قال أبو الثناء محمود بن زيد اللامشي الحنفي الماتريدي (1) في كتاب التمهيد لقواعد التوحيد ما نصه (وإذا ثبت أنه تعالى ليس بجوهر فلا يُتصور أن يكون جسمًا أيضا لأن الجسم اسم للمتركِّب عن الأجزاء، يقال هذا أجسمُ من ذلك أي أكثر تركُّبًا منه، وتركب الجسم بدون الجوهرية وهي الأجزاء التي لا تتجزأ لا تتصور، ولأن الجسم لا يُتصور إلا على شكل من الأشكال، ووجوده على جميع الأشكال لا يُتصور أن يكون إذ الفرد لا يُتصور أن يكون مطوَّلا ومدورًا ومثلثًا ومربعًا، ووجوده على واحد من هذه الأشكال مع مساواة غيره إياه في صفات المدح والذم لا يكون إلا بتخصيص مخصص، وذلك من أمارات الحدث، ولأنه لو كان جسمًا لوقعت المشابهة والمماثلة بينه وبين سائر الأجسام في الجسمية، وقد قال الله تعالى (لَيسَ كَمِثلِهِ شىء) سورة الشورى 11.
*** انشر صورة الدّليل ***

(1) أبو الثناء محمود زيد اللمشي الحنفي الماتريدي عالم من وراء النهر، عاش في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس الهجري.
قال الله تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان 7].
في كتابه إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، اﻹمام محمد مرتضى الزبيدي يشرح اﻵية ويقول المراد بقوله تعالى (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) إنما يريد به وقت قيام الساعة وما هو غيب عنا.
قَالَ الْمُحَدِّثُ اللُّغَوِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ مُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ فِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى إِتْحَافُ السَّادَةِ الْمُتَّقِينَ نَقْلًا عَنْ كِتَابِ التَّذْكِرَةِ الشَّرْقِيَّةِ لِأَبِي نَصْرٍ الْقُشَيْرِيِّ مَا نَصُّهُ (وَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان 7] إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا وَمَتَى وُقُوعُهَا، فَالْمُتَشَابِهُ إِشَارَةٌ إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ، فَلَيْسَ يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا قَالَ ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف 53] أَيْ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا قِيَامَ السَّاعَةِ، وَكَيْفَ يَسُوغُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لا سَبِيلَ لِمَخْلُوقٍ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَلا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقَدْحِ فِي النُّبُوَّاتِ؟ وَأَنَّ النَّبِيَّ مَا عَرَفَ تَأْوِيلَ مَا وَرَدَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَعَا الْخَلْقَ إِلَى عِلْمِ مَا لا يُعْلَمُ؟ أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ [سُورَةَ الشُّعَرَاء 195] فَإِذًا عَلَى زَعْمِهِمْ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا كَذَبَ حَيْثُ قَالَ ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، وَإِلَّا فَأَيْنَ هَذَا الْبَيَانُ وَإِذَا كَانَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَكَيْفَ يَدَّعِي أَنَّهُ مِمَّا لا تَعْلَمُهُ الْعَرَبُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الشَّىْءُ عَرَبِيًّا، فَمَا قَوْلٌ فِي مَقَالٍ مَآلُهُ إِلَى تَكْذِيبِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ.
ثُمَّ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَوْ كَانَ فِي كَلامِهِ وَفِيمَا يُلْقِيهِ إِلَى أُمَّتِهِ شَىْءٌ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَكَانَ لِلْقَوْمِ أَنْ يَقُولُوا بَيِّنْ لَنَا أَوَّلًا مَنْ تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَمَا الَّذِي تَقُولُ فَإِنَّ الإِيـمَانَ بِمَا لا يُعْلَمُ أَصْلُهُ غَيْرُ مُتَأَتٍّ (أَيْ لا يُمْكِنُ) هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَرَبَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ كَانُوا قَالُوا لَهُ هَذَا لا يُمْكِنُ. وَنِسْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّهُ دَعَا إِلَى رَبٍّ مَوْصُوفٍ بِصِفَاتٍ لا تُعْقَلُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لا يَتَخَيَّلُهُ مُسْلِمٌ، فَإِنَّ الْجَهْلَ بِالصِّفَاتِ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهْلِ بِالْمَوْصُوفِ. وَالْغَرَضُ أَنْ يَسْتَبِينَ مَنْ مَعَهُ مُسْكَةٌ مِنَ الْعَقْلِ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ (اسْتِوَاؤُهُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا، وَالْيَدُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا، وَالْقَدَمُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا) تَمْوِيهٌ ضِمْنَهُ تَكْيِيفٌ وَتَشْبِيهٌ وَدُعَاءٌ إِلَى الْجَهْلِ وَقَدْ وَضَحَ الْحَقُّ لِذِي عَيْنَيْنِ. وَلَيْتَ شِعْرِي هَذَا الَّذِي يُنْكِرُ التَّأْوِيلَ يَطَّرِدُ هَذَا الإِنْكَارَ فِي كُلِّ شَىْءٍ وَفِي كُلِّ ءَايَةٍ أَمْ يَقْنَعُ بِتَرْكِ التَّأْوِيلِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ التَّأْوِيلِ أَصْلًا فَقَدْ أَبْطَلَ الشَّرِيعَةَ وَالْعُلُومَ إِذْ مَا مِنْ ءَايَةٍ (مِنَ الآيَاتِ الَّتِي اخْتُلِفَ فِيهَا مِنْ حَيْثُ التَّأْوِيلُ وَتَرْكُهُ) وَخَبَرٍ إِلَّا وَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَتَصَرُّفٍ فِي الْكَلامِ (إِلَّا الْمُحْكَمُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد 3] مِمَّا وَرَدَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ، وَقَوْلِهِ ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة 3] الآيَةَ مِمَّا وَرَدَ فِي الأَحْكَامِ)، لِأَنَّ ثَمَّ أَشْيَاءَ لا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهَا لا خِلافَ بَيْنَ الْعُقَلاءِ فِيهِ إِلَّا الْمُلْحِدَةَ الَّذِينَ قَصْدُهُمُ التَّعْطِيلُ لِلشَّرَائِعِ.
