك.

..

3. أقوال أهل السُّنَّة في عصمة الأنبياء عليهم السَّلام

ثُمَّ إنَّ كُتُب العُلماء مشحونة بذكر اختلاف أهل السُّنَّة في مسألة عصمة الأنبياء على قولين اثنين:

1. فقال الفريق الأوَّل: الأنبياء معصومون عن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة قبل النُّبوَّة وبعدها.

2. وقال الفريق الثَّاني: الأنبياء معصومون عن الكُفر والكبائر؛ وعن كُلِّ الصَّغائر ولو لم تكن مُنفِّرة.

..

4. القاعدة الشَّرعيَّة: حمل النُّصوص على ظاهرها إلَّا بدليل

والعُلماء في اختلافهم لا يتجاوزون قواعد الدِّين ولذلك فإنَّ مَن قال منهم بوُقوع الصَّغائر غير المُنفِّرة مِن الأنبياء؛ أخذوا بظواهر الآيات والأحاديث وتركوا تأويلها لأنَّ القاعدة تقول إنَّ تأويل النَّصِّ أي إخراجه عن ظاهره لغير ضرورة شرعيَّة عبث تُصان عنه نُصوص القرآن والحديث.

..

5. القول بالعصمة المُطلقة لا يُخالف القاعدة الشَّرعيَّة

أمَّا العُلماء الَّذين قالوا بامتناع الصَّغائر مُطلقًا فهؤلاء لم يُخالفوا القاعدة الشَّرعيَّة الَّتي ذكرناها آنفًا؛ لأنَّه في مذهبهم لا يجوز على نبيٍّ صغيرة ولو غير مُنفِّرة؛ فكان هذا ضرورة شرعيَّة عندهم لتأويل الآيات والأحاديث وإخراجها عن ظاهرها فلم يكن هذا منهم عبثًا بالنُّصوص الشَّرعيَّة.

..

6. لا يجوز حمل كلام الله على ما يُحمل عليه كلام النَّاس

أمَّا أهل الفتنة فقد حملوا كلام الله وأحاديث رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام على ما يُحمل عليه كلام النَّاس فأرادوا تأويل كُلِّ آية وكُلِّ حديث مع اعتقاد جواز الصَّغيرة غير المُنفِّرة مِن الأنبياء ولو لم تدعُ إلى ذلك ضرورة شرعيَّة؛ وهذا منهم خُروج عن القواعد الشَّرعيَّة المُقرَّرة عند أهل السُّنَّة.

..

7. منشأ اختلاف العُلماء في العصمة

ثُمَّ أدَّى سُوء الفهم إلى عجز أهل الفتنة عن إدراك محلِّ اختلاف عُلماء أهل السُّنَّة في مسألة العصمة؛ فأنكروا الاختلاف الثَّابت؛ وافتروا إجماعًا لا أصلَ له إلَّا في أوهامهم؛ ووافقوا أهل البدع والأهواء في تكفير وتضليل وتفسيق وتبديع أهل السُّنَّة والجماعة، فعليهم مِن الله ما يستحقُّون.

..

8. فهم قواعد الشَّرع طريق لفهم مذاهب العُلماء المُعتبَرين

ولو فهم أهل الفتنة القواعد الشَّرعيَّة لفهموا مذاهب العُلماء في مسألة العصمة؛ ولكنَّهم قوم يخلطون ويخبطون ويتكبَّرون عن قبول النَّصيحة فوقعوا في الفضيحة. وقد احتجنا مع غبائهم الشَّديد إلى شرح الواضحات فلم يهتدوا إلى الحقِّ والرَّشاد والله سُبحانه وتعالى يخلُق ما يشاء.

..

9. بيان مذاهب العُلماء ليس تنقيصًا للأنبياء

وافترى أهل الفتنة فقالوا للنَّاس إنَّ هؤلاء يُريدون إثبات معصية في حقِّ الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام؛ وكذبوا. وإنَّما أردنا إثبات اختلاف العُلماء في هذه المسألة على القولَين المذكورين آنفًا؛ فلم نُكفِّر أحدًا مِن فريقَي أهل السُّنَّة كما فعل أهل الفتنة عندما كفَّروا جُمهور العُلماء، والعياذ بالله.

..

10. القائلون بالوُقوع والقائلون بالامتناع ليسوا مُبتدعة

والعُلماء القائلون بظواهر الآيات والأحاديث في مسألة العصمة لم يطعنوا في الأنبياء بذلك؛ وإنَّما قالوا ذلك تصديقًا للنَّبيِّ واتِّباعًا لِمَا جاء النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم به مِن عند ربِّه؛ ومُوافقة للقواعد الشَّرعيَّة عند أهل السُّنَّة والجماعة فلا يكون ذلك تنقيصًا للأنبياء عليهم السَّلام أجمعين.

..

11. القول بالوُقوع ليس تنقيصًا للأنبياء

ولو كان القول بالوُقوع تنقيصًا للأنبياء لكان مُجرَّد تجويز ذلك عليهم تنقيصًا؛ ولا شُبهة في أنَّ مُجرَّد التَّجويز ليس تنقيصًا فبَطَلَ أنْ يكون القول بالوقوع تنقيصًا لا سيَّما وأنَّه المُوافق للقواعد الشَّرعيَّة الَّتي لمَّا خالفها المُخالفون صاروا أهل بدع وأهل أهواء وأهل انحراف عن جادة الحقِّ.

..

12. حمل آيات في العصمة على الظَّاهر ليس تنقيصًا للأنبياء

وأخذُ الجُمهور بظواهر الآيات والأحاديث ليس تنقيصًا للأنبياء لأنَّ تفسير القُرآن بما يُوافق قواعد الدِّين لا يُؤدِّي إلى ذلك. كيف وهُم أي العُلماء يقولون: صغائر غير مُنفِّرة -نادرة- يتُوب منها الأنبياء فورًا ثُمَّ يُؤدِّيهم ذلك إلى مزيد مِن العبادة والطَّاعة فترتفع درجاتهم في الفضل عند الله.

..

13. الحكمة في وُقوع الأنبياء في صغائر لا خسَّة فيها

وقال العُلماء إنَّ الحكمة في وُقوع الأنبياء في صغائر لا خسَّة فيها يتوبون منها فورًا قبل أنْ يُقتدى بهم فيها؛ أنَّ شفاعتهم لأهل الذُّنوب يومَ القيامة تقوى. وهُو ما حكاه التَّاج السُّبكيُّ في شرحه مذهب القائلين بذلك عند قولهم في بيان مذهبهم: <لأنَّ مَن لا يُبتلَى لا يَرِقُّ على المُبتلَى> انتهى.

..

14. نُصوص القُرآن تُحمل على المعاني المعروفة لها في الشَّرع

فالأسماء في النَّصِّ الشَّرعيِّ تُحمل على المعنى المعروف لها في الشَّرع والمُستعمَل لها فيه؛ لا على ما وُضع له في أصل اللُّغة إلَّا بدليل شرعيٍّ يُوجب أنْ يكون المُراد منه الاستعمالَ اللُّغويَّ ضرورةً. ومِن ذلك الصَّلاة فهي في اللُّغة اسم للدُّعاء؛ وفي الشَّرع اسم لهذه الأفعال المعروفة.

..

15. لا تُحمل نُصوص الشَّرع على غير الظَّاهر إلَّا بدليل

قال الإمام أبو إسحق الشيرازي في [المعونة في الجدل][ص/55]: <وظاهر بوضع الشَّرع كالأسماء المنقولة مِن اللُّغة إلى الشَّرع، كالصَّلاة في اللُّغة اسم للدُّعاء؛ وفي الشَّرع اسم لهذه الأفعال المعروفة، والحجِّ في اللُّغة اسم للقصد؛ وفي الشَّرع اسم لهذه الأفعال المعروفة، وغير ذلك مِن الأسماء المنقولة مِن اللُّغة إلى الشَّرع. وحكمُه أنْ يُحمل على ما نُقل إليه في الشَّرع ولا يُحمل على غيره إلَّا بدليل> انتهى كلامه بحروفه.

..

16. لا يُخرَج لفظ الذَّنْب عن معناه في اللُّغة والشَّرع إلَّا لضرورة

فإذَا كان الحال فيما نُقل مِن اللُّغة إلى استعمال خاصٍّ في عُرف الشَّرع أنْ لا يُترك ظاهر معناه في عُرف الشَّرع لغير دليل وضرورة شرعيَّة؛ فكيف الحال بما هُو في اللُّغة وفي الشَّرع على معنى واحد كلفظ الذَّنْب. يقول ابن منظور في لسان العرب: <الإِثْمُ وَالجُرْمُ وَالمَعْصِيَةُ> انتهى.

..

17. جُمهور العُلماء حملوا آيات في العصمة على ظاهرها

والخُلاصة أنَّه لا يجوز إخراج النَّصِّ الشَّرعيِّ عن ظاهره لغير دليل وضرورة شرعيَّة؛ ومِن هُنا فإنَّ الجُمهور حَمَل ما ورد في النُّصوص القُرآنيَّة والحديثيَّة على ظاهرها فقالوا بما دلَّ عليها الظَّاهر وهذا منشأ قول الجُمهور بوُقوع الأنبياء في صغائر لا خسَّة فيها تابوا منها قبل أنْ يُقتدى بهم فيها.

..

18. دليل القائلين بالامتناع وجواب القائلين بالوقوع عليهم

فأمَّا القائلون بالامتناع فدليلهم أنَّنا مأمورون بالاقتداء بالأنبياء وعندهم أنْ لو لم يمتنع وُقوع النَّبيِّ في صغيرة لصرنا مأمورين بفعلها؛ وهذا ممتنع؛ وجواب القائلين بالوقوع أنَّ الأنبياء يتوبون قبل أن يُقتدى بهم فيها فزال الإشكال. وهذا يوضح أنَّهم اختلفوا في المعصية الحقيقيَّة لا في غيرها.

..

19. تخبُّط أهل الفتنة في مسألة العصمة

وكان أهل الفتنة زعموا أوَّل الأمر أنَّ الإجماع مُنعقد على عدم جواز الصَّغائر غير المُنفِّرة على الأنبياء؛ فلمَّا كسرناهم؛ أقرُّوا بأنَّ الجواز مسألة خلافيَّة. لكنَّهم خلطوا فزعموا أنَّ الاختلاف في الجواز دون القول بحقيقة الوُقوع؛ فكسرتهم نُصوص وأقوال عُلماء الأُمَّة مِن السَّلف والخلف.

..

20. عصمة الأنبياء لا تتجزَّأ

فأرادوا الهرب مِن الكسر مرَّة أُخرى؛ فزعموا أنَّ الحُكم في نبيِّنا مُحمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام مُختلف عن غيره مِن الأنبياء؛ وكذبوا؛ فإنَّ الجُمهور على حمل الآية: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} على ظاهرها وقد بيَّن العُلماء ذلك والآية -بلا خلاف- في مُخاطبة نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام.

..

21. وُجوه اختلاف العلماء في معنى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}

فممَّن بيَّن قول الجُمهور في الآية القاضي عياض حيث قال في [الشِّفا]:

<فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فَهَذَا قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ المُفَسِّرُونَ:

(1) فَقِيلَ: المُرَادُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا.

(2) وَقِيلَ: المُرَادُ مَا وَقَعَ لَكَ مِنْ ذَنْبٍ؛ وَمَا لَمْ يَقَعْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ.

(3) وَقِيلَ: المُتَقَدِّمُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ؛ وَالمُتَأَخِّرُ عِصْمَتُكَ بَعْدَهَا..

(4) وَقِيلَ: المُرَادُ بِذَلِكَ أُمَّتُهُ.

(5) وَقِيلَ: المُرَادُ مَا كَانَ عَنْ سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ وَتَأْوِيلٍ..

(6) وَقِيلَ: مَا تَقَدَّمَ لِأَبِيكَ آدَمَ؛ وَمَا تَأَخَّرَ مِنْ ذُنُوبِ أُمَّتِكَ> انتهى مُختصَرًا.

..

22. الجُمهور على حملها على الظَّاهر

فكما تُلاحظ أخي القارئ فإنَّ الأقوال الثَّلاثة الأُولى قامت على الأخذ بظاهر الآيات والأحاديث الَّتي لِمعانيها تعلُّق بالكلام عن عصمة الأنبياء؛ بينما قامت الأقوال الثَّلاثة الأُخرى على التَّأويل كما بيَّن المُصنِّف رحمه الله. فمَن لم يُؤوِّل معناه أخذ بظاهر اللَّفظ على المعنى المُستعمل في الشَّرع.

..

23. أكثر المُتقدِّمين على القول بالوقوع

ولهذا قال النَّوويُّ في [روضة الطَّالِبِين وعُمدة المُفتين] ما نصُّه: <واختلفوا فِي الصَّغائر فجوَّزها الأكثرون. ومنعها المُحقِّقون وقطعوا بالعصمة منها وتأوَّلوا الظَّواهر الواردة فيها> انتهى. وهذا بيان كافٍ مِن النَّوويِّ بأنَّ الأكثرين لم يتأوَّلوا ظواهر الآيات بل أخذوا بظاهر ما ورد منها.

..

24. الجُمهور على القول بالوُقوع

وقال الزَّركشيُّ فِي [البحر المُحيط]: <وَنَقَلَ القَاضِي عِيَاضٌ تَجْوِيزَ الصَّغَائِرِ وَوُقُوعَهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَقَالَ فِي [الإِكْمَالِ]: إِنَّهُ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ العُلَمَاءِ> انتهى. وفيه فائدة أنَّ كلام القاضي عياض ليس فِي الجواز دون الوُقوع وإنَّما هُو فِي الوُقوع حقيقة.

..

25. عند الثَّعلبيِّ: الآية تردُّ على مَن لم يُجوِّز الصَّغائر على النَّبيِّ

وقال أبو إسحاق الثَّعلبيُّ ما نصُّه: <الإماميَّةُ لا تُجوِّزُ الصَّغائرَ على النَّبيِّ ولا على الإمامِ؛ والآيةُ تردُّ عليهِمْ> انتهى. نقله المُفسِّر ابن عطيَّة الأندلُسيُّ كما فِي [المُحرَّر الوجيز فِي تفسير الكتاب العزيز].

..

26. الاختلاف في الجواز لا ينفكُّ عن الاختلاف في الوُقوع

مِن هُنا يُعرف أنَّه لا ينفكُّ الاختلاف في الجواز عن الاختلاف في حقيقة الوُقوع؛ ولهذا لم يُكفِّر عُلماء أهل السُّنَّة مَن خالفهم مِن عُلماء أهل السُّنَّة في وُقوع صغائر غير مُنفِّرة مِن الأنبياء؛ بخلاف أهل الأهواء فإنَّهم قالوا بالعصمة المُطلقة على وجه يُكفِّرون ويُضلِّلون به أهل السُّنَّة والجماعة.

..

27. فائدة في أحد قولَي الإمام الماتُريديِّ

ولذلك بعض رُؤوس القائلين بالعصمة المُطلقة كالماتريديِّ أخذ بقول الجُمهور في ردِّه على المُعتزلة فقال في [التأويلات]: <وَلَوْ لَمْ يَكُن للهِ تَعَالَىْ أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَحَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَىْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ بِمَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ> انتهى.

..

28. الله لا يُعذِّب على ترك الأَولى

والمعاصي الصَّغائر إنْ لم تكن حقيقيَّة لا تكون ممَّا يعذِّب الله عليه إذ لا خلاف أنَّ الأنبياء لا يُعذَّبون على ترك الأَولى؛ فتعيَّن أنَّ مُراد الإمام الماتريديِّ المعاصي الحقيقيَّة لا المجازيَّة؛ واستدلاله فيما ورد في رسول الله يُبطل دعوى أهل الفتنة في استثناء سيِّدنا مُحمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام.

..

29. حول اقتراح السُّفهاء مِن أهل الفتنة

ثُمَّ يُريد المُتفيهق المفتون أنْ يتذاكى فيقول: (لماذَا لا يُصار إلى لجنة أزهريَّة للبتِّ في هذه المسألة؟). وسؤاله هذا يكشف حقيقة أنَّه لا يأخذ بما ثبت في عشرات النُّقول عن الكثير مِن العُلماء في بيان مذهب جُمهور الأُمَّة. فيا لفضيحة أهل الفتنة وقد كفَّروا جُمهور الأُمَّة بغير حقٍّ والعياذ بالله.

..

30. يمكُرون وهُم في حديد

ويُريد الجاهل المفتون أنْ يظهر وكأنَّ لِمَا يقوله وجه أو اعتبار مهمَا يكون ضعيفًا، وهُو في هذه الأخيرة كمَن (يمكُر وهُو في حديد)؛ لأنَّه أقلُّ مِن أنْ ينشغل به النَّاس أو أنْ تقوم له الدُّنيا لأجل مسألة لا إشكال فيها البتَّة وإنَّما الإشكال في فهمه السَّقيم حيث لم يتصوَّرها وفق القواعد الدِّينيَّة.

..

31. شأن العُلماء الأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر

واعلم أخي القارئ أنَّ العُلماء على مرِّ العُصور -ومنهم إمامنا الهرريُّ رحمه الله ورضي عنه- كانوا يُحذِّرون مِن المُجسِّمة المُشبِّهة ويُبيِّنون المسائل الشَّرعيَّة ويرُدُّون انحراف المُنحرِفين ولا يمنعُهم مِن ذلك سُكوت غيرهم مِن العُلماء ولا انتظار مُوافقة أولئك المُعتكفين في الصَّحاري البعيدة!

..

32. خاتمة

وقد حقَّ الصَّمت لمَن لا يدري. وقديمًا قيل: <الصَّمتُ حُكمٌ وقليلٌ فاعلُهُ> أي الصَّمت مِن الحكمة. فهنيئًا لمَن استجار بالصَّمت حين لا يدري؛ وهنيئًا لمَن إذَا نطق وفَّقه الله أنْ ينطِق بالحقِّ؛ وهنيئًا لمَن لم يتضجَّر مِن التَّصدِّي لأهل الفتنة الفاسدين، وآخِرُ الكلام أنِ الحمدلله ربِّ العالمين.

نهاية المقال.

حول عودة أهل الفتنة إلى الكلام في العصمة (أ):

متى تغلبُكُمُ الشَّفقة على عوامِّ المُسلمين يا أهل الفتنة؟

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فكُلَّما انتقل الحوار إلى مسألة أُخرى عاد بعض خُبثاء أهل الفتنة إلى الكلام في مسألة عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها؛ مع علمهم بما أدَّى إليه قولهم مِن تكفير وتضليل وتفسيق وتبديع عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بغير حقٍّ على لسان بعض جَهَلَة العامَّة.

2

حتَّى إذَا قُمنا بالرَّدِّ عليهم لبيان كون المسألة خلافيَّة استغاثوا صارخين مُستنصرين بأقوال المُتصولحة المُتعولمة الَّذين افترَوا إجماعًا مكذوبًا ولكنَّنا لا نلتفت إلى هذا ولا نلتفت إلى ما يجمع النَّاس على غير الهُدى والصَّواب فإنَّ اجتماع كلمة المُسلمين لا ينبغي أنْ يكون على غير الحقِّ.

3

ويُقسم لك أحدهم بالله على صحَّة أحد قولَي أهل السُّنَّة والجماعة في هذه المسألة! وأيَّ شيء نفعل بقسمك هذا أيُّها الخائن للعهود وأيَّ شيء يُفيد؟ وهل قسمك هذا يعني تَيَقُّن بُطلان ما خالف قولك مِن أقوال أكابر عُلماء الأُمَّة مِن السَّلف والخَلَف مشاهير أهل السُّنَّة والجماعة!؟

4

أمَا كفاك أيُّها الصَّغير ما وقع مِن تكفير بغير حقٍّ جرَّاء خوضكم في هذه المسألة على غير ما قرَّره عُلماء أهل السُّنة والجماعة! هذا وأنتَ تُقرِّر الخلاف فكيف بمَن هُم عن يمينك وعن شمالك وقد خالفوك في تقرير الخلاف فكفَّروا وبدَّعوا وفسَّقوا أهل السُّنة والجماعة بغير حقٍّ!؟

5

وهذا الإمام الغزاليُّ يقول في [المنخول مِن تعليقات الأُصول]: <وأمَّا الصَّغائرُ ففيهِ تردُّدُ العُلماءِ والغالبُ على الظَّنِّ وقوعُهُ وإليهِ يُشيرُ بعضُ الآياتِ والحكاياتِ؛ هذا كلامٌ فِي وقوعِهِ> انتهى ويقول في [المُستصفى في علم الأُصول]: <فقد دلَّ الدَّليل على وُقوعها منهُم> إلى آخر كلامه.

6

هل يعجبك يا أيُّها المغرور المُرائي أنْ يستمرَّ الجَهَلَة بلَوْك الكلام الفاسد في مسألة العصمة وكأنَّك لن تضع الخوف مِن الله نُصب عينك ولن تغلبك الشَّفقة على عوامِّ المُسلمين الَّذين قذفت بهم إلى مناهج باطلة فاسدة كان أوَّلُ عملهم فيها تكفيرَ المُسلمين بغير حقٍّ والعياذ بالله.

نهاية المقال.

عامَّة أهل التَّأويل يقولون بوُقوع الأنبياء في ذنب صغير لا خسَّة فيه

هل يدخُل ابن عبَّاس في عامَّة أهل التَّأويل عند الماتُريديِّ؟

كيف ردَّ الماتُريديُّ على الخوارج والمُعتزلة؟

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعد ففي معرض الرَّدِّ علينا قال بعض أهل الفتنة: (ادِّعاء دُخول كابن عبَّاس أو مُجاهد مثلًا في قوله (عامَّة أهل التَّأويل) تحتاج لدليل) انتهى وهذا عجيب فإنَّ المُصنِّف ينُصُّ نصًّا صريحًا على ذكر ابن عبَّاس في عامَّة أهل التَّأويل كما سأنقُل لكُم عن كتابه [تأويلات أهل السُّنَّة].

2

ففي الجُزء السَّابع مِن [تأويلات أهل السُّنَّة] الصَّحيفة 429 ما نصُّه: <قال عامَّة أهل التَّأويل نحو ابن عبَّاس والضَّحَّاك ومُجاهد وهؤُلاء: إنَّها هي الأيَّام الَّتي خلق الله فيها الدُّنيا> إلخ.. وهذا كاف في ردِّ دعوى أهل الفتنة وفي إثبات أنَّ ابن عبَّاس مشمول بقول الماتُريديِّ: (عامَّة أهل التَّأويل).

3

ومِن أسباب إنكار أهل الفتنة أنْ يكون الماتُريديُّ يشمَل ابن عبَّاس بقوله: (عامَّة أهل التَّأويل) أنَّ الماتُريديَّ نقل عن عامَّة أهل التَّأويل حكاية قصَّة الغرانيق وقصَّة تسمية آدم وحوَّاء لبعض أولادهما بعبد (الحارث) وهُو اسم مِن أسماء إبليس بعد أنْ كانت حوَّاء وعدته بذلك فيما يُروى.

4

وغفل المفتون أنَّ القصَّتَين مرويَّتانِ عن ابن عبَّاس؛ بغضِّ النَّظر هل تصحُّ الرِّواية أم لا؛ ففي [معالم التَّنزيل للبغويِّ 5/393]: <قال ابن عبَّاس> فذكر قصَّة الغرانيق وفي [3/313] منه: <ورُوِيَ عن ابن عبَّاس> فذكر قصَّة تسمية آدم وحوَّاء عليهما السَّلام لبعض أولادهما بعبدالحارث.

5

وكيف يُفكِّر أهل الفتنة أنَّ الماتُريديَّ يُخرج ابن عبَّاس رضي الله عنه وهُو تُرجُمان القُرآن مِن قوله: (عامَّة أهل التَّأويل) وقد دعَا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لابن عبَّاس فقال: <اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ> صحَّحه الحافظ العراقيُّ في [تخريج أحاديث إحياء عُلوم الدِّين].

6

وكتاب الماتُريديِّ [تأويلات أهل السُّنَّة] وليس تأويلات المُجسِّمة فإذَا قال: (عامَّة أهل التَّأويل) فلا سبيل إلى ادِّعاء كونه غير شامل لِمَا يُروى عن ابن عبَّاس وثقات المُفسِّرين بغضِّ النَّظر عن صحَّة ما يُروى لأنَّ الماتُريديَّ في تفسيره ما خاض في تصحيح الرِّوايات وتضعيفها.

7

مِن هُنا يُعلم أنَّ قول الماتُريديِّ في تفسير {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}: <يحتمل وجهَين أحدُهُمَا ما قال عامَّة أهل التَّأويل على تحقيق الوزر له والإثم> انتهى وأنَّهُم: <يقولون: أثبت له الذَّنب والوزر فوَضع ذلك عنه> انتهى فهُو قول أكثر المُفسِّرين كما يدُلُّ عليه قول الماتُريديِّ نفسِه.

8

وقول عامَّة أهل التَّأويل بـ(تحقيق الوزر له والإثم) قول مُعتبر عند الماتُريديِّ بلا شكٍّ بدليل أنَّ الماتُريديَّ جعله صالحًا للرَّدِّ به على الخوارج القائلين بأنَّ مَن ارتكب صغيرة أو كبيرة خرج عن الإيمان؛ وجعله صالحًا للرَّدِّ به على المُعتزلة القائلين بأنَّه ليس لله أنْ يُعذِّب أحدًا على الصَّغيرة.

9

ففي الجُزء الثَّامن مِن [تأويلات أهل السُّنَّة] الصَّحيفة 619 يتكلَّم الماتُريديُّ عن سبب ذكر زلَّات الأنبياء فيقول: <أو أنْ يكون ذكرها ليُعلَم أنَّ ارتكاب الصَّغائر لا يُزيل الولاية ولا يُخرجه مِن الإيمان وذلك على الخوارج بقولهم: إنَّ مَن ارتكب صغيرة أو كبيرة خرج مِن الإيمان> إلخ..

10

وفي الصَّحيفة ذاتها يتابع الماتُريديُّ قائلًا: <أو أنْ يكون ذلك ليُعلَم أنَّ الصَّغيرة ليست بمغفورة ولكن له أنْ يُعذِّب عليها وليس على ما قالت المُعتزلة أنْ ليس لله أنْ يُعذِّب أحدًا على الصَّغيرة، والله أعلم> إلخ.. وهُو ردٌّ مُحكم كرَّره الماتُريديُّ في مواضع أُخرى مِن كُتُبه.

11

ففي الجُزء الثَّالث الصَّحيفة 362 ما نصُّه: <ثُمَّ الَّذي ينقُض قول الخوارج الَّذين يُكفِّرون بارتكاب الصَّغائر ما بلى بها الأنبياء والأولياء وما يكفُر صاحبُه يُسقط النُّبُوَّة والولاية ومَن كان وصف إيمانه بالأنبياء عليهمُ السَّلام هذا فهُو كافر بهم. وعلى المُعتزلة في ذلك أنَّ الله وصف الأنبياء عليهم السلام بالدُّعاء له تضرُّعًا وخيفة وخوفًا وطمعًا وبكائهم على ما كان منهُم مِن الزَّلات وتضرُّعِهم إليه حتَّى أُجيبوا في دُعائهم ولو لم يكُن ذُنوبُهُم بحيث يحتمل التَّعذيب عليها في الحكمة لكان في ذلك تعدِّي الحدِّ والوصف بالجَور والتَّعوُّذ به وذلك أعظم مِن الزَّلَّات. فهذا ينقُض قولَ المُعتزلة في إثبات المغفرة في الصَّغائر وإخراج فعل التَّعذيب عن الحكمة؛ وقولَ الخوارج بإزالة اسم الإيمان بها، ولا عصمة إلَّا بالله> انتهى.

12

فالإمام الماتُريديُّ استدلَّ بقول عامَّة أهل التَّأويل بـ(تحقيق الوزر له والإثم) وإثباتهم أنَّ الأنبياء وقعوا في ذنب صغير لا خسَّة فيه في ردِّه على الخوارج والمُعتزلة لأنَّ قولهُم مُعتبر عنده؛ فإنكار اختلاف أهل السُّنَّة في مسألة العصمة عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها عبث لا يُلتفت إليه.

انتهى.

قصيدة في بيان اختلاف العُلماء

في عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها

(ردًّا على مَن كفَّروا عُلماء الأُمَّة القائلين بوُقوعها مِن الأنبياء عليهم السَّلام)

1. اَلْحَمْدُ لِلْمَوْلَىْ تَعَالَى اللهُ ~ بِالذُّلِّ إِنَّا يَا أَخِيْ جِئْنَاهُ

2. ثُمَّ صَلَاةُ اللهِ ذِي الْجَلَالِ ~ عَلَىْ نَبِيٍّ شَأْنُهُ الْمَعَالِيْ

3. وَبَعْدُ إِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوْا ~ فِيْ عِصْمَةِ الرُّسْلِ الْكِرَامِ فَاسْمَعُوْا

4. عَنْ كُلِّ كُفْرٍ وَكَبِيْرِ إِثْمِ ~ فَاعْلَمْ إِذَا مَا لَمْ تَكُنْ ذَا عِلْمِ

5. وَعَنْ دَنَاءَةٍ وَعَنْ خَسِيْسَةْ ~ فَالْأَنْبِيَا أَنْفُسُهُمْ نَفِيْسَةْ

6. وَفِيْ سِوَىْ ذَاكَ مِنَ الصَّغَائِرْ ~ قَوْلَانِ عِنْدَ السَّادَةِ الْأَكَابِرْ

7. فَالْعُلَمَا وَالْفُقَهَا وَالسَّلَفُ ~ اِنْقَسَمُوْا فِيْ هَذِهِ وَاخْتَلَفُوْا

8. قَالُوْا: فَنَادِرًا لَهُمْ ذُنُوْبُ ~ لَكِنَّهُمْ إِنْ أَذْنَبُوْا يَتُوْبُوْا

9. فَوْرًا لِكَيْ فِيْهِمْ بِهَا لَا يُقْتَدَىْ ~ فَلَا تَجِدْ لَهُمْ بِهَا مُقَلِّدَا

10. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَا: لَمْ يُذْنِبُوْا ~ بَلْ لِعَلِيِّ قَدْرِهِمْ قَدْ عُوْتِبُوْا

11. وَإِنَّمَا ذُنُوْبُهُمْ مُؤَوَّلَةْ ~ بِتَرْكِ أَوْلَىْ ذَا خِتَامُ الْمَسْأَلَةْ

12. قَوْلَانِ لَيْسَ فِيْهِمَا ضَلَالُ ~ قَالَهُمَا الْأَئِمَّةُ الْأَبْطَالُ

13. فَكُلُّ مَنْ قَالَ بِهَذَا هَكَذَا ~ فَسَالِمٌ فِيْ دِيْنِهِ مِنَ الْأَذَىْ

14. ثُمَّ انْبَرَىْ أَخُو الْغَبَا وَالْحُمْقِ ~ فَضَلَّلَ الْجُمْهُوْرَ دُوْنَ حَقِّ

15. وَكَفَّرَ الْأَعْلَامَ وَالْأَئِمَّةْ ~ وَهُمْ نُجُوْمٌ فِيْ سَمَاءِ الْأُمَّةْ

16. فَمَنْ بَغَىْ مِنْ بَعْدِ هَذَا وَافْتَرَىْ ~ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِ فِي الْوَرَىْ

17. وَالْجَهْلُ فِي الْمَرْءِ إِذَا مَا يَكْثُرُ ~ فَإِنَّهُ الصَّحِيْحَ دَوْمًا يُنْكِرُ

18. فَعَلِّمُوا الْجَاهِلَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ~ بِالْقَوْلِ وَالْحَالِ إِذَا اسْتَقَمْتُمْ

19. فَإِنْ أَبَى النَّصِيْحَةَ الْكَرِيْمَةْ ~ فَهَجْرُهُ غَنِيْمَةٌ عَظِيْمَةْ

20. وَأَخْلِصُوا النِّيَّاتِ يَا إِخْوَانِيْ ~ وَالْتَزِمُوا الرِّفْقَ مَعَ الْإِحْسَانِ

21. وَاللهُ يَهْدِيْ مَنْ يَشَا سُبْحَانَهْ ~ لِلْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَالْإِبَانَةْ

22. قَصِيْدَتِيْ رَدٌّ عَلَى الْمُكَفِّرَةْ ~ اَلْغَافِلِيْنَ الْمُعْتَدِيْنَ الْفَجَرَةْ

23. نَظَمْتُهَا (لِلطَّيِّبِ الْحِفْيَانِيْ) ~ هَدِيَّةً صَادِقَةَ الْبَيَانِ

24. فَالْحَمْدُللهِ الَّذِيْ هَدَانَا ~ إِلَى الْهُدَىْ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَا

25. وَفِي الْخِتَامِ مِثْلُ مَا فِي الْمُبْتَدَىْ ~ خَيْرُ صَلَاةٍ وَسَلَامٍ أَبَدَا

26. عَلَىْ نَبِيٍّ كُلُّنَا نَهْوَاهُ ~ نَبِيُّنَا أَرْوَاحُنَا فِدَاهُ

نظم: عُمر الشَّادي

كيف كسر كلام الإمام الماتُريديِّ أهل الفتنة

في مسألة عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها

وبيان كلام ابن عبَّاس في الفرق بين الكبيرة والصَّغيرة

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

وبعدُ فإنَّ أهل الفتنة لم يعرفوا طريقًا للهرب ممَّا ضربهم به الإمام الماتُريديُّ عندما أفصح عن قول عامَّة أهل التَّأويل في تفسير قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} فقال في تفسيره: <يحتمل وجهَين أحدُهُمَا ما قال عامَّة أهل التَّأويل على تحقيق الوزر له والإثم كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} يقولون: أثبت له الذَّنب والوزر فوَضع ذلك عنه> انتهى.

فلمَّا أراد أهل الفتنة الهرب فزعموا أنَّ مُراد الماتُريديِّ بقوله: (عامَّة أهل التَّأويل) الجَهَلَة الَّذين لا يعرفون قواعد العلم؛ فضربهم كلام الإمام الماتُريديِّ مرَّة ثانية حيث يقول في تفسيره: <قال عامَّة أهل التَّأويل نحو ابن عبَّاس والضَّحَّاك ومُجاهد> إلخ.. فثبت أنَّه قصد مُفسِّري الصَّحابة والتَّابعين مِن السَّلف الصَّالح وثبت أن أهل الفتنة ضلَّلوا عامَّة أهل التَّأويل عندما ضلَّلوا من قال بوقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام.

فأراد أهل الفتنة الهرب ثانية فزعموا أنَّ عامَّة أهل التَّأويل قالوا بإثبات الوزر والإثم على الأنبياء مجازًا لا حقيقة؛ ولكنَّ الماتُريديَّ وصف قول عامَّة أهل التَّأويل فقال: <ولكن هذا وَحش مِن القَول> انتهى فدلَّ أنَّه يُخالفُ قولهُم لأنَّه يقول في تفسيره: <وَذَنْبُهُمْ تَرْكُ الأَفْضَلِ> انتهى فثبت أنَّه رضي الله عنه نسب إلى عامَّة أهل التَّأويل القول بوُقوع صغائر حقيقيَّة لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام.. وضرب كلامُه أهلَ الفتنة مرَّة ثالثة.

فلمَّا أُغلقت السُّبُل في وجوه أهل الفتنة لجأوا إلى ما لا يقوم عليه دليل فقالوا: (إنَّ ابن عبَّاس يقول بأنَّ كُلَّ ما نهَى الله عنه فهُو معصية كبيرة فإنْ زعمتُم أنَّ ابن عبَّاس مِن عامَّة أهل التَّأويل فقد نسبتُم إليه القول بوُقوع كبائر مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام).. وغفل الجَهَلَة المُتصَولحة أنَّ الإمام الماتُريديَّ هُو مَن جعل ابن عبَّاس في رأس عامَّة أهل التَّأويل وليس نحن! فانقلب سحر أهل الفتنة علَيهم وعاد كيدُهُم إلَيهم وكفى الله المُؤمنين القتال.

ثُمَّ نحن لم نُصرِّح أنَّ ابن عبَّاس على التَّعيين قال بوُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء وإنَّما قُلنا لأهل الفتنة إنَّ الإمام الماتُريديَّ لم يُرد بقوله: (عامَّة أهل التَّأويل) الجَهَلَة الَّذين لا يعرفون قواعد العلم؛ واستدللنا على ذلك بقول الماتُريديِّ في موضع آخَر بأنَّ ابن عبَّاس مِن عامَّة أهل التَّأويل عنده؛ وهذا دليل كاف أنَّه لا يُريد بذلك الجَهَلَة كما افترى أهل الفتنة عليه بل أراد الإشارة إلى أكثر أهل التَّأويل مِن الصَّحابة والتَّابعين وأتباعهُم.

