دفع شُبهة في مسألة المُناظرة [2]
وبيان أنَّ الأمر بالكُفر كُفر بالإجماع
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.
وبعدُ فقد سبق بيان أنَّ المُناظرة طلب النَّظر بالبصيرة إظهارًا للصَّواب فلو سأل مُناظر خصمه فكأنَّه يقول له أجب ببصيرة؛ فإنْ لم يُوجد لديه بصيرة فكأنَّه لم يسأله ولم يأمُره بالجواب. والمُوحِّدُ لا يسأل المُلحدَ ليسمع منه الكُفر فإنَّ هذا رضًى بالكُفر وهُو كُفر بالإجماع كذلك والعياذ بالله.
وأورد الخصم للرَّازيِّ في بيان قول مُوسى للسَّحَرة: {بَلْ أَلْقُوا} قولَه: <ومثالُه أنَّ مَن يُريد سماع شُبهة مُلحد ليُجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسُقوطها يقول له: هاتِ وقل واذكرها وبالغ في تقريرها ومرادُهُ منه أنَّه إذَا أجاب عنها بعد هذه المُبالغة فإنَّه يظهر لكُلِّ أحد ضعفُها وسُقوطُها> إلخ..
ومعنى “الشُّبهة” في كلام الرَّازيِّ محمول على “الالتباس” كما في [لسان العرب] أي ما يلتبس فيحتاجُ جوابًا عنه وهذا ما لم يفطُن له الخصم حيث توهَّم أنَّ كلام الرَّازيِّ فيه دعوة المُناظر خصمَه إلى المُبالغة في تقرير الكُفر والضَّلال وهذا لا يقول به مُسلم.
فلو قال قائل: “هذه العظام بَلِيَت وصارت معدومة ونحن لم نُشاهد عظامًا بَلِيَت ثُمَّ عادت” فهذه شُبهة تكون عند الكافر وعند المُؤمن؛ فأمَّا الكافر فيبني عليها إنكار البعث وهُو كُفر وأمَّا المُؤمن فيأخُذ بجواب الشَّرع عليها فيُزيل أثرها عن قلبه ويحفظ نفسه مِن الضَّلال والكُفر والهلاك.
وللتَّقريب فإنَّ جبريل عليه السَّلام قال لمريم عليها السَّلام: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} فتعجَّبت والتبس الأمر عليها لأنَّها لم تُشاهد أُنثَى تُرزَق غُلامًا دون أنْ يمسَّها بَشَرٌ فسَأَلَته فقال: {كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} الآية.. فأَخَذَت بجوابه ولم تُنكره وهذا شأن الصَّالحين.
ولو كانت الشُّبهة في كلام الرَّازيِّ تعني اعتقاد الكُفر لَمَا دعا الخصم إلى تقريره للاتِّفاق على كون ذلك مُحرَّمًا؛ قال ابن عبد السَّلام في [تفسيره]: <وإلَّا فهُو كُفر لا يجوز الأمر به> إلخ.. وقد فسَّر العُلماء قول مُوسى عليه السَّلام بأنَّه خبر في صفة أمر أي ظاهرُه أمر وحقيقتُه خبر.
وممَّا يُؤكِّد ذلك قول الرَّازيِّ في جوابه: <إنَّما أمرهُم بشرط أنْ يعلموا في فعلهم أنْ يكون حقًّا فإذَا لم يكُن كذلك فلا أمر هُناك كقول القائل لغيره اسقني الماء مِن الجرَّة فهذا الكلام إنَّما يكون أمرًا بشرط حُصول الماء في الجرَّة فأمَّا إذَا لم يكُن فيها ماء فلا أمر البتَّة.. كذلك ها هُنا> إلخ..
وهذا الكلام مثل قولنا إنَّه يسأله بقيد المُناظرة كأنَّه يقول له أجِب ببصيرة وإلَّا فلا. فعلى هذا الوجه الَّذي يذكره الرَّازيُّ لا يكون تفويض الجواب حقيقيًّا ولا مُطلَقًا بل يكون مُعلَّقًا بقول الحقِّ ومُوافقة الصَّواب؛ ويكون الرِّضَى به مَوقوفًا مُقيَّدًا بذلك ولا يكون مُطلَقًا كما توهَّم الجَهَلَة المُتصولحة.
وقال الرَّازيُّ: <إنَّما جاءُوا لإلقاء تلك الحبال والعصيِّ وعلم مُوسى عليه السَّلام أنَّهُم لا بُدَّ وأنْ يفعلوا ذلك وإنَّما وقع التَّخيير في التَّقديم والتَّأخير فعند ذلك أذن لهُم في التَّقديم ازدراءً لشأنهم وقلَّة مُبالاة بهم وثقة بما وعده الله تعالى مِن التَّأييد والقُوَّة وأنَّ المُعجزة لا يغلبها سحر أبدًا> انتهى.
فكما أنَّ قول إبراهيم عليه السَّلام عن القمر: {هَٰذَا رَبِّي} معناه إنكار أنْ يكون هذا ربَّه فكذلك قول مُوسى عليه السَّلام: {بَلْ أَلْقُوا} معناه تحقير ما جاءُوا به في مُقابل المُعجزة فكأنَّه قال لهُم: إنَّ ما عزمتُم عليه أقلُّ مِن أنْ يُواجه المُعجزة؛ وقد تعلم أنَّهُم ما ألقوا إلَّا بأمر فرعون في الحقيقة.