وَالِاعْتِقَادُ لِهَذَا يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالشَّرْعِ بِزَعْمِهِ، وَإِنْ قَالَ يَجُوزُ التَّأْوِيلُ عَلَى الْجُمْلَةِ (أَيْ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ) إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ وَبِصِفَاتِهِ فَلا تَأْوِيلَ فِيهِ، فَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّانِعِ (أَيِ الْخَالِقِ) وَصِفَاتِهِ يَجِبُ التَّقَاصِي عَنْهُ (أَيِ الْبُعْدُ عَنْهُ) وَهَذَا لا يَرْضَى بِهِ مُسْلِمٌ، وَسِرُّ الأَمْرِ أَنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنِ التَّأْوِيلِ مُعْتَقِدُونَ حَقِيقَةَ التَّشْبِيهِ غَيْرَ أَنَّهُمْ يُدَلِّسُونَ وَيَقُولُونَ لَهُ يَدٌ لا كَالأَيْدِي وَقَدَمٌ لا كَالأَقْدَامِ وَاسْتِوَاءٌ بِالذَّاتِ لا كَمَا نَعْقِلُ فِيمَا بَيْنَنَا، فَلْيَقُلِ الْمُحَقِّقُ هَذَا كَلامٌ لا بُدَّ مِنَ اسْتِبْيَانٍ، قَوْلُكُمْ نُجْرِي الأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ وَلا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ تَنَاقُضٌ، إِنْ أَجْرَيْتَ عَلَى الظَّاهِرِ فَظَاهِرُ السِّيَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ﴾ [سُورَةَ الْقَلَم 42] هُوَ الْعُضْوُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَالْمُخِّ، فَإِنْ أَخَذْتَ بِهَذَا الظَّاهِرِ وَالْتَزَمْتَ بِالإِقْرَارِ بِهَذِهِ الأَعْضَاءِ فَهُوَ الْكُفْرُ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْكَ الأَخْذُ بِهَا (أَيْ إِنْ كُنْتَ لا تَقُولُ ذَلِكَ) فَأَيْنَ الأَخْذُ بِالظَّاهِرِ، أَلَسْتَ قَدْ تَرَكْتَ الظَّاهِرَ وَعَلِمْتَ تَقَدُّسَ الرَّبِّ تَعَالَى عَمَّا يُوهِمُ الظَّاهِرُ فَكَيْفَ يَكُونُ أَخْذًا بِالظَّاهِرِ، وَإِنْ قَالَ الْخَصْمُ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ لا مَعْنَى لَهَا أَصْلًا فَهُوَ حُكْمٌ بِأَنَّهَا مُلْغَاةٌ، وَمَا كَانَ فِي إِبْلاغِهَا إِلَيْنَا فَائِدَةٌ وَهِيَ هَدَرٌ وَهَذَا مُحَالٌ، وَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَا شِئْتَ مِنَ التَّجَوُّزِ وَالتَّوَسُّعِ فِي الْخِطَابِ، وَكَانُوا يَعْرِفُونَ مَوَارِدَ الْكَلامِ وَيَفْهَمُونَ الْمَقَاصِدَ، فَمَنْ تَجَافَى عَنِ التَّأْوِيلِ فَذَلِكَ لِقِلَّةِ فَهْمِهِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَمَنْ أَحَاطَ بِطُرُقٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ هَانَ عَلَيْهِ مَدْرَكُ الْحَقَائِقِ.
وَقَدْ قِيلَ ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَيْضًا يَعْلَمُونَهُ وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ، فَإِنَّ الإِيـمَانَ بِالشَّىْءِ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْعِلْمِ، أَمَّا مَا لا يُعْلَمُ فَالإِيـمَانُ بِهِ غَيْرُ مُتَأَتٍّ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ) انْتَهَى كَلامُ الْحَافِظِ الزَّبِيدِيِّ مِمَّا نَقَلَهُ عَنْ أَبِي النَّصْرِ الْقُشَيْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
*** انشر صورة الدّليل ***