ثُمَّ إنَّ القُرطبيَّ يقول: <وما أظُنُّه يصحُّ عن ابن عبَّاس أنَّ كُلَّ ما نهَى الله عزَّ وجلَّ عنه كبيرة لأنَّه مُخالف لظاهر القُرآن في الفرق بَين الصَّغائر والكبائر في قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} وقولِه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فجعل في المنهيَّات صغائرَ وكبائر وفرَّق بينهُما في الحُكم إذ جعل تكفير السَّيِّئات في الآية مشروطًا باجتناب الكبائر واستثنَى اللَّمَم مِن الكبائر والفواحش فكيف يخفَى ذلك على حَبر القُرآن؟> انتهى.

وكلام القُرطبيِّ ذكره ابن حَجَر في [فتح الباري] ثُمَّ قال: <ويُؤيِّدُه ما سيأتي عن ابن عبَّاس في تفسير اللَّمَم لكنَّ النَّقل المذكور عنه أخرجه إسمعيل القاضي والطَّبريُّ بسَنَد صحيح على شرط الشَّيخَين إلى ابن عبَّاس فالأَوْلَى أنْ يكون المُراد بقوله: (نهى الله عنه) محمولًا على نهي خاصٍّ وهُو الَّذي قُرِنَ به وعيد كما قيَّد في الرِّواية الأُخرى عن ابن عبَّاس فيُحمَل مُطلَقُه على مُقيَّده جمعًا بين كلامَيه> انتهى و(الوعيد) التَّهديد بعذاب شديد.

وهكذا تبيَّن أنَّ العُلماء منهُم مَن لم يُصحِّح الرِّواية المذكورة عن ابن عبَّاس رضي الله عنه ومنهُم مَن صحَّح سندها على معنًى مخصوص لم يفهمه أهل الفتنة بل حَمَلَها على النَّهي الَّذي قُرن به وعيد بعذاب شديد؛ وثبت أنَّ ابن عبَّاس قيَّد بذلك في الرِّواية الأُخرَى الَّتي أشار إليها ابن حَجَر.. فيا لخيبة أهل الفتنة يحتفرون في الأرض ولا يجدون منفذًا ليخرجوا ممَّا ورَّطوا به أنفسهم مِن تضليل جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة.

نهاية المقال.

كيف سقط أهل الفتنة؟

2. مسألة عصمة الأنبياء عن الصَّغائر غير المُنفِّرة (أ)

(أ) منشأ الخلاف بين العُلماء في هذه المسألة

الحمدلله الَّذي خلق النُّفُوس فألهمها فُجورها وتقواها؛ والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا مُحمَّد الَّذي قال: <نضَّر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها>.

أمَّا بعدُ فهذه سلسلة جديدة مِن المقالات المُباركة نهدف مِن خلالها إلى بيان كيف سقط أهل الفتنة؛ وما منشأ ما وقعوا به مِن سُوء فهم أدَّى بهم إلى الزَّيغ عن جادَّة الحقِّ والتَّحوُّل عن طريق الهُدى والصَّواب؛ لتكون هذه المقالات حصانة لأُولي الألباب والله الهادي إلى الأسباب.

بيان مذهب أهل السنة والجماعة في -مسألة عصمة الأنبياء عن الصَّغائر غير المُنفِّرة-.

اعلم أنَّ العُلماء اتَّفقوا على عصمة الأنبياء عن الكبائر وصغائر الخسَّة قبل النُّبُوَّة وبعدها، واختلفوا في عصمتهم عن الصَّغائر غير المُنفِّرة إلى فريقَين؛ فقال الفريق الأول وهُمُ الجُمهور: المعنى المُراد هُو ظاهر ما جاء في الآيات وهذا يدُلُّ على وُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهم السَّلام.

وقال بعض العُلماء إنَّ معنى الذَّنب والمعصية في الآيات ليس على ظاهر اللَّفظ فأوَّلوا تلك الظواهر فقالوا إنَّه لا تقع مِن الأنبياء معصية صغيرة ولو لم تكن مُنفِّرة لا قبل النُّبُوَّة ولا بعدها، ولم يُؤدِّ هذا الاختلاف إلى تبديع فريق منهم للآخَر ولا إلى تضليله ولا إلى تفسيقه ولا إلى تكفيره.

وهكذا تكون المسألة خلافيَّة لاختلاف العُلماء في تفسير القُرآن؛ وهُو ما لم يفطن له أهل الفتنة فادَّعَوا إجماعًا مكذوبًا لا أصل له في الشَّرع وأنكروا أنَّ كثيرًا مِن العُلماء قد حملوا الآيات في حقِّ سيِّدنا مُحمَّد على ظاهرها؛ فبدَّعوا العُلماء وضلَّلوهم وفسَّقوهم وكفَّروهم بغير حقٍّ والعياذ بالله تعالى.

وقد تسلَّل الزَّيغ إلى رأس الفتنة المدعو يُوسف ميناوي لأسباب عديدة؛ فمنها:

السَّبب الأوَّل:

1. أنَّه لم يفهم منشأ الخلاف بين العُلماء في هذه المسألة.

اعلم أنَّ منشأ الخلاف بين العُلماء في تفسير الآيات المُتعلِّقة بعصمة الأنبياء عن صغائر غير مُنفِّرة مردُّه إلى اختلافهم في هذا الفرع مِن العقيدة؛ فمَن كان مِن العُلماء على اعتقاد العصمة المُطلقة وجد ذلك مُسوِّغًا لتأويل الآيات وإخراجها عن ظاهرها القائل بوُقوع تلك الصَّغائر مِن الأنبياء.

أمَّا جُمهور العُلماء فكانوا على اعتقاد جواز تلك الصَّغائر على الأنبياء فلم يجدوا مُسوِّغًا لتأويل الآيات المُتعلِّقة بعصمة الأنبياء عن صغائر غير مُنفِّرة فتركوا إخراجها عن ظاهرها وقالوا به لأنَّ إخراج النُّصوص القُرآنيَّة والحديثيَّة عن ظواهرها لغير ضرورة شرعيَّة عبث تُصان النُّصوص الشَّرعية عنه.

فالعُلماء اختلفوا في تفسير تلك الآيات فمَن وجد مُسوِّغًا قال بتأويلها ومَن لم يجد ترك تأويلها؛ والآيات منها ما يتعلَّق بغير نبيِّنا مُحمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام ومنها ما يتعلَّق به؛ فلم يُفرِّقوا في عصمة الأنبياء فمَن قال: (وَقَعَتْ) لم يستثنِ مَن ورد بحقِّه ذلك؛ ومَن قال: (لم تقع) لم يستثنِ كذلك.

فممَّا ورد في حقِّ سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم قوله تعالى في سورة [مُحمَّد]: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} وقوله تعالى في سورة [الفتح]: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}.

وهذا ما لم يفهمه رأس الفتنة المدعو يُوسف ميناوي إذ لم يُسعفه علمُه في فهم منشأ اختلاف العُلماء في هذه المسألة فسمح لنفسه -وهو العاميُّ- بالإنكار على جُمهور العُلماء مِن المُجتهدِين والحُفَّاظ والمُحدِّثين والفُقهاء والمُفسِّرين فبدَّع وضلَّل وفسَّق وكفَّر بغير حقٍّ والعياذ بالله تعالى.

المقال التَّالي -في هذه المسألة- قريبًا إنْ شاء الله تعالى.

يتبع – السَّبب الثَّاني:

2. أنَّه لم يفهم مذهب الأشعريِّ في عصمة الأنبياء.

انتهى.

عِقد الدُّرَر في عصمة خير البَشَر

صلوات الله عليهم وسلامُه

القصيدة المئويَّة في العصمة النَّبويَّة عند أهل السُّنَّة والجماعة

بسم الله الرَّحمَن الرَّحيم

استهلال:

1. اَلْحَمْدُ لِلْمَوْلَى تَعَالَى اللهُ ~ بِالذُّلِّ إِنَّا يَا أَخِي جِئْنَاهُ

2. سُبْحَانَ رَبِّي وَاحِدٌ فَرْدٌ صَمَدْ ~ لَا يُشْبِهُ الرَّحْمَنُ رَبِّي مِنْ أَحَدْ

3. فَلَيْسَ يَحْتَاجُ لِعَرْشٍ أَوْ مَكَانْ ~ رَبِّي وَلَا يَجْرِي عَلَى اللهِ زَمَانْ

4. أَرْسَلَ رُسْلَهُ وَقَدْ رَفَعَهُمْ ~ مِنْ أَكْثَرِ الذُّنُوبِ قَدْ عَصَمَهُمْ

5. ثُمَّ صَلَاةُ اللهِ ذِي الْجَلَالِ ~ عَلَى النَّبِيِّ صَاحِبِ الْمَعَالِي

6. مُحَمَّدٍ لَهُ الْعُلَى وَالْكَوْثَرُ ~ مَا عَابَهُ إِلَّا الْجَهُولُ الْأَبْتَرُ

7. عَلَيْهِ صَلُّوا سَادَتِي وَسَلِّمُوا ~ فَإِنَّهُ طَهَ النَّبِيُّ الْأَعْظَمُ

[شرح]: العصمة في اللُّغة: المنع؛ والحفظ والوقاية، يُقال: (عصم الله عبده ممَّا يُوبقه) أي منعه ووقاه، وفي الاصطلاح: مَلَكَة اجتناب المعاصي مع القُدرة عليها. والجلال: العَظَمَة. المعالي: جمع مَعْلاة وهي كسب الشَّرف. الكوثر: نهر في الجنَّة أُعطِيَ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. الأبتر: الخاسر.

اعلم أنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام تجب لهُمُ العصمة مِن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة والدَّناءة قبل النُّبُوَّة وبعدها. أمَّا الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها: (1) فقد منع جوازها عليهمُ الأقلُّ مِن العُلماء المُتقدِّمين، (2) وقال جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بجوازها علَى الأنبياء سهوًا وعمدًا قبل الوحي أو بعده ولكنَّهُم يُنبَّهون فَوْرًا للتَّوْبة قبل أنْ يقتديَ بهم فيها غيرُهُم.

قال الزَّبيديُّ في [تاج العروس]: <وقال المَناويُّ: العصمة: مَلَكَة اجتناب المعاصي مع التَّمكُّن منها> انتهى.

قال القاضي عياض فِي [الشِّفا]: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> إلخ..

قال التَّفتازانيُّ فِي [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى.

باب في صفات الأنبياء:

8. وَبَعْدُ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَذْكِيَا ~ وَصَادِقُونَ أَتْقِيَاءُ أَنْقِيَا

9. هُمْ أُمَنَاءُ لَيْسَ فِيهِمْ خَائِنُ ~ وَلَا سَفِيهٌ أَوْ رَذِيلٌ مَاجِنُ

10. مَا فِيهِمُ غُمْرٌ وَلَا عَنِيدُ ~ وَلَا غَبِيٌّ ذِهْنُهُ بَلِيدُ

11. سَبْقُ اللِّسَانِ عَنْهُمُ مُحَالُ ~ كَذَا الْجُنُونُ؛ الْعُلَمَاءُ قَالُوا

12. عُقُولُهُمْ طَاهِرَةُ التَّفْكِيرِ ~ وَالسِّحْرُ فِيهَا لَيْسَ ذَا تَأْثِيرِ

[شرح]: الرَّذيل: الدُّون مِن النَّاس. الماجن: الَّذي يرتكب المقابح المُرديَة والفضائح المُخزيَة. الغُمْر: الجاهلُ الغِرُّ وفي [تاج العروس]: <(ويُثلَّثُ ويُحرَّكُ)> انتهى.

اعلم أنَّ سبق اللِّسان هُو أنْ يصدُر مِن المرء كلام غيرُ الَّذي أراد قوله فهذا لا يحصُل مِن نبيٍّ بالمرَّة لا في الشَّرعيَّات ولا في العاديَّات وإلَّا لزالت الثِّقة في كلام الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم. ويستحيل أنْ يُؤثِّر السِّحر في فكر الأنبياء وقُلوبهم وعُقولهم فما في الكُتُب ممَّا يُخالف هذا لا عبرة به؛ غاية ما قد يُؤثِّر السِّحر في الأنبياء عليهمُ السَّلام أَلَمًا في أجسادهم وتخييلًا علَى أنظارهم كما قال تعالَى في حقِّ مُوسَى عليه السَّلام: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} فهذا جائز في حقِّ الأنبياء عليهمُ السَّلام ولا يُنافي مقام النُّبُوَّة.

قال الشَّيخ عبدُالله الهرريُّ الحبشيُّ في [مُختصره]: <يجب اعتقاد أنَّ كُلَّ نبيٍّ مِن أنبياء الله يجب أنْ يكون مُتَّصفًا بالصِّدق والأمانة والفطانة فيستحيل عليهمُ الكذب والخيانة والرَّذالة والسَّفاهة والبلادة> انتهى.

قال الإمام أبو سليمان الخطَّابيُّ في [أعلام الحديث]: <ودفع آخَرون مِن أهل الكلام هذا الحديث، وقالوا: لو جاز أنْ يُعمَل في نبيِّ الله السِّحر أو يكونَ له تأثير فيه؛ لم يُؤمَن أنْ يُؤَثِّرَ ذلك فيما يُوحَى إليه مِن أُمور الدِّين والشَّريعة ويكون في ذلك ضلال الأُمَّة> إلخ..

باب في براءة إبراهيم عليه السَّلام مِن الكذب:

13. لِلْأَنْبِيَاءِ شُدَّتِ الرَّكَائِبُ ~ مَا فِيهِمُ يَا صَاحِ قَطُّ كَاذِبُ

14. وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ: (هَذِي أُخْتِي) ~ تَوْرِيَةٌ.. حُفِظْتَ مِنْ ذِي سُحْتِ

15. (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) مَجَازُ ~ لِسَبَبٍ غَايَتُهُ الْإِيجَازُ

16. (إِنِّي سَقِيمٌ) عِنْدَنَا مَعْنَاهُ ~ أَكْرَهُ أَنْ قَدْ كَفَرُوا أَوْ تَاهُوا

17. وَلَفْظُ كِذْبٍ فِيهِمُ إِذَا وَرَدْ ~ فَأَوِّلَنْ ظَاهِرَهُ تَلْقَ الرَّشَدْ

[شرح]: الرَّكائب: جمع رِكاب وهي الإبل. والتَّورية في اللُّغة: السَّتر؛ وفي الاصطلاح: إيراد لفظ له معنيانِ معنًى قريب ظاهر غير مقصود ومعنًى بعيد خفيٌّ وهُو المقصود. والسُّحت: الحرام. المجاز: -اصطلاحًا- هُو صرف اللَّفظ عن معناه الظَّاهر إلَى معنًى مرجوح بقرينة أي بدليل. الإيجاز: الاختصار.

اعلم أنَّ قول إبراهيم عليه السَّلام عن زوجته سارة: (هذه أُختي) أي في الدِّين، وأنَّ قوله عليه السَّلام: (فعله كبيرُهُم) معناه إنَّ تعظيمكُم لهذا الصَّنم بغير حقٍّ كان سببًا لتكسيري سائر الأصنام فنُسب الفعل إلَى الصَّنم مجازًا، وأنَّ قوله عليه السَّلام: (إنِّي سقيم) معناه أي سأسقَم ومَن عاش يسقَم ولا بُدَّ يهرم ويموت؛ وقيل إنَّ معناه أنِّي مثل السَّقيم في التَّخلُّف عن الخُروج أو في التَّألُّم مِن كُفرهم وهذا هُو المعنَى الَّذي اختاره النَّاظم. وأمَّا الأثر الَّذي فيه: <لم يكذب إبراهيم قطُّ إلَّا ثلاث كذبات> إلخ.. فمعناه ثلاث كلمات يُشبهن الكذب ظاهرًا ولكنَّها صدق في الحقيقة وإنَّما استُعير ذكر الكذب لأنَّه بصورة الكذب فسمَّاه كذبًا مِن باب المجاز؛ وبعض العُلماء ردَّ هذا الحديث ولم يقبل بأنَّه صحيح إلَى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.

قال الرَّازيُّ في [تفسيره]: <واعلم أنَّ بعض الحشويَّة روَى عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: “ما كذب إبراهيم عليه السَّلام إلَّا ثلاث كذبات” فقلتُ الأَوْلى أنْ لا نقبل مثل هذه الأخبار فقال علَى طريق الاستنكار: “فإنْ لم نقبله لزمنا تكذيب الرُّواة” فقلت له: يا مسكين إنْ قبلناه لزمنا الحُكم بتكذيب إبراهيم عليه السَّلام وإنْ رددناه لزمنا الحُكم بتكذيب الرُّواة ولا شكَّ أنَّ صَون إبراهيم عليه السَّلام عن الكذب أَوْلى مِن صون طائفة مِن المجاهيل عن الكذب> انتهى.

قال البيضاويُّ في تفسيره: <وما رُوي أنَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام كذب ثلاث كذبات فالمُراد التَّعريض، ولكن لَمَّا شابه الكذب في صُورته سُمِّيَ به> انتهى.

وقال ابن عاشور في [التَّحرير والتَّنوير]: <فورد عليه إشكال مِن نسبة الكذب إلَى نبيٍّ، ودفعُ الإشكال: أنَّ تسمية هذا الكلام كذبًا منظور فيه إلَى ما يُفهِمُه أو يعطيه ظاهرُ الكلام، وما هُو بالكذب الصُّراح، بل هُو من المعاريض، أي أنِّي مثل السَّقيم في التَّخلُّف عن الخُروج، أو في التَّألُّم مِن كُفرهم، وأنَّ قولَه: (هي أُختي) أراد أُخُوَّةَ الإيمان، وأنَّه أراد التَّهكُّم في قوله: {بلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} لظُهور قرينة أنَّ مُراده التَّغليط> انتهى.

باب في عصمة الأنبياء عن الأمراض المُنفِّرة:

18. وَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ فِي الْمُعْتَبَرِ ~ أَنْ عُصِمُوا عَنْ مَرَضٍ مُنَفِّرِ

19. فَلَيْسَ لِلْمُعْرِضِ عَنْهُمْ حُجَّةُ ~ وَلَا لِمَنْ ءَاذَى النَّبِيَّ فُرْجَةُ

20. فَلَا يَصِحُّ مَا افْتَرَتْهُ الْكُتُبُ ~ عَنْ دَاءِ أَيُّوبٍ وَأَيْنَ الْأَدَبُ

21. لَكِنَّهُ قَدْ كَانَ حَقًّا صَابِرَا ~ لِنِعَمِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ شَاكِرَا

22. فَقُلْ بِقَوْلِ الشَّرْعِ دَوْمًا وَانْصَحِ ~ وَكُنْ عَلَى ذُكْرٍ لِهَذَا تَرْبَحِ

[شرح]: قولُه (في المُعتبر) يُريد في الأقوال المُعتبرة عند أهل السُّنَّة والجماعة. المرض المُنفِّر: أي ما تنفُر منه طباع النَّاس فيأنفون أنْ يقربوه. قوله: (للمُعرِض عنهُم) يُريد لمَن كفر برسالاتهم. الحُجَّة: الدَّليل والبُرهان. الفُرجة: الرَّاحة؛ ويُقال: ما لهذا الغمِّ مِن فَرْجَةٍ وَلَا فُرْجَةٍ وَلَا فِرْجَةٍ. ويُقال: ما زال منِّي علَى ذُكْر أي لم أنسه.

اعلم أنَّ ما ينسبُه بعض النَّاس إلَى سيِّدنا أيُّوب مِن أنَّه ابُتلي في جسمه بأمراض مُنفِّرة لا صحَّة له ومِن هذه الأخبار الكاذبة الَّتي لا وُجود لها في الرِّوايات الصَّحيحة في بلاء أيُّوب أنَّه أُصيب بمرض الجُذام الخبيث فصار الدُّود يتناثر مِن جسده ويقول لها: كُلي مِن رزقك يا مُباركة.. إلَى آخر ما يذكُره أهل القَصص وهي لا تجوز في حقِّ الأنبياء عليهمُ السَّلام بل تستحيل عليهم وذلك للعصمة الَّتي عصمهُمُ الله بها. مرض أيُّوب عليه السَّلام كان غير مُنفِّر واستمرَّ ثمانية عشَر عامًا فالأنبياء عليهمُ السَّلام -لتمكُّنهم في الصَّبر وبلوغهم في ذلك إلَى ما لم يبلُغه غيرُهُم- جعل الله في الدُّنيا حظَّهُم مِن البلاء أكثرَ ليقتدي بهم أتباعُهُم المُؤمنون.

باب في عصمة الأنبياء مِن الكُفر والكبائر:

23. وَالْعُلَمَاءُ كُلُّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا ~ فِي عِصْمَةِ الرُّسْلِ الْكِرَامِ فَاسْمَعُوا

24. عَنْ كُلِّ كُفْرٍ وَكَبِيرِ إِثْمِ ~ فَاعْلَمْ إِذَا مَا لَمْ تَكُنْ ذَا عِلْمِ

25. لَمْ يَكْفُرِ الْخَلِيلُ بَعْدَ قُرْبِ ~ لَمَّا هُنَاكَ قَالَ (هَذَا رَبِّي!)

26. وَحِينَ بِالتَّقْرِيعِ قَدْ خَاطَبَهُمْ ~ (مَا تَعْبُدُونَ) بَلْ أَرَادَ رَدَّهُمْ

27. فَإِنَّهُ سَأَلَهُمْ مُسْتَنْكِرَا ~ إِجْرَامَهُمْ ولَمْ يَسَلْ مُقَرِّرَا

28. يَا وَيْلَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ سَأَلْ ~ لِيَكْفُرُوا بِرَبِّنَا عَزَّ وَجَلْ

29. وَيُوسُفٌ مَا هَمَّ بِالْكَبِيرَةْ ~ فِيمَا أَتَى فِي الْقِصَّةِ الشَّهِيرَةْ

30. هَمَّ بِدَفْعِهَا وَذِي فَضِيلَةْ ~ لِعِصْمَةٍ فِيهِ عَنِ الرَّذِيلَةْ

31. حَاشَا يَهُمُّ بِالزِّنَا وَهْوَ النَّبِي ~ اِبْنُ النَّبِيِّ ابْنِ النَّبِيِّ ابْنِ النَّبِي

32. قَدْ ظَلَمُوا يُوسُفَ لَمَّا اتَّهَمُوا ~ وَأَخْطَأُوا بِحَقِّهِ وَأَجْرَمُوا

[شرح]: الخليل: نبيُّ الله إبراهيم عليه السَّلام وفي [لسان العرب]: <قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الَّذِي سَمِعْتُ فِيهِ أَنَّ مَعْنَى الْخَلِيلِ الَّذِي أَصْفَى الْمَوَدَّةَ وَأَصَحَّهَا، قَالَ: وَلَا أَزِيدُ فِيهَا شَيْئًا لِأَنَّهَا فِي الْقُرْآنِ> إلخ.. التَّقريع: التَّأنيب والتَّعنيف. الرذيلة: ضدُّ الفضيلة.

اعلم أنَّ إبراهيم عليه السَّلام عندما وجد قَومَه يعبُدون الشَّمس والقمر والكواكب أنكر ذلك عليهم فقال لمَّا رأَى الكوكب: (هذا ربِّي!) أي أَهذَا الَّذي تعتقدون أنَّه ربِّي! يُنكر كلامهُم ويقول إنَّ قَولَكُم مُنكر فهذا ليس بالمكانة الَّتي تجعلُه ربًّا؛ ويُؤيِّد هذا أنَّه كان يعلم أنَّه يغيب فانتظر حتَّى غاب فقال: (لا أُحِبُّ الآفِلِين) أي ليس هذا بربٍّ لأنَّ حُدوث الصِّفات فيه يدُلُّ علَى كونه حادثًا مخلوقًا وأمَّا الرَّبُّ تعالَى فهُو الخالق وليس مخلوقًا فلمَّا كانت هذه صفتُه فأنا لا أُحبُّ عبادته ولا أرضَى بها وليس المعنَى أنَّه يكره عين الشَّمس وعين القمر. وقولُ الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} همَّت زَليخَا بالمعصية، وهمَّ يُوسُف عليه السَّلام بضربها ودفعها عن نفسه، والبُرهان كفُّه عن الضَّرب إذ لو ضربها لتوهَّموا أنَّه أراد المعصية فلم يدفعها بل استدبرها واستقبل الباب.

باب في فصاحة الأنبياء:

33. والْأَنْبِيَاءُ بُلَغَاءٌ فُصَحَا ~ إِنْ نَطَقُوا كَانَ الْكَلَامُ مُوضِحَا

34. فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَيْنِهِمْ تَأْتَاءُ ~ كَلَّا وَلَا ذُو لُثْغَةٍ فَأْفَاءُ

35. وَكَانَ مُوسَى مِثْلَهُمْ إِذَا نَطَقْ ~ إِنْ قَالَ جَا الْكَلَامُ مُفْهِمًا بِحَقّْ

36. وَعُقْدَةٌ كَانَتْ عَلَى لِسَانِهِ ~ لَكِنْ بِلَا عَيْبٍ عَلَى بَيَانِهِ

[شرح]: التَّأتاء: الرَّجُل يتردَّد في لفظ حرف التَّاء إذَا تكلَّم به. واللُّثغة: أنْ تعدِل الحرف إلَى غيره وهذا يكون في الألثغ وهُو الَّذي لا يُبيِّن الكلام؛ وقيل: هُو الَّذي قَصُرَ لسانُه عن موضع الحرف ولَحِقَ موضع أقرب الحروف مِن الحرف الَّذي يعثُر لسانُه عنه. والفأفأة: حُبسة في اللِّسان وغلبة الفاء علَى الكلام؛ ورجٌل فأفاء وفأفأٌ.

اعلم أنَّ نبيَّ الله مُوسَى عليه السَّلام قد تأثَّر لسانُه بالجمرة الَّتي تناولها ووضعها في فمه حين كان طفلًا أمام فرعون لحكمة، لكنَّها لم تُؤثِّر في لسانه أنْ يكون كلامُه غيرَ مُفهِم للنَّاس إنَّما كانت عُقدة خفيفة وكان كلامُه مُفهِمًا لا يُبدِّل حرفًا بحرف بل يتكلَّم علَى الصَّواب لكن كان فيه عُقدة خفيفة أي بُطء مِن أثر تلك الجمرة ثُمَّ دعَا اللهَ تعالَى لمَّا نزَل عليه الوحيُ قال: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) فأذهبها الله عنه.

باب في براءة عيسَى عليه السَّلام:

37. لَمْ يَدَّعِ الْمَسِيحُ أَنَّهُ الْإِلَهْ ~ أَوِ ابْنُهُ وَإِنَّمَا اللهُ اجْتَبَاهْ

38. فَقَالَ إِنَّ رَبِّيَ التَّوَّابَا ~ مِنْ فَضْلِهِ آتَانِيَ الْكِتَابَا

39. فِي الْمَهْدِ خَبَّرْتُ الْوَرَى صَبِيَّا ~ بِأَنَّهُ جَعَلَنِي نَبِيَّا

40. مُبَارَكًا أُمِرْتُ بِالصَّلَاةِ ~ وَبِرِّ أُمِّي ثُمَّ بِالزَّكَاةِ

[شرح]: اجتباه: اصطفاه للنُّبُوَّة. المهد: مهد الصَّبيِّ أي موضعُه الَّذي يُهيَّأ له الطَّعام ويُوَطَّأ لينام فيه. والورَى: الخَلْق.

باب في براءة الأنبياء مِن السِّحر:

41. وَالْأَنْبِيَا لَا يَعْمَلُونَ السِّحْرَا ~ فَإِنَّهُمْ خَيْرُ الْأَنَامِ طُهْرَا

42. بِالْمُعْجِزَاتِ نُصِرُوا عَلَى الْعِدَى ~ وَنَشَرُوا الدِّينَ الصَّحِيحَ وَالْهُدَى

43. مِنْهُمْ سُلَيْمَانُ الَّذِي قَدْ ظَلَمُوا ~ بِالسِّحْرِ لَمَّا الْخَائِنُونَ اتَّهَمُوا

44. فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ مُبَرَّأُ ~ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالسِّحْرِ هَذَا خَطَأُ

[شرح]: قوله: (خير الأنام طُهرًا) معناه أنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام أبعد النَّاس عن دنسٍ في الأخلاق. المُعجِزات جمع مُعجِزة وهي فعل خارق للعادة صالح للتَّحدِّي سالم مِن المُعارضة بالمِثل مُوافق لأصل الدَّعوة يقع علَى يد مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّة فتكون دليلًا علَى صدقه.

باب في شجاعة الأنبياء وكرمهم:

45. وَالْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ شُجْعَانُ ~ وَكُرَمَاءُ فِيهِمُ الْعِرْفَانُ

46. فَلَا تَجِدْ فِيهِمْ جَبَانًا أَبَدَا ~ فِي النَّاسِ لَا يَخْشَوْنَ يَوْمًا أَحَدَا

47. أَشْجَعُهُمْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدُ ~ لَهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى الْمَدَدُ

48. وَهَاجَرَ الْحَبِيبُ غَيْرَ خَائِفِ ~ وَطَاعَةً للهِ لَمْ يُخَالِفِ

[شرح]: العِرفان: العِلْم. المَدَد: ما مدَّ الله تعالَى به نبيَّه المُصطفَى صلوات الله عليه وسلامُه مِن أسباب النَّصر.

باب في أمانة نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام وطُهره وعفَّته ورصانته:

49. وَاشْتَهَرَ الْحَبِيبُ بِالْأَمَانَةْ ~ وَالطُّهْرِ وَالْعَفَافِ وَالرَّصَانَةْ

50. أَعْدَاؤُهُ بِذَالِكُمْ قَدْ شَهِدُوا ~ وَقَدْ رَوَوْا آثَارَهُ وَعَدَّدُوا

[شرح]: الأمانة: ضدُّ الخيانة. الطُّهر: نقيض النَّجاسة ويكون في الثَّوب وفي الخُلُق. العفاف: الكَفُّ عمَّا لا يحِلُّ ويجمُل. الرَّصانة: مِن رَصُنَ الشَّيء إذَا ثبت.

باب في أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام لم يكُن مُعلَّق القلب بالنِّساء

51. وَبِالنِّسَاءِ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّقَا ~ يَعْرِفُ ذَا كُلُّ خَبِيرٍ حَقَّقَا

52. لِحِكْمَةٍ قَدْ عَدَّدَ الزِّوَاجَا ~ لَا لِيَزِيدَ عَيْشُهُ ابْتِهَاجَا

53. دَلِيلُ ذَا عَائِشَةٌ تَقُولُ ~ فِي اللَّيْلِ كَانَ سَيِّدِي الرَّسُولُ

54. يَتْرُكُهَا ثُمَّ يَزُورُ قَبْرَا ~ وَغَيْرَهَا لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرَا

[شرح]: قولُه: (وبالنِّساء لم يكُن مُعلَّقًا) أي لم يكُن مُتعلِّق القلب بهنَّ. البِكْر: العذراء.

باب في براءة داود عليه السَّلام:

55. وَاذْكُرْ هُنَا دَاوُدَ ذَا الْأَوَّابُ ~ بَرِّئْهُ مِمَّا يَفْتَرِي الْكَذَّابُ

56. دَاوُدُ لَمْ يَخُنْ غِيَابَ أُورِيَا ~ فَذَا يُخِلُّ بِمَقَامِ الْأَنْبِيَا

57. وَلَيْسَ يُولَدُ النَّبِيُّ مِنْ زِنَا ~ قَدِ افْتَرَى الْبُهْتَانَ عِلْجٌ فُتِنَا

58. فَاحْذَرْ سُمُومَ الْقِصَّةِ الْمَكْذُوبَةْ ~ وَعِنْدَ إِبْلِيسٍ هِيَ الْمَطْلُوبَةْ

[شرح]: الأوَّابُ: المُطيع. أُورِيَا: اسم واحد مِن قادة جُند داود عليه السَّلام. البُهتان: الافتراء. العلج: الرَّجُل مِن كُفَّار العَجَم.

وفي القصَّة المكذوبة أنَّ داود عليه السَّلام وقع في حُبِّ زوجة (أُورِيَا) فأرسله ليُقتل في الحرب ليتزوَّج منها؛ وبعضُهُم يزيد فيزعُم أنَّ النَّبيَّ داود عليه السَّلام زنَى بها وهذا ممَّا يستحيل في حقِّ الأنبياء عليهمُ السَّلام.

باب في بيان أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يُخطئ في التَّشريع:

59. حَبِيبُنَا مُحَمَّدٌ إِذَا نَطَقْ ~ بَابُ الْفَسَادِ وَالضَّلَالَةِ انْغَلَقْ

60. نَبِيُّنَا لَا يُخْطِئُ التَّشْرِيعَا ~ فَلَا تَرُمْ فِي دِينِكَ التَّضْيِيعَا

61. يَا صَاحِبِي فَاحْذَرْ مِنَ الْفَسَادِ ~ فَتِلْكُمُ الدَّعْوَةُ لِلْإِلْحَادِ

[شرح]: التَّشريع: تبيين أحكام الدِّين. التَّضييع: التَّقصير بحقِّ الشَّيء. الإلحاد: لغةً: المَيل عن القصد؛ والمُراد في قول الشَّاعر: ما مُؤدَّاه الشَّكُّ في الله أو في النَّبيِّ أو في الإسلام.

اعلم أنَّ كلام الرَّسول مُصدَّق مِن الله تعالَى والتَّشريع قانون سماويٌّ فمَن زعم أنَّ الرَّسول يُخطئ في التَّشريع فكأنَّه قال برفع الثِّقة عن كلام الرَّسول وهذه دعوة إلَى الإلحاد والعياذ بالله تعالى. وإنَّ مِن أفحم ما يُجاب به الَّذين زعموا أنَّ نبيَّنا يُخطئ في التَّشريع هُو قول الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} ومِن أقوَى الأدلَّة في هذه المسألة حديث: <ما منكُم مِن أحد إلَّا ويُؤخَذ مِن قوله ويُترَك غيرَ رسول الله> أخرجه الطَّبرانيُّ في [الأوسط] وحسَّنه الحافظ زين الدِّين العراقيُّ في [تخريجه أحاديث الإحياء] وهذا صريح في أنَّ الرَّسول لا يُخطئ في اجتهاده كما يُخطئ أفرادُ الأُمَّة ويُستثنَى مِن ذلك إجماعُ الأُمَّة فإنَّه لا يكون خطأً لدليلٍ حديثيٍّ آخَرَ: <لا تجتمع أُمَّتي علَى ضلالة> رواه التِّرمذيُّ وغيرُه وقال ابن أمير الحاجِّ في كتابه [التَّقرير والتَّحبير]: <وقيل بامتناعه أي جواز الخطإ علَى اجتهاده نَقَلَه في [الكشف] وغيرِه عن أكثر العُلماء وقال الإمام الرَّازيُّ والصَّفِيُّ الهنديُّ إنَّه الحقُّ وجزم به الحلِيميُّ والبَيضاويُّ وذكر السُّبكيُّ أنَّه الصَّواب وأنَّ الشَّافعيَّ نصَّ عليه في مواضع مِن [الأُمِّ] لأنَّه أَوْلَى بالعصمة عن الخطإ مِن الإجماع لأنَّ عصمته -أي الإجماع- عن الخطإ لنسبته إليه أي إلَى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وللُزوم جواز الأمر باتِّباع الخطإ لأنَّنا مأمورون باتِّباعه صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} إلَى غير ذلك> انتهى فلا يجوز الالتفات إلَى القول بأنَّه يجوز علَى الرَّسول الخطأ في اجتهاده في أُمور الدِّين فهذه الأدلَّة تهدمُه؛ والقول بجواز الخطإ علَى الرَّسول في اجتهاده لم يقُل به مُجتهد وهُو ضدُّ الحديث فينبغي أنْ يُضرَب به عُرض الحائط. وأمَّا الخطأ في غير التَّشريع فجائز عليه فإنَّه في الأُمور الدُّنيويَّة مثل الَّذي ورد في تأبير النَّخل، واعلم أنَّه لا يجوز علَى الرَّسول الخطأ في إخباره بأنَّ كذا فيه شفاء فإنَّ تجويز الخطإ عليه في مثل ذلك فيه نسبة ما يَضُرُّ الأُمَّة إليه صلَّى الله عليه وسلَّم.

باب في بيان أنَّ النُّبُوَّة لا تصحُّ لإخوة يوسف:

62. وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ يُوسُفَا ~ إِخْوَتُهُ قَدْ ظَلَمُوا وَأَنْصَفَا

63. وَفَعَلُوا مَا يَنْقُضُ الْمُرُوَّةْ ~ فَلَا تَصِحُّ لَهُمُ النُّبُوَّةْ

64. لَكِنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَاكَ تَابُوا ~ وَرَبُّنَا سُبْحَانَهُ التَّوَّابُ

65. وَإِنَّمَا الْأَسْبَاطُ ذُرِّيَّتُهُمْ ~ جَاءَهُمُ الْوَحْيُ فَهُمْ عِتْرَتُهُمْ

[شرح]: أنصف: مِن الإنصاف وهُو ضدُّ الظُّلم. المُرُوَّة: تخفيف المُروءة وهي تعاطي المرء ما يُستحسَن وتجنُّبُ ما يُسترذَل وقيل: صيانة النَّفس عن الأدناس وما يَشين عند النَّاس. عترة الرَّجُل: أقرباؤُه مِن وَلَد وغيره.

