بيان أنَّ الأولياء مِن أبعد النَّاس عن الخذلان

بيان أنَّ الأولياء مِن أبعد النَّاس عن الخذلان

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فقد مَنَّ الله تعالَى على أوليائه بالفضل العظيم وعصمَهُم مِن الموت على الكُفر والفُسوق وجعلَهُم مِن أبعد النَّاس عن الخذلان بدلالة قوله تعالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} صدق الله العظيم.

2

ومع كونهم مِن أبعدَ النَّاس عن الخذلان إلَّا أنَّ الله تعالَى لم يعصمهُم مِن الكبائر؛ فالوليُّ قد يرتكب كبيرة ثُمَّ لا بُدَّ أنْ يتوب؛ فلا يموت الوليُّ إلَّا خالصًا مِن الكبائر لا عذاب عليه ولا خَطَر كما نصَّتِ الآية الكريمة.

3

وقد زعم الجَهَلَة المُتصولحة أنَّ الإنسان بمُجرَّد وُقوعه في ذنب كبير أو صغير فإنَّه يصير بذلك عندَهُم مِن أهل الخذلان! وهذا كلام باطل لأنَّ لازمه أنْ يكون أولياء الله تعالَى مِن المخذولين وهذا مُستحيل شرعًا.

4

أمَّا المخذول فهُو مَن استجرَّ على نفسه بمعصيته سوءَ العاقبة؛ وليس هذا حال مَن لو عصَى تاب فإنَّ التَّائب مِن الذَّنب كمَن لا ذنب له فلا يكون مخذولًا لأنَّه وقَى نفسه بالتَّوبة مِن استجرار سُوء العاقبة على نفسه.

5

قال أبو منصور في [أُصول الدِّين] فيمَن قاتل عليًّا في الجَمَل مِن أهل بيعة الرِّضوان: <وقد أخبر الله بأنَّه رضي عنهُم، ورضاء الله تعالَى إنَّما يكون على العاقبة دون الحال، فصحَّ بهذا أنَّ عاقبة هؤُلاء كُلِّهم الجنَّة> إلخ..

6

وهذا يدُلُّ أنَّ العبرة في الرِّضَا والسُّخط أو في السَّعادة والشَّقاء أو في الخذلان والتَّوفيق هُو في المآل والعاقبة، فمَن آلَ إلى خير وكانت عاقبتُه عاقبة المُحسنين فإنَّه يكون مِن أبعد النَّاس عن السُّخط والشَّقاء والخذلان.

7

ولأجل ذلك أيضًا قال ابن رسلان في [زُبده]:

– لم يزلِ الصِّدِّيقُ فيما قد مضَى * عندَ إلهِهِ بحالةِ الرِّضَا

– إنَّ الشَّقيَّ لَشقيُّ الأَزَلِ * وعكسُهُ السَّعيدُ لم يُبَدَّلِ

8

وقال الرَّمليُّ في [غاية البيان شرح زبد ابن رسلان]: <(إنَّ الشَّقيَّ لَشقيُّ الأَزَلِ * وعكسُهُ السَّعيدُ لم يُبَدَّلِ) أي أنَّ الشَّقيَّ مَن كتبه الله شقيًّا في الأزل لا في غيره والسَّعيد مَن كتبه الله سعيدًا في الأزل لا في غيره> انتهَى.

9

وكُلُّ ما تقدَّم مبنيٌّ على ما جاء في الحديث النَّبويِّ الشَّريف؛ فقد روَى التِّرمذيُّ في [سُننه] أنَّ رسول الله -صلوات الله عليه وسلامُه- قال: <فرغ ربُّك مِن العباد؛ فريق في الجنَّة وفريق في السَّعير> انتهَى.

10

فلمَّا كان الذَّنب الكبير لا يجعل الأولياء مخذولين لأنَّهُم يتوبون؛ كان مِن باب الأَوْلَى أنَّ ذنبًا صغيرًا لا خسَّة فيه لا يجعل الأنبياء عليهمُ السَّلام مخذولين لأنَّهُم يتوبون فورًا فلا يكون عليهم وَبَالًا في عاقبة الأمر.

11

فلمَّا علمنا أنَّه سبق في علم الله تعالَى أنَّ الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامُه يموتون مُبرَّئين مِن كُلِّ إثم وذنب ومعصية فقد تحقَّق عندنا أنَّهُم ليسوا بمخذولين وأنَّ الله تعالَى لا يترُك نُصرتهُم ورحمتهُم يوم القيامة.

Aug 09, 2022 12:51:53am