بيان جواز تكفير المُعيَّن الَّذي كفَّره الشَّرع الشَّريف وأنَّ هذا ليس دعوة إلى التَّسرُّع في إطلاق التَّكفير جُذافًا

*بيان جواز تكفير المُعيَّن الَّذي كفَّره الشَّرع الشَّريف*

*وأنَّ هذا ليس دعوة إلى التَّسرُّع في إطلاق التَّكفير جُذافًا*

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فإنَّه يجب على كُلِّ مُسلم تجنُّب الرِّدَّة وهي أفحش أنواع الكُفر فقد قال الله تعالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} الآية.. وقال تعالَى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية.. وقال تعالَى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ} الآية..

2

واعلم أنَّه يجوز تكفير الفرد المُعيَّن الَّذي كفَّره الشَّرع الشَّريف فقد جاء في القُرآن الكريم تكفير أفراد بأعيانهم وجاء في الحديث الصَّحيح أنَّ الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم حكم بتكفير أفراد بأعيانهم؛ وهكذا فعل الصَّحابة بعده؛ ومِن بعدهمُ التَّابعون وأئمَّة مذاهب أهل السُّنَّة والجماعة.

3

روَى البُخاريُّ ومُسلم أنَّ النَّبيَّ لمَّا دخل مكَّة أمر بقتل ابن خَطَل وكان قد ارتدَّ عن الإسلام وروَى ابن حجر أنَّ أبا بكر استتاب امرأة؛ وثبت أنَّ عليَّ بن أبي طالب قتل قومًا ارتدُّوا؛ وحارب الصَّحابةُ رضي الله عنهُمُ المُرتدِّين في خلافة أبي بكر. وكُلُّ هذا تكفير لمَن ثبت كُفره بالتَّعيين.

4

واعلم أنَّه لا يُشترط للوُقوع في الكُفر اعتقاد مُشاققة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم فقد حكم التَّابعون بكُفر مَعبد الجهنيَّ وكان أوَّل مَن تكلَّم في القدَر وقتله عبدُالملك بن مروان، والإمام الشَّافعيُّ حكم بكُفر حفص المُنفرد المُعتزليِّ فلمَّا خرج حفص قال: أراد الشَّافعيُّ ضرب عُنُقي.

5

وحكم الخليفة الرَّاشد عُمر بن عبدالعزيز وكذلك الإمام مالك بكُفر القدريَّة، وقال أبو حنيفة في جهم بن صفوان: (كافر أخرجوه) انتهَى وكفَّر أحمدُ بن حنبل رجُلًا زعم أنَّ علم الله مخلوق والعياذ بالله تعالَى، وكُلُّ هؤُلاء لا يقولون إنَّهُم يعتقدون مُشاققة رسول الله -عليه السَّلام- بكُفرهم.

6

وقال أبو منصور البغداديُّ في [الفَرق بين الفِرق] بعد أنْ ذكر بعض فرق أهل الأهواء كالقدريَّة والمُعتزلة والجهميَّة والإماميَّة الَّذين أكفروا خيار الصَّحابة والمُشبِّهة والخوارج: <فإنَّا نُكفِّرُهُم كما يُكفِّرون أهلَ السُّنَّة ولا تجوز الصَّلاة عليهم عندنا ولا الصَّلاة خلفهُم> انتهَى بحُروفه.

7

وقال التَّقيُّ السُّبكيُّ في [السَّيف الصَّقيل] مُعقِّبًا على ابن القيِّم ما نصُّه: <فهُو المُلحد لعنه الله ما أوقحه وما أكثر تجرُّأه! أخزاه الله> انتهَى فهذا فيه إطلاق اللِّسان بالحُكم بالتَّكفير على الفرد المُعيَّن ويُؤخذ مِن هذا أنَّ التَّقيَّ السُّبكيَّ كان يحكُم بتكفير الفرد المُعيَّن الَّذي كفَّره الشَّرع.

