بيان أنَّ المُشبِّهة شانوا مذهب الحنابلة
وأنَّ الَّذين تركوا تكفير المُجسِّم شانوا مذهب الأشاعرة
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
1
وبعدُ فقد قال الإمام أحمد بن حنبل: <مَن قال: اللهُ جسمٌ لا كالأجسامِ: كَفَرَ> انتهَى ذكره بدر الدِّين الزَّركشيُّ في [تشنيف المسامع] فلا شكَّ عند أحد مِن عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في براءة الإمام أحمد رضي الله عنه مِن المُجسِّمة والمُشبِّهة جميعهم ولو انتسب بعضُهُم إلى مذهبه.
2
وقال ابن الجوزيِّ الحنبليُّ في [دفع شُبَه التَّشبيه]: <ورأيت مِن أصحابنا مَن تكلَّم في الأُصول بما لا يصلُح فصنَّفوا كُتُبًا شانوا بها المذهب وأثبتوا لله وجهًا زائدًا على الذَّات وعينَين وفمًا ولهوات وأضراسًا وأضواء ويدين وأصابع وكفًّا وإبهامًا وصدرًا وفخذًا وساقين ورِجلين> انتهَى مُختصَرًا.
3
وقد أجمع أهل السُّنَّة والجماعة على كُفر مَن نسب إلى الله الجسم عالمًا أنَّه يعني المُركَّب المُؤلَّف؛ لأنَّ مَن فهم المعنَى ونسبه إلى الله فقد قال بتبعيض ذات الله سُبحانه! فالإجماع مُنعقد على كُفره. قال ابن الجوزيِّ في [دفع شُبه التشبيه]: <ومَن ذكر تبعيض الذَّات كفر بالإجماع> انتهَى.
4
والسَّادة الأشاعرة لم يشُذُّوا عن أهل السُّنَّة والجماعة ولم يخرُجوا عن الإجماع المُنعقد على تكفير المُجسِّمة المُشبِّهة؛ وهذا الَّذي عليه نصُّ الإمام الأشعريِّ إمام الأئمَّة رحمه الله ورضي عنه كما في كتابه [النَّوادر] حيث قال: <مَن اعتقد أنَّ الله جسم فهُو غير عارف بربِّه وإنَّه كافر به> انتهَى.
5
ثُمَّ جاء قوم انتسبوا إلى مذهب الأشعريِّ لكنَّهُم خالفوا نصَّه وزعموا أنَّ في تكفير المُجسِّمة خلافًا مُعتبَرًا وهذا افتراء منهُم على المذهب وإنَّما الخلاف في تكفير العامِّيِّ الَّذي يخفَى عليه مدلول الألفاظ إذا نسب الجسم إلى الله تعالَى وهُو لجهله يظُنُّ أنَّ الجسم معناه الوُجود أو القيام بالنَّفس.
6
فهؤُلاء “المُتمشعرة” شانوا مذهب الأشاعرة لأنَّهُم تركوا تكفير مَن نسب إلى الله الجسم مع العلم بمعناه فصاروا يقولون بإيمان مَن نسب إلى الله تعالَى الفم واللَّهوات والأضراس! وصاروا يقولون بإسلام مَن نسب إلى الله تعالَى الكفَّ والإبهام والصَّدر والفخذ والسَّاقين والرِّجلين! والعياذ بالله..
7
وقد جاء في [العقيدة] الَّتي ذكر مُصنِّفُها أبو جعفر الطَّحاويُّ -وهُو عالم ثقة- أنَّها بيان عقيدة أبي حنيفة وصاحبيه: <ومَن وصف الله بمعنًى مِن معاني البشَر فقد كفر، مَن أبصر هذا اعتبر وعن مثل قول الكُفَّار انزجر> انتهَى وهذه العقيدة الحقَّة أجمع أهل السُّنَّة والجماعة على قَبولها.
8
أمَّا “المُتمشعرة” فلم يقبلوا بما أجمعتِ الأُمَّة على قبوله فخالفوا إجماع المُسلمين وصاروا يقولون: “إنَّ مَن زعم أنَّ الله محمول أو محدود أو حادث مخلوق لا يكون كافرًا”! والعياذ بالله مِن هذا الكُفر القبيح الَّذي يبدأ بتكذيب كتاب الله ولا ينتهي بتكذيب رسول الله صلوات الله عليه وسلامُه.
