التناقضات الوهابية والبدع السلفية – p8

عنوان مقترح للسرد:

رؤوس تتناطح: حكاية المجاز والمعجزة والتناقض في العقل السلفي المعاصر


كان يا ما كان، في ساحة الفكر الإسلامي الحديث، طائفةٌ ظهرت ترفع لواء التوحيد وتلوّح بسيف السنة، تدّعي نصرة النبي ﷺ لكنها غالبًا ما تنقض غزلها بأيديها. إنها الفرقة التي عُرفت في كتب الناس بـ”الوهابية” أو “السلفية المعاصرة”.

في ركن من أركان هذا الفكر، وقف الإمام ابن تيمية، معلنًا رفضه القاطع للمجاز في القرآن. قالها مرة، ثم تراجع عنها تلميحًا، ثم أرسلها في رياح التفسير، فاضطرب تلامذته من بعده. قال بعضهم: أنكر المجاز سدًّا للذريعة لا إنكارًا حقيقيًا. وقال آخرون: بل تردّد. وقال قوم ثالث: لم يُنكر أصلًا، وإنما أراد محاربة التأويل الفاسد. وهكذا تهاوى الصرح الأول.

ثم تجد العجب العجاب. قومٌ من هذه الطائفة اليوم، ينكرون معجزات وقعت للنبي ﷺ قبل البعثة، فيجعلون حادثة شق الصدر، وظلال الغمام، وتسليم الحجارة، كلها من الخرافات، بحجة أنها تخالف قواعد العقل. وقد دوّن ذلك محمد مصطفى المجذوب في كتابه أصح البشائر في مبعث سيد الأوائل والأواخر بإشراف الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، واستشهد برأي علي الطنطاوي، الذي كان يرى أن النبي ﷺ لا يعلم شيئًا قبل البعثة.

وفي دهاليز فتاوى “اللجنة الدائمة”، تجد القرارات تتراقص. فتوى تُجيز شرب الماء الذي كُتبت فيه آية، استنادًا لابن تيمية وابن القيم (رقم ٥١٥)، وأخرى (رقم ١٧٢٧) تنفي سماع الموتى، مع استثناءات غريبة كالنعال، والقليب، وردّ السلام. وبينما يُثبت ابن تيمية سماع الموتى ويقول: الآية لا تنفي السماع المطلق بل سماع القبول؛ تجد الألباني ينفيه، ويشكّك ابن القيم حتى في “روح الموتى”!

ثم تأتي قضية التوسل، لتكشف انشطار العقل الوهابي: اللجنة في فتوى رقم ١٧١١ تقول: “نهينا عن التوسل سدا للذريعة لا لأنه شرك”، والألباني يقول في موسوعته (٣/٩١٠ رقم ٣١٣): التبرك نُهي عنه للذرائع، لا لكونه شركًا. ثم ترى اللجنة نفسها في رقم ٦٩٤٩ تقول: “التوسل من باب العقيدة!”، ليردّ الألباني ويقول: “لا علاقة للتوسل بالتوحيد” (١/٢٠٠ رقم ١١)!

ومما يثير الضحك المبكي، أن الألباني يجيز في إحدى فتاويه (٣/٩٢٥ رقم ٣٢٤) تقبيل اليد، ثم يعود وينفيه في أخرى (٣/٩١٠ رقم ٣١٣). وتراه يحتار، فيرفع يديه في السجود، ثم يُضعف الحديث، فيوافقه بعضهم ويخالفه آخرون. حتى تحريك الإصبع في التشهد، يجعله بعضهم شاذًا، رغم أن اللجنة والألباني أثبتوه!

أما الفقيه ابن عثيمين، فأنكر حديث “لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة”، وكذلك ابن باز، ثم ردّ عليهم الألباني في “صحيحته” (٢٧٨٦)، وكأنه يصرخ في وجوههم: “أنتم تردّون أحاديث النبي!”

ولم تنتهِ القصة بعد، بل اتخذ بعض رؤوس الوهابية موقفًا من جماعة التبليغ، وتناقضوا بشأن الشيخ أحمد الغماري، فمنهم من اعترف بعلمه، ثم نفى فضله بسبب السبحة، مع أن اللجنة ذاتها أجازت استعمال السبحة (٢٤/٢٠٦ رقم ٤٣٠٠)!

وأما قمة الغرابة، فهي في فتاوى ابن تيمية الذي قال في موضع (ج١٤ ص٤٧٨): “إذا أمر الولد والده المشرك ونهى، كان هذا إحسانًا له”، ثم في موضع آخر (ج٢٢ ص٢٣٦) أفتى بقتل من جهر بالنية في الصلاة إن أصر! بل قال: “من أصر على الجهر يُقتل!”، وهذا منبع فكر الهدم والقتل والسفك، الذي تبناه من بعده من جدّد مذهبه: محمد بن عبد الوهاب، ثم داعش، والقاعدة، والسروريون، وكل من استند إلى “الدرر السنية”.

هكذا تتوالى التناقضات، ويظل صراخ النصوص يعلو على همس العقل. كل فتوى تنقض أختها، وكل إمام يردّ على زميله، حتى اختلطت البدعة بالسنة، والوسيلة بالحقيقة، وذابت العقيدة في مزيج من الحشو والذريعة.

فقلتُ، كما قال صاحب الحكاية:

“إنا لله وإنا إليه راجعون… نسأل الله أن يهدينا لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا حسن الخاتمة، ويجيرنا من فتنة من يجعلون أنفسهم ميزان الحق وهم أحوج الخلق إلى الميزان.”