الإسناد مِن الدِّين ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء – النَّقل مِن الكُتُب شرطُه العلم باختلاف العُلماء وحُسن التَّمييز

الإسناد مِن الدِّين ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء

إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ

النَّقل مِن الكُتُب شرطُه العلم باختلاف العُلماء وحُسن التَّمييز

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فقد قال نبيُّنا عليه الصَّلاة والسَّلام: <إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ> الحديث.. والمعنى أنَّه يكون بالتَّلقي مِن أهل المعرفة الثِّقات؛ قال العَينيُّ في [عُمدة القاري شرح صحيح البُخاريِّ]: <أي ليس العلم المُعتدُّ إلَّا المأخوذ عن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام على سبيل التَّعلم والتَّعليم> إلخ..

2

وجاء في الحديث: <إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا> رواه البُخاريُّ فإفادة العلم طريقُها التَّلقي مِن العُلماء العارفين الثِّقات لا بمُجرَّد مُطالعة الكُتُب.

3

قال الحافظ الخطيب البغداديُّ نقلًا عن بعض المُحدِّثين: <مَن طالع الكُتُب لنفسه بدون مُعَلِّم يُسمَّى صَحفيًّا ولا يُسمَّى مُحدِّثًا ومَن قرأ القُرآن لنفسه بدون مُعلِّم يُسمَّى مُصْحَفِيًّا ولا يُسمَّى قارئًا> انتهى وقال عبدالله بن المُبارك: <الإسناد مِن الدِّين ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء> انتهى.

4

فلا تكفي مُطالعة الكُتُب بغير تَلَقٍّ مِن أفواه العُلماء بل كثير مِن النَّاس يضلُّون باعتمادهم على المُطالعة في مُؤلَّفات وكُتُب مشهورة دون الرُّجوع إلى أهل العلم، وقد حصل أنَّ بعض أهل زماننا قرأ صحيح البُخاريِّ فتوهَّم أنَّ النَّبيَّ أراد الانتحار وقَتْلَ نفسه! والعياذ بالله مِن الكُفر.

5

وأمَّا قول بدر الدِّين الزَّركشيِّ: <حكى الأُستاذ أبو إسحق الإسفراييني الإجماع على جواز النَّقل مِن الكُتُب المُعتمدة ولا يُشترط اتِّصال السَّند> إلخ.. وقول العزِّ بن عبدالسَّلام: <ولذلك اعتمد النَّاس على الكُتُب المشهورة في النَّحو واللُّغة والطِّبِّ وسائر العُلوم> إلخ.. فليس على إطلاقه.

6

فإنْ لم يكُنِ الرَّجُل عالمًا باختلاف أهل العلم قادرًا على التَّمييز بين الصَّحيح والسَّقيم مُنع مِن الفتوى بالنَّظر إلى الكُتُب ولو كانت مُعتمدة أُجيز فيها إلَّا شيئًا تحقَّق له سماعُه عن الثِّقات، والعامِّيُّ الجاهل لا يصير بمُجرَّد الإجازة مُفتيًا ينظُر في كلام المُجتهدين ويستنبط أحكام الشَّرع الحنيف.

7

ففي [فتح العليِّ المالك في الفتوى على مذهب مالك] للشَّيخ عِلِّيش المالكيِّ قال: <فقال يحيى بن عُمر: قلتُ لمُحمَّد بن عبدالحكم: أرأيتَ مَن كان يروي كُتُبك هذه وكُتُب ابن القاسم وأشهب؛ هل يجوز له أنْ يُفتيَ؟ قال: لا والله إلَّا أنْ يكون عالمًا باختلاف أهل العلم يُحسن التَّمييز> إلخ..