اعلم أنَّه لا تصحُّ النُّبُوَّة لإخوة يوسف عليه السَّلام -وهُم مَن سوَى بِنيامين- لأنَّهُم كذَّبوا وفعلوا أفاعيل خسيسة ذكرها الله تعالَى في القُرآن الكريم لأنَّ الأنبياء معصومون مِن الكذب والخسائس مُطلَقًا؛ لكنَّهُم تابوا بعد ذلك. والأسباط هُم مَن نُبِّئَ مِن ذريَّة إخوة يوسف عليه السَّلام.

باب في عصمة الأنبياء مِن الخسائس:

66. وَالْأَنْبِيَا جَمِيعُهُمْ قَدْ عُصِمُوا ~ عَنْ كُلِّ مَا يُزْرِي بِهِمْ فَلْتَفْهَمُوا

67. وَعَنْ دَنَاءَةٍ وَعَنْ خَسِيسَةْ ~ فَالْأَنْبِيَا أَنْفُسُهُمْ نَفِيسَةْ

[شرح]: الدَّنيء والخسيس: الرَّذيل. نفيسة: رفيعة أو مرفوعة.

اعلم أنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام معصومون مِن كُلِّ ما يُزري بهم أي مِن كُلِّ ما يقدح في منصب النُّبُوَّة ومِن ذلك المعصية الَّتي فيها خسَّة ودناءة نفس ولو كانت صغيرة؛ فهُم معصومون منها بالإجماع قبل النُّبُوَّة وبعدها؛ بخلاف الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة.

باب في الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها:

68. وَفِي سِوَى ذَاكَ مِنَ الصَّغَائِرْ ~ قَوْلَانِ عِنْدَ السَّادَةِ الْأَكَابِرْ

69. فَالْعُلَمَا وَالْفُقَهَا وَالسَّلَفُ ~ اِنْقَسَمُوا فِي هَذِهِ وَاخْتَلَفُوا

70. وَالْأَكْثَرُونَ جَوَّزُوا الصَّغِيرَةْ ~ عَلَيهِمُ فَلَا تَكُنْ فِي حِيرَةْ

71. فَإِنْ تَقَعْ صَغِيرَةٌ فَنَادِرَا ~ مَا لَمْ تَكُنْ مُزْرِيَةً بَيْنَ الْوَرَى

72. وَقِيلَ لَا فَإِنَّهَا مَشْمُولَةْ ~ بِعِصْمَةٍ فِي حَقِّهِمْ مَنْقُولَةْ

73. قَوْلَانِ لَيْسَ فِيهِمَا ضَلَالُ ~ قَالَهُمَا الْأَئِمَّةُ الْأَبْطَالُ

74. فَكُلُّ مَنْ قَالَ بِهَذَا هَكَذَا ~ فَسَالِمٌ فِي دِينِهِ مِنَ الْأَذَى

75. وَإِنَّنِي مُفَصِّلُ الْوَجْهَيْنِ ~ مُحَذِّرٌ مِنْ غِشِّ أَهْلِ الْمَيْنِ

[شرح]: الغِشُّ: ضدُّ النَّصيحة. المَين: الكذب.

الصَّغائر غير المُزرية هي الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة أي لا تحطُّ مِن مراتب الأنبياء ولا تقدح في مناصبهم الرَّفيعة العليَّة. وقد اختلف عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في عصمة الأنبياء مِن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها فقال الجُمهور بجوازها ووُقوعها كما نصَّ علَى ذلك الكثير مِن العُلماء، وقال الأقلُّ مِن المُجتهدين إنَّهُم معصومون منها كعصمتهم مِن غيرها.

باب في بيان مذهب الجُمهور في العصمة مِن صغائر لا خسَّة فيها:

76. فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَالْأَعْلَامِ ~ نُجُومِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ

77. قَالُوا: فَنَادِرًا لَهُمْ ذُنُوبُ ~ صَغِيرَةٌ إِنْ أَذْنَبُوا يَتُوْبُوا

78. فَوْرًا لِأَنَّهُ بِهَا لَا يُقْتَدَى ~ فَلَا تَجِدْ لَهُمْ بِهَا مُقَلِّدَا

79. نَقَلَ ذَا الْقَاضِي عِيَاضُ الْيَحْصُبِيّْ ~ مُلَّا عَلِي وَالزَّرْكَشِي وَالنَّوَوِيّْ

80. فَمِنْهُمُ مُجْتَهِدٌ وَمِنْهُمُ ~ مُعْتَبَرٌ فِي نَقْلِهِ تَعَلَّمُوا

81. كَمَالِكٍ وَأَحْمَدٍ وَالْبَيْهَقِيّْ ~ وَالطَّبَرِي وَالثَّعْلَبِي وَالشَّافِعِيّْ

82. وَقَالَ ذَا إِمَامُنَا أَبُو الْحَسَنْ ~ شَيْخُ أُصُولِنَا وَبَحْرُ كُلِّ فَنْ

83. اَلْأَشْعَرِيْ وَبَعْدَهُ الْأَشَاعِرَةْ ~ أَبْطَالُ مَيْدَانِ الْعُلُومِ الْفَاخِرَةْ

[شرح]: الأعلام: السَّادة. الكلام -اصطلاحًا-: علم العقيدة. الفنُّ: العلم. الأشعريُّ: أبو الحَسَن عليُّ بن إسماعيل المُتوفَّى 324 للهجرة يصل نسبُه إلَى الصَّحابيِّ أبي مُوسَى الأشعريِّ رضي الله عنه؛ وهُو مِن كبار الأئمَّة المُجتهدين والمُجدِّدين الَّذين صانوا عقيدة المُسلمين وتبع طريقته في ذلك جماهير العُلماء علَى مرِّ العُصور حتَّى يومنا.

اعلم أنَّ جمعًا كبيرًا مِن العلماء قد نقلوا مذهبَ جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في جواز الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها علَى الأنبياء عليهمُ السَّلام منهُم الزَّركشيُّ في [البحر المُحيط فِي أُصول الفقه] وعليٌّ القاري في [شرح الشِّفا] والنَّوويُّ في [شرح مُسلم].

قال القاضي عياض فِي [الشِّفا]: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> انتهى.

قال عضُد الدِّين الإيجيُّ الشَّافعيُّ فِي [المواقِف فِي عِلم الكلام]: <وأمَّا الصَّغائر عمدًا فجوَّزه الجُمهور إلَّا الجُبَّائيَّ>  انتهى.

وقال ابن المُلقِّن فِي [التَّوضيح لشرح الجامع الصَّحيح]: <فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عَلَيْهِمُ الكَبَائِرُ لِوُجُوبِ عِصْمَتِهِمْ. وَتَجُوزُ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرُ> انتهى.

وقال الشَّريف الجُرجانيُّ فِي [شرح المواقف]: <(ومَن جوَّز الصَّغائر عمدًا فله زيادة فُسحة) في الجواب إذ يزداد له وجه آخَرُ وهُو أنْ يقول جاز أنْ يكون الصَّادر عنهُم صغيرة عمدًا لا كبيرة>  انتهى.

وقال مُلَّا عليٌّ القاري فِي [شرح الشِّفا]: <وأمَّا الصَّغائر فتجوز عمدًا عند الجُمهور> انتهى.

وقال فِي [مرقاة المفاتيح]: <وأمَّا الصَّغائر فتجوز عمدًا عند الجُمهور> انتهى.

وقال فيه: <وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِ حَتَّى فِي كُلِّ حَالَاتِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا تَفَكُّرٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِمْ أَوْ ظَنِّهِمْ ذَلِكَ عَنْهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى عِصْمَتِهِ وَتَنَزُّهِهِ عَنْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْ بَاطِنِهِ شَيْءٌ لَا يُتَأَسَّى بِهِ فِيهِ مِمَّا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ اهــ. وَالْجُمْهُورُ جَوَّزُوا وُقُوعَ الْكَبَائِرِ سَهْوًا وَالصَّغَائِرِ عَمْدًا، لَكِنِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمُ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنْهُ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ لَا يُنَافِي الْإِجْمَاعَ الْمَذْكُورَ> انتهى.

وفي حاشية الشِّهاب علَى تفسير البيضاويِّ والمُسمَّاة [عناية القاضي وكفاية الرَّاضي] للقاضي شهاب الدِّين الخفاجيِّ: <وأمَّا صُدور الصَّغائر فجوَّزه الجُمهور> انتهى.

وقال الحُسين بن مُحمَّد المَغرِبيُّ في [البدر التَّمام شرح بُلوغ المرام]: <وعن أنَس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (كُلُّ بني آدم خطَّاء، وخير الخاطئين التوَّابون) أخرجه التِّرمذيُّ وابن ماجَه وسندُه قويٌّ؛ الحديث فيه دلالة علَى أنَّ بني آدم كُلُّ واحد لا يخلو عن خطيئة، وظاهرُه وفي حقِّ الأنبياء عليهمُ السَّلام وقد ذهب إلَى هذا الجُمهور مِن العُلماء، فإنَّه يجوز وُقوع الخطيئة مِن النَّبيِّ وتكون صغيرةً في حقِّه مغفورة، ولا يجوز عليهمُ الكبائر ولا صغائر الخسَّة، وقد ورد في كتاب الله سُبحانه وتعالَى ما يدُلُّ علَى ذلك، وقد جاء عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ يحيَى بن زكريَّا مَا هَمَّ بخطيئة>  انتهى.

باب في بيان مذهب عامَّة أهل التَّأويل مِن الصَّحابة والسَّلف:

84. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَا ~ فِي شَرْحِ قَوْلِ رَبِّ الْعَالَمِينَا

85. اَلْوِزْرُ فِي التَّفْسِيرِ يَعْنِي الْإِثْمَا ~ فَافْهَمْ حُرُوفَهُمْ حُبِيتَ غُنْمَا

86. فِي كُتْبِهِمْ قَالُوا: وَإِنَّ خَبَرَهْ ~ أَثْبَتَهُ الرَّحْمَنُ ثُمَّ غَفَرَهْ

[شرح]: الغُنْم: الفوز بالشَّيء مِن غير مشقَّة.

اعلم أنَّ أكثر المُفسِّرين مِن الصَّحابة والسَّلف فسَّروا الذّنوب الَّتي أُضيفت للأنبياء بالوزر والإثم أي الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه وأنَّ الله غفره لنبيِّه.

قال الماتُريديُّ في تفسيره المُسمَّى [تأويلات أهل السُّنَّة]: <وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} يحتمل وجهَين أحدُهُمَا ما قال عامَّة أهل التَّأويل علَى تحقيق الوزر له والإثم كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقولِه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} يقولون: (أثبت له الذَّنب والوزر فوَضع ذلك عنه)> إلخ..

باب في بيان أنَّ الماتُريديَّ خالف أكثر المُفسِّرين وأنَّه خلاف لا يقتضي التَّبديع والتَّكفير:

87. وَالْمَاتُرِيدِي نَاقِلٌ مَذْهَبَهُمْ ~ لَكِنَّهُ فِي ذَاكَ قَدْ خَالَفَهُمْ

88. وَذَا الْخِلَافُ جَاءَنَا تَحْرِيرَا ~ بِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْفِيرَا

[شرح]: قولُه: (جاءنا تحريرًا) أي جاءنا خطُّ الفتوَى به تحريرًا؛ وتحرير الكتابة: إقامة حُروفها وإصلاح السَّقَط.

اعلم أنَّ الماتُريديَّ بعد أنْ نقل قول أكثر مُفسِّري الصَّحابة والسَّلف في تفسير الوزر بالإثم لم يستأنس بمذهبهم فاختار خلافه وقال في تفسيره المُسمَّى [تأويلات أهل السُّنَّة] بعد أنْ نقل كلامهُم: <ولكنَّ هذا وحش مِن القَول؛ لكنَّا نقول إنَّ قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} الوزر هُو الحِمل والثِّقَل كأنَّه يقول: قد خفَّفنا عليك مِن أمر النُّبُوَّة والرِّسالة والأحمال الَّتي حمَّلنا عليك كأنَّه يقول قد خفَّفنا ذلك عليك ما لو لم يكُن تخفيفُنا إيَّاه عليك لأنقض ظهرَك أي أثقل> انتهى.

واعلم أنَّ عامَّة أهل التَّأويل عند الماتُريديِّ هُم المُفسِّرون مِن الصَّحابة والسَّلف وليس الضَّالِّين الَّذين لا يعرفون قواعد العلم كما افترَى الجَهَلَة المُتصولحة بدليل قول الماتُريديِّ في موضع آخَرَ مِن تفسيره: <قال عامَّة أهل التَّأويل نحوُ ابن عبَّاس والضَّحَّاك ومُجاهد> إلخ..

وتفسيرُ عامَّة أهل التَّأويل للوزر بالإثم صريح في أنَّهُم أرادوا الذَّنب الحقيقيَّ أي الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه؛ ومذهب الماتُريديِّ أنَّ ذُنوب الأنبياء مجازيَّة فلو كان مُرادُهُم الذَّنب المجازيَّ لَمَا كرهَه الماتُريديُّ ولَمَا قال: (لكنَّه وحش مِن القول) أي وجده مُوحشًا ولم يستأنس به.

باب في مذهب الأقلِّ مِن العُلماء في العصمة مِن صغائر لا خسَّة فيها:

89. كَقَوْلِ بَعْضُ الْعُلَمَا: لَمْ يُذْنِبُوا ~ بَلْ لِعَلِيِّ قَدْرِهِمْ قَدْ عُوْتِبُوا

90. فَلَفْظُ ذَنْبٍ عِنْدَهُمْ تَشْبِيهُ ~ رَأْيٌ رَآهُ ثِقَةٌ فَقِيهُ

91. وَإِنَّمَا ذُنُوبُهُمْ مُؤَوَّلَةْ ~ بِتَرْكِ أَوْلَى ذَا خِتَامُ الْمَسْأَلَةْ

92. قَالَ بِهَذَا الْمَاتُرِيدِي الْمُنْتَصِرْ ~ وَهْوَ إِمَامٌ فِي الْأُصُولِ مُشْتَهِرْ

93. وَمِثْلُهُ قَالَ التَّقِيُّ السُّبْكِي ~ وَالتَّاجُ بَعْدُ كَأَبِيهِ يَحْكِي

[شرح]: ذهب بعض عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة إلَى أنَّ لفظ الذَّنب والوزر الوارد في النَّصِّ الشَّرعيِّ مُضافًا إلَى الأنبياء عليهمُ السَّلام هُو تشبيه بالذَّنب وليس ذنبًا علَى الحقيقة فعندهُم عصمة الأنبياء شاملة حتَّى للصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها. والماتُريديُّ هُو أبو منصور مِن كبار الأئمَّة. والتُّقيُّ السُّبكيُّ هُو تقيُّ الدِّين عليُّ بن عبدالكافي والتَّاج هُو ابنُه تاج الدِّين عبدالوهَّاب بن عليِّ بن عبدالكافي.

باب في اختلاف العُلماء فيما جاء في نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام وكيف ردَّ الجُمهور علَى مَن كفَّر بالصَّغيرة وعلَى مَن زعم أنَّ الله لا يُعذِّب علَى الصَّغيرة مُطلَقًا:

94. وَاخْتَلَفُوا هَلْ جَاءَ فِي نَبِيِّنَا ~ ذَنْبٌ حَقِيقَةً؛ وَبَعْضٌ بَيَّنَا

95. فَقِيلَ (ذَنْبٌ) كَالَّذِي فِي الْخَبَرِ ~ تَفْسِيرُهُ: صَغِيرَةٌ (فَاسْتَغْفِرِ)

96. فَعِنْدَهُمْ ذَا حُجَّةٌ خَطِيرَةْ ~ فِي رَدِّ مَنْ كَفَّرَ بِالصَّغِيرَةْ

97. رَدٌّ كَذَا لِمَا افْتَرَى الْمُعْتَزِلَةْ ~ مَنِ افْتَرَى أَحَقُّ أَنْ تَعْتَزِلَهْ

98. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَوِّلِ ~ إِذَا أُضِيفَ لِلنَّبِيِّ الْمُرْسَلِ

99. (ذَنْبٌ) فَذَاكَ مِثْلُ تَرْكِ الْأَفْضَلِ ~ وَلَيْسَ إِثْمًا عِنْدَنَا إِنْ تَسْأَلِ

100. قَوْلَانِ قَدْ قَالَهُمَا أَهْلُ الرَّشَدْ ~ شَرْحًا لِنَصٍّ فِي نَبِيِّنَا وَرَدْ

[شرح]: الخطير مِن كُلِّ شيء: النَّبيل.

جاء في حقِّ نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام آيات فيها: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} و{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} و{وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} واختلف العُلماء هل الذَّنب والوزر فيها علَى الحقيقة أم علَى المجاز.

وانقسم المُعتزلة إلَى فريقَين في المعصية الصَّغيرة فقال فريق منهُم وافقوا الخوارج: (إنَّ مَن ارتكب الصَّغيرة كافر) وقال فريق آخَرُ منهُم: (إنَّ اللهَ لا يُعذِّب علَى الصَّغائر مُطلَقًا)، فردَّ الإمام أحمدُ بن حنبل رضي الله عنه علَى الفريق الأوَّل مِن المُعتزلة فقال: <وَأَمَّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَذَلِكَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ آدَمَ كَافِرٌ> رواه ابن الجَوزيِّ فِي [مناقب أحمد]  ومثلُه فِي [طبقات الحنابلة]، وردَّ الإمام الماتُريديُّ علَى الفريق الثَّاني مِن المُعتزلة فقال في تفسيره: <وَلَوْ لَمْ يَكُن للهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَحَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ بِمَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ> انتهى. فدلَّ كلام الإمام أحمد أنَّ ما جاء في حقِّ آدم عليه السَّلام ذنب صغير حقيقيٌّ لأنَّ المُعتزلة الَّذين كفَّروا بالذَّنب كفَّروا بالحقيقيِّ لا بالمجازيِّ؛ وجاء كلام الإمام الماتُريديِّ في هذا المَوضع علَى مذهب الجُمهور في تفسير قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} فلو لم يكُنِ الذَّنب الوارد في الآية محمولًا علَى الذَّنب الصَّغير الحقيقيِّ لَمَا كان في كلامه ردٌّ علَى المُعتزلة الَّذين زعموا أنَّ الصَّغائر لا عذاب عليها مُطلَقًا.

قال ابن عطيَّة فِي [المُحرَّر الوجيز]: <وأجمع العُلماء علَى عصمة الأنبياء عليهم السَّلام مِن الكبائر والصَّغائر الَّتي هي رذائل. وجوَّز بعضُهُمُ الصَّغائر الَّتي ليست برذائل واختلفوا هل وقع ذلك مِن مُحمَّد عليه السَّلام أو لم يقع> انتهَى وقال: <قال الثَّعلبيُّ: الإماميَّة لا تُجوِّز الصَّغائر علَى النَّبيِّ ولا علَى الإمام والآية ترُدُّ عليهم> انتهى.

وقال سيف الدِّين الآمديُّ الحنبليُّ ثُمَّ الشَّافعيُّ الأشعريُّ في [أبكار الأفكار]: <آدمُ عليه السَّلام عصَى وارتكب الذَّنب> انتهَى وقال: <قولُه تعالَى مُخاطِبًا لمُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وهُو صريح في أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم له ذنوب> انتهَى فلو كان مُجرَّد قول: (آدم عصَى) كُفرًا -كما افترَى أهل الفتنة- لصار الآمديُّ وما لا يُحصَى مِن العُلماء كُفَّارًا فبئس أهل الفتنة؛ واعلم أنَّ كلام الآمديِّ في تفسير {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مُوافق لقول الجُمهور.

باب في الرَّدِّ علَى أهل الفتنة الَّذين ضلَّلوا جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة في جواز الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها علَى الأنبياء:

101. ثُمَّ انْبَرَى ذُوُو الْوُجُوهِ الْعَابِسَةْ ~ أَجْلَافُ أَهْلِ الْفِتْنَةِ الْأَبَالِسَةْ

102. بِالْغَيِّ قَدْ تَكَلَّمُوا وَصَرَّحُوا ~ وَكُلُّهُمْ جَهَلَةٌ تَصَوْلَحُوا

103. فَكَفَّرُوا الْأَعْلَامَ وَالْأَئِمَّةْ ~ وَكُلَّ نَجْمٍ فِي سَمَاءِ الْأُمَّةْ

104. زَاغُوا عَنِ الشَّرِيعَةِ الزَّهْرَاءِ ~ فَوَافَقُوا جَمَاعَةَ الْأَهْوَاءِ

105. لِأَنَّهُمْ قَدْ ضَلَّلُوا الْجُمْهُورَا ~ فَكَشَفُوا عَنْ زَيْغِهِمْ سُتُورَا

106. وَهُمْ عَنِ التَّحْقِيقِ فِي نُكُوصِ ~ لِجَهْلِهِمْ بِالْآيِ وَالنُّصُوصِ

107. مَنِ اقْتَدَى ضَلَالَهُمْ قَدِ افْتَرَى ~ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ فِي الْوَرَى

108. وَجَاهِلٌ مِنْ كُلِّ جَهْلٍ يُكْثِرُ ~ بَلَى فَإِنَّهُ الصَّحِيحَ يُنْكِرُ

109. فَعَلِّمُوا الْجَاهِلَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ~ بِالْقَوْلِ وَالْحَالِ إِذَا اسْتَقَمْتُمْ

110. فَإِنْ أَبَى النَّصِيحَةَ الْكَرِيمَةْ ~ فَهَجْرُهُ غَنِيمَةٌ عَظِيمَةْ

111. وَأَخْلِصُوا النِّيَّاتِ يَا إِخْوَانِي ~ وَالْتَزِمُوا الرِّفْقَ مَعَ الْإِحْسَانِ

112. وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَا سُبْحَانَهْ ~ وَمَنْ يَشَا لَمْ يَهْدِهِ الْإِبَانَةْ

[شرح]: العابسة: مِن عَبَسَ: قطَّب ما بَيْنَ عَيْنَيْه. أجلاف: جمع جِلف: وهُو الجافي في خَلْقِه وخُلُقِه؛ على التَّشبيه ببدن الشَّاة المسلوخة أي أنَّ جوفه هواء لا عقل فيه. الأبالسة: جُند إبليس مِن شياطين الإنس والجنِّ. الغَيُّ: الضَّلال. تصَولحوا أي ادَّعوا الصَّلاح وتمظهروا به؛ وهُم عُصاة مُجرمون. زاغوا: ضلُّوا ومالوا عن الهُدى. الزَّهراء: البيضاء الصَّافية. جماعة الأهواء: أهل البِدع الباطلة. السُّتُور: جمع السِّتر: ما سُتِرَ به. نكوص: مِن نَكَص: يُقال نكص الرَّجُل علَى عَقِبَيه: رجَع عمَّا كان عليه مِن الخَير ولا يُقال ذلك إلَّا في الرُّجوع عن الخَير خاصَّة. والغنيمة: الفوز. والإبانة: الأمر الَّذي يُميِّز به طُرُقَ الهُدَى مِن طُرُق الضَّلالة.

اعلم أنَّ أهل السُّنَّة والجماعة اختلفوا في الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها علَى قولَين؛ فمَن ضلَّل فريقًا مِن الفريقَين فقد افترَى وهذا شأن الجَهَلَة الَّذين يتمظهرون بالعلم والصَّلاح وهُم أبعدُ خلق الله عن العلم وعنِ التَّقوَى.

قال الشَّيخ داود القَرِصيُّ الحنفيُّ فِي [شرحه علَى القصيدة النُّونيَّة لخضر بيك]: <وأمَّا صُدور صغائر غير مُنفِّرة بعدَها فجوَّزه الجُمهور عمدًا وسهوًا> إلَى قوله: <وزعم جُمهور الشِّيعة والرَّوافض أنَّه لا يجوز عليهم ذنب أصلًا لا كبيرةٌ ولا صغيرة لا عمدًا ولا سهوًا لا قبل النُّبُوَّة ولا بعدها وهذا كما تَرَى يُرَى أنَّه تعظيم لهُم ولذا اشتَهَر بين الجَهَلَة المُتصَولحة زعمًا منهُم أنَّه هُو التَّعظيم> انتهى.

باب في بيان معنَى قولنا: ذنب صغير حقيقيٌّ لا خسَّة فيه:

113. قُولُوا لِهَذَا الْمُفْتَرِي الَّذِي ابْتَدَعْ ~ قَدْ فَازَ عَبْدٌ بِالْهُدَى إِذَا اتَّبَعْ

114. اَلْعُلَمَا وَرَثَةٌ لِلْأَنْبِيَا ~ وَهُمْ لِمَا قَدْ وَرِثُوهُ أَوْفِيَا

115. هُمْ جَوَّزُوا عَلَيْهِمُ مَعْصِيَةً ~ صَغِيرَةً نَادِرَةً حَقِيقَةً

116. بَرِيئَةً مِنْ مُقْتَضَى الدَّنَاءَةِ ~ تَعْبِيرُنَا مَا فِيهِ مِنْ إِسَاءَةِ

117. فَقَوْلُنَا (حَقِيقَةً) شَرْحٌ لِمَا ~ عَنْ جَاهِلٍ وَغَافِلٍ قَدْ أُبْهِمَا

[شرح]: ابتدع: ضلَّ. والأصل أنَّ البدعة علَى ضربَين: بدعة هُدًى وبدعة ضلالة؛ فما وافق الشَّرع فبدعة حَسَنَة وما خالف الشَّرع فبدعة ضلالة. فإذا أُطلِقَت البدعة أُريد بها بدعة الضَّلالة. وأُبهِم: خَفِيَ واستغلق.

اعلم أنَّ وصف الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها بالحقيقيَّة ليس فيه إضافة إلَى معناها وإنَّما هي شرح وبيان وإيضاح لمَن غفَل عن المُراد بالصَّغائر أو حرَّف مذاهب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة فنسب إليهم ما لم يقولوا به مِن أقوال؛ فلا يُنكِر وصف الذَّنب الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه بالحقيقيِّ إلَّا جاهل علَى التَّحقيق.

قال الآمديُّ في [أبكار الأفكار]: <والأصل في الإطلاق الحقيقة> انتهى.

باب في بيان أنَّه لا يجوز تأويل القُرآن الكريم لغير ضرورة:

118. عَلَى الْحَقِيقَةِ الْكَلَامُ كُلُّهُ ~ مَا لَمْ يُرَدْ بِهِ الْمَجَازُ انْتَبِهُوا

119. لَا يَصْرِفُ الْكَلَامَ عَنْ حَقِيْقَتِهْ ~ إِلَّا دَلِيْلٌ ثَابِتٌ فِي حُجَّتِهْ

120. يَكُونُ لِلْكَلَامِ إِطْلَاقَانِ: ~ حَقِيقَةٌ؛ وَفِي الْمَجَازِ الثَّانِي

121. وَلَيْسَ فِي الْإِطْلَاقِ شَيْءٌ ثَالِثُ ~ كَمَا افْتَرَى الْغِرُّ الْخَؤُونُ النَّاكِثُ

122. فَإِنَّهُ وَاللهِ بِئْسَ الْمُبْتَدِعْ ~ وَقَدْ أَتَى بِكُلِّ قَوْلٍ مُنْقَطِعْ

123. وَالْعُلَمَاءُ اخْتَلَفُوا: هَلْ أَثِمُوا ~ حَقِيقَةً أَمْ بِالْمَجَازِ يُحْكَمُ؟

124. فَبَعْضُهُمْ أَوَّلَهَا وَبَعْضُهُمْ ~ فِي تَرْكِ تأْوِيلِ الذُّنُوبِ رَأْيُهُمْ

125. لَمْ يُخْرِجُوا الذُّنُوبَ عَنْ سِيَاقِهَا ~ بَلْ أَخَذُوا الظَّاهِرَ فِي إِطْلَاقِهَا

126. لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا ضَرُورَةً ~ لِيَطْلُبُوا تَأْوِيلَهَا شَرِيعَةً

127. فَامْتَنَعَ الْجُمْهُورُ عَنْ تَأْوِيلِ ~ لِغَرَضٍ وَمَقْصِدٍ جَلِيلِ

128. إِذْ جَازَ فِي مَذْهَبِهِمْ صَغِيرَةْ ~ فَلَمْ يَكُنْ فِي رَدِّهَا ضَرُورَةْ

129. وَعِنْدَهُمْ تَأَوُّلُ الْكِتَابِ ~ بِلَا دَلِيلٍ لَيْسَ بِالصَّوَابِ

130. وَمَنْ رَأَى ضَرُورَةً تَأَوَّلَا ~ ذُنُوبَهُمْ عَلَى الْمَجَازِ حَمَلَا

131. هَذَا الَّذِي عَنِ الثِّقَاتِ قَدْ وَرَدْ ~ وَكُلُّهُمْ عَلَى الْهُدَى فِي الْمُعْتَمَدْ

132. فِي مِثْلِ ذَا لَا تَسْأَلِ الْمُغَفَّلَا ~ وَاسْأَلْ أَخَا الضَّبْطِ فَقَدْ تَفَضَّلَا

[شرح]: قوله: (لا يَصرف الكلام) إلخ.. راجع إلَى القاعدة الشَّرعيَّة الَّتي تقول إنَّ تأويل النُّصوص الشَّرعيَّة بغير ضرورة عَبَث تُصان عنه النُّصوص الشَّرعيَّة. المُغفَّل: الَّذي لا فطنة له.

فالكلام أحيانًا يكون له إطلاقانِ الأوَّلُ حقيقيٌّ والثَّاني مجازيٌّ وقد افترَى الجَهَلَة المُتصولحة علَى الشَّرع واللُّغة فزعموا وُجود إطلاق ثالث لا حقيقيٍّ ولا مجازيٍّ! وقولُهُم هذا بدعة عجيبة رُبَّما لم يُسبقوا إليها.

قال الإمام أبو إسحقَ الشِّيرازيُّ في [المعونة في الجَدَل]: <وغير ذلك مِن الأسماء المنقولة مِن اللُّغة إلَى الشَّرع. وحكمُه أنْ يُحمل علَى ما نُقل إليه في الشَّرع ولا يُحمل علَى غيره إلَّا بدليل> انتهى.

باب في الحكمة مِن ذكر ذُنوب الأنبياء في القُرآن الكريم:

133. ذُنُوبُهُمْ لَمْ تُحْكَ لِلتَّنْقِيصِ ~ فَافْهَمْ هُدِيتَ سَبَبَ التَّنْصِيصِ

134. وَإِنَّمَا لِنَعْرِفَ الشَّرِيعَةْ ~ فَالْأَنْبِيَا حُصُونُهُمْ مَنِيعَةْ

135. فَإِنْ عَرَفْنَا كَيْفَ تَابُوا نَقْتَدِي ~ مَنِ اقْتَدَى بِالْأَنْبِيَاءِ يَهْتَدِي

136. وَكَيْفَ أَسْرَعُوا إِلَى الْخَلَاصِ ~ إِنْ كَانَ مِنْهُمْ حَصَلَتْ مَعَاصِي

137. وَزَادَ بَعْضٌ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَا ~ فَوَائِدًا طُوبَى لِمَنْ تَعَلَّمَا

138. صَغَائِرُ الذُّنُوبِ يَا إِخْوَانِي ~ لَا تُخْرِجُ الْمَرْءَ مِنَ الْإِيمَانِ

139. وَإِنَّهَا لَا تُسْقِطُ الْوِلَايَةْ ~ فَكُنْ بِعِلْمِ الدِّينِ ذَا عِنَايَةْ

140. كَذَاكَ فِي الصَّغَائِرِ الْعَذَابُ ~ لِمَنْ يَشَاءُ رَبُّنَا التَّوَّابُ

141. مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَيْمُونُ ~ فَاثْبُتْ عَلَيْهِ حَيْثُمَا تَكُونُ

142. فَلَيْسَ عَيْبًا ذِكْرُ ذَنْبِ الْأَنْبِيَا ~ إِنْ كَانَ لِلتَّعْلِيمِ فَافْهَمْ قَوْلِيَا

143. جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ ~ وَلَيْسَ قَوْلًا قَالَهُ خَبِيثُ

144. وَإِنَّمَا الْعَيْبُ عَلَى مَنِ افْتَرَى ~ وَكَذَّبَ الْآيَاتِ ثُمَّ السُّوَرَا

145. إِنَّ بَيَانَ الشَّرْعِ يَا مُرِيبُ ~ غَنِيمَةٌ فَازَ بِهَا اللَّبِيبُ

146. وَمَنْ حَكَى فِي الْأَنْبِيَاءِ شَتْمَا ~ فَإِنَّهُ فِي الْكَافِرِينَ حَتْمَا

147. فَكُنْ عَلَى مَا الْعُلَمَاءُ كَتَبُوا ~ فِي أَنْبِيَاءِ اللهِ لَمَّا أَذْنَبُوا

148. فَإِنَّهُمْ تَضَرَّعُوا وَأَسْرَعُوا ~ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَزِعُوا

149. إِنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيَانِ الْحِكْمَةُ ~ لِتَعْلَمُوا كَيْفَ تَكُونُ التَّوْبَةُ

150. بِالْأَنْبِيَا وَالصَّالِحِينَ فَاقْتَدُوا ~ عَسَى يَصِحُّ فِعْلُكُمْ إِنْ تَقْصِدُوا

151. فَتَوْبَةٌ أَسْرَعْتُمُ إِلَيْهَا ~ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا

[شرح]: التَّنقيص: الذَّمُّ والعَيب. والتَّنصيص: ذكر النَّصِّ. طُوبَى له: أي حُسنَى له وخيرٌ له؛ وقيل: هُو اسم الجنَّة بالهنديَّة. وقيل: هي شجرة في الجنَّة. العناية: الاهتمام. الميمون: المُبارك. المُريب: ذو الرِّيبة وهي الشَّكُّ. الغنيمة: الفَوز. واللَّبيب: العاقل. فزعوا إلَى الله: لجأوا إلَى الله تعالى.

اعلم أنَّه يجوز ذكر ذُنوب الأنبياء لأجل بيان الشَّرع أمَّا ذكرُها علَى سبيل التَّنقيص فهذا كُفر والعياذ بالله.

قال النَّوويُّ في [شرح مُسلم]: <وَاخْتَلَفُوا فِي إِمْكَانِ وُقُوعِ الصَّغَائِرِ؛ وَمَنْ جَوَّزَهَا مَنَعَ مِنْ إِضَافَتِهَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَى طَرِيقِ التَّنْقِيصِ> انتهى.

وقال الماتُريديُّ في تفسيره: <والثَّالث: ذَكَرَ زلَّاتهم ليعلموا أعني الخَلْقَ كيف عاملوا ربَّهُم عند ارتكابهمُ الزَّلَّات والعَثَرات؛ فيُعامِلون ربَّهُم عند ارتكابهم ذلك علَى ما عامله الرُّسُل بالبُكاء والتَّضرُّع والفزع إليه والتَّوبة علَى ذلك والله أعلم، أو أنْ يكون ذَكَرَها ليُعلَم أنَّ ارتكاب الصَّغائر لا يُزيل الولاية ولا يُخرجه مِن الإيمان وذلك علَى الخوارج بقولهم: إنَّ مَن ارتكب صغيرة أو كبيرة خرج مِن الإيمان، أو أنْ يكون ذلك ليُعلَم أنَّ الصَّغيرة ليست بمغفورة ولكن له أنْ يُعذِّب عليها> إلخ..

باب الحكمة مِن زوال العصمة عن الأنبياء في الصَّغائر غير المُنفِّرة:

152. فَإِنْ يَقَعْ مِنْهُمْ صَغِيرُ ذَنْبِ ~ فَذَلِكُمْ لِصَوْنِهِمْ عَنْ عُجْبِ

153. يَقُولُهُ الرَّازِيُّ فِي التَّفْسِيرِ ~ أَنْعِمْ بِهِ مِنْ عَالِمٍ شَهِيرِ

154. وَقَالَ جُمْهُورٌ مِنَ الْأَئِمَّةْ ~ مِنْ عُلَمَا وَأَتْقِيَاءِ الْأُمَّةْ

155. قَدْ زَالَتِ الْعِصْمَةُ عَنْ صَغِيرَةْ ~ لِحِكْمَةٍ جَلِيلَةٍ خَطِيرَةْ

156. حَتَّى تَرِقَّ مِنْهُمُ الْقُلُوبُ ~ عَلَى الَّذِينَ عِنْدَهُمْ ذُنُوبُ

157. وَذَلِكُمْ فِي مَوْقِفِ الشَّفَاعَةْ ~ لَيَكْسِبُوا الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةْ

158. لِأَنَّ عَبْدًا صَالِحًا لَا يُبْتَلَى ~ فَلَنْ يَرِقَّ قَلْبُهُ لِلْمُبْتَلَى

[شرح]: العُجْبُ: الفخر؛ وفي الاصطلاح: شُهود العِبادة صادرةً مِن النَّفس غائبًا عن المِنَّة، ويُحبط ثوابها إذَا اقترن بالعمل.