8

وتجرَّأ ابن القيِّم فسمَّى أهل السُّنَّة مُعطِّلة يعني كفَّرهُم وجعل المُشركين أقلَّ كُفرًا فقال: (إنَّ المُعطِّل بالعداوة مُعلنٌ * والمُشركونَ أخفُّ في الكُفرانِ) فقال التَّقيُّ السُّبكيُّ: <ما لِمَن يعتقد في المُسلمين هذا إلَّا السَّيف> انتهَى ومع هذا كُلِّه يتجرَّأ أهل الفتنة على التَّرحُّم على ابن القيِّم.

9

وعقَّب الشيخ مُحمَّد زاهد الكوثريُّ فقال: <والشَّيخ المُصنِّف الإمام [يعني التقيَّ السُّبكيَّ] رضي الله عنه رجُل معروف بالورع البالغ واللِّسان العفيف والقول النَّزيه لا تكاد تسمع منه في مُصنَّفاتِه كلمة تشمُّ منها رائحة الشِّدَّة ولينظُر القارئُ حالَه هذا مع قوله في ابن القيِّم: (ما له إلَّا السَّيف) إنَّه إنْ فكَّر في هذا قليلًا علم العلم القاطع أنَّ هذا النَّاظم [يعني ابن القيِّم] بلغ في كُفره مبلغًا لا يجوز السُّكوت عليه ولا يحسُن لمُؤمن أنْ يُغضيَ عنه ولا أنْ يتساهل فيه> انتهَى.

10

وهل قال التَّقيُّ السُّبكيُّ في ابن تيميَّة: <فهذا القول الَّذي قاله هذا الرَّجُل ما نعرف أحدًا قاله وهُو خُروج عن الإسلام بمقتضَى العلم إجمالًا. ولا أُكَفِّر أحدًا مُعيَّنًا مِن أهل القِبلة بلساني ولا بقلبي ولا بقلمي إلَّا أنْ يعتقد مُشاققة الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم فهذا ضابط التَّكفير عندي> انتهَى؟

11

فهذه العبارة رُبَّما زادها النُّسَّاخ؛ وعلى تقدير صحَّتها لا يلزم مِن إنكاره تكفير المُعيَّن بغير ضابط أنَّه لا يحكُم بتكفير ابن تيمية؛ ويحتمل أنَّه لم يعتبر المُشبِّهة والقدريَّة ونحوهم مِن (أهل القِبلة) وإلَّا فقد ثبت أنَّه لا يُشترط للوُقوع في الكُفر اعتقاد مُشاققة الرَّسول كما مرَّ في أوَّل المقال.

12

فقد قال التَّقيُّ السُّبكيُّ في ابن تيميَّة: (أحدث في أُصول العقائد ونقض مِن دعائم الإسلام) إلخ.. وقال: (وشذَّ عن جماعة المُسلمين بمُخالفة الإجماع) إلخ.. وقال: (فلم يدخُل في فرقة مِن الفِرق الثَّلاثة والسَّبعين الَّتي افترقت عليها الأُمَّة؛ ولا وقفت به مع أُمَّة مِن الأُمَم همَّة) انتهَى.

13

وهذا يُفيد أنَّ التَّقيَّ السُّبكيَّ يُكفِّر ابنَ تيميَّة لأنَّه أخرجه بآخر كلامه مِن سائر الفِرق الَّتي تنتسب إلى الإسلام؛ كما كفَّر بعد ذلك تلميذه ابن قيِّم الجوزيَّة في [السَّيف الصَّقيل]. ولسنا وحدَنا مَن فهم أنَّ التَّقيَّ السُّبكيَّ يحكُم بتكفير ابن تيميَّة بل هذا ما فهمه العُلماء مِن كلامه.

