الفخر الرازي وشبهة ما يُنسب له بالقول بقيام الحوادث بذات الله ونسبة ذلك إلى الأشعرية
يزعم بعض المجسمة أن الفخر الرازي يصرح بقيام الحوادث بذات الله عز و جل و استدلوا بما قاله في المطالب العالية :
” البحث الأول : أنه هل يعقل أن يكون – يعني الله – محلا للحوادث ؟ قالوا : إن هذا قول لم يقل به أحد إلا الكرَّامية . وأنا أقول:” إن هذا قول قال به أكثر أرباب المذاهب: أما الأشعرية, فإنهم يدَّعون الفرار من هذا القول ، إلا أنه لازم عليهم من وجوه: الأول : أنه تعالى كان قادرا على إيجاد الجسم المعين من الأزل إلى الأبد ؛ فإذا خلق الجسم المعين ، يمتنع أن يقال: إنه بقي قادرا على إيجاده؛ لأن إيجاد الموجود محال، والمحال لا قدرة عليه ، فتعلُّق قادريته بإيجاد ذلك الجسم قد زال وفني”. انتهى
والجواب على هذه الشبهة أن يقال:
أولا: هذا الكلام أورده الفخر الرازي تحت “الفصل الخامس عشر بعنوان: “في بيان أن يمتنع كونه تعالى محلاً لغيره”. وهذا هو الأصل الذي عليه المعتمد المبين لما يليه من الكلام و الذي ينبغي أن يفهم في ضوءه كلام الفخر الرازي.
ثانيا: لا يسلم بصحة نسبة هذا الكلام للرازي، ففي بعض النسخ تحريف واضح و من يراجع نسخة هامش هذا الكلام يجد أنه مكتوب تحته على الهامش قبل كلمة: (وأنا أقول) ما نصه : “في (و) أي النسخة الثانية واو : الكرامية: قال الداعي إلى الله : وأنا أقول … الخ” . انتهى
أي في بعض النسخ الكلام منسوب للرازي و في نسخ أخرى أن القائل ليس الامام الفخر ولكنه شخص آخر أسمه الداعي إلى الله.
ثالثا: على تقدير صحة الكلام المنسوب للفخر الرازي فجواب ذلك أن يقال:
بدأ الفخر الرازي بعد تقرير استحالة قيام الحوادث بذات الله بمناقشة مبحث: “هل العقل السليم يقبل القول بأن الله عز وجل محلا للحوادث” و ليس مراده تصحيح هذه العبارة كما ظن بعضهم. فبدأ بذكر حجج كل فريق مع نقد كل حجة في حيادية تامة وموضوعية علمية، فمن ها هنا نقل أقوال الأشعرية وحججهم وانتقد تلك الحجج بنقود الخصوم ليظهر ضعفها من قوتها فيؤخذ القوي ويطرح الضعيف، تماما كما انتقد أقوال مخالفيهم بأقوالهم ونقودهم ، فيظن من لا يعرف أسلوبه أنه ينقض مذهب أهل السنة ويخالفه.
والحقيقة التي يغفل عنها هؤلاء أن الإمام في كتابه “المطالب العالية” كان يسعى إلى السبر والبحث في الأقوال والمذاهب دون ترجيح لأي منها في كثير من الأحيان على ما تقتضيه الموضوعية العلمية. فكان يورد أبحاثاً وإيرادات واعتراضات لا يقول بموجبها ولا تمثل حقيقة مذهبه.
قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان : ” وقد صرح في مقدمة “نهاية العقول”، أنَّه مُقَرِّرٌ مذهبَ خصمه تقريرًا لو أراد خصمُه تقريرَهُ لم يقدر على الزيادة على ذلك”. انتهى
وهذا كله من باب تكثير البحث وإعمال الفكر وشحذ الهمم لترتقي من حضيض التقليد إلى سمو البحث والنظر ورد الشبه وتقرير المذهب الحق كما أشار إلى ذلك في وصيته . فقد نقل محمد صالح الزركان في كتابه ” فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية “صحيفة 642 عن الفخر أنه قال: “وأما الكتب التي صنفتها واستكثرت فيها من إيراد السؤالات فليذكرني من نظر فيها بصالح دعائه على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف القول السيئ فإني ما أردت إلا تكثير البحث وشحذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله تعالى”. انتهى
أما مذهبه في العقيدة كمتكلم أشعري سني فقد أبانه في عدة كتب كالأربعين والخمسين والمعالم والمحصل وغيرها…
فمن ذلك ما قاله في المحصل: “لا يجوز قيام الحوادث بذات الله تعالى خلافا للكرامية”. انتهى
وقال في كتابه الأربعين: “المسألة السابعة في أنه يستحيل قيام الحوادث بذات الله تعالى خلافا للكرامية”. انتهى
وقال في تفسيره 13/46 عند قوله تعالى: “لا أحب الآفلين ” – سورة الأنعام 76 – طبعة دار الكتب العلمية ما نصه: ” هذه الآية تدل على أنه تعالى ليس محلا للصفات المحدثة كما تقوله الكرامية، وإلا لكان متغيرا، وحينئذ يحصل معنى الأفول وذلك محال” . انتهى
وقال رحمه الله في كتابه اعتقادات فرق المسلمين والمشركين صحيفة 101 – طبعة الكليات الأزهرية – متكلما عن فرقة الكرامية الكفرة ما نصه: ” وفي الجملة فهم كلهم يعتقدون أن الله تعالى جسم وجوهر ومحل للحوادث”. انتهى