قال الرَّازيُّ في [تفسيره]: <المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنْبٌ، فَمَاذَا يُغْفَرُ لَهُ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) الْمُرَادُ ذَنْبُ الْمُؤْمِنِينَ. (ثَانِيهَا) الْمُرَادُ تَرْكُ الْأَفْضَلِ. (ثَالِثُهَا) الصَّغَائِرُ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِالسَّهْوِ وَالْعَمْدِ، وَهُوَ يَصُونُهُمْ عَنِ الْعُجْبِ؛ (رَابِعُهَا) الْمُرَادُ الْعِصْمَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ> انتهى.

وقال المُحدِّث تاج الدِّين السُّبكيُّ فِي [السَّيف المشهور فِي شرح عقيدة أبي منصور]: <قالَ صاحبُ هذهِ العقيدةِ تَبَعًا لجماهيرِ أئمَّتِنا: (ولكن لم يُعصَموا مِنَ الصَّغائرِ لئلَّا تضعُفَ شفاعتُهُم لأنَّ مَن لا يُبتلَى لا يَرِقُّ علَى المُبتلَى) وقالت المُعتزلة: (هُم معصومون عن الكُلِّ) لأنَّهم لا يرَون الشَّفاعة فحيث أنكروا الشَّفاعة لم يُجوِّزوا الصَّغائر إذ فائدتُها -كما ذكرنا- الرِّقَّة> انتهى.

الإهداء:

159. وَقَدْ نَظَمْتُ هَذِهِ الْقَصِيدَةْ ~ مُوَضِّحًا فَرْعًا مِنَ الْعَقِيدَةْ

160. هَدِيَّةً لِلْأَهْلِ وَالْخِلَّانِ ~ صَحِيحَةً صَادِقَةَ الْبَيَانِ

161. قَصِيدَتِي رَدٌّ عَلَى الْمُكَفِّرَةْ ~ اَلْغَافِلِينَ الْمُعْتَدِينَ الْفَجَرَةْ

162. فَرَحِمَ الرَّحْمَنُ مَنْ عَلَّمَنِي ~ لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ قَدْ أَرْشَدَنِي

163. مَشَايِخِي أَئِمَّةٌ كِبَارُ ~ مِنْهُمْ عَلَيْنَا تُشْرِقُ الْأَنْوَارُ

[شرح]: الخِلَّان: جمع خِلٍّ: وهُو الصَّديق المُختصُّ.

مسألة العصمة مِن المسائل المُتعلِّقة بالعقيدة وهي مُتفرِّعة عن الإيمان بالأنبياء عليهمُ السَّلام. فهذه القصيدة ردٌّ علَى أهل الفتنة الَّذين كفَّروا وبدَّعوا وفسَّقوا وضلَّلوا جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في مسألة عصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام.

خاتمة في حمدالله والصَّلاةِ والسَّلام على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم:

164. فَالْحَمْدُللهِ الَّذِي هَدَانَا ~ إِلَى الْهُدَى وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَا

165. حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكَا ~ لِلسَّالِكِينَ يَفْتَحُ الْمَسَالِكَا

166. وَفِي الْخِتَامِ مِثْلُ مَا فِي الْمُبْتَدَى ~ خَيْرُ صَلَاةٍ وَسَلَامٍ أَبَدَا

167. عَلَى نَبِيٍّ كُلُّنَا نَهْوَاهُ ~ مُحَمَّدٍ أَرْوَاحُنَا فِدَاهُ

168. مُحَمَّدٌ مَا مِثْلُهُ مَوْلُوْدُ ~ فِيهِ الْسَّجَايَا وَالرِّضَى وَالْجُودُ

169. مُحَمَّدٌ وَلِلْهُدَى مِفْتَاحُ ~ مُحَمَّدٌ فِي هَدْيِهِ الْفَلَاحُ

170. قَصِيدَتِي بِمَدْحِهِ زَيَّنْتُهَا ~ أَرَّخْتُهَا: (حُبًّا لَهُ نَظَمْتُهَا)

[شرح]: الفُرقان: القُرآن. والسَّجايَا جمع سجيَّة وهي الطَّبيعة والخُلُق. والجود: الكرم. وقولُه: (أرَّختُها) معناه وضع لها تأريخًا علَى حساب الجُمَّل. قولُه: (حُبًّا لَهُ نَظَمْتُهَا) مجموعُ حُروفه في حساب الجُمَّل (1442) فتاريخ نظم هذه القصيدة 1442 هجريَّة وذلك أنَّ الحاء 8 والباء 2 والألف 1 واللَّام 30 والهاء 5 والنُّون 50 والظَّاء 900 والميم 40 والتَّاء 400 والهاء 5 والألف 1.

نهاية الشَّرح.

فهرس:

1. استهلال.

2. باب في صفات الأنبياء.

3. باب في براءة إبراهيم عليه السَّلام مِن الكذب.

4. باب في عصمة الأنبياء عن الأمراض المُنفِّرة.

5. باب في عصمة الأنبياء مِن الكُفر والكبائر.

6. باب في فصاحة الأنبياء.

7. باب في براءة عيسَى عليه السَّلام.

8. باب في براءة الأنبياء مِن السِّحر.

9. باب في شجاعة الأنبياء وكرمهم.

10. باب في أمانة نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام وطُهره وعفَّته ورصانته.

11. باب في أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام لم يكُن مُعلَّق القلب بالنِّساء

12. باب في براءة داود عليه السَّلام.

13. باب في بيان أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يُخطئ في التَّشريع.

14. باب في بيان أنَّ النُّبُوَّة لا تصحُّ لإخوة يوسف.

15. باب في عصمة الأنبياء مِن الخسائس.

16. باب في الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها.

17. باب في بيان مذهب الجُمهور في العصمة مِن صغائر لا خسَّة فيها.

18. باب في بيان مذهب عامَّة أهل التَّأويل مِن الصَّحابة والسَّلف.

19. باب في بيان أنَّ الماتُريديَّ خالف أكثر المُفسِّرين وأنَّه خلاف لا يقتضي التَّبديع والتَّكفير.

20. باب في مذهب الأقلِّ مِن العُلماء في العصمة مِن صغائر لا خسَّة فيها.

21. باب في اختلاف العُلماء فيما جاء في نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام وكيف ردَّ الجُمهور علَى مَن كفَّر بالصَّغيرة وعلَى مَن زعم أنَّ الله لا يُعذِّب علَى الصَّغيرة مُطلَقًا.

22. باب في الرَّدِّ علَى أهل الفتنة الَّذين ضلَّلوا جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة في جواز الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها علَى الأنبياء.

23. باب في بيان معنَى قولنا. ذنب صغير حقيقيٌّ لا خسَّة فيه.

24. باب في بيان أنَّه لا يجوز تأويل القُرآن الكريم لغير ضرورة.

25. باب في الحكمة مِن ذكر ذُنوب الأنبياء في القُرآن الكريم.

26. باب الحكمة مِن زوال العصمة عن الأنبياء في الصَّغائر غير المُنفِّرة.

27. الإهداء.

28. خاتمة في حمدالله والصَّلاة والسَّلام علَى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.

29. الفهرس.

الحكاية الكاملة

الجَهَلَة المُتصولحة.. وفتنة تضليل جُمهور عُلماء الأُمَّة

في جواز الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها على الأنبياء عليهمُ السَّلام

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فإنَّ أهل الفتنة لو كانوا يُريدون تبرئة الأنبياء ممَّا يقدح بنُبُوَّاتهم لَمَا تركوا مَن نسب إلى الأنبياء الكُفر والكبائر والخسائس وتفرَّغوا للطَّعن بمَن أخذ بقول جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بصُدور صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء؛ فهذا يكشف سوء ما انطوت عليهم قُلوب أهل الفتنة.

2

وذلك أنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام معصومون بالإجماع مِن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة؛ أمَّا الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها: فالجُمهور على جواز وقوعه مِن الأنبياء، فلماذا يطعن أهل الفتنة بمَن أخذ بقول الجُمهور ويتركون الرَّدَّ على من نسب إلى الأنبياء ما لا يجوز في حقهم بالإجماع!؟

3

مرَّت سنوات ثلاثة لم يكُفَّ أهل الفتنة فيها عن تضليل وتكفير وتفسيق وتبديع مَن أخذ بقَول الجُمهور أو نَقَلَه لطَلَبَة العلم مع أنَّهُم رأَوا مئات النُّصوص مِن أقوال عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ هذا ممَّا يجوز على الأنبياء فلا يُزري بهم ولا يقدح في نُبُوَّاتهم ولا يحُطُّ مراتبهم.

4

وقد اختلف كلام أهل الفتنة في كُلِّ فصل مِن فُصول هذه الفتنة حتَّى انكشف تناقُضُهُم لكُلِّ مُتابع مُنصف، فمِن تقرير تفصيل ما إلى إنكاره؛ ومِن إنكار تفصيل ما إلى تقريره! إضافة إلى ما ابتدع بعضُهُم -في هذه المسألة وما تعلَّق بها- مِن آراء وأقوال لم يُسبق إليها مِن قبل.

5

وقد اعترف بعضُهُم أنَّ بعض العُلماء أخذوا بظاهر الآيات الَّتي جاء فيها إضافة الذَّنب إلى الأنبياء؛ ثُمَّ -في فصل آخر- ادَّعى هُو نفسُه الإجماع على تأويل لفظ الذَّنب في الآيات المذكورة! فلمَّا واجهه البعض بكلامه القديم فكَّر كيف يتهرَّب ممَّا ألزموه به ويا ليت الجاهل ما فكَّر!

6

فقد ادَّعَى الجاهل ما معناه أنَّ حمل لفظ الذَّنب على ظاهره وترك تأويله -في الآيات الَّتي جاء فيها إضافة الذَّنب إلى الأنبياء- لا يقتضي حمل الذَّنب على الحقيقيِّ الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه! وهذه بدعة لا أظُنُّه سُبِق إليها فهي مُخالِفة لعُلوم الشَّرع واللُّغة ومُخالِفة للفهم السَّليم.

7

ولهذا الجاهل بدعة أُخرَى لم يُسبق إليها كذلك؛ فقد كان زعم أنَّ المعصية لها ثلاثة إطلاقات: الأوَّل حقيقيٌّ؛ والثَّاني مجازيٌّ؛ وافترَى نوعًا ثالثًا ثُمَّ زعم أنَّه ليس حقيقيًّا ولا مجازيًّا! كلام أشبه بكلام المجانين حتَّى إنَّ إخوانه مِن أهل الفتنة لم يجرُؤوا على تقليده في هذه المقالة لشدَّة سخافتها.

8

وكان أهل الفتنة في ابتداء الأمر يعترفون أنَّ الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها جائزة في حقِّ الأنبياء على قَول الجمهور؛ ثُمَّ أنكروا قولَهُم القديم وافترَوا إجماعًا مكذوبًا يقول بأنَّ الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها مُمتنعة عن الأنبياء بعد الوحي (بالإجماع)! فهذا مثال على اضطرابهم في المسألة.

9

وأهل الفتنة يُنكرون ما سبق أن قالوه؛ بدليل أنَّهُم بقُوا مُدَّة طويلة يقولون: (الجواز شيء والوُقوع حقيقةً شيء آخَر) فكانوا لا يُنكرون جواز صغائر لا خسَّة فيها على الأنبياء وإنَّما افترَوا إجماعًا مكذوبًا على عدم وُقوعها منهُم حقيقة! فلماذا بدَّلوا وصاروا يُنكرون الجواز بعد أنْ كانوا يُقرِّرونه!؟

10

وأنا أُجيب على السُّؤال؛ فلقد بقينا زمانًا طويلًا نقول لأهل الفتنة إنَّ الخلاف في مسألة العصمة وقع في تفسير آيات ورد فيها إضافة الذَّنب إلى الأنبياء؛ وللتَّقريب فإنَّ العُلماء لم يختلفوا هل أكل آدم عليه السَّلام مِن الشَّجرة بل اختلفوا في تقرير نوع هذا الذَّنب الَّذي أخبر عنه القُرآن الكريم.

11

فلمَّا فهم أهل الفتنة كلامنا -بعد شُهور كثيرة مِن ترديده وتكراره- انتبهوا أنَّ تمييزهم بين الجواز وبين الوُقوع لا معنَى له وتأكَّدوا أنَّ كلامهُم يكشف لكُلِّ أحد أنَّهُم مِن الجَهَلَة على التَّحقيق وأنَّ أفهامهُمُ السَّقيمة لم تُسعفْهُم في فهم كلامنا إلَّا بعد مُرور زمان طويل فلهذا اضطربوا فغيَّروا وبدَّلوا.

12

وعجز أهل الفتنة خلال كُلِّ تلك الفُصول عن الرَّدِّ على أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها لو كَثُرت وتكرَّرت: تلتحق بالكبائر كما نصَّ القاضي عياض؛ وهذا يُثبت كونها حقيقيَّة لأنَّه لا خلاف بين أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ السَّهو وترك الأَوْلى والنِّسيان مهما كَثُر ذلك وتكرَّر لا يلتحق بالكبائر.

13

وعجز الجَهَلَة عن ردِّ قَول الماتُريديِّ: <وَلَوْ لَمْ يَكُن للهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَحَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ بِمَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ> انتهى وكلام الماتُريديِّ صريح في أنَّ هذا الذَّنب حقيقيٌّ لأنَّ فيه عذاب في الآخرة لمَن لم يغفر الله له.

14

بل أنكر واحد مِن أهل الفتنة وُجود صغائر لا خسَّة فيها! وسكت له البقيَّة منهُم! وهذه بدعة أُخرَى جديدة جرَّهُم إليها خبث نواياهُم في الطَّعن بالعالِم العامل مولانا الشَّيخ عبدالله الهرريِّ الحبشيِّ رحمه الله ولا يُوافقُهم في هذا سُنِّيٌّ أبدًا سواء كان أخذ بقول الجُمهور أو بقول الأقلِّ مِن العلماء.

15

ثُم قرأ بعض أهل الفتنة كلامَ مُلَّا عليٍّ القاري وهُو المُحدِّث والفقيه الحنفيُّ المشهور فوصفه بالغبيِّ واستعاذ بالله منه واحتمل عنده أنَّه كافر! والجاهل لم ينتبه أنَّه يقرأ كلام مُلَّا عليٍّ القاري بل توهَّم أنَّه كلام واحد منَّا نحن المُكافحين لأهل الفتنة بسبب كون كلامنا وكلام العُلماء واحدًا.

16

وكان هذا الطَّعن بمُلَّا عليٍّ القاري صريحًا لأنَّ الجاهل إنَّما قرأ كلام مُلَّا عليٍّ القاري ثُمَّ سبَّه وشتمه وطعن بدينه ولذلك استشعر أهل الفتنة الحرج مِن فضيحة أخيهم فدفعوا بثرثارهم صاحب البِدَع العجيبة الَّتي أخبرتُ عنها في بداية المقال ليُحاول التَّغطية على فضيحة أخيه المفتون.

17

فقام هذا الثَّرثار المذكور أخيرًا بعمل فيديو جمع فيه بين العمد والسَّهو في فعل واحد! فيصير عنده والعياذ بالله يُحمَل لفظُ الذَّنب على الظَّاهر ومصروفًا عن الظَّاهر في آنٍ معًا! وهذه بدعة عجيبة أُخرَى مِن بِدَعِه الكثيرة الَّتي لم يُسبَق إليها لأنَّه ما فهم الفرق بين العمد وبين السَّهو.

18

وقد علَّمناه مِن قبلُ أنَّ الصَّغيرة إذَا حُمِلَت على السَّهو كان اللَّفظ مصروفًا عن ظاهره، أمَّا لو حُمِلَتِ الصَّغيرة على العمد فلا يُصرف اللَّفظ عن ظاهره بل يُحمَل على الحقيقة؛ أمَّا الجمع بين الحمل على السَّهو وعلى العمد معًا في آنٍ واحد: فمثل هذا لا يصدُر إلَّا عن جاهل بكُلِّ علم.

19

ففي [حاشية الكستليِّ على شرح السَّعد التَّفتازانيِّ على [متن العقائد] للنَّسفيِّ: <أو المُراد الصَّغيرة سهوًا أو عمدًا أو ما كان منه قبل النُّبوَّة، والآية على الوجه الأوَّل مصروفة عن ظاهرها بخلاف الوُجوه الأُخَر إذ ليس فيها إخراجها عن ظاهرها بالكلمة فتدبَّر وقِس عليها نظائرها> انتهى.

20

وكلام الكستليِّ -القاضي والفقيه الحنفيٌّ ت/901هـ- واضح في جواز وُقوع الصَّغيرة سهوًا أو عمدًا بعد النُّبُوَّة وليس قبلَها وحسب، وفي كلامه بيانُ ما سبق أنْ قُلناه مِن أنَّ لفظ الذَّنب يُصرف عن ظاهره إنْ حُمل وُقوعُه على السَّهو؛ ولا يُصرف عن ظاهره أبدًا إنْ حُمل وُقوعُه على العمد.

21

وفي هذا قطع دابر ذلك الثَّرثار الَّذي تجرَّأ على تضليل الأئمَّة الأكابر؛ ثُمَّ كُلَّما تكلَّم زاد خطؤُه في الدِّين والشَّرع، فهذا الجاهل عندما أراد التَّهويل على العامَّة لتنفيرهم مِن الأخذ بقَول الجُمهور استعمل عبارات حرَّف بها قَول الجُمهور ودسَّ في معناه ما ليس منه وأنا بإذن الله أفضحُه وأُبَيِّن الحقَّ.

22

فقد زعم ثرثار أهل الفتنة أنَّنا نقلنا عن الجُمهور القول باقتحام الأنبياء للمعاصي! وكَذَبَ الخائن لأنَّ الاقتحام هُو رمي النَّفس في الشَّيء بلا رويَّة وهذا ضدُّ ما نقلناه عن الجُمهور: قال الجمهور إنَّ الأنبياء لا يُصرُّون على الصَّغيرة إنْ وقعت منهُم بل يُقلعون عنها فورًا قبل أن يُقتدى بهم فيها.

23

وهكذا شأن الجَهَلَة يتكلَّمون في دين الله بألفاظ لا يفهمون معناها ولا عجبَ فهُم أعوان إبليس وإبليس يرضَى بفعلهم هذا والعياذ بالله. فقد افترَوا مرَّة أنَّنا نقلنا عن الجُمهور القول بتلبُّس الأنبياء للمعاصي! وكذبوا كذلك لأنَّ التَّلبُّس ضدُّ قَول الجُمهور: يرجعون عنها فورًا ولا يُصرُّون عليها.

24

وقد رأيتُ كيف حاول أهل الفتنة الانتصار لابن حزم الَّذي لا تخفَى حالُه على طَلَبَة العلم بل قال فيه العُلماء: إنَّه <نسب إلى دين الله ما ليس فيه> إلخ.. مع ذلك لم يستحِ أهل الفتنة مِن الجهر بمُوافقته وكأنَّهُ العالم الحُجَّة ولم يدر الجَهَلَة أنَّهُم يحتجُّون بشخص طعن به العُلماء قديمًا وحديثًا.

25

والموضع الَّذي وافق أهل الفتنة فيه ابنَ حزم كان في طعنه بالإمام ابن فورك لقوله بوُقوع صغائر عمدًا مِن الأنبياء! وقد كان أهل الفتنة قرأوا اسم ابن حزم في بعض مُؤلَّفات شيخنا الهرريِّ ولم يفطُنوا أنَّه يستدلُّ به عند مَن يُقدِّسُه وليس عند مَن يطعن به كما فعل الجَهَلَة المُتصولحة!

26

فلمَّا انكشف جهلُهُم واستشعروا الفضيحة ثانيةً؛ عمد ثرثار أهل الفتنة إلى اشتراط أوصاف في المعصية الحقيقيَّة ما أنزل الله بها مِن سُلطان فزعم أنَّ المعصية الحقيقيَّة تقتضي نيَّة العصيان! وأنْ يكون قلب فاعلها خالٍ عن الخوف مِن الله تعالى بالكُلِّيَّة وهذه شروط ابتدعها مِن لدنه.

27

وابتدع ثرثار أهل الفتنة شُروطًا أُخرَى كثيرة؛ غايتُه منها أنَّ مَن فعل صغيرة لا خسَّة فيها: يكون خسيسًا! وأنَّ مَن فعل صغيرة لا دناءة فيها يكون دنيئًا! وأنَّ مَن فعل صغيرة لا تُزري بفاعلها يكون مُحتَقَرًا! وأنَّ مَن فعل صغيرة لا تُسقط المُروءة يكون ساقطَ المروءة! وهذا تناقُض شديد.

28

والرَّدُّ عليه في كُلِّ ذلك أثبته الجُمهور فقالوا: صغيرة لا خسَّة فيها ولا دناءة. وقالوا: لا تُزري بالأنبياء ولا تقدح بمناصبهم ولا تحُطُّ مِن درجاتهم ولا تُسقط مُروءاتهم. وقالوا إنَّها غير مُنفِّرة وإنَّ الأنبياء إنْ وقعوا في صغيرة يُقلعون عنها ولا يُصرُّون عليها. فلا يخدعْكُمُ الثَّرثار بكثرة الكلام.

29

ومن بدع أهل الفتنة في هذه المسألة تكفيرُهُم لكُلِّ مَن قال: (آدم عصَى) في غير معرض تلاوة القُرآن الكريم لأنَّهُم قرأوا كلامًا لفقيه مالكيٍّ لم يفهموا محلَّه وأنَّه محمول على مَن قالَها مُريدًا السَّبَّ والشَّتم وأمَّا مَن قالها لغير ذلك فلا يكفُر البتَّة كما بيَّن الفُقهاء المالكيَّة ذلك بأنفسهم.

30

قال الشَّيخ مُحمَّد علِّيش: <قَالَ البُرْزُلِيُّ: فَتَمْثِيلُ النُّحَاةِ لِلَمْ وَلَمَّا بِقَوْلِهِمْ: “وَلَمَّا عَصَى آدَم رَبَّهُ وَلَمْ يَنْدَمْ” كُفِّرَ. وَكُفْرُهُ أُخْرَوِيٌّ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى نَصِّ القُرْآنِ وَلَمْ يَنْدَمْ وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي القَدْحِ> انتهى فانظُر كيف أنَّه لم يجعل علَّة الوُقوع في الكُفر أنَّه قال: (آدم عصَى) ولكن لأنَّه قدح بالنَّبيِّ فقال: ولم يتُب!

31

وكذلك مِن أشهر تناقُضات أهل الفتنة -في مسألة عصمة الأنبياء- زعمُهُم أنَّ القول بنُبُوَّة إخوة يوسُف قَول مُعتبَر! مع أنَّ القُرآن أثبت في حقِّهم أنَّهُم كَذَبُوا وفعلوا الخسائس؛ ولمَّا نبَّهناهُم إلى هذه السَّقطة وقُلنا لهُم هذا منكُم طعن بمقام النُّبُوَّة أخذتهُم العزَّة بالإثم وتكبَّروا عن قَبول النُّصح.

32

وهكذا يُغيِّر أهل الفتنة الكلام في كُلِّ مرَّة فيضطربون بعد قراءة جُملة جديدة في كتاب ليس لهُم إليه سَنَد وهُم قاصرون عن فهم كلام العُلماء فيتناقضون تناقُض الصِّبية في الخُصومة؛ ولو كانوا طُلَّاب حقٍّ لَمَا تمسَّكوا بعبارات مِن الكُتُب لم يفهمُوها ولَمَا ردُّوا مئات أقوال عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة.

33

وقد رأيتُ ثرثار أهل الفتنة يُضلِّل مَن أخذ بقول الجُمهور ويصفُه بأنَّه ضالٌّ مُضِلٌّ -والعياذ بالله ممَّا يفتريه على الشَّرع- ثُمَّ يتباكَى أمام مَن يُخاطبُهُم فيشكو أنَّ (خصومه) يشتمونه ويُكفِّرونه! يعني يسمح التِّمساح الماكر لنفسه بتضليل جُمهور العُلماء ويتباكَى ليُخادع النَّاس.. إنَّ كيده لعظيم!

34

وكُنَّا نقلنا لأهل الفتنة مِن أقوال عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة ما يكفي لحسم الجَدَل في المسألة مِن أوَّل يوم وأنَّهُم بتضليل جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة في مسألة العصمة: فقد وافقوا الشِّيعة الرَّوافض في ذلك والعياذ بالله، ونختم هذا المقال بنقل بعض أقوال أهل السُّنَّة والجماعة في المسألة:

35

قال الأبياريُّ المالكيُّ فِي [التَّحقيق والبيان فِي شرح البُرهان فِي أصول الفقه] ما نصُّه: <وَقَوْلُهُ: (إِنَّ الصَّغَائِرَ مُخْتَلَفٌ فِي وُقُوعِهَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ) فَهُوَ كَذَلِكَ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ مِنْ حَيْثُ الجُمْلَةُ وَاسْتَدَلَّ عَلَىْ ذَلِكَ بِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}> انتهى.

36

قال الإمام الشَّافعيَّ رضي الله عنه في كتابه [الأُمِّ]: <ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَىْ نَبِيِّهِ أَنْ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ يَعْنِي وَاللهُ أَعْلَمُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَبْلَ الوَحْيِ وَمَا تَأَخَّرَ أَنْ يَعْصِمَهُ فَلَا يُذْنِبُ. يُعْلِمُ اللهُ مَا يَفْعَلُ بِهِ مِنْ رِضَاهُ عَنْهُ وَأَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ يَوْمَ القِيَامَةِ وَسَيِّدُ الخَلَائِقِ> انتهى.

37

قال الإمام أحمد رضي الله عنه: <وَأَمَّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَذَلِكَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ آدَمَ كَافِرٌ> رواه ابن الجوزيِّ فِي [مناقب أحمد] ومثله فِي [طبقات الحنابلة] وهو دليل أنَّ ذنب آدم عنده كان حقيقيًّا لأنَّ المُعتزلة لم يُكفِّروا بترك الأَولى.

38

وقال الإمام المُجتهد الطَّبريُّ المُفسِّر المشهور كذلك في تفسير {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}: <وَسَلْ رَبَّكَ غُفْرَانَ سَالِفِ ذُنُوبِكَ وَحَادِثِهَا> انتهى وقال في تفسير {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}: <فَيَغْفِرَ لَكَ بِفِعَالِكَ ذَلِكَ رَبُّكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ قَبْلَ فَتْحِهِ لَكَ مَا فَتَحَ وَمَا تَأَخَّرَ بَعْدَ فَتْحِهِ لَكَ ذَلِكَ مَا شَكَرْتَهُ وَاسْتَغْفَرْتَهُ> انتهى.

39

وقال رحمه الله: <وَلَوْ كَانَ القَوْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنَّهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ عَلَى غَيْرِ الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا. لَمْ يَكُنْ لِأَمْرِهِ إِيَّاهُ بِالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ وَلَا لِاسْتِغْفَارِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بَعْدَهَا مَعْنًى يُعْقَلُ. إِذِ الِاسْتِغْفَارُ مَعْنَاهُ: طَلَبُ العَبْدِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذُنُوبٌ تُغْفَرُ لَمْ يَكُنْ لِمَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ غُفْرَانَهَا مَعْنًى. لِأَنَّهُ مِنَ المُحَالِ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبًا لَمْ أَعْمَلْهُ> انتهى.

40

قال الإمام الأشعريُّ رضي الله عنه في [المُجرَّد]: <إِنَّ أَنْوَاعَ هَذِهِ الأَلْطَافِ إِذَا تَوالَتْ وَفَعَلَهَا اللهُ بِالمُكَلَّفِ وَلَمْ تَتَخَلَّلْهَا كَبِيرَةٌ قِيْلَ لِمَنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ إِنَّهُ مَعْصُومٌ مُطْلَقًا. وَذَلِكَ كَأَحْوَالِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ..> إلخ..

41

وقال في [المُجرَّد]: <ثُمَّ حُكِيَ عَنْهُ فِي بَابِ ذُنُوبِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: (أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إنَّ الأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ مِنْهُمْ مَعَاصٍ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُسَمَّونَ بِهَا؛ وَلَا يُقَالُ لَهُمْ عُصَاةٌ) وَلَيْسَ مَذْهَبَهُ بَلْ هَذَا مَذْهَبُ المُرْجِئَةُ. وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ عَاصٍ لوُجُودِ مَعْصِيَتِهِ فَإِذَا تَابَ زَالَ عَنْهُ الإِثْمُ بِزَوَالِ مَعْنَاهُ> انتهى.

42

وقال -أي الإمام الأشعريُّ- فِي [المُجرَّد] عن النَّبيِّ مِن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ما نصُّه: <كَمَا لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} لِأَجْلِ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ صَغِيرَةٌ> انتهى.

43

وقال الإمام الماتُريديُّ رضي الله عنه في تفسيره المُسمَّى [تأويلات أهل السُّنَّة]: <وَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَتَكَلَّفَ حِفْظَ ذُنُوبِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَذِكْرهَا> إلى قوله: <وَذَنْبُهُمْ تَرْكُ الأَفْضَلِ دُونَ مُبَاشَرَةِ القَبِيحِ فِي نَفْسِهِ> انتهى.

44

وللماتُريديِّ كلام مُوافق لقول الجُمهور فِي [تأويلات أهل السُّنَّة] ونصُّه: <وَفِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا}  دِلَالَةٌ أَنَّ للهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَنْ سَبَقَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَدْ عُصِمُوا عَنِ ارْتِكَابِ الكَبَائِرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَكِبُوا الكَبَائِرَ فَيَهْلِكُوا لِأَجْلِهَا. فَثَبَتَ أَنَّهُمْ لَوْ أُهْلِكُوا لَأُهْلِكُوا بِالصَّغَائِرِ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ للهِ تَعَالَىْ أَنْ يُعَذِّبَ أَهْلَ الصَّغَائِرِ لَصَارَ هُوَ بِإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُ بِمَنْ مَعَهُ جَائِرًا ظَالِمًا وَجَلَّ اللَّهُ تَعَالَىْ عَنِ الوَصْفِ بِالجَوْرِ. وَقَالَ تَعَالَىْ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}  وَلَوْ لَمْ يَكُن للهِ تَعَالَىْ أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَحَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَىْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ بِمَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ>  انتهى.

45

وقال الإمام الماتُريديُّ فِي [كتاب التَّوحيد]: <ثُمَّ الَّذِي يَنْقُضُ قَوْلَ الخَوَارِجِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالصَّغَائِرِ مَا بُلِيَ بِهَا الأَنْبِيَاءُ وَالأَوْلِيَاءُ> انتهى وهو دليل أنَّ ذنوب الأنبياء حقيقيَّة على قول الجُمهور لأنَّ الخوارج لم يُكفِّروا بترك الأَولى والذُّنوب المجازيَّة.

46

وقال الإمام الماتُريديُّ فِي [شرح الفقه الأكبر]: <ثُمَّ الإِنْسُ وَالجِنُّ غَيْرُ مَعْصُومِينَ إِلَّا الرُّسُلَ وَالأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنِ الكَبَائِرِ فَإِنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ مِنْهَا لَمْ يَنْفَكُّوا عَنِ الكَذِبِ؛ وَالكَاذِبُ لَا يَصْلُحُ لِلرِّسَالَةِ وَغَيْرُ مَعْصُومِينَ عَنِ الصَّغَائِرِ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُمْ مَقَامَ الشَّفَاعَةِ فَلَوْ عُصِمُوا عَنِ الصَّغَائِرِ لَوَقَعَ الضَّعْفُ فِي مَقَامِ الشَّفَاعَةِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُبْتَلَ بِبَلِيَّةٍ لَمْ يَرِقَّ عَلَى المُبْتَلَى فَهَذَا هُوَ الحِكْمَةُ فِي زَوَالِ العِصْمَةِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ فِي الصَّغَائِرِ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا لَمْ يَلْفِظِ الصَّغَائِرَ وَإِنَّمَا يُسَمُّونَهَا الزَّلَلَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اللَّفْظَتَيْنِ فِي الحَقِيقَةِ> انتهى.

47

وقال الكلاباذي فِي [التَّعرُّف لمذهب أهل التَّصوُّف] ما نصُّه: <وَالنَّبِيُّ مَعْصُومٌ لَا يجْرِي عَلَيْهِ كَبِيرَةٌ بِإِجْمَاعٍ. وَلَا صَغِيرَةٌ عِنْدَ بَعضِهم> انتهى.

48

وقال أيضًا: <وكُلُّ مَن أثبتَها زللًا وخطايَا فَإِنَّهُم جَعَلوها صغائرَ مقرُونةً بِالتَّوْبَةِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى مُخبِرًا عَن صَفيِّهِ آدمَ وَزَوجتِهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: {رَبَّنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا} الآيَة؛ وَقَولُه: {فَتَابَ عَلَيْهِ وَهدى} وَفِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَظنَّ دَاوُد أَنَّما فتنَّاه فَاسْتَغْفر ربَّه وخرَّ رَاكِعًا وأناب}> انتهى.

49

وقال أبو إسحاق الثَّعلبيُّ ما نصُّه: <الإماميَّةُ لا تُجوِّزُ الصَّغائرَ على النَّبيِّ ولا على الإمامِ؛ والآيةُ تردُّ عليهِمْ> انتهى. نقله المُفسِّر ابن عطيَّة الأندلسيُّ كما فِي [المُحرَّر الوجيز فِي تفسير الكتاب العزيز].

50

وقال ابن بَطَّال -مِن كبار الفُقهاء المالكيَّة فِي زمانه- فِي [شرحه على البُخارِيِّ]: <وقالَ أهلُ السُّنَّةِ: جائزٌ وقوعُ الصَّغائرِ مِنَ الأنبياءِ. واحتجُّوا بقولِهِ تعالَى مُخاطبًا لرسولِهِ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فأضافَ إليهِ الذَّنْبَ> انتهى. وقال: <وفي كتابِ اللهِ تعالَى مِن ذِكرِ خطايَا الأنبياءِ ما لا خفاءَ بِهِ وقد تقدَّم الاحتجاجُ فِي هذه المسألة فِي كتابِ الدُّعاءِ فِي بابِ قولِ النَّبيِّ: (اللَّهُمَّ اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرت) ما لم أذكُرْهُ ها هُنا> انتهى.

51

وقال ما نصُّه: <فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ المُخْبِرُ لَنَا بِذَلِكَ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى أَوْلَى بِأَنْ يَدْخُلَ مَعَ أُمَّتِهِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ. وَلَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ السَّهْوِ وَالخَطَإِ. وَإِنَّمَا يَقَعُ اسْتِغْفَارُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَفَّارَةً لِلصَّغَائِرِ الجَائِزَةِ عَلَيْهِ وَهِيَ الَّتِي سَأَلَ اللَّهُ غُفْرَانَهَا لَهُ بِقَوْلِهِ: (اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ)> انتهى.

52

وقال المُتولِّي -شيخ الشَّافعيَّة- فِي [الغُنية] ما نصُّه: <وأمَّا الصَّغائرُ فاختلفُوا فِي جوازِها عليهمْ..> انتهى. وقال ما نصُّه: <ومنهمْ مَن جوَّزها وعليه يدلُّ قَصَصُ الأنبياءِ وهوَ ظاهرٌ فِي القرآنِ> انتهى.

53

وقال إمام الحرمَين عبد الملك الجُوينيُّ فِي [الإرشاد إلى قواطع الأدلَّة فِي أُصول الاعتقاد]: <ولم يقُمْ عندي دليلٌ على نفيِها ولا على إثباتِها إذِ القواطعُ نُصوصٌ أو إجماعٌ ولا إجماعَ إذِ العُلماءُ مُختلِفونَ فِي تجويزِ الصَّغائرِ على الأنبياءِ والنُّصوصُ الَّتي تَثبتُ أُصولُها قطعًا ولا يَقبلُ فحواها التَّأويلَ غيرُ مَوجودةٍ فإنْ قِيلَ إذَا كانتِ المسألةُ مظنونةٌ فمَا الأغلبُ على الظَّنِّ عندَكم؟ قُلنا: الأغلبُ على الظَّنِّ عندَنا جوازُها وقد شَهِدَتْ أقاصيصُ الأنبياءِ فِي آيٍ مِنْ كتابِ اللهِ تعالَى على ذلكَ. فاللهُ أعلمُ بالصَّوابِ> انتهى.