14

فقد قال الشَّيخ تقيُّ الدِّين الحصنيُّ الدِّمشقيُّ -الفقيه الشَّافعيُّ- في كتابه [دفع شُبَه مَن شبَّه وتمرَّد]: <وكان الشَّيخ زين الدِّين ابن رجب الحنبليُّ ممَّن يعتقد كُفر ابن تيميَّة، وله عليه الرَّدُّ، وكان يقول بأعلَى صوته في بعض المجالس: “معذور السُّبكيُّ” يعني في تكفيره> انتهَى.

15

فمَن اتَّهمنا بفهمنا في قضيَّة تكفير التَّقيِّ السُّبكيِّ لابن تيميَّة بعد هذا البيان فقد اتَّهم كذلك عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بأفهامهم في نفس القضيَّة.. فكيف يُؤخَذ بقوله بعد ذلك وكيف يُعتبر رأيه وهُو يرَى نفسه أكثر فهمًا مِن عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة الأشاعرة وغيرهم!؟

16

وقال المُحدِّث تاج الدِّين السُّبكيُّ في [طبقاته]: <ولا خلاف عند الأشعريِّ وأصحابه بل وسائر المُسلمين أنَّ مَن تلفَّظ بالكُفر أو فعل أفعال الكُفر أنَّه كافر بالله العظيم مُخلَّد في النَّار وإنْ عرف بقلبه وأنَّه لا تنفعُه المعرفة مع العناد ولا تُغني عنه شيئًا؛ لا يختلف مُسلمانِ في ذلك> انتهَى.

17

فالتَّاج السبكيُّ -وهو ابن التَّقيِّ السُّبكيِّ- وهُو أعلم بمذهب أبيه مِن أهل الفتنة ومِن الوهَّابيَّة النَّجديَّة ينقُل الإجماع على كُفر مَن تلفَّظ بكلمة الكُفر دون اشتراط اعتقاد مُشاققة الرَّسول وهذا دليل على أنَّ التَّقيَّ السُّبكيَّ لا يشترط اعتقاد مُشاققة الرَّسول في تكفير مَن كفَّره الشَّرع.

18

والخُلاصة فيما نُسِبَ إلى التَّقيِّ السُّبكيِّ القولُ بأنَّه يحتمل أنَّه كلام كتبه مجهول في هامش مخطوطه ثُمَّ توهَّم ناسخ أنَّه مِن أصل المتن فأضافه إليه وهُو منه بريء؛ وإلَّا فهُو حكم بتكفير ابن تيميَّة وتلميذه ابن قيِّم الجوزيَّة مع أنَّهُما لا يعتقدانِ مُشاققة الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام.

19

وفي رسالة البدر الرَّشيد في [الألفاظ الكفريَّة]: <مَن كَفَر بلسانه طائعًا وقلبُه مطمئن على الإيمان فإنَّه كافر ولا ينفعُه ما في قلبه ولا يكون عندالله مُؤمنًا> انتهَى وقولُه: (وقلبُه مطمئن على الإيمان) معناه أنَّه لم يعتقد مُشاققة الرَّسول ومع ذلك فقد حكم الفقيه الحنفيُّ البدر الرَّشيد بتكفيره.

20

وفي [خزانة الأكمل في فُروع الفقه الحنفيِّ] لأبي يعقوب الجُرجانيِّ: <وفي كتاب مُوسى بن نصير الرَّازيِّ: أجمع عُلماؤُنا رحمهُم الله أنَّ كُلَّ مَن كَفَر بلسانه طائعًا وقلبُه مُطمئنٌّ على الإيمان أنَّه كافر عند الله وعند الحاكم> انتهَى فهذا إجماع وعليه سائر علماء أهل السُّنَّة والجماعة.