أمَّا مُوسى عليه السَّلام فكان قد نهاهُم في الحقيقة بدليل قوله تعالى: {قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} الآية.. ولا يقول عاقل إنَّ مُوسى عليه السَّلام أمرهُم بالفعل الَّذي نهاهُم عنه وخوَّفهُم العذاب إنْ فعلوه فعُلم أنَّه إنَّما أراد تحقير ما جاءُوا به مِن السِّحر.
ولذلك قال المرداويُّ في [التَّحبير شرح التَّحرير]: <السَّابع عشر: الاحتقار؛ كقوله تعالى في قصَّة مُوسى يُخاطب السَّحَرة: {أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ} إذ أمرُهُم في مُقابلة المُعجزة حقير> انتَهَى ومثلُه قال التَّقيُّ السُّبكيُّ فلا معنى لاحتجاج الخصم بكلام الرَّازيِّ فإنَّ الخصم دخل به في وَهْمٍ قويٍّ.
وفي [البحر المُحيط]: <لا يكون الأمر بالإلقاء مِن باب تجويز السِّحر والأمرِ به لأنَّ الغرض في ذلك الفرقُ بين إلقائهم والمُعجزة وتعيَّن ذلك طريقًا إلى كشف الشُّبهة إذ الأمر مقرون بشرطٍ أي ألقُوا إنْ كُنتُم مُحقِّين لقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} ثُمَّ قال: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} وفي الكلام حذفٌ تقديرُه: فألقُوا إذَا> إلخ..
وقال القُشَيريُّ في [لطائف الإشارات]: <وليس ذلك إِذْنًا لهُم في السِّحر> إلخ.. فلو كان السُّؤال بما يُعلم أنَّ الجواب عليه بالكُفر سهلًا هيِّنًا كما يتصوَّر الجَهَلَة لَمَا احتاج العُلماء إلى بيان أنَّ قول مُوسى عليه السَّلام لم يكُن مِن قبيل أمر السَّحَرة على الحقيقة بإلقاء حبالهم وعصيِّهم.
فالنَّاظر في الوُجوه الَّتي ذكرها الرَّازيُّ يُدرك أنَّ غاية ما يُراد منها بيان أنَّ قول مُوسى عليه السَّلام: {بَلْ أَلْقُوا} لم يقع على معنى الأمر بالذَّنب على الحقيقة فانتفى أنْ يقتضي قولُه أنَّه رضي بفعلهم؛ بخلاف مَن قال لمُنكر البعث: هل ثمَّة بعث؟ وهُو يعرف أنَّه يقول: “لا”.. فيكفُر بذلك.
فلا يسأل المرء خصمه في المُناظرة ليُجيب بالكُفر وإلَّا صار كطلب الكُفر والأمر به وهُو كُفر إجماعًا بلا خلاف عند أهل السَّنَّة والجماعة اتِّباعًا للقاعدة الشَّرعيَّة: “الرِّضَى بالكُفر كُفر”.. وما أجمعت عليه الأُمَّة لا يُرَدُّ بأوهام فاسدة وتخيُّلات باطلة وقراءات صبيانيَّة بعيدة عن التَّحقيق.
فما أبشع أنْ ترى جاهلًا مُتصولحًا يتعالَم وقد علمتَ أنْ لو كان فيه بقيَّة مِن خير لفهم قول الحافظ الزَّبيديِّ: <ومَن أراد مِن خَلْق الله أنْ يكفُروا بالله فهو لا محالة كافر> انتهى فلم يخرُج بهذا الكلام مَن أرادهُم أنْ يكفُرُوا بجواب في مُناظرة أو في غيرها فنسأل الله السَّلامة مِن الكُفر.
وأمَّا أنْ يُعمل الجاهل عقله في استنباط الأحكام دون بصيرة فإنَّ مآله مزيد مِن الجهل والتَّخبط ومُخالفة قواعد أُصول الدِّين.. وقد رأيتُم يا سادة كيف أنَّه لم يُفرِّق ولم يُميِّز بين مُجرَّد الشُّبهة وبين النُّطق بالكُفر الصَّريح المُجمع عليه.. فكيف يُؤخذ برأيه وهُو في هذا الضَّلال والضَّياع!
وأصل مُصاب أهل الفتنة الوسوسة مع عدم ضبط المسألة على وجهها الصَّحيح فلمَّا تعبوا مِن التَّصدِّي لشياطينهم استسلموا لهُم فأدَّاهُم ذلك إلى التَّساهل في إباحة الكُفر والتَّشدُّد في إنكار المُباح فضلَّ سعيُهُم وهُم يحسبون أنَّهُم يُحسنون صُنعًا.. فنسأل الله السَّلامة مِن الوُقوع في ذلك.
فالخُلاصة أنَّ قياس السُّؤال الَّذي يكون في المُناظرة على ما ليس في مُناظرة وجعلهما في دلالة واحدة وحُكم واحد مُطلَقًا يدُلُّ على فساد عقل القايس وسُقم فهمه وزيغ قلبه ولم أجد قبل أهل الفتنة هؤُلاء مَن قال بمثل هذا القياس الفاسد. فنسأل اللهَ تعالى أنْ يُسلِّمنا مِن زيغ القُلوب وفساد العُقول.
انتهى وللمقال صلة بإذن الله تعالى.
Jan 25, 2021, 10:30 AM