54

وقال الإمام الغزاليُّ فِي [المنخول مِن تعليقات الأُصول]: <لا يُتوصَّلُ إلى ذلكَ إلَّا بذكرِ مُقدِّمةٍ فِي عصمةِ الأنبياءِ عنِ المعاصِي وهيَ مُنقسمةٌ إلى الصَّغائرِ والكبائرِ وقد تقرَّرَ بمسلَكِ النَّقلِ كونُهم معصومِينَ عنِ الكبائرِ وأمَّا الصَّغائرُ ففيهِ تردُّدُ العُلماءِ والغالبُ على الظَّنِّ وقوعُهُ وإليهِ يُشيرُ بعضُ الآياتِ والحكاياتِ؛ هذا كلامٌ فِي وقوعِهِ> انتهى.

55

وقال المازريُّ فِي [إيضاح المحصول مِن بُرهان الأُصول]: <فبَيْنَ أئمَّتِنا اختلافٌ فِي وُقوعِ الصَّغائرِ فمنهُم مَن منعَها ومنهُم مَنْ أجازَها. وجنحَ المُجيزونَ لها إلى أنْ وَرَدَتْ فِي الشَّرعِ أخبارٌ تُشيرُ إلى أنَّها قد وَقَعَتْ مِنَ الأنبياءِ كقولِهِ تعالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وتأوَّلَ الآخَرونَ على أنَّ المُرادَ بِهِ ما تقدَّمَ وما تأخَّرَ ممَّا أحدثَهُ قبلَ النُّبوَّة أو على أنَّ المُراد بهذا الخطاب أُمَّته صلَّى الله عليه وسلَّم وهكذا يتأوَّلون ما استُدِلَّ به مِن الآيات المُشيرة إلى هذا كقوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ} والمغفرة تقتضي ذنبًا. وقوله تعالى فِي يونس: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وقوله فِي آدم: {وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ} فقالوا هذا كان قبل نبوَّة آدم ألَا تراه يقول: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} فأشار إلى أنَّ الاجتباء كان بعد المعصية وكذلك يسلكون فِي جميع الظَّواهر والآيِ طرُق التَّأويل> انتهى.

56

وقال القاضي عياض في [الشِّفا]: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> انتهى.

57

وقال رحمه الله: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ. وَلَا فِي صَغِيرَةٍ أَدَّتْ إِلَى إِزَالَةِ الحِشْمَةِ وَأَسْقَطَتِ المُرُوءَةَ وَأَوْجَبَتِ الإِزْرَاءَ وَالخَسَاسَةَ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْصَمُ عَنْهُ الأَنْبِيَاءُ إِجْمَاعًا> انتهى.

58

وقال رحمه الله: <مَنْ جَوَّزَ الصَّغَائِرَ؛ وَمَنْ نَفَاهَا عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى مُنْكَرٍ..> انتهى.

59

وقال أبو زكريا النَّوويُّ فِي [شرح مُسلم] فيما نقله عن القاضي عياض ما نصُّه: <وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ الَّتِي تُزْرِي بِفَاعِلِهَا وَتَحُطُّ مَنْزِلَتَهُ وَتُسْقِطُ مُرُوءَتَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ غَيْرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ مِنْهُمْ فَذَهَبَ مُعْظَمُ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ وَحُجَّتُهُمْ ظَوَاهِرُ القُرْآنِ وَالأَخْبَارِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ وَالنَّظَرِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَئِمَّتنَا إِلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الصَّغَائِرِ كَعِصْمَتِهِمْ مِنَ الكَبَائِرِ وَأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ يَجِلُّ عَنْ مُوَاقَعَتِهَا وَعَنْ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَمْدًا> انتهى.

60

وقال التَّفتازانيُّ فِي [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى.

نهاية المقال.

كيف سقط أهل الفتنة؟

2. مسألة عصمة الأنبياء عن الصَّغائر غير المُنفِّرة

(ب) جهلُهم بمذهب الأشعريِّ في عصمة الأنبياء

الحمدلله الَّذي خلق النُّفُوس فألهمها فُجورها وتقواها؛ والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا مُحمَّد الَّذي قال: <نضَّر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها>.

أمَّا بعدُ فهذه سلسلة جديدة مِن المقالات المُباركة نهدف مِن خلالها إلى بيان كيف سقط أهل الفتنة؛ وما منشأ ما وقعوا به مِن سُوء فهم أدَّى بهم إلى الزَّيغ عن جادَّة الحقِّ والتَّحوُّل عن طريق الهُدى والصَّواب؛ لتكون هذه المقالات حصانة لأُولي الألباب والله الهادي إلى الأسباب.

بيان أنَّ المعصية الصَّغيرة غير المُنفِّرة لا تُعارض العصمة عند الأشعريِّ:

قال الأشعريُّ فِي [المُجرَّد]: <إِنَّ أَنْوَاعَ هَذِهِ الأَلْطَافِ إِذَا تَوالَتْ وَفَعَلَهَا اللهُ بِالمُكَلَّفِ وَلَمْ تَتَخَلَّلْهَا كَبِيرَةٌ قِيْلَ لِمَنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ إِنَّهُ مَعْصُومٌ مُطْلَقًا. وَذَلِكَ كَأَحْوَالِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ..> إلى آخر كلامه؛ فعصمة الأنبياء عند الأشعريِّ لا تقتضي العصمة مِن الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها.

وقال الأشعريُّ رحمه الله ورضي عنه عن النَّبيِّ مِن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه: <كَمَا لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} لِأَجْلِ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ صَغِيرَةٌ> انتهى.

ومعنى أنَّ النَّبيَّ لا يكون داخلًا في الآية أنَّه يتُوب فورًا فيتبرَّأ منها فلا تبقى عليه فلا يدخُل في الآية حُكمًا؛ وهذا يدلُّ أنَّ الأشعريَّ يُجوِّز الصَّغائر غير المُنفِّرة على الأنبياء بعد النُّبُوَّة وإنْ لم يُوجد له نصٌّ صريح في [المُجرَّد] ويكفي أنَّ أكثر الأشعريَّة على هذا دلالة على مذهب إمامهم.

2. رأس الفتنة المدعو يُوسف ميناوي لم يفهم مذهب الأشعريِّ في عصمة الأنبياء.

وقد سقط أهل الفتنة عندما توهَّموا أنَّ قول ابن فورك: <إِنَّ المَعْصِيَةَ وَالزَّلَّةَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ؛ فَأَمَّا بَعْدَ إِرْسَالِهِمْ فَلَمْ نَجِدْ عَنْهُ نَصًّا فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ> انتهى؛ فحكموا أنَّ الأشعريَّ لا يُجوِّز الصَّغائر غير المُنفِّرة عليهم بعد النُّبُوَّة لمُجرَّد أنَّ ابن فورك قال إنَّه لم يجد نصًّا صريحًا بذلك!

والصَّواب أنَّ عبارة ابن فورك لا تعني إنكار كون الأشعريِّ يُجوِّز الصَّغائر غير المُنفِّرة على الأنبياء بعد النُّبُوَّة إذ عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوُجود بل هي عبارة يدخلها الاحتمال ولذلك قال القاضي عياض: <قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ> انتهى.

– فلو فهم أهل الفتنة أنَّ الأشعريَّ لا يرى وُقوع الصَّغيرة غير المُنفِّرة مُعارضًا لعصمة الأنبياء لَمَا أخطأوا في فهم كلامه.

– ولو تأمَّلوا قوله: <لِأَجْلِ أَنَّ مَعْصِيَتَهُ صَغِيرَةٌ>؛ لفهموا أنَّه يُجوِّز وُقوع صغائر غير مُنفِّرة مِن الأنبياء بعد النُّبُوَّة.

يتبع – السَّبب الثَّالث:

3. خطأُه في فهم قول العُلماء في حُكم مَن قال عصى آدم عليه السَّلام.

انتهى.

الأعلام المُوشَّحة

في كشف ضلالات الجَهَلَة المُتصولحة

-كشف عن أربعين ضلالة لأهل الفتنة-

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

استهلال:

وبعدُ فقد اجتمع في الجَهَلَة المُتصَولحة أهل الفتنة من الضَّلالات ما يندُر أنْ يجتمع في فرقة واحدة مِن فِرَق أهل الأهواء؛ فأهلُ الفتنة وافقوا الرَّوافضَ والنَّواصب معًا ووافقوا الزَّنادقة والفلاسفة معًا ووافقوا المُجسِّمة المُشبِّهة وجَهَلَة المُتصوِّفة؛ وافقوا كُلَّ فرقة مِن هذه الفِرَق في مسائل دُون أُخرَى فكان دُخولُهُم إلى البِدَع والضَّلال مِن أوسع الأبواب والعياذ بالله تعالَى.

ونحن بإذن الله تبارك وتعالَى نذكُر مُختصَرًا في كشف أهل الفتنة على اختلاف ضلالاتهم ونرُدُّ دعاويهمُ الكاذبة في هذه الرِّسالة الَّتي نسأل الله تبارك وتعالَى أنْ يُبارك فيها حتَّى ينتفع العامَّة بها في الحَذَر مِن انحرافات أهل الفتنة واجتناب ما يُموِّه به المُبطلون على البُسَطاء مِن تُرَّهات وشُبُهات سخيفة لا تجتمع إلَّا في عبد خَذَلَه الله فلم يُوَفِّقْه إلى الخير والهُدَى.

لا تُغمض عَينَيك:

وأنا أقول لكُلِّ واحد مِن أهل الفتنة: انظُر في مجموع ضلالات إخوانك مِن أهل الفتنة لتعلم أنَّك وإنْ وافقتَهُم في مسألة: إلَّا أنَّك عندهُم ضالٌّ وأنَّهُم عندك ضالُّون في مسائل أُخرَى كثيرة؛ فلا تُغمض عَينَيك عن القراءة حتَّى لا يفوتك ما تحتاج معرفته؛ وإنْ كُنتَ تشُكُّ في نسبة ذلك إلى أهل الفتنة فلك أنْ تطلُب الوثائق مِن إدارة صفحة “السُّنَّة” في فيسبوك.

المقالات:

1) أهل الفتنة يُجوِّزون وصف الله تعالَى بالعلَّة.

زعم أهل الفتنة أنَّه يجوز وصف الله تعالَى بالعلَّة -وهي المرض والسَّبب- في معرض دفاعهم عمَّن وصف الله بذلك! وهذا ضدُّ مذهب أهل السُّنَّة والجماعة فقد قال النَّسَفيُّ في تفسير {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ}: <ومِن الإلحاد تسمية الله بالجَوهر والجسم والعقل والعلَّة> انتهَى وقال القاضي السُّغْديُّ في [النُّتف في الفتاوَى]: <مَن سمَّى الله علَّة أو سَبَبًا كفَر> انتهى.

2) أهل الفتنة يُجوِّزون وصف الله تعالَى بالشَّخص.

زعم أهل الفتنة أنَّه يجوز وصف الله تعالَى بـ(الشَّخص)! وقَولُهُم مردود. قال ابن بطَّال في [شرح البُخاريِّ]: <وأجمعتِ الأُمَّةُ على أنَّ الله لا يجوز أنْ يُوصف بأنَّه شخص لأنَّ التَّوقيف لم يرد به> انتهَى وردَّ العُلماء لفظ (شخص) في حديث: <لا شخصَ أغيرُ مِن الله> وقالوا: وَضَعَه بعض الرُّواة، وقدَّموا رواية أُخرَى فيها: <لا أحدَ أغيرُ مِن الله> انتهَى.

3) أهل الفتنة لا يحكُمون بكُفر مَن وصف الله تعالَى بالجسم.

زعم أهل الفتنة أنَّ مَن نسب إلى الله تعالَى النَّقائص كالجسم مع العلم بمعناه لا يكون كافرًا بالإجماع بل هُو مُسلم على قَول مُعتبَر عندهُم! وهذا مردود فالله تعالَى يقول في الحديث القُدسيِّ: <شَتَمَني عبدي ولم يكُن له ذلكَ> ثُمَّ قالَ: <وأمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فقولُه إنَّ لي ولدًا> انتهَى فبيَّن أنَّ مُجرَّد نسبة النَّقص إلى الله كُفرٌ وشتمٌ له سُبحانَه وتعالَى عمَّا يقول الظَّالمون.

4) أهل الفتنة يُنفِّرون النَّاس مِن كلمات التَّنزيه.

دعَا أهلُ الفتنة إلى ترك قول: (الله موجود بلا مكان) لأنَّها بزعمهم صارت مِن شعائر المُبتدعة! مع أنَّها كلمة عظيمة في تنزيه الله عن النَّقائص تُوافق قول نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام: <كان الله ولم يكُن شيء غيرُه> رواه البُخاريُّ في صحيحه، ولذلك قال الشَّيخ أحمد الرفاعيُّ الكبير رضي الله عنه: <غاية المعرفة بالله الإيقان بوُجوده تعالَى بلا كيف ولا مكان> انتهى.

5) أهل الفتنة يُهوِّنون الكُفر للنَّاس.

يُدافع أهل الفتنة عن التَّلفُّظ ببعض الأقوال الصَّريحة في الكُفر بحُجَّة أنَّ لها تأويلاتٍ بعيدةً! مع علمهم أنَّ العامَّة لا يعرفون تلك التَّأويلات البعيدة ولا تخطُر لهُم مِن قريب أو بعيد فلا تكون حاضرة في أفهامهم وقتَ النُّطق بتلك الكلمة الصَّريحة في الكُفر؛ لا يكفُر العامِّيُّ إنْ لم يفهم معنًى كُفريًّا لِمَا نطق به؛ ولكن الدِّفاع عن التَّلفُّظ بالكُفر الصَّريح ضلال مُبين.

6) أهل الفتنة يمنعون غير القاضي مِن تكفير مَن سبَّ الله.

زعم أهل الفتنة أنَّه لا يجوز تكفير المُعيَّن ولو سَبَّ الله تعالَى لأنَّ إطلاق حُكم التَّكفير في زعمهم خاصٌّ بالقاضي الحاكم! وهذا ضلال مُبين لأنَّ عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة كفَّروا مَن لم يُكفِّر سابَّ الله تعالَى بل وكفَّروا مَن توقَّف في تكفير سابِّ الله تعالَى أي مَن قال أنا لا أحكُم عليه بالكُفر ولا بالإسلام فهذا كالشَّاكِّ في حُكم مَن سَبَّ الله سُبحانه وتعالَى.

7) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ العبد لا يكفُر إلَّا عنادًا.

زعم أهل الفتنة أنَّ العبد لا يكفُر بالله مهمَا قال أو فعل أو اعتقد إلَّا لو كان مُعاندًا يُريد الكُفر ويطلُبُه! وهذا قَول في غاية الفساد والبُطلان وهُو مُخالف للنُّصوص الشَّرعيَّة وإجماع عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة، وهذا مِن أهل الفتنة تكذيب لقول الله تعالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.

😎 أهل الفتنة يزعُمون أنَّ المُرتدَّ يرجع مُسلمًا بدون الشَّهادتين.

زعم أهل الفتنة أنَّ المُرتدَّ -أي الَّذي كَفَر بالله وارتدَّ عن دين الإسلام- يرجع مُسلمًا بمُجرَّد إقلاعه عن الكُفر الَّذي وقع به في الرِّدَّة دون الحاجة إلى التَّلفُّظ بالشَّهادتَين بنيَّة الرُّجوع للإسلام والتَّبرُّؤ مِن الكُفر! وهذا منهُم مُخالفة صريحة لِمَا أجمع عليه عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة وفيه هدم لكثير مِن أحكام الدِّين والعياذ بالله تعالَى ممَّا يفتري الجاهلون.

9) أهل الفتنة يُدافعون عمَّن كذَّب القُرآن الكريم.

دافع أهل الفتنة عن بعض مشايخهمُ الَّذي كذَّب القُرآن الكريم وناقضه فزعم أنَّه يجوز الدُّعاء بالرَّحمة لِمَن عَلِمْنَا مَوْتَه على الكُفر والعياذ بالله! وهذا منه تكذيب لقول الله تعالَى في القُرآن الكريم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} فمَن يستدرك على قول الله تعالَى إلَّا عبد خَذَلَه الله وأضلَّه!

10) أهل الفتنة يُجوِّزون القول بتخفيف العذاب عن أبي لَهَب.

زعم أهل الفتنة أنَّه يجوز القول بتخفيف العذاب عن أبي لَهَب في جهنَّم! وهذا تكذيب لقوله تعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا ۖ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} وقولِه تعالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}.

11) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ عمَّار بن ياسر خرج عن اليقين بكونه مُؤمنًا.

زعم أهل الفتنة أنَّ الصَّحابيَّ الجليل عمَّار بن ياسر -رضي الله عنه- خرج عن اليقين بكونه مُؤمنًا! والله تعالَى يقول في عمَّار: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} صدق الله العظيم، فهذا مِن أدلِّ ما يكون على أنَّ أهل الفتنة قَوم بُهت يفترون على الله وعلى الأنبياء -عليهمُ السَّلام- وعلى الشَّرع وأنَّهُم أبعد النَّاس عن الفهم الصَّحيح السَّليم المُوافق لكتاب الله.

12) أهل الفتنة يفترون على الأنبياء الكُفر.

زعم أهل الفتنة أنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام سألوا الكُفَّار أسئلة يعلمون أنَّهُم يُجيبون عليها بالنُّطق بكلمة الكُفر! انتهَى وهذا لازمُه أنَّ الأنبياء يستنطقون النَّاس بالكُفر أي يطلُبون مِن النَّاس أنْ يقولوا كلمة الكُفر! وهُو كذلك تجويز للكُفر على الأنبياء لأنَّ مَن أراد مِن خلق الله أن يكفُروا فقد كَفَر وأجمعتِ الأُمَّة على عصمة الأنبياء مِن الكُفر قبل الوحي وبعده.

13) أهل الفتنة يفترون على الأنبياء الكَذِب والخسائس.

زعم أهل الفتنة أنَّ إخوة يوسُف أنبياء على قَول مُعتبَر! انتهَى وهذا طعن بالأنبياء لأنَّ القُرآن أثبت أنَّ إخوة يوسُف كَذَبُوا وفعلوا الخسائس؛ فالقول بنُبُوَّتُهُم فيه تجويز الكذب والخسائس على الأنبياء قبل الوحي وتجويز ذلك عليهم ضلال دُسَّ في الكُتُب يُنكره أهل السُّنَّة والجماعة لأنَّ الأُمَّة أجمعت على عصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام مِن الكذب والخسائس مُطلَقًا.

14) أهل الفتنة يفترون على الأنبياء الخطأ في التَّشريع.

زعم أهل الفتنة أنَّ الأنبياء يُخطئون في التَّشريع! وهذه دعوة إلى الإلحاد لأنَّ في قولهم هذا رفعَ الثِّقة عن كلام الأنبياء عليهمُ السَّلام؛ ويكفي في ردِّهم قول الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} وقول الرَّسول عليه السَّلام: <ما منكُم مِن أحد إلَّا ويُؤخَذ مِن قوله ويُترَك غيرَ رسول الله> حسَّنه الحافظ العراقيُّ في [تخريج الإحياء].

15) أهل الفتنة يُكفِّرون مَن قال: (آدمُ عصَى) مُطلَقًا في غير القُرآن.

كفَّر أهل الفتنة كُلَّ مَن قال: (آدمُ عصَى) في غير تلاوة القُرآن الكريم! وهذا التَّكفير الباطل ينطبق على أكثر المُفسِّرين وأكثر عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة مِن سَلَف وخَلَف؛ وأخذ أهل الفتنة ذلك مِن ظاهر كلام فقيه مالكيٍّ لم يفهموه على حقيقته، والصَّواب أنَّ كلامه محمول على مَن قال ذلك مُريدًا تنقيص الأنبياء لا مُطلَقًا كما توهَّم الجَهَلَة المُتصولحة أهل الفتنة.

16) أهل الفتنة يُضلِّلون مَن قال بوُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء.

ضلَّل أهل الفتنة كُلَّ مَن قال بجواز ووُقوع الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها مِن الأنبياء بعد الوحي! وهذا منهُم تضليل لجُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة لأنَّ الجُمهور قالوا بجواز ذلك ووُقوعه كما في تفسير آيات منها قولُه تعالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقولُه تعالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقولُه تعالَى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}.

17) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ المعصية منها ما لا يكون حقيقيًّا ولا مجازيًّا.

زعم أهل الفتنة أنَّ المعصية منها ما لا يكون حقيقيًّا ولا مجازيًّا! وهذا القول ضدُّ أقوال الفُقهاء والمُتكلِّمين والمُحدِّثين والحُفَّاظ بل وضدُّ أقوال اللُّغويِّين؛ وذلك أنَّ المعصية إمَّا أنْ تكون معصية حقيقيَّة وإمَّا أن تكون مجازيَّة ولا يوجد نوع ثالث لا حقيقيٌّ ولا مجازيٌّ كما افترَى الحمقَى على الشَّرع واللُّغة، وهذا يُثبت كون أهل الفتنة مِن الجَهَلَة على التَّحقيق.

18) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ نسبة صغيرة لا خسَّة فيها إلى الأنبياء أبشع مِن نسبة الكبيرة إليهم.

زعم أهل الفتنة أنَّ نسبة صغيرة لا خسَّة فيها إلى الأنبياء عليهمُ السَّلام بعد الوحي أبشع مِن نسبة الكبيرة إليهم قبل الوحي! ولازم قولهم أنَّ نسبة ما يجوز على الأنبياء عند الجُمهور أبشع مِن نسبة ما يستحيل عليهم بالإجماع! يعني عندهُم نسبة الجائز الشَّرعيِّ أبشع مِن نسبة المُستحيل الشَّرعيِّ، وهذا يكشف أنَّ أهل الفتنة لا يُدافعون عن الأنبياء.

19) أهل الفتنة يُنكرون تأويل حديث السِّحر بأنَّه لا يُؤثِّر في قُلوب الأنبياء.

أنكر أهل الفتنة على مَن تأوَّل حديث السِّحر بأنَّه لا يُؤثِّر في قُلوب الأنبياء! ويكفي في الرَّدِّ عليهم أنْ يُقال لهُم إنَّه لو جاز أنْ يعمل السِّحر في قلب النَّبيِّ وتفكيره؛ لم يُؤمَن أنْ يُؤَثِّرَ ذلك فيما يُوحَى إليه مِن أُمور الدِّين والشَّريعة ويكون في ذلك ضلال الأُمَّة؛ وهذا فيه رفع الثِّقة عن كلام الرَّسول ولذلك فإنَّه مِن المُستحيل شرعًا أنْ يُؤثِّر السِّحر في قُلوبهم.

20) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ النَّبيَّ يعلم كُلَّ ما في اللَّوح المحفوظ.

زعم أهل الفتنة أنَّ النَّبيَّ يعلم كُلَّ ما في اللَّوح المحفوظ! فجعلوا النَّبيَّ شريكًا لله فيما اختص الله بعلمه! ويكفي في الرَّدِّ عليهم قَول الغماريِّ إنَّ البُوصيريَّ: <مُخطِئ أيضًا في قولِهِ: “فإنَّ مِن جُودِكَ الدُّنيَا وضُرَّتَها * ومِن عُلُومِكَ عِلمُ اللَّوحِ والقَلَمِ” لأنَّ الدُّنيَا والآخرة مِن جُودِ اللهِ تعالَى لا مِن جُودِ رسولِهِ وعِلمَ اللَّوحِ والقلمِ مِن عِلمِ اللهِ تعالَى لا مِن عِلمِ رسولِهِ> إلخ..

21) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ النَّبيَّ هُو المُدبِّر لجميع المخلوقين.

زعم أهل الفتنة أنَّ النَّبيَّ هُو المُدبِّر لجميع المخلوقين! ويكفي في الرَّدِّ عليهم قول أهل السُّنَّة والجماعة في العقيدة الَّتي لا يُنكرها سُنِّيٌّ: <لَيْسَ مَعَهُ مُدَبِّرٌ فِي الْخَلْقِ وَلَا شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ> إلخ.. وقال القرافيُّ فيمَن سأل اللهَ أنْ يُفوِّض إليه مِن أُمُور العالَم ما هُو مُختصٌّ بالله تعالَى أو قدرته أو إرادته: <فيكُون طَلَبُ ذلك طَلَبًا لِلشَّرِكَةِ مع الله تعالَى في المُلك وهُو كُفر> إلخ..

22) أهل الفتنة يُبيحون قتال الخليفة الرَّاشد بدعوَى الاجتهاد.

زعم أهل الفتنة أنَّ مَن خرج على الإمام عليٍّ رضي الله عنه فقاتله فهُو مأجور! وهذا ضدُّ القُرآن وضدُّ الحديث الصَّحيح وضدُّ الإجماع فإنَّ الله تعالَى يقول: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} ويقول نبيُّنا عليه السَّلام: <مَن خلع يدًا من طاعة لقيَ الله يومَ القيامة لا حُجَّة له> رواه مُسلم وقد أجمعتِ الأُمَّة على تحريم الخُروج على وليِّ الأمر الأمير العادل.

23) أهل الفتنة يُبيحون قتل عمَّار بن ياسر رضي الله عنه.

زعم أهل الفتنة أنَّ قاتل عمَّار بن ياسر لم يرتكب صغيرة ولا كبيرة! وهُم يشهدون أنَّ عمَّارًا مِن السَّابقين الأوَّلين وأنَّ النَّبيَّ قال: <إنَّ عمَّارًا مُلِئ إيمانًا> وأنَّه قُتِلَ بغير حقٍّ؛ ثُمَّ اختلف أهل الفتنة فريقَين فقال بعضُهُم: (إنَّ قاتل عمَّار فاسق مِن أخبث خَلْق الله) ولا يخفَى أنَّ قاتل عمَّار كان صحابيًّا -ولكن ليس مِن السَّابقين الأوَّلين- فوقعوا فيما أرادوا الهرب منه.

24) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ مُعاوية لو خرج على سيِّدنا عُمر لكان مأجورًا.

زعم أهل الفتنة أنَّ مُعاوية لو خرج إلى قتال عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنه كما خرج إلى قتال عليٍّ رضي الله عنه؛ لكان مُعاوية بذلك مأجورًا! وهذا منهُم كلام ضدُّ الدِّين فإنَّ القاعدة الشَّرعيَّة المُجمَع عليها تقول إنَّه لا اجتهاد مع وُجود النَّصِّ القُرآنيِّ والحديثيِّ ولا اجتهاد مع إجماع عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة والمُنعقد على تحريم الخُروج على الأمير العادل.

25) أهل الفتنة يُحرِّمون تعليم حديث: (ويح عمَّار تقتُلُه الفئة الباغية).

حرَّم أهل الفتنة تفسير الباغية بالظَّالمة في الحديث المُتواتر: <ويح عمَّار تقتُلُه الفئة الباغية> مع أنَّ له تتمَّة صحيحة في البُخاريِّ نصُّها: <يدعُوهُم إلى الجنَّة ويدعُونه إلى النَّار> انتهَى وزعم الجَهَلَة أنَّ حمل الحديث على مُعاوية وفريقه اليومَ غِيبة مُحرَّمة لأنَّه مشتمل على ذكرهم بما فيهم بما يكرهون! وهذا ضلال لأنَّه تحريم لنشر تعاليم نبيِّنا عليه السَّلام.

26) أهل الفتنة يزعمون أنَّ قِبلة أهل الشَّمال إلى الشَّمال.

زعم أهل الفتنة أنَّ القِبلة في أميركا الشَّماليَّة هي إلى الشَّمال! وهذا ضدُّ إجماع أهل السُّنَّة والجماعة والمُنعقد على أنَّ الجنوب قِبلة أهل الشَّمال وأنَّ الشَّمال قِبلة أهل الجنوب وأنَّ المشرق قِبلة أهل المغرب وأنَّ المغرب قِبلة أهل المشرق، وهذا إجماع لم يُخالفه أحد في الحقيقة حتَّى ابتدع بعض حزب الإخوان ما ابتدعوا فحرَّفوا قِبلة المُسلمين في أميركا.

27) أهل الفتنة يُكفِّرون مَن صلَّى في أميركَا الشَّماليَّة إلى الجنوب.

كفَّر أهل الفتنة مَن صلَّى في كندَا إلى الجنوب الشَّرقيِّ وقالوا إنَّه استحلَّ استدبار الكعبة في الصَّلاة! وهذا ضلال لأنَّ النَّجم القُطبيَّ دلَّ أنَّ قِبلة أهل الشَّمال إلى الجنوب. قال النَّوويُّ في [المجموع] عن أدلَّة القِبلة: <وأقواها القُطب> انتهَى وقال ابن ميارة: <عليه أنْ يستدلَّ على القِبلة بالنُّجوم وما يجري بمجراها> وقال: <ولا خلاف في ذلك> أي إجماع.

28) أهل الفتنة يجتهدون في البلاد البعيدة عن مكَّة على تعامُد الشَّمس فوق الكعبة.

زعم أهل الفتنة أنَّه يصحُّ في البلاد البعيدة عن مكَّةَ الاجتهادُ على تعامُد الشَّمس فوق الكعبة! وهذا خطأٌ دلَّ عليه ابن رُشد بقوله في [البيان والتَّحصيل]: <وهذا القَول ظاهرُه الصِّحَّة وليس بصحيح> إلخ.. ويصحُّ ذلك في البلاد القريبة مِن مكَّة؛ أمَّا في البلاد البعيدة فشكل الأرض وبُعْدُ المسافة جدًّا يمنعانِ صحَّة الاجتهاد على تعامُد الشَّمس فوق الكعبة.

29) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ أدلَّة القِبلة تتناقض.

زعم أهل الفتنة أنَّ أدلَّة القِبلة تتناقض! وهذا افتراء على الشَّرع يُكذِّبُه عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة ومنهُمُ القرافيُّ حيث قال في [الذَّخيرة] في باب [الاجتهاد في القِبلة]: <وَأَمَّا أَدِلَّةُ الْقِبْلَةِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا فَمَنْ عَلِمَ جُمْلَتَهَا كَمَنْ عَلِمَ وَاحِدًا مِنْهَا> انتهَى وهذا كاف في ردِّ بدعة أهل الفتنة لأنَّهُم لا يملكون ردًّا لدلالة النَّجم القُطبيَّ في أنَّ قِبلة أهل الشَّمال إلى الجنوب.

30) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ المُماكسة لغير حاجة مُستحبَّة.

زعم أهل الفتنة أنَّ المُماكسة لغير حاجة مُستحبَّة! وهذا ضدُّ حديث: <رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى> الحديث.. رواه البُخاريُّ. قال الكشميريُّ في [فيض الباري]: <فإنَّ المُمَاكسةَ بما لا يَضُرُّه أبعدُ عن معالي الأخلاق> إلخ.. وقال الماوردي في [أدب الدُّنيا والدِّين]: <فأمَّا مُماكسة الاستنزال والاستسماح فكلَّا؛ لأنَّه مُنافٍ للكرم ومُباين للمُروءة> انتهى.

31) أهل الفتنة يزعمون أنَّ الفدية تُسقط الصَّلاة عن الميِّت.

زعم أهل الفتنة أنَّ إخراج الفدية يُسقط عن الميِّت الصَّلاة الَّتي تركها بغير عُذر وهذا ضدُّ الحديث: <فَلْيُصَلِّهَا إذا ذكرَها لا كَفَّارَةَ لها إلَّا ذلك> رواه الشَّيخان؛ وقال في [الحاوي في فتاوَى الغمَّاريِّ]: <وليس في الدِّين شيء اسمه إسقاط الصَّلاة> إلخ.. أمَّا بعض مُتأخِّري الحنفيَّة فقالوا بالفدية على سبيل رجاء القَبول والعفو؛ لا على القطع بأنَّها تُسقط الصَّلاة.

32) أهل الفتنة يدَّعون إجماعًا كاذبًا بأنَّ إخوة يوسُف لم يكفُروا.

زعم أهل الفتنة أنَّ المُفسِّرين أجمعوا أنَّ إخوة يوسُف لم يكفُروا؛ وهذا إجماع كاذب فقد نقل غيرُ واحد مِن المُفسِّرين أنَّ إخوة يوسُف عليه السَّلام وصفوا أباهم بالخَرَف وذهاب العقل والسَّفاهة وقال القُشَيريُّ في تفسير {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}: <بسطوا في أبيهم لسان الوقيعة فوصفوه بلفظ الضَّلال> انتهَى أي شتموه وشتم النَّبيِّ كُفر بإجماع أهل السُّنَّة والجماعة.

33) أهل الفتنة يتَّهمون عائشة وحفصة بأنَّهُما كانتَا خصمَين في مُقابل الله تعالَى.

اتَّهم أهل الفتنة عائشة وحفصة رضي الله عنهُمَا بأنَّهُما كانتَا خصمَين في مُقابل الله تعالَى! أخذوه عن جاهل مِن أهل هذا العصر وليس لهُم فيه سَنَد مُعتبَر، وكيف يستبيحون اتِّهام أُمَّهات المُؤمنين بمثل ذلك وهم يُضلِّلون مَن قال بوُقوع سيِّدتنا عائشة رضي الله عنها بذنب في يوم الجَمَل ندمت وتابت منه وكانت بقيَّة حياتها كُلَّما ذكرَتْه تبكي حتَّى تَبُلَّ خِمارها.

34) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ مَن ترك استدامة الإيمان لا يكفُر.

زعم أهل الفتنة أنَّ مَن ترك استدامة الإيمان لا يكفُر! وهذه منهُم دعوة لمَن كَفَر كي لا يرجع إلى الإسلام؛ وكلامُهُم خلاف ما ذكره عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة مِن وُجوب استدامة الإيمان وأنَّ مَن ترك ذلك فقد كَفَر والعياذ بالله. قال القاضي الشَّيخ زكريَّا الأنصاريُّ في [أسنَى المطالب شرح روض الطَّالب]: <واستدامة الإيمان واجبة فمَن تركها كَفَر> انتهَى.

35) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ الحديث الضَّعيف يُحتَجُّ به في العقائد.

زعم أهل الفتنة أنَّ الحديث الضَّعيف يُحتَجُّ به في العقائد! وهذا ضدُّ ما ذكره عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة. قال النَّوويُّ في [المجموع]: <فأمَّا الضَّعيف فلا يجوز الاحتجاج به في الأحكام والعقائد> انتهَى وقال مثلَه في [التَّقريب] وفي [الإرشاد] ومثلُه قال كثير مِن العُلماء كالحافظ ابن الصَّلاح في [مُقدِّمته] والحافظ العراقيِّ في [التَّبصرة والتَّذكرة].

36) أهل الفتنة يسكُتون لمَن قال عندهُم: إنَّ المُجدِّد قد يكون كافرًا.

سكت أهل الفتنة لمَن قال عندهُم: (إنَّ المُجدِّد قد يكون كافرًا)! وافترَى ذلك أحد مشايخهم الَّذين يرجعون إليهم في مسائل العقيدة ويدَّعون زورًا وبُهتانًا أنَّه مِن العُلماء، وقد قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: <إن الله يبعث لهذه الأُمَّة على رأس كلِّ مائة سنةٍ مَن يجدِّد لها دينها> ورسولُنا لا يخون أُمَّته ولا يُرشدُهُم إلى اتِّباع كافر ليُجدِّد لهُم أمر دينهم.

37) أهل الفتنة يمدحون مَن أثنَى على كتاب سيِّد قُطب.

مدح أهل الفتنة بعض أهل البِدَع والأهواء الَّذين أثنوا على كتاب سيِّد قُطب والمُسمَّى في ظلال القُرآن مع ما احتواه هذا الكتاب مِن باطل وضلال فإنَّ كاتبه تناول أنبياء الله بما لا يليق بهم فوصف نبيَّ الله مُوسَى عليه السَّلام بالعصبيِّ المزاج! وافترَى على عُثمان رضي الله عنه فقال: إنَّ فيه بقيَّة مِن شِرك! فهل هكذا يُذكر السَّابقون الأوَّلون عند أهل الفتنة!؟

38) أهل الفتنة يُجوِّزون وصف ابن تيمية بشيخ الإسلام.

زعم أهل الفتنة أنَّه يجوز وصف ابن تيمية بشيخ الإسلام مع العلم بحاله! وهذا فيه دعاية لرأس مِن رُؤوس أهل البِدَع والأهواء ويشتمل على دعوة النَّاس إلى الأخذ بالضَّلالات؛ بل وسكت أهل الفتنة لمَن زعم عندهُم أنَّ ابن تيمية أعلم مِن الصَّحابة كُلِّهم ومِن أئمَّة المذاهب الأربعة مُجتمعين! فأهل الفتنة يفترون على الشَّرع وكأنَّهُم لا يُؤمنون بيوم القيامة.

39) أهل الفتنة يُدافعون عمَّن امتدح مذهب الإباضيَّة.

دافع أهل الفتنة عن واحد مِن مشايخهم امتدح مذهب الإباضيَّة الخوارج فقال: <الخلاف بين الإباضيَّة وبين المذاهب الأربعة هُو كالخلاف بين المذاهب الأربعة أنفُسها أبدًا> انتهَى وخُلاصتُه أنَّ الانتقال مِن مذاهب أهل السُّنَّة الأربعة إلى مذهب الخوارج (الإباضيَّة) هُو كانتقال الحنبليَّة إلى المالكيَّة أو الأحناف إلى الشَّوافع والعكس! والعياذ بالله.