9
وعمد أُولئك “المُتمشعرة” إلى تخريج ضلالهم وزيغهم بدعاوَى الاجتهاد وترك التَّقليد في الأُصول غافلين أنَّ الاجتهاد في العقيدة أمر خطير وأنَّه إنْ أدَّى إلى نقض أصل الدِّين فإنَّه يكون اجتهادًا في الكُفر لأنَّ نقض أصل الدِّين تكذيب للشَّرع.. وتكذيب الشَّرع: كُفر بلا خلاف بين المُسلمين!
10
وقد ورد في الحديث القُدسيِّ: <وأمَّا شتمُهُ إيَّايَ فقولُهُ اتَّخذَ اللهُ ولدًا> انتهَى لأنَّه نسب الابن إلى الله تعالَى كان بذلك شاتمًا لله؛ فكذلك مَن نسب الجسم إلى الله تعالَى فقد نسب إليه ما لا يليق به سُبحانه فهُو في حُكم شاتم الله والعياذ بالله، ولا خلاف بين المُسلمين في كُفر مَن شتم الله تعالَى.
11
ولم يُفرِّق الأشاعرة بين عبادة الأجسام وبين عبادة الأصنام فقال الغزاليُّ في [الاقتصاد]: <فإنَّ القائلَ بأنَّ اللهَ سُبحانَه جسمٌ؛ وعابدَ الوثن والشَّمس: واحد> انتهَى وقال المُفسِّر القُرطبيُّ في [التَّذكار]: <والصَّحيح القول بتكفيرهم إذ لا فرق بينهُم وبين عُبَّاد الأصنام والصُّور> انتهَى.
12
وقال القاضي أبو مُحمَّد عبد الوهَّاب البغداديُّ أحد أعلام المالكيَّة في زمانه ت/422 للهجرة في [شرح عقيدة مالك الصَّغير]: <ولأنَّ ذلك يرجع إلى التَّنقُّل والتَّحوُّل وإشغال الحيِّز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤُول إلى التَّجسيم وإلى قِدَم الأجسام وهذا كُفر عند كافَّة أهل الإسلام> انتهَى.
13
والقاضي عبدالوهَّاب مِن شُيوخ الحافظ الخطيب البغداديِّ وهُو أعلم مِن أُولئك “المُتمشعرة” بما أجمع عليه أئمَّة أهل السُّنَّة والجماعة في هذه المسألة فانظُر إلى قوله: (وهذا كُفر عند كافَّة أهل الإسلام) لتعلم أنَّ تكفير المُجسِّمة ليس مسألة خلافيَّة كما يدَّعي “المُتمشعرة” الجَهَلَة المُتصولحة.
14
وقال أبو منصور البغداديُّ في [تفسير الأسماء والصِّفات]: <فأمَّا أصحابُنا فإنَّهم وإنْ أجمعوا على تكفير المُعتزلة والغُلاة مِن الخوارج والنَّجاريَّة والجهميَّة والمُشبِّهة فقد أجازوا لعامَّة المُسلمين معاملتَهُم في عُقود البياعات والإجارات والرُّهون وسائر المُعاوضات دون الأنكحة> انتهَى.
15
قولُه: (أصحابنا) يعني الأشاعرة. قولُه: (أجمعوا) أفاد أنَّ الأشاعرة غير مُختلِفين في تكفير المُعتزلة والمُجسِّمة كما تُوهِمُ عبارات نجدُها في بعض كُتُب المُتأخِّرين. وأبو منصور البغداديُّ مِن أئمَّة المُتكلِّمين وأعيان فُقهاء الشَّافعيَّة وهُو مِن أكابر أشعريَّة زمانه فلن يخفَى عليه المذهب.
16
فالأشاعرة مُجمعون على كُفر المُجسِّمة، وغير صحيح أنَّهُم يُفسِّقون المُجَسِّم ولا يُكفِّرونه، فقد قال بدر الدِّين الزَّركشيُّ في [تشنيف المسامع]: <ونُقِلَ عن الأشعريَّة أنَّه يَفْسُقُ وهذا النَّقل عن الأشعريَّة ليس بصحيح> انتهَى ومعناه أنَّ الصَّحيح أنَّ الأشاعرة يُكفِّرون مَن وصف الله بالجسم.
17
وقال تقيُّ الدِّين الحصنيُّ في [كفاية الأخيار] في تكفير المُجسِّمة: <وهُو الصَّواب الَّذي لا محيد عنه إذ فيه مُخالفة صريح القُرآن> انتهَى فلمَّا قال (لا محيد عن تكفيرهم) علمنا أنَّ المسألة ليست خلافيَّة؛ إذ لا يختلف مُسلمانِ في أنَّ تكذيب صريح القُرآن الكريم كُفر والعياذ بالله.