21

ويحسُن مع ما مرَّ (التَّحذير مِن التَّسرُّع بالتَّكفير بلا دليل) لأنَّه قد يُسبب ضررًا للمُتسرِّع ولغيره ممَّن سمع منه لأنَّه قد يُصدِّقُه فيقول بما قال فيهلك كما هلك فإيَّاكم والتَّسرُّع فإنَّ التَّسرُّع بالتَّكفير مِن غير مُستند شرعيٍّ ذنب عظيم كبير مُهلِك لصاحبه.. فالحذرَ الحذرَ مِن ذلك.

نهاية المقال.

Jul 04, 2022 8:17:54am

بيان أنَّ أهل الفتنة عمادُهُمُ التُّرَّهات الفارغة

وأنَّهُم لا يسلُكون مسلك الحوار العلميِّ النَّافع

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فإنَّ أهل الفتنة ساء ظنُّهُم؛ فلمَّا اطَّلعوا على تعزية الشَّيخ جميل لمُحبِّي الشَّيخ محمود أفندي نقشبندي -رحمه الله- وجدوه يقول: (رحمنا الله وإيَّاكم وإيَّاه) فزعم سيِّئو الظَّنِّ أنَّ هذه العبارة قُصد بها التَّورية لوُجود الشَّكِّ بإسلام الشَّيخ محمود أفندي رحمه الله! وهذا سُوء ظنٍّ بالمُسلمين وسعي في إثارة الفتنة بين أهل الحقِّ أهل السُّنَّة والجماعة والعياذ بالله تعالَى.

2

ثُمَّ فرح بعض الوهَّابيَّة بادِّعاء سيِّئي الظَّنِّ؛ وذلك لأنَّهُم أي الوهابيَّة لا يعرفون الاستدلال الصَّحيح ولا يفقهون أنَّه لا يصحُّ الاستدلال بما لا سبيل إلى القطع به وفي مثل هذا إلَّا بالاطِّلاع على القُلوب والضَّمائر وما تُخفي السَّرائر؛ ولا أظُنُّ أنَّهُم يزعُمون الاطِّلاع على القُلوب فثبت أنَّ أهل الفتنة والوهَّابيَّة بعيدون عن الرَّدِّ العلميِّ بُعد المشرق عن المغرب.

3

وكيف فرح أهل الفتنة بهذه التُّرَّهات السَّخيفة الَّتي يعرف الكُلُّ أنَّها لا تتَّصل بالحوار العلميِّ والدَّليل والبُرهان؛ بل إنَّ فرحهُم بمثل هذه التُّرَّهات لدليل واضح أنَّهُم جماعة يلوون عُنُق الكلام ويحتالون في التَّشويش على عُلماء ومشايخ أهل السُّنَّة والجماعة وإلَّا فليُخبرونا لماذا سلكوا مسلك الادِّعاء الفارغ إلَّا مِن إساءة الظَّنِّ والفتنة الَّتي يطلُبون إيقاظها!؟

4

ولو أنَّ أهل الفتنة المذكورين آنفًا تمهَّلوا أو كانوا مُنصِفين لبحثوا ولوجدوا ما ينفي التُّهمة الَّتي افتروها ولسمعوا الشَّيخ جميلا -حفظه الله- يترحَّم بحُروف أُخرَى كثيرة على الشَّيخ محمود أفندي نقشبندي -رحمه الله رحمة واسعة- وسنُرفق بعضًا مِن ذلك بصوت الشَّيخ جميل حليم -حفظه الله- عسَى ينقطع دابر الفتنة وأهلُها ويهتدي قوم قد ضلُّوا وأضلُّوا.

وفي مثل هؤُلاء المُتصولحة قال الشَّاعر:

إذا ساءَ فعلُ المرءِ ساءَت ظُنونُهُ ~ وصدَّقَ ما يعتادُهُ مِن توهُّمِ

وعادَى مُحبِّيهِ بقولِ عُداتِهِ ~ وأصبحَ في ليلٍ مِن الشَّكِّ مُظلِمِ

نهاية المقال.

Jul 12, 2022 10:01:40pm