40) أهل الفتنة يُنكرون كُفر المُعتزلة.

نشر أهل الفتنة في مجموعتهم على واتساب مقالًا يُنكِر فيه كاتبُه على مولانا الشَّيخ عبدالله الهرريِّ الحبشيِّ لأنَّه قال بتكفير المُعتزلة القدريَّة أي الَّذين أنكروا أنَّ الله تعالَى هُو خالق أفعال العِباد! علمًا أنَّ أهل السُّنَّة والجماعة لم يختلفوا في كُفر مَن كذَّب القرآن الكريم والله تعالَى يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ويقول تعالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}.

نهاية الرِّسالة.

الفهرس:

– استهلال.

– المقالات:

– الجُزء الأولَّ:

1) أهل الفتنة يُجوِّزون وصف الله تعالَى بالعلَّة.

2) أهل الفتنة يُجوِّزون وصف الله تعالَى بالشَّخص.

3) أهل الفتنة لا يحكُمون بكُفر مَن وصف الله تعالَى بالجسم.

4) أهل الفتنة يُنفِّرون النَّاس مِن كلمات التَّنزيه.

5) أهل الفتنة يُهوِّنون الكُفر للنَّاس.

6) أهل الفتنة يمنعون غير القاضي مِن تكفير مَن سبَّ الله.

7) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ العبد لا يكفُر إلَّا عنادًا.

😎 أهل الفتنة يزعُمون أنَّ المُرتدَّ يرجع مُسلمًا بدون الشَّهادتين.

– الجُزء الثَّاني:

9) أهل الفتنة يُدافعون عمَّن كذَّب القُرآن الكريم.

10) أهل الفتنة يُجوِّزون القول بتخفيف العذاب عن أبي لَهَب.

11) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ عمَّار بن ياسر خرج عن اليقين بكونه مُؤمنًا.

– الجُزء الثَّالث:

12) أهل الفتنة يفترون على الأنبياء الكُفر.

13) أهل الفتنة يفترون على الأنبياء الكذب والخسائس.

14) أهل الفتنة يفترون على الأنبياء الخطأ في التَّشريع.

15) أهل الفتنة يُكفِّرون مَن قال: (آدم عصَى) مُطلَقًا في غير القُرآن.

16) أهل الفتنة يُضلِّلون مَن قال بوُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء.

17) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ المعصية منها ما لا يكون حقيقيًّا ولا مجازيًّا.

18) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ نسبة صغيرة لا خسَّة فيها إلى الأنبياء أبشع مِن نسبة الكبيرة إليهم.

19) أهل الفتنة يُنكرون تأويل حديث السِّحر بأنَّه لا يُؤثِّر في قُلوب الأنبياء.

– الجُزء الرَّابع:

20) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ النَّبيَّ يعلم كُلَّ ما في اللَّوح المحفوظ.

21) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ النَّبيَّ هُو المُدبِّر لجميع المخلوقين.

– الجُزء الخامس:

22) أهل الفتنة يُبيحون قتال الخليفة الرَّاشد بدعوَى الاجتهاد.

23) أهل الفتنة يُبيحون قتل عمَّار بن ياسر رضي الله عنه.

24) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ مُعاوية لو خرج على سيِّدنا عُمر لكان مأجورًا

25) أهل الفتنة يُحرِّمون تعليم حديث: (ويح عمَّار تقتُلُه الفئة الباغية).

– الجُزء السَّادس:

26) أهل الفتنة يزعمون أنَّ قِبلة أهل الشَّمال إلى الشَّمال.

27) أهل الفتنة يُكفِّرون مَن صلَّى في أميركَا الشَّماليَّة إلى الجنوب.

28) أهل الفتنة يجتهدون في البلاد البعيدة عن مكَّة على تعامُد الشَّمس فوق الكعبة.

29) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ أدلَّة القِبلة تتناقض.

– الجُزء السَّابع:

30) يزعُمون أنَّ المُماكسة لغير حاجة مُستحبَّة.

31) أهل الفتنة يزعمون أنَّ الفدية تُسقط الصَّلاة عن الميِّت.

32) أهل الفتنة يدَّعون إجماعًا كاذبًا بأنَّ إخوة يوسُف لم يكفُروا.

33) أهل الفتنة يتَّهمون عائشة وحفصة بأنَّهُما كانتَا خصمَين في مُقابل الله تعالَى.

– الجُزء الثَّامن:

34) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ مَن ترك استدامة الإيمان لا يكفُر.

35) أهل الفتنة يزعُمون أنَّ الحديث الضَّعيف يُحتَجُّ به في العقائد.

36) أهل الفتنة لا يُنكرون على مَن قال إنَّ المُجدِّد قد يكون كافرًا.

37) أهل الفتنة يمدحون مَن أثنَى على كتاب سيِّد قُطب.

38) أهل الفتنة يُجوِّزون وصف ابن تيمية بشيخ الإسلام.

39) أهل الفتنة يُدافعون عمَّن امتدح مذهب الإباضيَّة.

40) أهل الفتنة يُنكرون كُفر المُعتزلة.

– الفهرس.

عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها مسألة خلافيَّة

أهل الفتنة يُكفِّرون الإمام زكريَّا الأنصاريَّ

دعوة إلى التَّوقف عن إقحام العوامِّ في هذه المسألة

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

وبعدُ أجمع العُلماء على عصمة الأنبياء فلم يختلفوا إلَّا في صغيرة لا تُوجب الإزراء؛ فقالوا: “وقعت” مُوافقةً للنَّصِّ وطلبًا للأعلى؛ وقيل: “إنَّما وقع منهم ترك الأَولى”؛ هذه مذاهب أهل السُّنَّة مُجتمعة؛ ثُمَّ لم يُكفِّروا بعضهم حتَّى ظهر أهل الفتنة المُبتدعة؛ فكفَّروا مَن قال بأحد القولَين؛ وجرُّوا العوامَّ إلى الفُسوق والمَين؛ فترى جيفة اللَّيل المُتكبِّر مِن أهل الفتنة يسعى حثيثًا كقُطْرُب النَّهار؛ فكأنَّه لا يستريح حتَّى يكون مُنتهاه النَّار، والعياذ بالله تعالى.

وقد ساءني كيف تجرَّأ بعض الجُهَّال فنسب كُلَّ مَن قال بأحد القولَين إلى الكُفر والضَّلال وتنطَّع بعض جَهَلَة المُتصوِّفة فنسبهم إلى الغُرور والبُهتان وهو أحقُّ بذلك الوصف في كُلِّ زمان؛ وكُلُّهم مُدَّعو عِلم وتقوًى دون حقيقة ذلك؛ غافلون أنَّه مذهب بعض أكابر المُجتهدِين ومشاهير العُلماء العاملِين وذكر ذلك المُفسِّرون ومنهم الإمام أبو يحيى زكريَّا الأنصاريُّ الموصوف بشيخ الإسلام فهل يُكفِّره أهل الفتنة والغُلوِّ كما كفَّروا غيره!؟

قال المُحدِّث القاضي والمُفسِّر القارئ والفقيه الشَّافعيُّ الإمام زكريَّا الأنصاريُّ المُتوفَّى سنة 929هـ في [فتح الرَّحمن بكشف ما يلتبس في القُرآن][ص/524] في تفسير قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} ما نصُّه: <إنْ قُلتَ كيفَ قالَ ذلكَ والنَّبيُّ معصومٌ مِنَ الذُّنوبِ؟ قُلتُ: المُرادُ ذنبُ المُؤمنينَ؛ أو تركُ الأفضلِ؛ أو أرادَ الصَّغائرَ على ما قالَه بهِ جَمْعٌ؛ أو المُرادُ بالمغفرةِ العِصمةُ> انتهى.

وما قُلناه لا يزيد عمَّا قاله هذا الإمام الكبير مِن مُتأخِّري فُقهاء الشَّافعيَّة في مصر الحبيبة فقد نقل عن العُلماء ما نقلناه دون زيادة أو نُقصان فبعضهم قال في تفسير هذه الآية المُراد ذنب المُؤمنين؛ وبعضهم قال بل المُراد ترك الأولى؛ وبعضهم قال بل المُراد صغائر لا خسَّة فيها يتوبون منها قبل أنْ يُقتدى بهم فيها وقال به جمع مِن المُتقدِّمِين؛ فهل ترونه مُبتدعًا فاسقًا ضالًّا كافرًا سيِّئ الأدب مع النَّبيِّ؛ وقد قال فماذا أنتم قائلون يا أهل الفتنة!؟

وقد رأيتُ بعض مَن لا يُحسن القراءة والكتابة يعترض على فضيلة شيخنا جميل حليم حفظه الله لأنَّه نقل مِن تفسير الماتُريديِّ المُسمَّى [تأويلات أهل السنة] ما نصُّه: <وجائز أنْ يكون له ذنب فيأمره بالاستغفار له لكن نحن لا نعلم وليس علينا أنْ نتكلَّف حفظ ذنوب الأنبياء عليهم السَّلام وذكرها> انتهى. ثُمَّ لم ينقل كامل كلام الماتُريديِّ وفيه: <وذنبهم ترك الأفضل دون مُباشرة القبيح في نفسه> انتهى. ولا حُجَّة للمُعترض في كُلِّ ذلك.

فرُبَّما أراد الماتُريديُّ بالعبارة الأُولى شيئًا غير ترك الأفضل بدليل قوله: <لكن نحن لا نعلمه>. ولو أراد (ترك الأفضل) لَمَا أنكر علمه به لأنَّه ذكر مِن نحو ترك الأولى في تفسيره المذكور؛ فمِن ذلك ما قاله في تفسير {عَبَسَ وَتَوَلَّىْ}: <والأنبياء عليهم السَّلام قد جاءهم العتاب مِن الله بتعاطيهم أُمورًا لم يَسبق مِن الله تعالى لهم الإذن في ذلك> إلى قوله: <فكذلك الوجه في مُعاتبة نبيِّنا مُحمَّد عليه أفضل الصَّلوات وأكمل التَّحيَّات> انتهى.

ونحن لم نستقصِ مثل هذا مِن تفسير الماتُريديِّ وإلَّا لأثبتنا غيره ولكن فيما نسخناه لك كفاية يا أخي القارئ لتفهم فساد اعتراض الجاهل على العالِم في مسألة خلافيَّة ليس عليها إجماع ولا اتِّفاق بَين مُجتهدِي الأُمَّة وعُلمائها العامِلين فكيف سوَّغت لهذا الجاهل نفسُه الطَّعن بالعُلماء بل وهذا الجاهل قد أوغر صُدور بعض العامَّة حتَّى قال قائل منهم وقد سمعوا له: (إنَّ هذا لا يقول به مُسلم مُؤمن). فنعوذ بالله مِن مُوجبات سخط الله.

وانظر يا أخي القارئ كيف أنَّ أهل الفتنة لا يسكتون عن الكلام في هذه المسألة حتَّى بعد أنْ نشرنا في الرَّدِّ عليهم ما بَهَتَهُم وأفحمهم وألجم ألسنتهم بالحُجَّة والدَّليل والبُرهان فانقطعوا عن كُلِّ جواب؛ وكانوا افترَوا بأنَّنا نبحث في تخطئة النَّبيِّ -أرواحُنا فداه- ونحن نُعلِّم الدُّنيا حُبَّه عليه الصَّلاة والسَّلام وإنَّما تصدَّينا لكشف دعوى الإجماع الكاذب مع ما فيه مِن إبطال قول الإمام الأشعريِّ إمام أئمَّة المُسلمين والَّذي تَدين بقوله الأُمَّة.

ولو كانوا صادقين في محبَّته عليه الصَّلاة والسَّلام لَمَا كفَّروا وَرَثَتَه مِن العُلماء؛ ولَمَا خاضوا بما يجهلون في مسألة عصمته على الألسن يلوكون الكلام فيها بأشداق المُتكبِّرِين ومشافر الثَّرثارِين أمامَ مَن لا يفهم أصل اختلاف العُلماء في المسألة وعندَ مَن لا يفقه ضوابطها مع ما يُخشى مِن تبعاتِ ذلك في قلوب العوامِّ تجاه تعظيم الأنبياء أو في دفع أولئك العوامِّ إلى تكفير الأئمَّة والمُجتهدِين؛ وقد فعلوا حقًّا وهُم لا يشعرون.

وراقبوا أهلَ الفتنة يا إخواني لتعلموا صدق ما أخبركم به عنهم؛ فهل سيسكتون عن إثارة هذه المسألة بين العوامِّ أم سيكملون فيما هُم فيه مُنذ نحو سنتَين مِن تاريخ اليوم والعياذ بالله تعالى ممَّا يأتون في دعاويهم الكاذبة. وأمَّا مَن أراد السَّلامة لنفسه ولإخوانه فلا يُثير مثل هذه المسائل أمام مَن لا يفهمها ولا يفقهها، وكونوا إخواني دائمًا على ذكر للقاعدة الجليلة الَّتي تقول: كُلُّ شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مئة شرط.

نهاية المقال.

* رابط فهرس مقالات عن عصمة الأنبياء.

المُبتدعة ونسبتُهُمُ الذُّنوب الكبيرة والصَّغيرة ذات الخسَّة إلى الأنبياء

وبيان مُراد جُمهور أهل السُّنَّة والجماعة بقولهم: صغيرة لا خسَّة فيها

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

وبعدُ فإنَّ أهل البِدع والأهواء عندهُم وَلَع بنسبة الذُّنوب الكبيرة والصَّغيرة ذات الخسَّة إلى أنبياء الله عليهمُ السَّلام، وأمَّا أهل السُّنَّة والجماعة فقد قالوا بعصمة الأنبياء عن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة قبل النُّبُوَّة وبعدهَا. وأجاز جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها على الأنبياء وقالوا: إنَّ الأنبياء يُنبَّهون فَورًا للتَّوبة قبل أنْ يُقتدَى بهم فيها.

وقد نسب المُبتدعة الشِّرك إلى أنبياء الله عليهمُ السَّلام فقال سيِّد قُطُب في كتابه المُسمَّى [في ظلال القُرآن] في حقِّ سيِّدنا إبراهيم عليه السَّلام: <يرى القمر فيظنُّه ربَّه ولكنَّه يأفُل كذلك فيترُكُه ويمضي ثُمَّ ينظُر إلى الشَّمس فيُعجبُه كِبَرُها ويظنُّها ولا شكَّ إلهًا ولكنَّها تُخلف ظنَّه هي الأُخرى> انتهى والصَّواب أنَّ ذلك كان سُؤالًا إنكاريًّا مِن سيِّدنا إبراهيم عليه السَّلام.

وإنَّ الكذب مِن المعاصي المُنفِّرة؛ والإجماع قائم على عصمة الأنبياء مِن الكذب، وخالف أهل البِدع والأهواء فنسبوا الكذب إلى إبراهيم عليه السَّلام لأنَّه قال عندمَا كسَّر الأصنام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، أمَّا أهل السُّنَّة والجماعة فقالوا: إبراهيم عليه السَّلامُ نسب الفعل إلى الصَّنم الكبير لأنَّه كان سببًا في تكسيره تلك الأصنام فهذا مجاز وهُو حقٌّ وصدقٌ وليس كذبًا حقيقيًّا.

وممَّا خالف به البعض نسبتُهُ إخوة يوسُف عليه السَّلام إلى النُّبُوَّة؛ فقد ثبت كذبُهُم بنصِّ القُرآن الكريم لقولهم: {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} الآية.. وغير ذلك مِن الخسائس كرميهم ليُوسُف عليه السَّلام في الجُبِّ ولو كانوا أنبياء لَمَا فعلوا ذلك لأنَّ الأنبياء معصومون مِن الكذب ومِن الخسائس قبلَ النُّبُوَّة وبعدهَا؛ ولكنَّ إخوة يُوسف تابوا بعد ذلك ممَّا كان صدر منهُم وحسُنت أحوالُهُم.

وفي بعض كُتُب التَّفسير ما يُخالف الإجماع لأنَّها اشتملَت على روايات فيها أنَّ نبيَّ الله يُوسف عليه السَّلام هَمَّ بالزِّنَا بامرأة العزيز؛ وفي بعض الكُتُب أنَّ نبيَّ الله داود عليه السَّلامُ زنَا بامرأة أُوريَا وكان مِن قادة جُنده؛ وكُلُّ هذا ممَّا يجب عصمة الأنبياء منه إجماعًا لأنَّ الزِّنَا ذنب عظيم؛ والهَمُّ به فعل خسيس مُنفِّر لا يليق بنبيٍّ مِن أنبياء الله عليهمُ السَّلام.

فالمُبتدعة وأهل الأهواء في قُلوبهم وَلَع بنسبة الذُّنوب إلى الأنبياء عليهمُ السَّلام ولذلك يتَّهمونهُم بالذُّنوب الكبيرة والصَّغيرة ذات الخسَّة؛ أمَّا الجُمهور فقالوا بوُقوع الأنبياء في صغائر لا خسَّة فيها اتِّباعًا لظاهر النَّصِّ القُرآنيِّ والحديثيِّ الصَّحيح فيما يُجوِّزُه الشَّرع وليس لأنَّ في قُلوبهم وَلَع بنسبة الذُّنوب إلى الأنبياء كما هُو حال المُبتدعة وأهل الأهواء.. فتبيَّنِ الفَرْق.

قال القاضي عياض فِي [الشِّفا]: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ. وَلَا فِي صَغِيرَةٍ أَدَّتْ إِلَى إِزَالَةِ الحِشْمَةِ وَأَسْقَطَتِ المُرُوءَةَ وَأَوْجَبَتِ الإِزْرَاءَ وَالخَسَاسَةَ؛ فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْصَمُ عَنْهُ الأَنْبِيَاءُ إِجْمَاعًا> انتهى فلم يَقُمِ الإجماع على عصمتهم مِن صغائر لا خسَّة فيها وإنَّمَا مِن تكرارها وكَثرتها.

وكلام القاضي عياض دليل أنَّ الجُمهور إنَّمَا جوَّز الصَّغائر الحقيقيَّة -الَّتي لا خسَّة فيها- لأنَّ الصَّغائر الحقيقيَّة هي الَّتي بالتَّكرار والكثرة تلتحق بالكبائر وهذا بيان عظيم وردٌّ مُفحم على أهل الفتنة الَّذين أنكروا وصف تلك الصَّغيرة بالحقيقيَّة وهذا ممَّا لم يستطيعوا الجواب عنه ولن يستطيعوا وذلك لأنَّ الصَّغيرة المجازيَّة لا تلتحق بالكبائر مهمَا تكرَّرت وكثُرت.

وقال التَّفتازانيُّ فِي [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى. فقد نقل عن الجُمهور أنَّ الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها جائزة “عَمْدًا” بعد الوحي أي بعد النُّبُوَّة كذلك.

وممَّا يدُلُّ كذلك على أنَّ مُرادَ الجُمهور بالصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها الحقيقيَّةُ وليس ما يكون في حقِّ غيرهم مِن الحَسَنَات قولُ العُلماء: <ولكن يُنبَّهون فورًا للتَّوبة قبل أنْ يقتديَ بهم فيها غيرُهُم> لأنَّها لو كانت مِن قبيل ما يكون في حقِّ غيرهم مِن الحَسَنَات: لم يُحتَجْ إلى الحذر مِن أنْ يَتَّبِعَهُم النَّاس فيه لأنَّ الشَّرع حضَّ على اتِّباع الأنبياء عليهمُ السَّلام في الحَسَنَات.

فلا يبقَى مِن وصف تلك الصَّغيرة بـ(الحقيقيَّة) إلَّا بيان المعنَى وهذا مطلوبٌ لردِّ تحريف الشَّرع لا سيَّما مع وُجود الدَّعاوي الكاذبة. ومَن أصرَّ مِن أهل الفتنة على الإنكار فليُجب على ما قدَّمناه ولن يستطيع. ونسأل الله تعالى أنْ لا يجعل في قُلوبنا وَلَعاً بنسبة الذُّنوب إلى أنبياء الله عليهمُ السَّلام وأنْ لا يجعلَنا مِن الجَهَلَة المُتصولحة أصحاب الدَّعاوي الكاذبة الباطلة.

نهاية المقال.

كشف الغطاء (😎

عن أساليب أهل الفتنة في التَّمويه على البُسطاء

إسقاط الادِّعاءات الكاذبة الباطلة على الخُصوم

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

وبعدُ فإنَّ أهل الفتنة قوم قطعتهم الحُجَّة فسكتوا دهشةً وتحيُّرًا؛ ولهذا يرفُضون إرجاع المسائل إلى قواعد الشَّرع ويختلقون المآخذ ليُموِّهوا بها على النَّاس؛ ونحن في هذه السِّلسلة مِن المقالات نعمل على [كشف الغطاء عن أساليب أهل الفتنة في التَّمويه على البُسطاء] كي يحذَر النَّاس مكرهم.

إسقاط الادِّعاءات الكاذبة الباطلة على الخُصوم

اِعلم أخي القارئ أنَّ أهل الفتنة يُسقطون دعاويهم الكاذبة الباطلة على أهل السُّنَّة ليُموِّهوا بذلك على البُسطاء، فمِن ذلك ادِّعاؤُهم أنَّ أهل السُّنَّة يتكلَّفون وُجود معصية مِن رسول الله حتَّى ينشُروها؛ وأهل الفتنة في هذا الادِّعاء الكاذب مُفترون آثمون لا يخافون الله ولا يستحون مِن الكذب.

وأهل الفتنة بهذا الادِّعاء يكونون أسقطوا على أهل السُّنَّة ما ليس فيهم؛ لأنَّ بيان أهل السُّنَّة في كون مسألة عصمة الأنبياء مِن صغائر غير مُنفِّرة مسألةً خلافيَّة لا يُعدُّ بأيِّ حال تكلُّفًا للمعاصي مِن الأنبياء بُغية نشرها؛ وبَين الأمرَين فرق كبير لمَن تأمَّل وكان صادقًا مُنصفًا.

كذلك فإنَّ بيان أهل السُّنَّة في كون مسألة عصمة الأنبياء مِن صغائر غير مُنفِّرة مسألةً خلافيَّة فيه ردٌّ لتكفير أهل الإيمان بغير حقٍّ؛ وكان أهل الفتنة أنكروا أنَّهم يُكفِّرون المُسلمين في هذه المسألة ثُمَّ فضحهم الله على ألسنتهم حتَّى امتلأت مُداخلاتهم بالتَّكفير فيها.. فلا حَول ولا قُوَّة إلَّا بالله.

وممَّا افتُضح به أهل الفتنة استدلالهم بكُتُب فيها تجويز الكذب على الأنبياء قبل النُّبُوَّة ولأجل هذا اعتقدوا أنَّ القول بنُبُوَّة إخوة يُوسف قولٌ مُعتبَر في الشَّرع رغم ثُبوت الكذب في حقِّهم ورغم أنَّه ثبت في حقِّهم السَّعيُ إلى قتل مُسلم مُؤمن هُو نبيُّ الله يُوسف عليه السَّلام وكان صغيرًا.

وممَّن افترى في هذا الباب المدعو إبراهيم عكَّاس فإنَّه زعم أنَّنا ومنذ بداية شهر رمضان نجمع الأدلة لإثبات أنَّ سيِّدنا مُحمَّدًا عصى الله معصية حقيقيَّة؛ وكذب المُبتدع بل اجتهدنا في الرَّدِّ عليه لأنَّه كفَّر عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة لقولهم “آدم عصى” مع أنَّه قول مُوافق لظاهر القُرآن.

ونحن نتحدَّى هذا الجاهل أنْ يرُدَّ على إخوانه أهل الفتنة في زعمهم أنَّ القول بنُبُوَّة إخوة يُوسف قولٌ مُعتبَر في الشَّرع مع أنَّ القُرآن الكريم أثبت الكذب في حقِّهم وأثبت سعيهم في قتل أخيهم وكان مُؤمنًا بريئًا؛ ولكنَّ الجاهل الثَّرثار يسكُت لإخوانه أهل الفتنة مهمَا أجرموا.

وهذا التَّحدِّي ينسحب على بقيَّة الجَهَلَة أهل الفتنة سامر العمَى ويُوسف ميناوي ونقول لهُم: إنَّنا نتحدَّاكم أنْ تردُّوا على الإمام القُرطبيِّ في قوله في تفسيره: <وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ مَا كَانُوا أَنْبِيَاءَ؛ لَا أَوَّلًا وَلَا آخِرًا؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُدَبِّرُونَ فِي قَتْلِ مُسْلِمٍ> انتهى كلامه.

فإمَّا أنْ تُنكروا يا أهل الفتنة أنَّ القول بنُبُوَّة إخوة يُوسف قول مُعتبَر؛ فتكونون كذَّبتُم أنفسكُم وصادقتُم على قولنا؛ وإمَّا أنْ تُصرُّوا أنَّه قول مُعتبَر وبالتَّالي يصير الأنبياء عندكُم واقعين في الكذب وفي التَّدبير لقتل المُسلمين الأبرياء بغير حقٍّ والعياذ بالله؛ فانظُروا ماذا تختارون لأنفسكم.

مِن هنا إخواني القُرَّاء وجب التَّحذير مِن أهل الفتنة وكشفُ الغطاء عن أساليبهم في التَّمويه على البُسطاء سائلين الله تعالى أنْ يُؤتينا الفضل وأنْ يرحمنا برحمته الواسعة في الحياة الدُّنيا ويومَ القيامة وأنْ يجمعنا وأحبابنا في دار السَّلام والنَّعيم المقيم آمين إنَّه على ما يشاء قدير.

انتهى.

الدَّليل المحبوب في إفحام المُتنطِّع الكذوب

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

وبعدُ فقد افترى يُوسف ميناوي إجماعًا مكذوبًا فقال إنَّ الأُمَّة مُجمعة على عصمة الأنبياء عن المعاصي بعد النُّبُوَّة! وزعم أنَّ مَن قال بخلاف هذا فقد خالف أهل السُّنَّة والجماعة والعياذ بالله مِن جهله وكذبه وافترائه على الدِّين ما ليس منه وهُو الجاهل العامِّيُّ المُتنطِّع في المجالس و(الشَّاشات).

ونحن نرُدُّ على هذا المُنكر المُتنطِّع إجماعه المكذوب بالدَّليل المحبوب على أَلْسِنَةِ مجموعة مِن عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة -بإذن الله تعالى- ولدينا مزيد؛ ولا نزيد حتَّى لا يضيق المقام عن المقال؛ واللهُ المُستعان في ردِّ شُبُهات هذه الفرقة المُنحرفة مِن أهل الفتنة عامَلَهم الله بما يستحقُّون.

1

قال التَّفتازانيُّ فِي [شرح العقائد]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى.

فأنتَ يا يُوسف ميناوي تفتري الإجماع على إنكار ما جوَّزه الجُمهور بشهادة التَّفتازانيِّ ولا تخجل!؟

2

وقال الطَّبريُّ الموصوف بالاجتهاد فِي تفسير {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}: <فَيَغْفِرَ لَكَ بِفِعَالِكَ ذَلِكَ رَبُّكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ قَبْلَ فَتْحِهِ لَكَ مَا فَتَحَ وَمَا تَأَخَّرَ بَعْدَ فَتْحِهِ لَكَ ذَلِكَ مَا شَكَرْتَهُ وَاسْتَغْفَرْتَهُ> انتهى.

فهل كان الإمام الطَّبريُّ بهذا الكلام من تفسيره خارقًا للإجماع الَّذي تفتريه أنت يا يوسف ميناوي!؟

3

وفي [التَّحصيل]  لأبي العبَّاس المهدويِّ: <وقولُهُ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ} أي قبل النُّبوَّة و{مَا تَأَخَّرَ} بعدَ النُّبوَّةِ قالَهُ مُجاهدٌ> انتهى.

فهذا مُجاهد تلميذ ابن عبَّاس يقول بخلاف ما تفتري يا يُوسف ميناوي فهل كان مِن المُبتدعة!؟

4

وقال القاضي عياض: <فَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقَوْلِهِ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فَهَذَا قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ المُفَسِّرُونَ: فَقِيلَ: المُرَادُ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا> انتهى.

فكان أول الوجوه التي ذكرها القاضي عياض مُخالفًا لِمَا تفتري مِن إجماع مكذوب يا يُوسف ميناوي!

5

وقال النَّوويُّ فِي [روضة الطَّالِبِين]: <وأمَّا بعد النُّبوَّة فمعصومون مِن الكُفر ومِن كُلِّ ما يُخلِّ بالتَّبليغ وما يُزرِي بالمُروءة ومِن الكبائر. واختلفوا فِي الصَّغائر فجوَّزها الأكثرون> انتهى.

وهذا تكذيب شديد اللَّهجة لِمَا افتريتَه على الدِّين فهل جَهل النَّوويُّ ما لم يفُتك يا يوسف ميناوي!؟

6

وقال القُرطبيُّ فِي [التَّذكرة]: <واختلف العُلماء أيضًا هل وقع مِن الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين بعد النُّبوَّة صغائر مِن الذُّنوب يُؤاخذون بها ويُعاقبون عليها ويُشفقون على أنفسهم منها أم لا> انتهى. ولاحظ قوله بعد النُّبُوَّة لكي لا يعتريك شكٌّ في أنَّك تفتري إجماعًا مكذوبًا في الدِّين يا يُوسف ميناوي!!

وانتبه.. فإنَّ مَن قالوا بالعصمة المُطلقة قولًا واحدًا مع تضليل مَن خالفهم فهُمُ الرَّوافض بشهادة تتمَّة كلام القُرطبيِّ حيثُ قال: <فقال الطَّبريُّ وغيرُه مِن الفُقهاء والمُتكلِّمِين والمُحدِّثِين: (تقع الصَّغائر منهم خلافًا للرَّافضة)> انتهى.

فهل أنتَ أكثر نباهة مِن القُرطبيِّ في علم الدِّين وعصمة الأنبياء عليهم السَّلام يا يُوسف ميناوي!؟

7

وقال عبد الغنيِّ النَّابُلُسيُّ في [الفتح الرَّبَّانيِّ]: <فرأيتُ طائفة شدَّدت في الاعتراف بجميع ذلك وفي وُجوب اعتقاد العصيان إليهم عليهمُ السَّلام لضرورة الإيمان بكتاب الله تعالى> انتهى.

فأين أنت مِن هذه الطائفة الَّتي لم تقُل ما قالت إلَّا لوُجوب الإيمان بكتاب الله يا يُوسف ميناوي!؟

8

وقال الشَّيخ داود القرصيُّ الحنفيُّ -وقيل القارصيُّ- فِي [شرحه على القصيدة النُّونيَّة لخضر بيك]: <وأمَّا صدور صغائر غير مُنفِّرة بعدَها فجوَّزه الجُمهور عمدًا وسهوًا> انتهى.

فأين قول الجُمهور الَّذي تكلَّم عنه القرصيُّ فيما تفتريه مِن إجماع مكذوب يا يُوسف ميناوي!؟

ويقول القرصيُّ: <وزعم جمهور الشِّيعة والرَّوافض أنَّه لا يجوز عليهم ذنب أصلًا لا كبيرة ولا صغيرة لا عمدًا ولا سهوًا لا قبل النُّبوَّة ولا بعدها وهذا كما تَرى يُرى أنَّه تعظيم لهم ولذا اشتهر بين الجهَلة المُتصَولحة زعمًا منهُم أنَّه هُو التَّعظيم> انتهى.

فهل تأكَّدتَ الآنَ أنَّك مِن الجَهَلَة المُتصولحة كما قُلنا فيك مرارًا وتكرارًا يا يُوسف ميناوي!؟

9

ولا حُجَّة في دعاوى بعض المُتأخِّرين الإجماع على عصمة الأنبياء مِن كُلِّ ذنب مُطلقًا بل ولا يُقام لكلام أيٍّ منهم وزنٌ ما لم ينقُلوه عن عالِم مُتقدِّم مُتبحِّر، كيف والخلاف في هذه المسئلة مسطور مشهور منقول بالأسانيد الصِّحاح عن كبار الأئمَّة مِن ماتُريديَّة وأشاعرة!؟

وقد قال الشاعر:

والدَّعاوي ما لم تقيموا عليها * بيِّناتٍ أبناؤها أدعياءُ

10

ولقد قال ابن فورك: <إِنَّ المَعْصِيَةَ وَالزَّلَّةَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَأَمَّا بَعْدَ إِرْسَالِهِمْ فَلَمْ نَجِدْ عَنْهُ نَصًّا فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ> انتهى. وقوله لم نجد عنه نصًّا في جواز ذلك لا يعني النص على أنه لم يقل بذلك وإلا ففي الكتاب عينه يقول الأشعريُّ: <إِنَّ أَنْوَاعَ هَذِهِ الأَلْطَافِ إِذَا تَوالَتْ وَفَعَلَهَا اللهُ بِالمُكَلَّفِ وَلَمْ تَتَخَلَّلْهَا كَبِيرَةٌ قِيْلَ لِمَنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ إِنَّهُ مَعْصُومٌ مُطْلَقًا. وَذَلِكَ كَأَحْوَالِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ..> إلى آخر كلامه.

فافهم أنَّ العصمة عند الأشعريِّ لا تشمل بالضَّرورة الصَّغائر غير المُنفِّرة لأنَّه لا يجد وُقوعَها ناقضًا للعصمة وعلى هذا الأشاعرة وصرَّح بذلك التَّاج السُّبكيُّ عندما خالف الأشعريَّ في المسألة فقال:

والأشعريُّ إمامُنا لكنَّنا * في ذا نُخالفُهُ بكُلِّ لسانِ

فهُو ومع كونه أخذ بالقول بالعصمة المُطلقة إنَّما لم يكذب عن شيخه وإمام مذهبه في الأُصول بل أقرَّ أنَّه يُخالفُهُ في هذه المسألة.

فكُفَّ شرَّك عنَّا وعن خلق الله يا يُوسف ميناوي.

انتهى.

عبدالنَّاصر حدَّارة يفضح جهله بأُصول أهل السُّنَّة

بيان أنَّ الأنبياء لا يُعذَّبون على ترك الأَولى – [2]

والرَّدُّ على مَن أنكر قول الجُمهور في العصمة

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

وبعدُ نشرنا في الجُزء الأوَّل قول الماتُريديِّ: <وقال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ولو لم يكن لله تعالى أنْ يُعذِّب على الصَّغائر أحدًا، لم يكن له على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ موضع الامتنان بما غفر له ما تقدَّم مِن ذنبه وما تأخَّر> وقوله: <وفي قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} دلالة أنَّ لله تعالى أنْ يُعذِّب على الصَّغائر> انتهى.

وبيَّنَّا أنَّه أراد المعصيةَ الحقيقيَّة؛ لأنَّ الله تعالى لا يُعذِّب على ترك الأولى ولا على مُجرَّد جواز ذلك في حقِّ الرَّسول عليه السَّلام. فمِن هُنا يُعلم أنَّ القول بمعصية حقيقيَّة لا خسَّة فيها في حقِّ الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام أُمر بالاستغفار منها فاستغفر؛ لا يَخرج عمَّا قاله أئمَّة أهل السُّنَّة بمَن فيهم الماتُريديُّ هُنا مع أنَّه يقول بالقول الثَّاني لأهل السُّنَّة في هذه المسألة.

ولم يكن للخصم أنْ يقترح أنَّ الماتُريديَّ أراد المعاصيَ المجازيَّة (تركَ الأولى)، لأنَّ الماتُريديَّ قال: <وفي قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} دلالة أنَّ لله تعالى أنْ يُعذِّب على الصَّغائر> انتهى ووجه الدَّليل أنَّ الامتنان هو على ترك التَّعذيب على الصَّغائر هُنا لا على مُجرَّد حفظه منها. فظهر بُطلان قول المدعو عبدالنَّاصر حدَّارة.

ونقلنا كلام المازريِّ ونصُّه: <وجنح المُجيزون لها [للصَّغائر] إلى أنْ وردت في الشَّرع أخبار تُشير إلى أنَّها قد وقعت مِن الأنبياء كقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}> انتهى واستشهاده على وقوع الصَّغائر بآية خطاب للنَّبيِّ عليه السَّلام دليل على أنَّ مِن العُلماء مَن قال بذنب في حقِّ الرَّسول. وطلبنا مِن المدعو حدَّارة التَّوقُّف عن التَّضليل بغير حقٍّ.

ولمَّا ألزمنا المدعو عبدالنَّاصر حدَّارة بأنَّ العُلماء بقولهم <الصَّغائر> أرادوا المعاصيَ الحقيقيَّة الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة؛ حاول الهرب فقال والعياذ بالله: (ترك الأَولى الَّذي هو خطأ في الاجتهاد قد يترتَّب عليه عقاب في حقِّ الأنبياء) انتهى بحروفه وهُو مُخالف لأُصول أهل السُّنَّة. ثُمَّ استدل برواية مُسلم في أسرى بدر فلم يكن مع الخاطئ سهم صائب!