18
وقال شيخ جامع الزَّيتونة إبراهيم المارغني التُّونُسيُّ في [طالع البُشرَى على العقيدة الصُّغرَى] ما نصُّه: “ويُسمَّى الاعتقاد الفاسد كاعتقاد قدم العالم أو تعدُّد الإله أو أنَّ الله تعالَى جسم، وصاحب هذا الاعتقاد مُجمع على كُفره> انتهَى وقولُه: (مُجمع على كُفره) يعني لا خلاف في كونه كافرًا.
19
فهذا غيض مِن فيض مَا يُفيد إجماع أهل السُّنَّة والجماعة -وليس الأشاعرة وحسب- على تكفير مَن قال: (الله جسم) أو قال: (العبد يخلُق أفعاله) أو قال: (العالم أزليٌّ بمادَّته وصُورته أو بمادَّته فقط) لأنَّه لا عُذر لمَن تأوَّل فخالف أصل الشَّهادتَين أو أنكر ما علم أنَّه إجماع المُؤمنين.
20
وقد رُوِيَ عن الأشعريِّ أنَّه قال: (اشهد عليَّ أنِّي لا أُكفِّر أحدًا مِن أهل هذه القِبلة لأنَّ الكُلَّ يُشيرون إلى معبود واحد وإنَّما هذا اختلاف العبارات) انتهَى وليس حُجَّة لأُولئك الَّذين يتَّهمونه بأنَّه تراجع لمَّا حضره الموت عن تكفير المُجسِّمة وأهل الأهواء الَّذين وصلت بدعتُهُم إلى الكُفر بالله تعالَى.
21
وذلك لأنَّ مُراد الإمام الأشعريِّ عدم تكفير أحد مِن أهل القِبلة ما لم يُوجد شيء مِن أمارات الكُفر وعلاماته وما لم يصدُر عن الواحد منهُم شيء مِن مُوجبات الكُفر وأمَّا مَن زعم أنَّ الله تعالَى جسم أو زعم أنَّ العبد يخلُق أفعاله أو أنَّ العالَم قديم ولو بمادَّته فقط: فهذا كافر والعياذ بالله تعالَى.
22
ولو كان الأشعريُّ ترك تكفير المُجسِّمة لرأينا كُلَّ الأشاعرة على ذلك؛ بينما وكما بيَّنَتِ النُّصوص والنُّقول الآنفة الذِّكر فإنَّ الأشاعرة مُجمعون على تكفير المُجسِّمة كما وعلى تكفير مَن قالوا بأزليَّة العالم ولو بمادَّته فقط بل وكُلُّ الأُمَّة مُجمِعة على ذلك بلا خلاف بين الأئمَّة المُعتبَرين.
23
وتجد في الكُتُب ما يُوهم عدم تكفير المُجسِّمة؛ وحقيقة الأمر أنَّهُم أرادوا ترك تكفير مَن نَسَبَ الجسم إلى الله ولكنَّه لشدَّة جهله ظنَّ أنَّ لفظ (الجسم) يأتي بمعنَى (الموجود) فهذا أطلق عليه بعضُهُم صفة (مُجسِّم) مجازًا ولكنَّه لا يكون مُجسِّمًا حقيقةً لأنَّه لا يعرف معنَى اللَّفظ فلا يكفُر.
24
وزعم المُنحرفون أنَّنا ابتدعنا هذا التَّصويب وخَسِئُوا فقد قال به قبلنا جُملة مِن العُلماء منهُمُ الشَّيخ المُحدِّث مُحمَّد زاهد الكوثريُّ حيث قال في [مقالاته]: <وإنَّ العزَّ بن عبد السَّلام يعذُر –في قواعده- مَن بَدَرَت منه كلمة مُوهِمة لكنَّه يُريد بذلك العاميَّ الَّذي تخفَى عليه مدلولات الألفاظ> إلخ..
25
وقال البغداديُّ في التَّبصرة البغداديَّة المُسمَّاة [أُصول الدِّين]: <وقد شاهدنا قومًا مِن الكرَّاميَّة لا يعرفون مِن الجسم إلَّا اسمه ولا يعرفون أنَّ خواصَّهم يقولون بحُدوث الحوادث في ذات الباري تعالى فهؤُلاء يحِلُّ نكاحُهُم وذبائحُهُم والصَّلاة عليهم> انتهَى فهؤُلاء الَّذين لم يُكفِّرهُمُ الأشاعرة.