وقال رحمه الله في أساس التقديس ما نصه: ” ثبت في علم الأصول : أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب فإنه لا ينفك عن الحدث ، وما لا ينفك عن الحدث فهو محدث ، فيلزم أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب وجب أن يكون محدثا مخلوقا، والإله القديم يستحيل أن يكون كذلك” انتهـى
و أما قوله:” أما الأشعرية, فإنهم يدَّعون الفرار من هذا القول ، إلا أنه لازم عليهم من وجوه”. انتهى
أي في الظاهر هو لازم عليهم أما في الحقيقة فليس بلازم عليهم و لا هم يلتزمونه. والفخر الرازي هنا يتكلم عن مسألة تعلق الصفات، ومن درس علم أصول الدين على طريقة متكلمي الأشاعرة يعلم يقينا أنهم يقولون في مسألة التعلق بتغير الإضافات فقط و التي هي عندهم أمور اعتبارية انتزاعية لا توصف بالحدوث ونسبتها لله عز وجل لا توجب تغيرا في ذاته و لا في صفاته. فإطلاق الرازي عليها اسم حوادث فيه مجاوزة لأن القول بالنسب و الإضافات في الأصل ينسب إليه كما أشار لذلك الإمام المقري في منظومته المسماة المنظومة المقرية:
واختلف الأشياخ في التعلق فقيل: نفسي لدى التحقق
أي طلب الصفات زائدا على قيامها بذات موصوف علا
إلى أن قال:
وقيل: نسبة و للفخر انتمى ذا القول و السعد ارتضاه فسما
فالحاصل أن الفخر الرازي يريد بكلامه ذلك وقوع التغيير في الإضافات المعبر عنها بمتعلَقات الصفات عند الأشاعرة لا تغيير الصفات القائمة بذات الله تعالى بدليل قوله في المطالب العالية جزء 2 صحيفة 108: ” أما القول بحدوث الصفات الإضافية فذاك أمر يجب الاعتراف به ولا يمكن إنكاره البتة”. انتهى
وبدليل أنه ألزم الكرّامية وحدهم من دون سائر الفرق بالقول بالتغيّر في ذات الله فقال في كتاب “الأربعين في أصول الدين ” جزء 1 صحيفة 170: “إذا عرفت هذا، فنقول: أما وقوع التغير في الإضافات، فلا خلاص عنه، وأما وقوع التغير في الصفات الحقيقية، فالكرامية يثبتونه، وسائر الطوائف ينكرونه. فظهر الفرق في هذا الباب بين مذهب الكرامية و غيرهم “. انتهى و نقله أيضا ابن تيمية في درء التعارض
و أما قوله: “الأول : أنه تعالى كان قادرا على إيجاد الجسم المعين من الأزل إلى الأبد ؛ فإذا خلق الجسم المعين ، يمتنع أن يقال: إنه بقي قادرا على إيجاده؛ لأن إيجاد الموجود محال، والمحال لا قدرة عليه ، فتعلُّق قادريته بإيجاد ذلك الجسم قد زال وفني”. انتهى
فجوابه أن يقال أن حدوث التغيّر في متعلَّقات الصفات عند الأشاعرة لا يستوجب حدوث التغيّر في ذات الله عز وجل. فوظيفة القدرة هي التأثير في الممكنات العقلية إيجادا و إعداما. و نسبتة القدرة للممكنات الموجودة كنسبتها للممكنات المعدومة على السوية. فترجيح وجود الممكن على عدمه أو ترجيح عدمه على وجوده هو بتأثير القدرة. وهو تأثير واجب لهذه الصفة في الأزل و فيما لا يزال ولا يتغير باختلاف الممكنات لأن تغيرها عدما أو وجودا لا يوجب تغيرا في الصفة.
رابعا: بالنسبة للنسخ التي فيها نسبة الكلام للإمام الرازي، فإن علماء الأشاعرة لم يقبلوا ذلك الكلام منه – على تقدير صحة نسبته إليه- فقد
قال صفي الدين الهندي في الرسالة التسعينية: “وما قال الإمام في هذا المقام أن أكثر العقلاء قالوا به وإن أنكروه باللسان وبينه بصور، فليس كذلك، لأن أكثر ما ذكر من تلك الأمور فإنما هي أمور متجددة لا مستحدثة، والمتجدد أعم من الحادث، ولا يلزم من وجود العام وجود الخاص، بل الخلاف فيه مع المجوس والكرامية”. انتهى
وقال التفتازاني في شرح المقاصد بعد أن حرر محل النزاع : “وبهذا يندفع ما ذكره الإمام الرازي من أن القول بكون الواجب محلاً للحوادث لازم على جميع الفرق وإن كانوا يتبرؤون منه……
ثم قال: وهم لا يقولون بوجود كل إضافة حتى يلزم اتصافه بموجودات حادثة على ما هو المتنازع، وهذه الشبهة هي العمدة في تمسك المجوزين فلا تكون واردة في محل النزاع”. انتهى
وقال ابن تيمية في درء التعارض: “وقد عارض بعضهم الرازي فيما ذكره من أن هذه المسألة تلزم عامة الطوائف فقال: المراد بالحادث: الموجود الذي وجد بعد العدم ذاتا كان أو صفة أما ما لا يوصف بالوجود – كالأعدام المتجددة والأحوال عند من يقول بها والإضافات عند من لا يقول: إنها وجودية – فلا يصدق عليها اسم الحادث وإن صدق عليها اسم المتجدد فلا يلزم من تجدد الإضافات والأحوال في ذات الباري أن تكون محلا للحوادث”. انتهى
رابط ذو علاقة:
نقض دعوى أن ابن حجر نسب للرازي أنه قال عن الله تعالى أنه متكلم بكلام يقوم بذاته وبمشيئته.