فأمَّا ادِّعاؤه احتمال أنْ يكون ترك الأَولى ممَّا يلزم منه عذاب في حقِّ الأنبياء عليهم السَّلام ففِرية عظيمة وقع فيها؛ إذ الخلاف بيننا وبينه في تعيين مُراد ساداتنا العُلماء وهُم قد بيَّنوا أنَّهم لا يعتقدون المُؤاخذة عند الله سُبحانه وتعالى في ترك الأَولى لا في حقِّ نبيٍّ مِن الأنبياء ولا في حقِّ أُممهم. فكيف يحتمل عنده ما ردَّه أهل السُّنَّة بل وممَّا يُناقض أُصولهم!

وقال القاضي عياض في [الشِّفا]: <هَذَا حُكْمُ مَا تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ عَنْ قَصْدٍ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً، وَيَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ. وَأَمَّا مَا يَكُونُ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَتَعَمُّدٍ، كَالسَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فِي الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ مِمَّا تَقَرَّرَ الشَّرْعُ بِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ، وَتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ، فَأَحْوَالُ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، وَكَوْنِهِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ لَهُمْ مَعَ أُمَمِهِمْ سَوَاءٌ> ..إلخ

وهو واضح في أنَّ الأنبياء عليهم السَّلام لا يُؤاخذون فيما كان مِن نحو الخطإ والنِّسيان؛ وأنَّهم في ترك المُؤاخذة فيه شأنهم شأن أُممهم؛ لا الأنبياء يُؤاخذون ولا أُممهم تؤاخذ بمثل ذلك لأنَّهم لم يُخطئوا فيه مع قصد المُخالفة وهو حال المُجتهد الَّذي بذل جهده. فإنْ زعم الخصم أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام لم يبذل جهده في ذلك فقد أتى ببُهتان عظيم والعياذ بالله.

والقاضي عياض صاحب الكلمات الآنفة الذِّكر هو نفسه مَن نقل في وُجوه تفسير أهل السُّنَّة لقوله تعالى في مخاطبة نبيِّه المُصطفى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ومنها القول بأنَّ المُراد الصَّغيرة -شأنه في ذلك العشرات مِن العُلماء- والأنبياء عنده <مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالْكَبَائِرِ> فتعيَّن أنَّه أراد الصَّغيرة الحقيقيَّة.

أمَّا استدلال المدعو حدَّارة بالرِّواية الَّتي انفرد بها مُسلم في أسرى بدر فلم يكن له أنْ يحتجَّ بها لأنَّها مُشكلة كما قال أبو العبَّاس الأنصاريُّ القُرطبيُّ في [المُفهم] وقد عدَّد بعض الوُجوه الفاسدة المُناقضة لأُصول أهل السُّنَّة ومنها الوجه الفاسد الَّذي توهَّمه حدَّارة هداه الله. فليس مِن أهل السُّنَّة مَن توهَّم أنَّ النَّبيَّ دخل فيمَن توعَّدهُمُ الله بالعذاب، نسأل الله السَّلامة.

قال أبو العبَّاس أحمد بن عُمر الأنصاريُّ القُرطبيُّ دفين الإسكندريَّة 656ه في كتاب [المُفهم لِمَا أشكل مِن تلخيص صحيح مُسلم] [عن نُسخة نادرة بخطِّ الرَّحالة ابن بطُّوطة وتحقيق د. عبدالهادي التَّازي منشورات وزارة الأوقاف والشُّؤون الإسلاميَّة في المملكة المغربيَّة – الجُزء الأوَّل ص/280-281-282] ما نصُّه: <وعند هذا يُشكل ما جاء في آخِر هذا الحديث مِن عتب الله لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم> انتهى.

ثُمَّ ذكر وُجوهًا فبيَّن فسادها وكان ممَّا بيَّن فساده منها أنْ يُقال إنَّهم أقدموا على ما يجوز لهم شرعًا في ذلك وأنَّ النَّبيَّ وافقهم في ذلك ثُمَّ قال: <وكُلُّ ذلك عليهم مُحال بما قدَّمناه مِن وُجوب عصمة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الخطإ في الشَّريعة ومِن ظُهور الأُمور المُرجِّحة بما قدَّمناه> انتهى.

ثُمَّ ذكر الوجه الَّذي فيه إرادة الدُّنيا وردَّه فقال: <ولم يكن النَّبيُّ ولا أبو بكر ولا مَن نحا نحوهما ممَّن يُريد عَرَض الدُّنيا> انتهى وهكذا حتَّى نصَّ على الوجه المقبول فقال: <فالوعيد والتَّوبيخ مُتوجِّهانِ إلى غيرهم ممَّن أراد ذلك وهذا أحسنُها والله تعالى أعلم> انتهى كلامه. فأين فيه مثل الَّذي أراده حدَّارة ممَّا يُوهم دخول النَّبيِّ فيمَن توعَّده اللهُ بالعذاب والعياذ بالله!

ثُمَّ بيَّن سبب بُكاء النَّبيِّ فقال: <وبُكاء النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأبي بكر لم يكن لأنَّهما دخلَا فيمن تُوعِّد بالعذاب بل شفقة على غيرهما ممَّن تُوعِّد بذلك> ..إلخ قبل أنْ يختم المبحث بقوله: <وأمَّا قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} فليس بتوبيخ ولا ذمٍّ وإنَّما هو مِن باب التَّنبيه> انتهى كلام أحمد بن عُمر الأنصاريِّ القُرطبيِّ.

كُلَّ هذا النَّقل ليعلم حدَّارة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يدخل فيمَن توعَّدهمُ اللهُ بالعذاب في خبر أسرى بدر. ولو كان يخاف اللهَ أو كان مِن أهل التَّحقيق بل لو وقف في أبواب أهل التَّحقيق لَمَا احتمل عنده أنْ يدخل رسولُ الله فيمَن توعَّدهم الله بالعذاب. وقد أدَّى الجهل بالمدعو عبدالنَّاصر حدَّارة إلى أنْ تزيد أخطاؤه كُلَّما زاد كلامُه في المسألة. فيا لفضيحته.

وحيث حقَّقنا أنَّ أهل السُّنَّة على أنَّ ترك الأَولى لا يُوجب العذاب في حقِّ الأنبياء تعيَّن أنَّ العُلماء القائلين بوُقوع الصَّغائر الَّتي ليست بترك أَولى إنَّما أرادوا المعاصيَ الحقيقيَّة بدلالة قولهم إنَّ تكرارها وكثرتها يُلحقها بالكبائر وبدلالة قولهم في احتمال التَّعرض للعذاب بسببها فبطل كلامُ مَن حرَّف قول الجُمهور وضلَّل العُلماء القائلين بالوقوع فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وكنَّا نصحنا المدعو عبدالنَّاصر حدَّارة بالكفِّ عمَّا هجم عليه مِن كلام بغير تحقيق مدفوعًا مِن أهل الفتنة الَّذين حرَصوا على استدامة الكلام في عصمة الأنبياء مع العامَّة لنحو سنتَين بقصد التَّشويش وبقصد تنفيرهم مِن أهل العلم باستعمال عاطفة بلا علم وتحقيق فأبى حدَّارة النُّصح؛ وأصرَّ على الاستجابة لنداء الفتنة؛ فوقعت عليه صواعق رُدود أهل السُّنَّة. فتأمَّل!

وانطبق على المدعو حدَّارة أنَّه مُتصولح على ما أخبر به الشَّيخ القرصيُّ الحنفيُّ بقوله: <وأمَّا صدور صغائر غير مُنفِّرة بعدَها فجوَّزه الجُمهور عمدًا وسهوًا> إلى قوله: <وزعم جمهور الشِّيعة والرَّوافض أنَّه لا يجوز عليهم ذنب أصلًا لا كبيرة ولا صغيرة لا عمدًا ولا سهوًا لا قبل النُّبوَّة ولا بعدها وهذا كما تَرى يُرى أنَّه تعظيم لهم ولذا اشتهر بين الجهَلة المُتصَولحة زعمًا منهم أنَّه هو التَّعظيم> انتهى.

ورحم الله امرءًا عرف حدَّه فوقف عنده.

نهاية المقال.

منقول من صفحة أهل السنة والرابط في المداخلة الأولى

بريد الكُفر يحكُم بتكفير ما لا يُحصَى مِن عُلماء أهل السُّنَّة

1

على سبيل أهل البِدع والأهواء؛ طَلع بريد الكُفر بفيديو جديد وحكم على كلِّ مَن قال بصُدور صغيرةٍ مِن نبيٍّ بالكُفر والخروج مِن المِلَّة والعياذُ بالله وكذلك يفعل الخوارج لعنهم اللهُ العظيم.

2

وهذا المُكفِّراتي الصَّغيرُ بغير حقٍّ سامر الغم أخذ هذه العقيدة الضَّالَّة في تكفير أهل السُّنَّة عنِ المُكفِّراتي الكبيرِ بغير حقٍّ عنَيْتُ به يُوسف ميناوي؛ والأخير أخذه بالتَّلقِّي عن فَهمِه السَّقيم!

3

إنَّ بعض أهل الفتنة الضَّالِّينَ المُضلِّينَ نصَّبُوا أنفسَهم رُؤوسًا على المُسلمين وهُم مِنْ الجَهَلَة على التَّحقيق؛ فصَدَق فيهم قولُ نبيِّنا الحبيبِ المُصطفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (فَضَلُّوْا وَأَضَلُّوْا).

4

فَاحْذَرُوا يا إخواني وأخواتي مِن هؤُلاء المُكفِّراتيِّين فإنَّهم بهذه الفتوى التَّكفيريَّة حكَموا بالكُفر على كثير مِن المُجتهدِينَ والفُقهاءِ والمُحدِّثِينَ والحُفَّاظِ والمُتكلِّمِينَ والمُفسِّرِينَ والعياذ باللهِ العلِيِّ.

5

إنَّ المفسِّرينَ قالوا: إنَّ نحوَ قولِهِ تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) ونحوَ قولِه تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِيْنَ) يُحملُ على الصَّغائرِ أو على ترك الأَوْلى؛ فلا بأس بأيٍّ مِنَ الوجهَيْنِ.

6

والصَّغائرُ (غير “ترك الأَوْلى”) هي الَّتي تُقابلُ الكبائر؛ ذنوبٌ على مصطلحِ الشَّرع ولذلك ميَّز المفسِّرون بينها وبين ترك الأَوْلى؛ وإلَّا لصار القوْلانِ واحدًا ولانْتَفى الخلافُ في مسألةِ العصمةِ.

7

والصَّغائرُ حقيقيَّة أو مجازيَّة؛ أمَّا الكبائر فكلُّها حقيقيَّة؛ فالصَّغائرُ الَّتي تُقابِل الكبائرَ مثلُها في كونها حقيقيَّةً؛ والمعصية إنْ كانت صغيرة أو كبيرة فهي مُوجبة للعذاب إنْ لم يعفُ اللهُ تعالى.

8

فلا يُقارنُ بَين الكبيرة وبَين ترك الأَوْلى لأنَّهما لا تشتركانِ في كونهمَا مُوجبتَين للعذاب إنْ لم يعفُ الله تعالى؛ فلمَّا كان كذلك تعيَّن أنَّ المُراد بالصَّغيرةِ المعصيةُ الحقيقيَّة لا المجازيَّة.

9

ولمَّا كان المجاز حمل الصَّغيرة على ترك الأَوْلى؛ كان الظَّاهر خلافه أي حمل الصَّغيرة على الصَّغيرة الحقيقيَّة وهذا مُختصر شرح اختلاف العُلماء في مسألة عصمة الأنبياء.. فَافَهم.

10

فالصَّغيرةُ الَّتي ليْست تركَ أَوْلى لا تُسمَّى مجازيَّة؛ وإن لم تكن مجازًا لم يبقَ إلَّا أنَّها حقيقيَّة؛ لأنَّها لو لم تكن حقيقيَّةً لكانت مجازيَّة؛ ولَاسْتَوتْ وتركَ الأَوْلى؛ ولتماثل القولانِ المُختلفانِ.

11

أهل الفتنة اقتحموا إنكارَ لفظِ الحقيقيَّة لتشويش العامَّةِ لا غير؛ وإلَّا فهُم يعرفون أنَّ الصَّغيرةَ الَّتي ليست تركَ أَوْلى هي الصَّغيرة الَّتي تُقابل الكبيرة وهي حقيقيَّة بلا شكٍّ وليست مجازيَّة.

12

أهل الفتنة اعترفوا أنَّ الجمهورَ جوَّز الصَّغائرَ على الأنبياء ثُمَّ قالوا: إنَّ القولَ بوقوعِ ما جوَّزه الشَّرع: كُفر! فهُم أي أهل الفتنة يزعُمون أنَّ العُلماء جوَّزوا وُقوع ما لو قال أحد بوُقوعه كَفَرَ!

13

فيا سُفهاء أهل الفتنة؛ لو أنَّ العُلماءَ القائلِينَ (بوُقوع الصَّغائرِ غيرِ المُنفِّرة مِن الأنبياء) ما أرادوا الحقيقيَّةَ؛ فلماذَا اختلفوا مع العُلماء الَّذين فسَّروها بترك الأَوْلى!؟ أم لا عقول لكُم تعقلون بها!؟

14

فتوبُوا إلى اللهِ يا أهلَ الفتنة ولا تَخسروا أعمارَكم تَعمهون في ظُلُمات الجهل فإنَّ الدُّنيا إلى زوال وأنتُم تقولون ما لوْ سمِعَه منكُمُ العُلماء لَضجُّوا عَجَبًا مِن شدِّة الجهل الَّذي تحقَّقَ فيكُم.

15

قال الرَّازيُّ فِي [تفسيره]: <{لِيَغْفِرَ لَكَ} قُلنا: الجوابُ عنه قد تقدَّم مرارًا مِن وُجوه أحدُها المُراد ذنب المُؤمنين ثانيها المُراد ترك الأفضل ثالثُها الصَّغائر فإنَّها جائزة على الأنبياء بالسَّهو والعَمْد..> انتهى.

16

وقال الجُرجانيُّ فِي [شرح المواقف]: <(ومَن جوَّز الصَّغائر عمدًا فله زيادة فُسحة) في الجواب إذ يزداد له وجه آخَرُ وهُو أنْ يقول جاز أنْ يكون الصَّادر عنهم صغيرة عمدًا لا كبيرة> انتهى.

17

ولا حاجة لنقل المزيد مِن النُّقول في هذا المقال كي لا يطول بنا المقام أكثر ولكنَّنا إنْ شاء الله تعالى نُخصِّص رابطًا في نقل مائة مِن أقوال عُلماء أهل السُّنَّة في مسألة عصمة الأنبياء.

نهاية المقال.

تهافت الزنادقة 9

*المعصية الكبيرة أهون عند أهل الفتنة مِن المُباح*

وبعدُ فإنَّ مِن سُوء البليَّة الفهم السَّقيم، كيف لا وقد حشر أهل الفتنة أُنُوفهم فيما لا يُحسنون فأنكروا على مَن قال بوُقوع الصَّغائر غير المُنفِّرة مِن الأنبياء وسكتوا على مَن قال بوُقوع الكبائر مِن الأنبياء قبل النُّبُوَّة والعياذ بالله؛ وتفسير تناقُضهم هذا أنَّ صُدورهم يحثُّها الكيد ضدَّ أهل السُّنَّة.

مَن الَّذي حشر أنفه فيما لا يُحسن!؟

– الَّذي أنكر على مَن قال بوُقوع الكبائر مِن الأنبياء قبل النُّبُوَّة أم مَن سكت له ودافع عنه واحتار كيف يحتال في الخُروج ممَّا أقمنا عليه الحُجَّة فيه!؟

ومن الَّذي يقيس بمقياس باطل فاسد!؟

– الَّذي (يُنكر جواز وُقوع الكبائر مِن الأنبياء قبل النُّبُوَّة وبعدها) ولا يعتبره مُعتبَرًا أم الَّذي لا يخجل مِن إنكار قول الجُمهور حتَّى بعد بيانه!؟

ومَن المُجرم بين النَّاس أيُّها النَّاس؟

– الَّذي ردَّ القول المُخالف للشَّرع وفضح القائلين به أم الَّذين دبَّروا بليل ظُلمتهم فسكتوا عن التَّحذير ممَّا خالف فيه مشايخُهم الأقوال المُعتبَرة!؟

كُلُّ هذا الضَّجيج أيُّها المفتونون تُريدون منه إشغال النَّاس عن فضيحتكم عندما كشفنا للنَّاس أنَّ بعض مشايخكم أفتى بوُقوع الكبائر مِن الأنبياء قبل النُّبُوَّة والعياذ بالله فإنَّه قول باطل فاسد ولو لم يخرُج به قائلُه مِن أهل السُّنَّة على قول شيخنا الهرريِّ، فأيُّ فهم سقيم يحكُم أذهانكُم البليدة!؟

ثُمَّ مَن قال إنَّ قتل الكافر الظَّالم كبيرة!؟ ومَن قال إنَّ مُوسى أراد قتله!؟ بل ورد أنَّه عليه السَّلام لم يتعمَّد قتله. قال الطَّبريُّ في تفسيره: <{فَوَكَزَهُ مُوسَى} وكزة قتله منها وهُو لا يُريد قتله> انتهى. فإذَا كان القتل وقع خطأً فكيف يقول إنَّها كبيرة!؟ مَن حقَّق هذا القول مِن العُلماء المُعتبَرين!؟

وكيف يقول بريد الشَّرِّ إنَّه يعتقد عصمة الأنبياء مِن المُباح ثُمَّ يجد سهلًا هيِّنًا أنْ يُقال إنَّ نبيًّا مِن أنبياء الله -صلوات الله عليهم وسلامُه- وقع في ذنب مِن كبائر الذُّنوب!؟ وكيف سوَّغت له نفسه أنْ يتكلَّم وكأنَّ المُباح صار أشدَّ مِن المعصية الكبيرة.. وهو إنَّما يُريد الطَّعن بأهل السُّنَّة!؟

مَن الَّذي أوهمكم أنَّ كُلَّ قول لم يخرُج به قائلُه مِن أهل السُّنَّة صار مُعتبَرًا!؟ وقد امتنع قوم عن الزَّكاة في عهد الصِّدِّيق رضي الله عنه مُتأوِّلين فلم يكفُروا ولم يخرُجوا مِن كونهم سُنِّيِّين وكذلك خرج قوم على الخليفة الرَّاشد سيِّدنا عليٍّ رضي الله عنه مُتأوِّلين بقول باطل فاسد فلم يكفُروا بالله.

فمع كون البُغاة ومانعي الزَّكاة لم يكفُروا بالله إلَّا أنَّ قولهم يبقى باطلًا فاسدًا غيرَ مُعتبَر ومُخالِفًا للشَّرع؛ فَافْهموا لماذَا لم يُكفِّر شيخُنا الهرريُّ رضي الله عنه مَن قال بجواز وُقوع الذُّنوب على الأنبياء قبل النُّبُوَّة سوى الكُفر والرَّذالات مع كون قولهم عنده باطلًا فاسدًا غيرَ مُعتبَر ومُخالفًا للشَّرع.

وكُلُّ هذا التَّدليس جئتُم به يا مُفترون لتُوهموا النَّاس أنَّنا قُلنا بأنَّ مَن قال بوُقوع كبيرة مِن نبيٍّ -قبل النُّبُوَّة- كافر -بالإجماع-!؟ وهُو ما لم ننطق به وإنَّما نقلنا قول بعض عُلماء الحنفيَّة ونصُّه: <ويكفُر مَن أراد بالمعصية الكبيرة> انتهى، فكأنَّكم تُنكرون عليه -لا علينا- أيُّها المفتونون!؟

يسُوؤكم جدًّا أنْ نطعن بقول شيخكم الَّذي تُبرِّئون مع كونه باطلًا فاسدًا غيرَ مُعتبَر ومُخالفًا للشَّرع؛ ثُمَّ تأتون لتعترضوا علينا وأنتُم أحقُّ أنْ يُعترض عليكُم ويُردُّ خوضُكم فيما لا تعلمون؛ فمَن الَّذي حشر أنفه فيما لا يُحسن ومَن الَّذي لم يفهم أنَّه ليس كُلُّ قول فاسد يخرُج به قائله مِن أهل السُّنَّة!؟

وحتَّى متى لا تُميِّزون بين كون (القول بجواز وُقوع الأنبياء في كبيرة قبل النُّبُوَّة) مُخالفًا للأقوال المُعتبرة عند أهل السُّنة والجماعة وبين كون قائله خارجًا عن أهل السُّنَّة وكافرًا بالإجماع كما افتريتُم على كلامنا!؟ فحقَّ أنَّكم أهل الفتنة أيقظتُموها وكانت نائمة.. وحشرتُم أُنوفكم فيما لا تُحسنون.

انتهى

تهافت الزنادقة 9

*المعصية الكبيرة أهون عند أهل الفتنة مِن المُباح*

وبعدُ فإنَّ مِن سُوء البليَّة الفهم السَّقيم، كيف لا وقد حشر أهل الفتنة أُنُوفهم فيما لا يُحسنون فأنكروا على مَن قال بوُقوع الصَّغائر غير المُنفِّرة مِن الأنبياء وسكتوا على مَن قال بوُقوع الكبائر مِن الأنبياء قبل النُّبُوَّة والعياذ بالله؛ وتفسير تناقُضهم هذا أنَّ صُدورهم يحثُّها الكيد ضدَّ أهل السُّنَّة.

مَن الَّذي حشر أنفه فيما لا يُحسن!؟

– الَّذي أنكر على مَن قال بوُقوع الكبائر مِن الأنبياء قبل النُّبُوَّة أم مَن سكت له ودافع عنه واحتار كيف يحتال في الخُروج ممَّا أقمنا عليه الحُجَّة فيه!؟

ومن الَّذي يقيس بمقياس باطل فاسد!؟

– الَّذي (يُنكر جواز وُقوع الكبائر مِن الأنبياء قبل النُّبُوَّة وبعدها) ولا يعتبره مُعتبَرًا أم الَّذي لا يخجل مِن إنكار قول الجُمهور حتَّى بعد بيانه!؟

ومَن المُجرم بين النَّاس أيُّها النَّاس؟

– الَّذي ردَّ القول المُخالف للشَّرع وفضح القائلين به أم الَّذين دبَّروا بليل ظُلمتهم فسكتوا عن التَّحذير ممَّا خالف فيه مشايخُهم الأقوال المُعتبَرة!؟

كُلُّ هذا الضَّجيج أيُّها المفتونون تُريدون منه إشغال النَّاس عن فضيحتكم عندما كشفنا للنَّاس أنَّ بعض مشايخكم أفتى بوُقوع الكبائر مِن الأنبياء قبل النُّبُوَّة والعياذ بالله فإنَّه قول باطل فاسد ولو لم يخرُج به قائلُه مِن أهل السُّنَّة على قول شيخنا الهرريِّ، فأيُّ فهم سقيم يحكُم أذهانكُم البليدة!؟

ثُمَّ مَن قال إنَّ قتل الكافر الظَّالم كبيرة!؟ ومَن قال إنَّ مُوسى أراد قتله!؟ بل ورد أنَّه عليه السَّلام لم يتعمَّد قتله. قال الطَّبريُّ في تفسيره: <{فَوَكَزَهُ مُوسَى} وكزة قتله منها وهُو لا يُريد قتله> انتهى. فإذَا كان القتل وقع خطأً فكيف يقول إنَّها كبيرة!؟ مَن حقَّق هذا القول مِن العُلماء المُعتبَرين!؟

وكيف يقول بريد الشَّرِّ إنَّه يعتقد عصمة الأنبياء مِن المُباح ثُمَّ يجد سهلًا هيِّنًا أنْ يُقال إنَّ نبيًّا مِن أنبياء الله -صلوات الله عليهم وسلامُه- وقع في ذنب مِن كبائر الذُّنوب!؟ وكيف سوَّغت له نفسه أنْ يتكلَّم وكأنَّ المُباح صار أشدَّ مِن المعصية الكبيرة.. وهو إنَّما يُريد الطَّعن بأهل السُّنَّة!؟

مَن الَّذي أوهمكم أنَّ كُلَّ قول لم يخرُج به قائلُه مِن أهل السُّنَّة صار مُعتبَرًا!؟ وقد امتنع قوم عن الزَّكاة في عهد الصِّدِّيق رضي الله عنه مُتأوِّلين فلم يكفُروا ولم يخرُجوا مِن كونهم سُنِّيِّين وكذلك خرج قوم على الخليفة الرَّاشد سيِّدنا عليٍّ رضي الله عنه مُتأوِّلين بقول باطل فاسد فلم يكفُروا بالله.

فمع كون البُغاة ومانعي الزَّكاة لم يكفُروا بالله إلَّا أنَّ قولهم يبقى باطلًا فاسدًا غيرَ مُعتبَر ومُخالِفًا للشَّرع؛ فَافْهموا لماذَا لم يُكفِّر شيخُنا الهرريُّ رضي الله عنه مَن قال بجواز وُقوع الذُّنوب على الأنبياء قبل النُّبُوَّة سوى الكُفر والرَّذالات مع كون قولهم عنده باطلًا فاسدًا غيرَ مُعتبَر ومُخالفًا للشَّرع.

وكُلُّ هذا التَّدليس جئتُم به يا مُفترون لتُوهموا النَّاس أنَّنا قُلنا بأنَّ مَن قال بوُقوع كبيرة مِن نبيٍّ -قبل النُّبُوَّة- كافر -بالإجماع-!؟ وهُو ما لم ننطق به وإنَّما نقلنا قول بعض عُلماء الحنفيَّة ونصُّه: <ويكفُر مَن أراد بالمعصية الكبيرة> انتهى، فكأنَّكم تُنكرون عليه -لا علينا- أيُّها المفتونون!؟

يسُوؤكم جدًّا أنْ نطعن بقول شيخكم الَّذي تُبرِّئون مع كونه باطلًا فاسدًا غيرَ مُعتبَر ومُخالفًا للشَّرع؛ ثُمَّ تأتون لتعترضوا علينا وأنتُم أحقُّ أنْ يُعترض عليكُم ويُردُّ خوضُكم فيما لا تعلمون؛ فمَن الَّذي حشر أنفه فيما لا يُحسن ومَن الَّذي لم يفهم أنَّه ليس كُلُّ قول فاسد يخرُج به قائله مِن أهل السُّنَّة!؟

وحتَّى متى لا تُميِّزون بين كون (القول بجواز وُقوع الأنبياء في كبيرة قبل النُّبُوَّة) مُخالفًا للأقوال المُعتبرة عند أهل السُّنة والجماعة وبين كون قائله خارجًا عن أهل السُّنَّة وكافرًا بالإجماع كما افتريتُم على كلامنا!؟ فحقَّ أنَّكم أهل الفتنة أيقظتُموها وكانت نائمة.. وحشرتُم أُنوفكم فيما لا تُحسنون.

انتهى

جديد: فهرس مقالات أهل السنة والجماعة 2019

من 4/8/2019 إلى 10/11/2019

1. سلسلة رفع أعلام النبوة.

2. مقالات في العصمة (لم تُنشر في الفهرس السابق لـ: مقالات في العصمة).

3. قصائد.

4. لمَن كان له قلب.

5. فيديو.

6. مقالات متنوعة.

تابع

———-

>>>>> * فهرس [رفع أعلام النُّبوَّة]:

1. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [1]: المُراد مِن بيان كون البُغاة ظالِمين غيرَ مأجورين – (أ).

2. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [2]: المُراد مِن بيان كون البُغاة ظالِمين غيرَ مأجورين – (ب).

3. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [3]: مذهب الأشعريِّ في خُروج مُعاوية على الإمام العادل – (أ) لماذَا قال الأشعريُّ في اجتهاد مُعاوية إنَّه: <كان خطأً وباطلًا ومُنكرًا وبغيًا>؟

4. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [4]: مذهب الأشعريِّ في خُروج مُعاوية على الإمام العادل – (ب) معنى قول الأشعريِّ في خروج مُعاوية على الإمام العادل: <كان باجتهاد منه>.

5. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [5]: مذهب الأشعريِّ في خُروج مُعاوية على الإمام العادل – (ج) معنى: <ولم يُطلق عليه اسم الفسق والكفر>.

6. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [6]: معنى أنَّ الصَّحابة كُلَّهم عدول مِن كلام اللَّكنوي.

7. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [7]: مذهب الأشعريِّ في خُروج مُعاوية على الإمام العادل – (د) فضيحة مَن استدلَّ بـ [الإبانة] الَّذي اتَّفق الأشاعرة على وقوع الدَّسِّ فيه – وبذيله قصيدة أين الوَرَع!

8. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [8]: معنى حديث عليٍّ رضي الله عنه: <أُمِرتُ بقتال النَّاكثِين والقاسطِين والمارقِين>.

9. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [9]: فضيحة المُتعالِم الَّذي استدلَّ بـ[رسالة إلى أهل الثَّغر] وهي رسالة مُحرَّفة امتدحها ابن تيميَّة وابن قيِّم الجوزيَّة.

10. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [10]: بيان مذهب أبي منصور البغداديِّ في [الفَرْق بَين الفِرَق] وأنَّه نقل الإجماع على ما يُفيد القول بتأثيم البُغاة.

11. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [11]: بيان مذهب أبي منصور البغداديِّ في [الفَرْق بَين الفِرَق] وأنَّه نقل الإجماع على تأثيم البُغاة (ب).

12. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [12]: الجُرجانيُّ ينقل الإجماع على كون البُغاة ظالمين مذهب مالك وأبي حنيفة والشَّافعيِّ والأوزاعيِّ.

13. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [13]: ردًّا على مَن قرأ ولم يفهم – بيان معنى ما جاء في [القول الفصل المُنجِّي].

14. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [14]: بيان مذهب الباقلَّانيِّ في البُغاة – 1/3 براءة الباقلَّانيِّ مِن القول بنسبة الأجر للبُغاة في بغيهم.

15. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [15]: مُعاوية عند المُلَّا علي القاري – حول استفتاء الأزهر بأقوال مُلَّا علي القاري.

16. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [16]: تأويل الفئة الباغية بالطَّالبة تحريف للحديث المُتواتر – حول استفتاء الأزهر بأقوال مُلَّا علي القاري.

17. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [17]: بيان مذهب الباقلَّانيِّ – 2.

18. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [18]: بيان مذهب الباقلَّانيِّ – 3 مذهبه في القاعدين عن قتال الفئة الباغية (ب).

19. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [19]: بيان مذهب الباقلَّانيِّ – 4 فيما حكاه مِن مذاهب النَّاس في أهل الجَمَل.

20. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [20]: براءة ابن المُبارك مِن تفضيل الغُبار على عُمر بن عبدالعزيز – 1 / القول بتفضيل التُّراب على عُمر بن عبدالعزيز: فاسد.

21. رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [21]: براءة ابن المُبارك مِن تفضيل الغُبار على عُمر بن عبدالعزيز- 2 / العلَّامة الكتَّانيُّ: كيف يكون هذا دِينًا ومذهبًا وشريعةً!؟

* هذه المقالات منقولة مِن صفحة شهاب الدِّين حلاوة. والرَّوابط في المُداخلات.

———-

>>>>> * فهرس [مقالات جديدة في العصمة]:

1. إرشاد الحائرين إلى محل اختلاف العُلماء في مسألة عصمة النَّبيِّين.

2. عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها مسألة خلافيَّة – أهل الفتنة يُكفِّرون الإمام زكريَّا الأنصاريَّ – دعوة إلى التَّوقف عن إقحام العوامِّ في هذه المسألة.

3. رسالة إلى أصحاب دعوى الإجماع الكاذب – في مسألة عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها: – أفئدتكم هواء.. وأبصاركم شاخصة مِن الفزع.

4. الله تعالى لا يُعذِّب على ترك الأَولى – [1] / والرَّدُّ على مَن أنكر قول الجُمهور في العصمة.

5. عبدالنَّاصر حدَّارة يفضح جهله بأُصول أهل السُّنَّة / بيان أنَّ الأنبياء لا يُعذَّبون على ترك الأَولى [2] / والرَّدُّ على مَن أنكر قول الجُمهور في العصمة.

———-

>>>>> * فهرس [قصائد]:

1. قصيدة: أين الوَرَع!

2. في هجاء فوزي بن أسعد أفندي (الَّذي شتم بعض عُلماء أهل السُّنَّة).

3. في هجاء مُحمَّد سليم توفيق.

4. اِتَّبع لا تبتدع. قصيدة في الوعظ والنَّصيحة.

5. في هديك الفلاح. قصيدة في مدح نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام.

6. قصيدة في بيان اختلاف العُلماء في عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها.

———-

>>>>> * فهرس [لمَن كان له قلب]:

1. نصيحة لمَن كان له قلب [1]: الرَّدُّ على أهل الفتنة في مسألة الشَّهادة – بيان أنَّه لا يجوز تشديد (أنْ) في الشَّهادة الأُولى – إلَّا مع إلحاق ضمير الشَّأن بها فتكون: (أنَّه).

2. نصيحة لمَن كان له قلب [2]: لا يُحذف ضمير الشَّأن مع (أنَّ) المُشدَّدة المفتوحة – بطلان قياس (أنَّ) على (إنَّ) مع كونها فرعًا لها.

3. نصيحة لمَن كان له قلب [3]: إذا أُظهِر ضمير الشَّأن وجب تشديد نون (أن) – المسموع مِن حذف اسم (إنَّ) ضمير الشَّأن شاذٌّ.

4. نصيحة لمَن كان له قلب [4]: قولوا: اللَّهُمَّ صلِّ على النَّبيِّ – لا يجوز قول اللَّهُمَّ صلِّي -بالياء-.

5. نصيحة لمَن كان له قلب [5]: الرَّدُّ على أهل الفتنة في مسألة الشَّهادة – لا يُحذف ضمير الشَّأن إلَّا بعد (أن) المُخفَّفة – حذف ضمير الشَّأن بعد (إنَّ) المكسورة شاذٌّ.

———-

>>>>> * فهرس [مقالات جديدة في العصمة]:

1. فيديو محاضرة بعنوان: المُجسِّم كافر بالإجماع.

2. فيديو: حقيقة كذب ودجل المدعو محمد سليم توفيق.

3. فيديو: قولوا لهم إنَّ الَّذي مات ربَّى.

4. فيديو: حُسن الخُلُق بصوت الإمام الهرريِّ رحمه الله ورضي عنه.

———-

>>>>> * فهرس [مقالات جديدة في العصمة]:

1. التَّحذير ممَّن يدعو إلى استنطاق النَّاس بالكُفر.

2. حول أهميَّة مُناظرة أهل الباطل وعدم السُّكوت لهم لمُجرَّد الخشية مِن فسادهم.

3. يدَّعي حُسن الخُلُق؛ وإنَّما هو ذو وجهَين في الفتنة.

4. من مقاصد الحج تكفير الذنوب.

5. دعوة مُحمَّد سليم توفيق للمُناظرة.

6. الرد على أهل الفتنة لا يكون في صفحاتهم.

7. دليل هرب المدعو مُحمَّد سليم توفيق.

8. رسالة إلى سمير حلَّاق / السُّوَيد.

9. جديد [قصيدة] إلى الكذَّاب في أرض الكِنانة: أكثر مِن 8 آلاف قارئ حتى لحظة كتابة هذه الحروف.

10. حول المُسمَّى نُور الدِّين إسلام والمشايخ الطَّيِّبين في مصرَ الحبيبة.

11. على طريق الأدب والخُلُق الحَسَن.

انتهى.

* الرَّوابط في المُداخلات.

*تهافُت الزَّنادقة 6*

*أهل الفتنة روافض في مسألة العصمة*

*يُضلِّلون مَن أخذ بظاهر قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ}*

وبعدُ فإنَّ أهل السُّنَّة والجماعة لم يُضلِّلوا مَن أخذ بظاهر قول الله تعالى في القُرآن الكريم: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} وبظاهر قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وبظاهر قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} وبنحو ذلك مِن الآيات الكريمة.

وحدهم زنادقة أهل الفتنة وافقوا الشِّيعة الرَّوافض في مسألة العصمة دون أنْ يكون لهم في ذلك سلف مُعتبر فقالوا بتضليل مَن قال بوُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء ليست مِن باب ترك الأَولى والأفضل؛ أمَّا أهل السُّنَّة فلم يُضلِّلوا مَن قال بذلك اعتمادًا على ظاهر ما جاء في القُرآن الكريم.

نعم؛ اختلف أهل السُّنَّة في عصمة الأنبياء عليهم السَّلام عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها؛ فقال الجُمهور: إنَّها وقعت مِن الأنبياء. وقال آخرون: إنَّها لم تقع مِن الأنبياء. ولكنَّ مَن قال منهُم بالعصمة المُطلقة لم يقُل بذلك على وجه تضليل جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة كما قال الرَّوافض وأهل الفتنة.

