المُناظرة هي النَّظر بالبصيرة إظهارًا للصَّواب – الرِّضى بالكُفر: كُفر بالإجماع -السُّؤال في المُناظرة: ظاهرُه التَّفويض وحقيقتُه التَّبكيت

المُناظرة هي النَّظر بالبصيرة إظهارًا للصَّواب

الرِّضى بالكُفر: كُفر بالإجماع

السُّؤال في المُناظرة: ظاهرُه التَّفويض وحقيقتُه التَّبكيت

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فقد نادى أهل الفتنة على أنفُسهم بالجهل المُؤدِّي إلى الرِّضى بأنْ ينطِق الخصم بالكُفر والعياذ بالله ولم يكتفوا بذلك حتَّى نسبوا هذا الفساد -زُورًا وبُهتانًا- إلى الإمام الأشعريِّ وغيره مِن عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة؛ ونحن بإذن الله تعالى نرُدُّ فسادهم ونُبيِّن الصَّواب بإذن الله تعالى.

2

وقد أخذ أهل الفتنة هذا الضَّلال مِن كلام في [الفقيه والمُتفقِّه] لم يفهموه على وجهه الصَّحيح بدلًا مِن تخريجه على ما يُوافق قواعد أُصول الدِّين؛ فخرَّجوه على وجه لا خلاف في كونه كُفرًا فزعموا أنَّ الخطيب البغداديَّ أباح الرِّضى بنطِق الخصم بالكُفر في المُناظرة والعياذ بالله تعالى.

3

وهؤلاء الجَهَلَة ما عرَفوا معنى المُناظرة وإلَّا لفهموا أنَّ كلام الخطيب البغداديِّ مُقيَّد بالنَّظر بالبصيرة إظهارًا للصَّواب؛ فيسأل المرء خصمه ويُفوِّض إليه الجواب بمُقتضى البصيرة تبكيتًا له أو تقريعًا أو توبيخًا أو تعنيفًا لأنَّ المُناظرة اصطلاحًا هي النَّظر بالبصيرة إظهارًا للصَّواب.

4

فالسُّؤال في المُناظرة مبنيٌّ على قيدها وهُو النَّظر بالبصيرة إظهارًا للصَّواب؛ فإذَا سأل المرء خصمه يكون ظاهر سُؤاله التَّفويض وحقيقتُه التَّبكيت فكأنَّه يقول له إنْ أجبتَ ببصيرة فقد انقطعَتْ حُجَّتُك. فهُو -وإنْ كان يعلم جوابه في الأصل- يسألُه مُريدًا انتقال جواب خصمه إلى التَّسليم بقوله.

5

وممَّا يدُلُّ على صحَّة كلامنا أنَّ الخطيب البغداديَّ مثَّل عن السُّؤال التَّفويضيِّ في كلامه بقوله تعالى إخبارًا عن سُؤال إبراهيم: {مَا تَعْبُدُونَ} وسؤاله لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا}؛ ففي الموضعَيْن سأل على وجه العيب والإنكار والتَّحقير والتَّبكيت.

6

أمَّا تخريج كلام الخطيب البغداديِّ على استباحة الرِّضى بأنْ ينطِق الخصم بالكُفر في المُناظرة فهذا فساد عظيم وتكذيب لقول الله تعالى: {وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} ولذلك قال الحافظ مُرتضى الزَّبيديُّ في [شرح الإحياء]: <ومَن أراد مِن خَلْق الله أنْ يكفُروا بالله فهو لا محالة كافر> انتهى.

7

وهذا ما يُوافق قواعد الدِّين الَّتي لا محيد عنها لمُؤمن؛ فالقاعدة الشَّرعيَّة تقول: <الرِّضى بالكُفر كُفر> سواء في مُناظرة أو غيرها فالمُسلم إذَا ناظر الكافر فإنَّه لا يرضى له أنْ يزداد كُفرًا ولا أنْ ينطِق بالكُفر والزَّندقة وإلَّا فإنَّ ذلك مِن الكُفر المُتَّفق عليه عند عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة.

8

وقد جاء في كتاب [البريقة المحموديَّة] أنَّ الإمام أبا حنيفة قال: <كنَّا نُناظِرُ وكأنَّ على رُؤُوسِنَا الطَّيرَ مَخافةَ أنْ يزِلَّ صاحبُنَا وأنتُم تُناظرونَ وتُريدونَ زلَّةَ صاحبكُمْ ومَنْ أرادَ أنْ يزِلَّ صاحبُهُ فقد أرادَ أنْ يكفُرَ صاحبُهُ ومَن أرادَ أنْ يكفُرَ صاحبُهُ فقد كَفَرَ قبلَ أنْ يكفُرَ صاحبُهُ> انتهى.

9

وقال مُلَّا عليِّ القاري في شرح [رسالة في المُكفِّرات للحنفيِّ بدر الرَّشيد المُتوفَّى 768ه]: <وفي المُحيط وفتاوى الصُّغرى أيضًا: مَن لقَّن غيره كلمة الكُفر ليتكلَّم بها كفر المُلقِّن، وإنْ كان على وجه اللَّعب والضَّحك> انتهى.

10

وقال الحافظ الزَّبيديُّ في [شرح الإحياء]: <ومَن أراد مِن خَلْق الله أنْ يكفُروا بالله فهو لا محالة كافر وعلى هذا يُخرَّج قولُه تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ثُمَّ إنَّه مَن سبَّ أحدًا منهُم على معنى ما يجد له مِن العداوة والبغضاء قيل له: أخطأتَ وأثمتَ؛ مِن غير تكفير، وإنْ كان إنَّما فعل ذلك ليسمع سَبَّ الله وسبَّ رسوله فهُو كافر بالإجماع> انتهى.

11

وقال الشَّيخ سمير القاضي في [جلاء الفوائد]: <ويلتحقُ بالأمرِ ما يحصُلُ أحيانًا مِنْ أنَّ الشَّخصَ يسألُ الكافرَ سُؤالًا وهُوَ مُتيقِّنٌ مِنْ أنَّهُ سيُجيبُ بالكُفرِ فيكفُرُ بذلكَ لأنَّ سُؤالَهُ في الحقيقةِ هُوَ طلبُ جوابٍ منهُ وهُوَ يعلمُ أنَّ جوابَهُ كُفرٌ فكأنَّهُ يقولُ لهُ اكفُرْ. وأمَّا السَّؤالُ الإنكاريُّ ونحوُهُ ممَّا لا يُطلَبُ بهِ جوابٌ كُفرٌ مِن المَسئولِ فلا يدخُلُ تحتَ الحُكمِ المُتقدِّمِ> انتهى.

12

وخُلاصة المبحث أنَّه لا خِلاف بين المُسلمين أنَّ الرِّضى بالكُفر كُفرٌ، وأنَّ ما ذكره الخطيب البغداديُّ في [الفقيه والمُتفقِّه] قيدُه المُناظرة وهي في الاصطلاح: النَّظر بالبصيرة إظهارًا للصَّواب، فالسُّؤال فيها ظاهرُه التَّفويض وحقيقتُه التَّهكُّم أو التَّبكيت أو التَّوبيخ أو التَّقريع أو نحو ذلك.

انتهى.

Jan 20, 2021, 8:11 AM

لله تعالى صدقة جارية و صدقة عن روح المرحوم بإذن الله فتحي المهذبي