26
وقال إمام الحرمين الجوينيُّ في [الشَّامل]: <اعلموا أرشدكُم الله أنَّ الخلاف في ذلك يدُور بيننا وبين فئتَين: إحداهُمَا تُخالف في اللَّفظ والإطلاق دون المعنَى، والأُخرى تُخالف في المعنَى. فأمَّا الَّذين خالفوا في الإطلاق دون المعنَى فهُمُ الَّذين قالوا: المعنَى بالجسم الوُجود أو القيام بالنَّفس> إلخ..
27
وقال البزدويُّ الحنفيُّ في [أُصُول الدِّين] له: <إلَّا أنَّ بعضهُم قالوا: نعني بالجسم الوُجود لا غير> انتهَى وكُلُّ هذا يُوضح أنَّ الأشاعرة إنَّما تركوا تكفير مَن نسب لفظ الجسم إلى الله مُتَوَهِّمًا لشدَّة جهله أنَّ لفظ الجسم معناه الموجود وهذا دليل أنَّهُم لا يتركون تكفير المُجسِّم الحقيقيِّ.
28
واستدلَّ المُنحرفون بكلام للغزاليِّ مِن كتابه [الاقتصاد في الاعتقاد] يقول فيه بعد أنْ ذكر المُعتزلة والمُشبِّهة وغيرهُم ما نصُّه: <ودليل المنع مِن تكفيرهم أنَّ الثَّابت عندنا بالنَّصِّ تكفيرُ المُكذِّب للرَّسول وهؤُلاء ليسوا مُكذِّبين أصلًا ولم يثبُت لنا أنَّ الخطأ في التَّأويل مُوجِب للتَّكفير> إلخ..
29
وهذا مردود مِن وُجوه: الأوَّل: أنَّه مُخالف للإجماع. الثَّاني: أنَّه لا يثبُت عن الغزاليِّ بسند مُتَّصل وقد ثبت وُقوع الدَّسِّ في كُتُبه. ثالثًا: أنَّ الغزاليَّ في الكتاب نفسه يقول: <فإنَّ القائلَ بأنَّ اللهَ سُبحانَه جسمٌ؛ وعابدَ الوثن والشَّمس: واحد> انتهَى فلا مُستند للجَهَلة بما يُنسب للغزاليِّ.
30
واعلم أخي القارئ أنَّ الكتاب لا يكون مُعتمَدًا لمُجرَّد شُهرة صاحبه ولا لمُجرَّد نسبته إلى مُصنِّفه بل لا بُدَّ مِن توفُّر نُسخة شهد الثِّقات أنَّها بخطِّ المُصنِّف أو شهدوا أنَّها مُقابلة على نُسخة بخطِّه لأنَّ الكُتُب وقع في نسخها الدَّسُّ والتَّصحيف ولذلك قال التَّاج السُّبكيُّ: <آفة الكُتُب نُسَّاخُها> انتهَى.
31
قال شيخُنا المُحقِّق المُدقِّق الشَّيخ عبدالله الهرريُّ الحبشيُّ رحمه الله ما معناه: <إنَّ النُّسَخ الَّتي لم تكُن مُقابَلة بيد ثقة على نُسخة قابَلها ثقة وهكذا إلى أصل المُؤلِّف الَّذي كتبه بخطِّه أو كتبه ثقة بإملاء المُؤلِّف فقابَله على المُؤلِّف لا تُعتبر نُسَخًا صحيحة بل هي نُسخ سقيمة> انتهَى.
32
فلا يصحُّ الأخذ من نُسخة لا يُعرف حال مَن خطَّها وكذلك إنْ لم تُقابل على نُسخة صحيحة، ولذلك قال النَّوويُّ في [التَّقريب]: <وَمَنْ أَرَادَ الْعَمَلَ مِنْ كِتَابٍ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ قَابَلَهَا هُوَ أَوْ ثِقَةٌ بِأُصُولٍ صَحِيحَةٍ فَإِنْ قَابَلَهَا بِأَصْلٍ مُحَقَّقٍ مُعْتَمَدٍ أَجْزَأَهُ وَاللهُ أَعْلَمُ> إلخ..
33
وكان الطَّلَبَة يكتبون على هامش المخطوط فتتداخل السُّطور فإنِ احتاج الكتاب إلى إعادة نسخ خلط النَّاسخ بين المتن والهامش فيُنسب إلى المُصنِّف ما كان وضعه غيرُه في الهامش ولذلك فإنَّ الأَولَى أنْ نعمل بقول نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام: <إنَّما العلم بالتَّعلم> أي بالتَّلقِّي عن الضَّابط الثِّقة.
نهاية المقال.
Aug 10, 2022 2:31:11am