وقد ردَّ العديد مِن عُلماء أهل السُّنَّة على الرَّوافض في مسألة العصمة ومنهم الآمديُّ في [أبكار الأفكار] وفرَّق عُلماؤنا بَين مذهبنا في هذه المسألة وبين مذهب الرَّوافض؛ وفي هذا بيان أنَّ قول بعض أهل السُّنَّة بالعصمة المُطلقة لم يكن على وجه إبطال القول بوُقوع صغائر غير مُنفِّرة مِن الأنبياء.

فمِن ذلك قول الآمديِّ فِي [أبكار الأفكار]: <آدم عليه السَّلام عصى وارتكب الذَّنب..> إلى قوله: <فدلَّ على أنَّ الاجتباء إنَّما كان بعد المعصية لكنَّه حُجَّة على الرَّوافض حيث قضَوا بوجوب عصمة النَّبيِّ قبل نبوَّته> انتهى.

ومِن ذلك قول الأرمويِّ فِي [نهاية الوُصول] فِي صغيرة لا خسَّة فيها: <أحدها: جواز صُدوره منهم عمدًا وسهوًا وعليه الأكثرون منَّا ومِن المُعتزلة. وثانيها: عدم جواز صُدوره منهم عمدًا وسهوًا وهو مذهب الرَّوافض> انتهى.

ومِن ذلك قول الإيجيِّ فِي [المواقِف فِي عِلم الكلام]: <وقالت الرَّوافض لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة فكيف بعد الوحي> انتهى.

ومِن ذلك قول أبي الحسن اليفرنيِّ فِي [المباحث العقليَّة]: <فهذا ممَّا اتَّفق أكثر أصحابنا وأكثر المُعتزلة على جوازه عمدًا وسهوًا خلافًا للشِّيعة..> انتهى.

وفي [المُختصر الكلاميِّ] لابن عرفة التُّونسيِّ المالكيِّ: <وصغائرِ الخسَّةِ وسُقوطِ الهمَّةِ كالكبائر. وغيرُهما: الأكثرُ منَّا ومِن المُعتزلة على جوازه ولو عمدًا ومنعه الشِّيعة مُطلقًا..> انتهى.

وفي [بُغية الطَّالب شرح عقيدة ابن الحاجب] لابن زكري التِّلمسانِيِّ: <وأمَّا الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها فجائزة مِن غير إصرار عمدًا وسهوًا خلافًا للشِّيعة مُطلقًا..> انتهى.

فانظُر -أخي القارئ- كيف فرَّق عُلماؤنا بين مذهب أهل السُّنَّة والجماعة وبَين مذهب الشِّيعة الرَّوافض لأنَّ الرَّوافض ضلَّلوا جُمهور أهل السُّنَّة في مسألة العصمة لقول أهل السُّنَّة بجواز ووُقوع صغائر غير مُنفِّرة مِن الأنبياء؛ وزنادقة أهل الفتنة وافقوا الرَّوافض في هذا الاعتقاد والعياذ بالله.

وانظر كيف جعل الآمديُّ الآية: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} حُجَّة على الرَّوافض ولم يجعلها حُجَّة على مَن قال مِن أهل السُّنَّة بالعصمة المُطلقة وذلك لأنَّ مَن قال بها مِن أهل السُّنَّة لم يُرد تضليل مَن قال بجواز الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها اعتمادًا على ظاهر ما جاء في القُرآن الكريم.

فانظُر كيف قال الأرمويُّ: <وهُو مذهب الرَّوافض> وكيف قال الإيجيُّ: <وقالت الرَّوافض> وكيف قال اليفرنيُّ: <خلافًا للشِّيعة> وكيف قال ابن عرفة: <ومنعه الشِّيعة مُطلقًا> وكيف قال ابن زكري: <خلافًا للشِّيعة مُطلقًا> لتعلم أنَّ أهل السُّنَّة لا يُوافقون الرَّوافض في مسألة العصمة.

وعُلماء أهل السُّنَّة والجماعة ما ردُّوا على مَن قال بجواز ووُقوع الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها مِن الأنبياء ولا أنكروا على مَن فسَّر الذَّنب في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ} بالمعصية الحقيقيَّة الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها بل كان هذا القول عندهم مُحتملًا في التَّفسير.

وكُلُّ هذا يدُلُّ أنَّ أهل الفتنة كذَّابون في ادِّعائهم اتِّباع مذهب أهل السُّنَّة في مسألة العصمة؛ لأنَّهم لو كانوا مُتَّبعِين لهُم لَمَا ضلَّلُوا وكفَّروا مَن قال بالمعصية الحقيقيَّة مع قول جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بجواز وُقوع الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها مِن الأنبياء (سهوًا) أو (عمدًا).

وقد اشتهر مذهب الرَّوافض في المسألة لأنَّ الجَهَلَة لم ينتبهوا لِمَا ورد في كتاب الله ولم يفهموا نصَّ الأشعريِّ في العصمة وأنَّها لا تُناقض صُدور صغائر غير مُنفِّرة نادرًا؛ فتوهَّم الجَهَلَة أنَّ قول الرَّوافض قد حصر تعظيم الأنبياء فيه فمَن خالفه فكأنَّه طعن في الأنبياء وليس الأمر كذلك.

فقد قال الشَّيخ داود القرصيُّ الحنفيُّ: <وأمَّا صُدور صغائر غير مُنفِّرة بعدَها فجوَّزه الجُمهور عمدًا وسهوًا> إلى قوله: <وزعم جمهور الشِّيعة والرَّوافض أنَّه لا يجوز عليهم ذنب أصلًا لا كبيرة ولا صغيرة لا عمدًا ولا سهوًا لا قبل النُّبوَّة ولا بعدها وهذا كما تَرى يُرى أنَّه تعظيم لهم ولذا اشتهر بين الجَهَلَة المُتصَولحة زعمًا منهم أنَّه هو التَّعظيم> انتهى.

وكلام القرصيِّ يصف حقيقة مذهب الزَّنادقة؛ فأهل الفتنة في مسألة العصمة مِن أهل الأهواء والبدع بدليل أنَّهم لا يرجعون في تضليلهم القائلين بالمعصية الحقيقيَّة إلى عالِم ثقة بل إلى أهوائهم وجهلهم وتأثُّرهم بما اشتهر بَين الجَهَلَة المُتصولحة مِن مذهب الرَّوافض في عصمة الأنبياء.

واعلم أنَّ القول بوُقوع معصية حقيقيَّة مِن النَّبيِّ ليس فيه ترك لتعظيمه عليه الصَّلاة والسَّلام فإنَّ العصمة لا تُناقض صُدُور ذنب صغير لا خسَّة فيه في حالات نادرة ولهذا قال إمامنا الأشعريُّ: <إِنَّ أَنْوَاعَ هَذِهِ الأَلْطَافِ إِذَا تَوالَتْ وَفَعَلَهَا اللهُ بِالمُكَلَّفِ وَلَمْ تَتَخَلَّلْهَا كَبِيرَةٌ قِيْلَ لِمَنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ إِنَّهُ مَعْصُومٌ مُطْلَقًا. وَذَلِكَ كَأَحْوَالِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ..> إلى آخر كلامه.

ولو كان أهل الفتنة يخافون اللهَ ويخشونه لَمَا تجرَّأوا على تضليل وتكفير جُمهور أهل السُّنَّة لأنَّ الجُمهور أخذ بما يُجوِّزه الشَّرع على الأنبياء عليهم السَّلام في العصمة. فيا أهل الفتنة حرب عليكم فلا راحة؛ وهوان لكم فلا رفعة ولا منجاة؛ ولنا طُوبى وليس لكم طُوبى.. والله مَولانا ولا مَولى لكُم.

انتهى

محلُّ اختلاف العُلماء

في مسألة عصمة الأنبياء

2

كيف اختلف قولا أهل السُّنَّة في الصَّغائر غير المُنفِّرة؟

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

وبعدُ فإنَّ الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه هم أفضل الخلق وأطهر النَّاس اصطفاهم الله وبرَّأهُم مِن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة قبل النُّبُوَّة وبعدها؛ وجُمهور أهل السُّنَّة قالوا إنَّه يجوز أنْ يصدُر منهُم صغائر غير مُنفِّرة ولكنَّهم لا يُصرُّون عليها بل ويتوبون منها قبل أنْ يُقتدى بهم فيها.

والعُلماء في عصمة الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامُه- عن الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها قبل الوحي وبعده: مُختلفون؛ ومَن أنكر هذا الاختلاف فقد جهل مذهب أهل السُّنَّة والجماعة؛ وقد كتبنا هذه الرِّسالة المُباركة بإذن الله ليُعرَف [محلُّ  اختلاف العُلماء في مسألة عصمة الأنبياء].

كيف اختلف قولا أهل السُّنَّة في الصَّغائر غير المُنفِّرة؟

فلو كان المُراد بالمعصية الصَّغيرة غير المُنفِّرة -في قولَي أهل السُّنَّة والجماعة- هُو المعصية المجازيَّة أي ترك الأفضل لَمَا كان خلاف بَين العُلماء؛ ولكنَّه خلاف ثابت مُؤكَّد حشا العُلماء كُتُبَهُم بالكلام عنه كما في كلام القاضي عياض والإمام النَّوويِّ وما لا يكاد يُحصى مِن العُلماء.

فلمَّا كان القولانِ مُختلفَينِ -ضرورةً- وأنَّ أحدَهُما المُراد به المعصية المجازيَّة؛ تبيَّن أنَّ القول الآخَرَ المُراد به المعصية الحقيقيَّة؛ وإلَّا لتماثل القولانِ ولَبطل الخلاف ولَحكمنا بالبُطلان على كثير ممَّا احتوته كُتُب العُلماء في الكلام على مسألة عصمة الأنبياء عليهم السَّلام.

واختلاف العُلماء في عصمة الأنبياء عن الصَّغائر غير المُنفِّرة راجع إلى اعتقاد كُلِّ مِن الطَّرفَين؛ فمَن كان يعتقد العصمة المُطلقة فيهم أَوَّلَ قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وغيره مِن الآيات حتَّى يُوافق المعنى اعتقادَه العصمة المُطلقة في الأنبياء مِن الذُّنوب كُلِّها.

أمَّا الَّذين يرَون جواز صُدور الصَّغائر غير المُنفِّرة مِن الأنبياء -وهُمُ الأكثرُ كما بَيَّن عياض والنَّوويُّ- فامتنعوا عن تأويل الآيات لانعدام ضرورة ذلك عندهم لأنَّهُم لا يرون ذلك مناقضًا للشَّرع فحملوا الآيات على ظاهرها فقالوا بوُقوع الصَّغيرة غير المُنفِّرة مِن الأنبياء عليهم السَّلام بضوابط ذكروها.

ولأنَّ أهل السُّنَّة والجماعة مُختلفون في جواز وُقوع الصَّغائر غير المُنفِّرة مِن الأنبياء كان المُفسِّرون يقفون عند الآيات المذكورة آنفًا فيُبيِّنون أنَّها تُحمل إمَّا على القول بأنَّ المُراد الصَّغيرة وإمَّا على القول بأنَّ المُراد ترك الأفضل؛ ونستدلُّ بقولَين اثنَين لضيق المقام عن إيراد أكثر:

قال الفخر الرَّازيُّ فِي [عصمة الأنبياء] عن قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} ما نصُّه: <جوابه: أنَّه محمول إمَّا على الصَّغيرة أو ترك الأَوْلى أو التَّواضع كما قرَّرناه فِي قول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}> انتهى؛ فانظر كيف ميَّز بين القول بالصَّغيرة وبَين القول بترك الأَوْلى؛ ولو كانَا واحدًا لَمَا فعل.

وقال زكريَّا الأنصاريُّ فِي [فتح الرَّحمن] فِي تفسير: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}: <إنْ قُلتَ كيفَ قالَ ذلكَ والنَّبيُّ معصومٌ مِنَ الذُّنوبِ. قُلتُ: المُرادُ ذنبُ المُؤمنينَ. أو تركُ الأفضلِ. أو أرادَ الصَّغائرَ على ما قالَه بهِ جَمْعٌ. أو المُرادُ بالمغفرةِ العِصمةُ> انتهى.

فعجبًا كيف عَمِيَ يُوسف ميناوي عن رؤية هذه النُّقول وغيرها كثير وكُتُبُ العُلماء محشُوَّة بمثلها؛ وكيف اقتحم تضليل العُلماء والعامَّة مِن سَلَف وخَلَف في مسألة مشهورة في مذهبنا خلافًا للكثير من المذاهب والطَّوائف الأُخرى وقد نصحناه كثيرًا فلم ينتصح والله سُبحانه يخلُق ما يشاء.

يتبع –

رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [15]

مُعاوية عند المُلَّا علي القاري

حول استفتاء الأزهر بأقوال مُلَّا علي القاري

الحمدلله وكفى والصَّلاة والسَّلام على نبيِّه المُصطفى.

وبعدُ كنتُ عزمتُ على نشر تتمَّة المقال في بيان مذهب الباقلَّانيِّ ولكنِّي أجَّلته أيَّامًا بعد أنْ بلغني أنَّ أهل الفتنة أرادوا الاستدلال بقول علي القاري؛ فإذَا بهم نقلوا مِن كلامه ما لا حُجَّة لهم فيه بل وتغافلوا عمَّا فيه الحُجَّة عليهم؛ فنحن ننشر ما تركوا مِن كلام هذا الفقيه الحنفيِّ المشهور ليتبيَّن لكُلِّ أحد أنَّنا على ما عليه عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة؛ وليس هُم.

قال مُلَّا علي القاري في [مرقاة المفاتيح] [1]: <_قُلْتُ_: فَإِذًا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ [أي على مُعاوية] أَنْ يَرْجِعَ عَنْ بَغْيِهِ بِإِطَاعَتِهِ الْخَلِيفَةَ وَيَتْرُكَ الْمُخَالَفَةَ وَطَلَبَ الْخِلَافَةِ الْمُنِيفَةِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَاطِنِ بَاغِيًا وَفِي الظَّاهِرِ مُتَسَتِّرًا بِدَمِ عُثْمَانَ مُرَاعِيًا مُرَائِيًا، فَجَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَيْهِ نَاعِيًا وَعَنْ عَمَلِهِ نَاهِيًا، لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا فَصَارَ عِنْدَهُ كُلٌّ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مَهْجُورًا، فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَنْصَفَ وَلَمْ يَتَعَصَّبْ وَلَمْ يَتَعَسَّفْ وَتَوَلَّى الِاقْتِصَادَ فِي الِاعْتِقَادِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي جَانِبَيْ سَبِيلِ الرَّشَادِ مِنَ الرَّفْضِ وَالنَّصْبِ بِأَنْ يُحِبَّ جَمِيعَ الْآلِ وَالصَّحْبِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)> انتهى كلام مُلَّا علي القاري.

فماذا يقول <أبو إجماع> ### في قول مُلَّا علي القاري في مُعاوية إنَّه كان: <مُتَسَتِّرًا بِدَمِ عُثْمَانَ مُرَاعِيًا مُرَائِيًا> وقوله فيه: <فَجَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَيْهِ نَاعِيًا> وقوله فيه: <فَصَارَ عِنْدَهُ كُلٌّ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مَهْجُورًا> فهل تزعُم يا ### أنَّ مُلَّا علي القاري أساء الأدب مع مُعاوية!؟ وأنَّه وقع فيما حذَّر مِن الوُقوع فيه في شرحه على [الفقه الأكبر]!؟

ولمَّا عجز أهل الفتنة عن الاستدلال بقوله في حُكم البُغاة دعوناهم إلى تقرير قوله في شرح [الشِّفا للقاضي عياض]: <(وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا) أي وُجودَها ووقوعَها (جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ)> إلى آخِرِ كلامه؛ ولاحظ كيف قرَّر بقوله: <وُجودَها ووقوعَها> نقلًا عن عياض أنَّ مذهب الجُمهور على وُقوع الصَّغائر -الَّتي لا خسَّة فيها- مِن الأنبياء عليهم السَّلام.

وقول مُلَّا عليٍّ القاري في المسألتَين حُجَّة عليهم وإلَّا فإنْ أبَوا التَّسليم بقوله فقد تقرَّر كونُهم مُتحكِّمين مُتخبِّطين لا يأخذون بما يدعون النَّاس إلى الأخذ به؛ إذ لمَّا تبيَّن لهم أنه خلاف ما ذهبوا إليه؛ ردُّوه وأنكروه بحيث يصير لسان حالهم مُنكرًا على مُلَّا عليٍّ القاري مثل ما أنكروا علينا، فتحتَّم بذلك أنَّهم مِن الجَهَلَة على التَّحقيق؛ ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم.

وإذَا كان الأمر كذلك؛ فماذَا يقول المُتمشعر مُحمَّد سليم توفيق في مُلَّا علي القاري!؟ هل سيعمد إلى تقديم شكوى بحقِّه في الأزهر يتَّهمه فيها بسبِّ الصَّحابة لأنَّه وصف مُعاوية بالبغي والظُّلم والطُّغيان وبهجرة الحديث والقُرآن!؟ ولأنَّ القاري أشار بأنَّ مَن أنكر كونَ مُعاوية باغيًا طاغيًا فإنَّه يكون مال بذلك إلى ما قال به النَّواصب عليهم مِن الله ما يستحقُّون!؟

أم هل سيتقدَّم المُتمشعر الجاهل المغرور مُحمَّد سليم توفيق إلى لجنة كبار العُلماء في الأزهر بطلب سحب كُتُب مُلَّا علي القاري ومُصنَّفاته الَّتي تملأ مكتباتِ مصرَ مِن قبلِ أنْ يُولد -وقد تلقَّاها أهل مصر بالرِّضى والحُبِّ والقَبول والتَّعظيم- لمُجرَّد أنَّ مُلَّا علي القاري قد نقل ما قرَّره جُمهور الأشاعرة بل وجُمهور أهل السُّنَّة والجماعة في مسألة عصمة الأنبياء!؟

نهاية المقال.

رفعُ أعلامِ النُّبوَّة [15]

مُعاوية عند المُلَّا علي القاري

حول استفتاء الأزهر بأقوال مُلَّا علي القاري

الحمدلله وكفى والصَّلاة والسَّلام على نبيِّه المُصطفى.

وبعدُ كنتُ عزمتُ على نشر تتمَّة المقال في بيان مذهب الباقلَّانيِّ ولكنِّي أجَّلته أيَّامًا بعد أنْ بلغني أنَّ أهل الفتنة أرادوا الاستدلال بقول علي القاري؛ فإذَا بهم نقلوا مِن كلامه ما لا حُجَّة لهم فيه بل وتغافلوا عمَّا فيه الحُجَّة عليهم؛ فنحن ننشر ما تركوا مِن كلام هذا الفقيه الحنفيِّ المشهور ليتبيَّن لكُلِّ أحد أنَّنا على ما عليه عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة؛ وليس هُم.

قال مُلَّا علي القاري في [مرقاة المفاتيح] [1]: <_قُلْتُ_: فَإِذًا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ [أي على مُعاوية] أَنْ يَرْجِعَ عَنْ بَغْيِهِ بِإِطَاعَتِهِ الْخَلِيفَةَ وَيَتْرُكَ الْمُخَالَفَةَ وَطَلَبَ الْخِلَافَةِ الْمُنِيفَةِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَاطِنِ بَاغِيًا وَفِي الظَّاهِرِ مُتَسَتِّرًا بِدَمِ عُثْمَانَ مُرَاعِيًا مُرَائِيًا، فَجَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَيْهِ نَاعِيًا وَعَنْ عَمَلِهِ نَاهِيًا، لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا فَصَارَ عِنْدَهُ كُلٌّ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مَهْجُورًا، فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَنْصَفَ وَلَمْ يَتَعَصَّبْ وَلَمْ يَتَعَسَّفْ وَتَوَلَّى الِاقْتِصَادَ فِي الِاعْتِقَادِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي جَانِبَيْ سَبِيلِ الرَّشَادِ مِنَ الرَّفْضِ وَالنَّصْبِ بِأَنْ يُحِبَّ جَمِيعَ الْآلِ وَالصَّحْبِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)> انتهى كلام مُلَّا علي القاري.

فماذا يقول <أبو إجماع> ### في قول مُلَّا علي القاري في مُعاوية إنَّه كان: <مُتَسَتِّرًا بِدَمِ عُثْمَانَ مُرَاعِيًا مُرَائِيًا> وقوله فيه: <فَجَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَيْهِ نَاعِيًا> وقوله فيه: <فَصَارَ عِنْدَهُ كُلٌّ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مَهْجُورًا> فهل تزعُم يا ### أنَّ مُلَّا علي القاري أساء الأدب مع مُعاوية!؟ وأنَّه وقع فيما حذَّر مِن الوُقوع فيه في شرحه على [الفقه الأكبر]!؟

ولمَّا عجز أهل الفتنة عن الاستدلال بقوله في حُكم البُغاة دعوناهم إلى تقرير قوله في شرح [الشِّفا للقاضي عياض]: <(وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا) أي وُجودَها ووقوعَها (جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ)> إلى آخِرِ كلامه؛ ولاحظ كيف قرَّر بقوله: <وُجودَها ووقوعَها> نقلًا عن عياض أنَّ مذهب الجُمهور على وُقوع الصَّغائر -الَّتي لا خسَّة فيها- مِن الأنبياء عليهم السَّلام.

وقول مُلَّا عليٍّ القاري في المسألتَين حُجَّة عليهم وإلَّا فإنْ أبَوا التَّسليم بقوله فقد تقرَّر كونُهم مُتحكِّمين مُتخبِّطين لا يأخذون بما يدعون النَّاس إلى الأخذ به؛ إذ لمَّا تبيَّن لهم أنه خلاف ما ذهبوا إليه؛ ردُّوه وأنكروه بحيث يصير لسان حالهم مُنكرًا على مُلَّا عليٍّ القاري مثل ما أنكروا علينا، فتحتَّم بذلك أنَّهم مِن الجَهَلَة على التَّحقيق؛ ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم.

وإذَا كان الأمر كذلك؛ فماذَا يقول المُتمشعر مُحمَّد سليم توفيق في مُلَّا علي القاري!؟ هل سيعمد إلى تقديم شكوى بحقِّه في الأزهر يتَّهمه فيها بسبِّ الصَّحابة لأنَّه وصف مُعاوية بالبغي والظُّلم والطُّغيان وبهجرة الحديث والقُرآن!؟ ولأنَّ القاري أشار بأنَّ مَن أنكر كونَ مُعاوية باغيًا طاغيًا فإنَّه يكون مال بذلك إلى ما قال به النَّواصب عليهم مِن الله ما يستحقُّون!؟

أم هل سيتقدَّم المُتمشعر الجاهل المغرور مُحمَّد سليم توفيق إلى لجنة كبار العُلماء في الأزهر بطلب سحب كُتُب مُلَّا علي القاري ومُصنَّفاته الَّتي تملأ مكتباتِ مصرَ مِن قبلِ أنْ يُولد -وقد تلقَّاها أهل مصر بالرِّضى والحُبِّ والقَبول والتَّعظيم- لمُجرَّد أنَّ مُلَّا علي القاري قد نقل ما قرَّره جُمهور الأشاعرة بل وجُمهور أهل السُّنَّة والجماعة في مسألة عصمة الأنبياء!؟

نهاية المقال.

لماذَا سكت أهل الفتنة

عمَّن زعم أنَّ الأنبياء قد يُعذَّبون على ترك الأولى؟

الحمدلله الأحد الواحد بالذَّات والصِّفات العالِم بالكُلِّيَّات والجُزئيَّات حَمدًا يُوافي نعمه التَّامَّة وأشهد أنْ لا إله إلَّا الله وأشهد أنَّ سيِّدنا وحبيبنا ونبيَّنا مُحمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم عبده ورسوله الَّذي أرسله شاهدًا ومُبشِّرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا مُنيرًا المُكرَّم المُعظَّم باللِّواء المعقود فآدمُ ومَن سواه يومَ القيامة تحت لوائه داخلون.

وبعدُ فعندما نظرت يا يوسف ميناوي إلى فتنك الَّتي تعكس مدى تمكُّن الوسواس فيك حتَّى نخر عظامك فظننتَ أنَّ العلاج منه أنْ تُثبت لنفسك أنَّك على شيء وأنت في الحقيقة فارغ إمَّعة دخلت في مسائل ادَّعيت فيها التَّحقيق والاستدراك وداهنك بعض شياطين الإنس والجنِّ فزادوك رهقًا.

ثُمَّ فتحتَ باب الكلام في عصمة الأنبياء وجعلتَ شعارك قول بعض العُلماء ممَّا لا يُنكر ولكنَّك زدتَ عليه تضليل مَن قال بغيره وتجرَّأتَ وتماديتَ وتتطاولتَ على أهل المراتب العليَّة مِن عُلماء أهل السُّنَّة فادَّعيتَ إجماعًا لا وُجود له وأنكرتَ خلافًا مُعتبرًا ولم ترضَ بقول معصية صغيرة لا خسَّة فيها ولا دناءة نفس؛ حقيقيَّة لا مجازيَّة تاب منها واستغفر وذلك سيرًا على قول بعض العُلماء وقواعد تفسير ولُغة.

ثُمَّ سكتَّ عمَّن قال إنَّ الأنبياء يجوز أنْ يُعذَّبوا على ترك الأَولى والعياذ بالله! وهذا كَشَفَ زيغ قلبك وخُبث وسائلك وإلَّا فبماذا تُفسِّر سكوتك عنه إلَّا مُداهنة ومُحاباة لتُشبع نفسك غُرورًا وشُهرة مُزيَّفة، فأساس عملك الخراب والحقد وسواد القلب والنَّفس واتِّباع الشَّيطان الَّذي زيَّن لك سوء عملك.

أصلح مِن نفسك وارجع إلى الله تائبًا.

نهاية المقال.

عبدالنَّاصر حدَّارة يفضح جهله بأُصول أهل السُّنَّة

بيان أنَّ الأنبياء لا يُعذَّبون على ترك الأَولى – [2]

والرَّدُّ على مَن أنكر قول الجُمهور في العصمة

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

وبعدُ نشرنا في الجُزء الأوَّل قول الماتُريديِّ: <وقال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ولو لم يكن لله تعالى أنْ يُعذِّب على الصَّغائر أحدًا، لم يكن له على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ موضع الامتنان بما غفر له ما تقدَّم مِن ذنبه وما تأخَّر> وقوله: <وفي قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} دلالة أنَّ لله تعالى أنْ يُعذِّب على الصَّغائر> انتهى.

وبيَّنَّا أنَّه أراد المعصيةَ الحقيقيَّة؛ لأنَّ الله تعالى لا يُعذِّب على ترك الأولى ولا على مُجرَّد جواز ذلك في حقِّ الرَّسول عليه السَّلام. فمِن هُنا يُعلم أنَّ القول بمعصية حقيقيَّة لا خسَّة فيها في حقِّ الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام أُمر بالاستغفار منها فاستغفر؛ لا يَخرج عمَّا قاله أئمَّة أهل السُّنَّة بمَن فيهم الماتُريديُّ هُنا مع أنَّه يقول بالقول الثَّاني لأهل السُّنَّة في هذه المسألة.

ولم يكن للخصم أنْ يقترح أنَّ الماتُريديَّ أراد المعاصيَ المجازيَّة (تركَ الأولى)، لأنَّ الماتُريديَّ قال: <وفي قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} دلالة أنَّ لله تعالى أنْ يُعذِّب على الصَّغائر> انتهى ووجه الدَّليل أنَّ الامتنان هو على ترك التَّعذيب على الصَّغائر هُنا لا على مُجرَّد حفظه منها. فظهر بُطلان قول المدعو عبدالنَّاصر حدَّارة.

ونقلنا كلام المازريِّ ونصُّه: <وجنح المُجيزون لها [للصَّغائر] إلى أنْ وردت في الشَّرع أخبار تُشير إلى أنَّها قد وقعت مِن الأنبياء كقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}> انتهى واستشهاده على وقوع الصَّغائر بآية خطاب للنَّبيِّ عليه السَّلام دليل على أنَّ مِن العُلماء مَن قال بذنب في حقِّ الرَّسول. وطلبنا مِن المدعو حدَّارة التَّوقُّف عن التَّضليل بغير حقٍّ.

ولمَّا ألزمنا المدعو عبدالنَّاصر حدَّارة بأنَّ العُلماء بقولهم <الصَّغائر> أرادوا المعاصيَ الحقيقيَّة الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة؛ حاول الهرب فقال والعياذ بالله: (ترك الأَولى الَّذي هو خطأ في الاجتهاد قد يترتَّب عليه عقاب في حقِّ الأنبياء) انتهى بحروفه وهُو مُخالف لأُصول أهل السُّنَّة. ثُمَّ استدل برواية مُسلم في أسرى بدر فلم يكن مع الخاطئ سهم صائب!

فأمَّا ادِّعاؤه احتمال أنْ يكون ترك الأَولى ممَّا يلزم منه عذاب في حقِّ الأنبياء عليهم السَّلام ففِرية عظيمة وقع فيها؛ إذ الخلاف بيننا وبينه في تعيين مُراد ساداتنا العُلماء وهُم قد بيَّنوا أنَّهم لا يعتقدون المُؤاخذة عند الله سُبحانه وتعالى في ترك الأَولى لا في حقِّ نبيٍّ مِن الأنبياء ولا في حقِّ أُممهم. فكيف يحتمل عنده ما ردَّه أهل السُّنَّة بل وممَّا يُناقض أُصولهم!

وقال القاضي عياض في [الشِّفا]: <هَذَا حُكْمُ مَا تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ عَنْ قَصْدٍ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى مَعْصِيَةً، وَيَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ. وَأَمَّا مَا يَكُونُ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَتَعَمُّدٍ، كَالسَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فِي الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ مِمَّا تَقَرَّرَ الشَّرْعُ بِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ، وَتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ، فَأَحْوَالُ الْأَنْبِيَاءِ فِي تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، وَكَوْنِهِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ لَهُمْ مَعَ أُمَمِهِمْ سَوَاءٌ> ..إلخ

وهو واضح في أنَّ الأنبياء عليهم السَّلام لا يُؤاخذون فيما كان مِن نحو الخطإ والنِّسيان؛ وأنَّهم في ترك المُؤاخذة فيه شأنهم شأن أُممهم؛ لا الأنبياء يُؤاخذون ولا أُممهم تؤاخذ بمثل ذلك لأنَّهم لم يُخطئوا فيه مع قصد المُخالفة وهو حال المُجتهد الَّذي بذل جهده. فإنْ زعم الخصم أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام لم يبذل جهده في ذلك فقد أتى ببُهتان عظيم والعياذ بالله.

والقاضي عياض صاحب الكلمات الآنفة الذِّكر هو نفسه مَن نقل في وُجوه تفسير أهل السُّنَّة لقوله تعالى في مخاطبة نبيِّه المُصطفى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ومنها القول بأنَّ المُراد الصَّغيرة -شأنه في ذلك العشرات مِن العُلماء- والأنبياء عنده <مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالْكَبَائِرِ> فتعيَّن أنَّه أراد الصَّغيرة الحقيقيَّة.

أمَّا استدلال المدعو حدَّارة بالرِّواية الَّتي انفرد بها مُسلم في أسرى بدر فلم يكن له أنْ يحتجَّ بها لأنَّها مُشكلة كما قال أبو العبَّاس الأنصاريُّ القُرطبيُّ في [المُفهم] وقد عدَّد بعض الوُجوه الفاسدة المُناقضة لأُصول أهل السُّنَّة ومنها الوجه الفاسد الَّذي توهَّمه حدَّارة هداه الله. فليس مِن أهل السُّنَّة مَن توهَّم أنَّ النَّبيَّ دخل فيمَن توعَّدهُمُ الله بالعذاب، نسأل الله السَّلامة.

قال أبو العبَّاس أحمد بن عُمر الأنصاريُّ القُرطبيُّ دفين الإسكندريَّة 656ه في كتاب [المُفهم لِمَا أشكل مِن تلخيص صحيح مُسلم] [عن نُسخة نادرة بخطِّ الرَّحالة ابن بطُّوطة وتحقيق د. عبدالهادي التَّازي منشورات وزارة الأوقاف والشُّؤون الإسلاميَّة في المملكة المغربيَّة – الجُزء الأوَّل ص/280-281-282] ما نصُّه: <وعند هذا يُشكل ما جاء في آخِر هذا الحديث مِن عتب الله لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم> انتهى.

ثُمَّ ذكر وُجوهًا فبيَّن فسادها وكان ممَّا بيَّن فساده منها أنْ يُقال إنَّهم أقدموا على ما يجوز لهم شرعًا في ذلك وأنَّ النَّبيَّ وافقهم في ذلك ثُمَّ قال: <وكُلُّ ذلك عليهم مُحال بما قدَّمناه مِن وُجوب عصمة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الخطإ في الشَّريعة ومِن ظُهور الأُمور المُرجِّحة بما قدَّمناه> انتهى.

ثُمَّ ذكر الوجه الَّذي فيه إرادة الدُّنيا وردَّه فقال: <ولم يكن النَّبيُّ ولا أبو بكر ولا مَن نحا نحوهما ممَّن يُريد عَرَض الدُّنيا> انتهى وهكذا حتَّى نصَّ على الوجه المقبول فقال: <فالوعيد والتَّوبيخ مُتوجِّهانِ إلى غيرهم ممَّن أراد ذلك وهذا أحسنُها والله تعالى أعلم> انتهى كلامه. فأين فيه مثل الَّذي أراده حدَّارة ممَّا يُوهم دخول النَّبيِّ فيمَن توعَّده اللهُ بالعذاب والعياذ بالله!

ثُمَّ بيَّن سبب بُكاء النَّبيِّ فقال: <وبُكاء النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأبي بكر لم يكن لأنَّهما دخلَا فيمن تُوعِّد بالعذاب بل شفقة على غيرهما ممَّن تُوعِّد بذلك> ..إلخ قبل أنْ يختم المبحث بقوله: <وأمَّا قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} فليس بتوبيخ ولا ذمٍّ وإنَّما هو مِن باب التَّنبيه> انتهى كلام أحمد بن عُمر الأنصاريِّ القُرطبيِّ.

كُلَّ هذا النَّقل ليعلم حدَّارة أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يدخل فيمَن توعَّدهمُ اللهُ بالعذاب في خبر أسرى بدر. ولو كان يخاف اللهَ أو كان مِن أهل التَّحقيق بل لو وقف في أبواب أهل التَّحقيق لَمَا احتمل عنده أنْ يدخل رسولُ الله فيمَن توعَّدهم الله بالعذاب. وقد أدَّى الجهل بالمدعو عبدالنَّاصر حدَّارة إلى أنْ تزيد أخطاؤه كُلَّما زاد كلامُه في المسألة. فيا لفضيحته.

وحيث حقَّقنا أنَّ أهل السُّنَّة على أنَّ ترك الأَولى لا يُوجب العذاب في حقِّ الأنبياء تعيَّن أنَّ العُلماء القائلين بوُقوع الصَّغائر الَّتي ليست بترك أَولى إنَّما أرادوا المعاصيَ الحقيقيَّة بدلالة قولهم إنَّ تكرارها وكثرتها يُلحقها بالكبائر وبدلالة قولهم في احتمال التَّعرض للعذاب بسببها فبطل كلامُ مَن حرَّف قول الجُمهور وضلَّل العُلماء القائلين بالوقوع فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وكنَّا نصحنا المدعو عبدالنَّاصر حدَّارة بالكفِّ عمَّا هجم عليه مِن كلام بغير تحقيق مدفوعًا مِن أهل الفتنة الَّذين حرَصوا على استدامة الكلام في عصمة الأنبياء مع العامَّة لنحو سنتَين بقصد التَّشويش وبقصد تنفيرهم مِن أهل العلم باستعمال عاطفة بلا علم وتحقيق فأبى حدَّارة النُّصح؛ وأصرَّ على الاستجابة لنداء الفتنة؛ فوقعت عليه صواعق رُدود أهل السُّنَّة. فتأمَّل!

وانطبق على المدعو حدَّارة أنَّه مُتصولح على ما أخبر به الشَّيخ القرصيُّ الحنفيُّ بقوله: <وأمَّا صدور صغائر غير مُنفِّرة بعدَها فجوَّزه الجُمهور عمدًا وسهوًا> إلى قوله: <وزعم جمهور الشِّيعة والرَّوافض أنَّه لا يجوز عليهم ذنب أصلًا لا كبيرة ولا صغيرة لا عمدًا ولا سهوًا لا قبل النُّبوَّة ولا بعدها وهذا كما تَرى يُرى أنَّه تعظيم لهم ولذا اشتهر بين الجهَلة المُتصَولحة زعمًا منهم أنَّه هو التَّعظيم> انتهى.

ورحم الله امرءًا عرف حدَّه فوقف عنده.

نهاية المقال.

منقول من صفحة أهل السنة والرابط في المداخلة الأولى