8

وفيه: <وقال سحنون: “مَن اشترى كُتُب العلم أو ورثها ثُمَّ أفتى بها ولم يعرضها على الفُقهاء أُدِّب أدبًا شديدًا” وذكر القاضي حديثًا مرفوعًا: “لا يُفتي أُمَّتي الصَّحَفيُّون ولا يُقرئُهُمُ المُصحفيُّون” قال غيرُهُ: “فيُنهَى عن ذلك أشدَّ النَّهي فإنْ لم ينتهِ عُوقب بالسَّوط” وقد قال ربيعة: “لَبعضُ مَن يُفتي ها هُنا أحقُّ بالسِّجن مِن السُّرَّاق”> إلخ..

9

وفيه عن أبي العبَّاس القبقاب قال في جواب سُؤال عمَّن لم يقرأ الكُتُب على الثِّقات هل له أنْ يُعلِّم منها: <تعليم النَّاس مِن الرِّسالة والجلاب لمَن لم يقرأ على أحد لا ينبغي> إلخ.. إلى قوله: <الَّذي يُفتي النَّاس بما يرى في الكُتُب مِن غير أنْ يقرأ على الشَّيخ لا يحِلُّ له.. نصَّ على ذلك الفُقهاء> إلخ..

10

وفيه عن ابن رشد: <لا يجوز لمَن لم يعتنِ بالعلم ولا سمعه ولا رواه الجُلوس لتعليم المُوطَّأ ولا غيره مِن الأُمَّهات ولو كانت مشهورة.. ولو قرأها وتفقَّه على الشُّيوخ فيها أو حملها إجازة فقط جاز أنْ يُعلِّم ما عنده عن الشُّيوخ مِن معانيها وأنْ يقرأها إذَا صحَّح كتابه على رواية شيخه> إلخ..

11

ثُمَّ الكتاب لا يكون مُعتمَدًا لمُجرَّد شُهرة صاحبه ولا لمُجرَّد كونه ثابتًا عن مُصنِّفه بل لا بُدَّ مِن توفُّر نُسخة شهد الثِّقات أنَّها بخطِّ المُصنِّف أو شهدوا أنَّها مُقابلة على نُسخة بخطِّه لأنَّ الكُتُب وقع في نسخها الدَّسُّ والتَّصحيف والخطأ ولذلك قال التَّاج السُّبكيُّ: <آفة الكُتُب نُسَّاخُها> انتهى.

12

وقال الإمام النَّوويُّ في [التَّقريب]: <وَمَنْ أَرَادَ الْعَمَلَ مِنْ كِتَابٍ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ قَابَلَهَا هُوَ أَوْ ثِقَةٌ بِأُصُولٍ صَحِيحَةٍ فَإِنْ قَابَلَهَا بِأَصْلٍ مُحَقَّقٍ مُعْتَمَدٍ أَجْزَأَهُ وَاللهُ أَعْلَمُ> إلخ..

13

وقال شيخُنا المُحقِّق المُدقِّق الشَّيخ عبدالله الهرريُّ الحبشيُّ رحمه الله ما معناه: <إنَّ النُّسَخ الَّتي لم تكُن مُقابَلة بيد ثقة على نُسخة قابَلها ثقة وهكذا إلى أصل المُؤلِّف الَّذي كتبه بخطِّه أو كتبه ثقة بإملاء المُؤلِّف فقابَله على المُؤلِّف لا تُعتبر نُسَخًا صحيحة بل هي نُسخ سقيمة> انتهى.

14

فإذَا كان الكتاب مُعتمَدًا احتاج القارئ إلى علم وفهم سليم بحيث لا يُخشى على النَّاقل منه اللَّبس والخلط وإلى ضبط القواعد الَّتي يُميِّز بها الصَّحيح مِن السقيم وإلَّا فقد عاب القاضي عياض قومًا وصفهم فقال: <الْمُولَعُونَ بِكُلِّ غَرِيبٍ؛ الْمُتَلَقِّفُونَ مِنَ الصُّحُفِ كُلَّ صَحِيحٍ وَسَقِيمٍ> انتهى.

15

وأمَّا غربان أهل الفتنة النَّاعقون بدعوة العامَّة إلى الأخذ مِن الكُتُب بحُجَّة أنَّ العُلماء سمحوا بذلك؛ فإنَّما يبتغون استباحةَ مُخالفة ما تلقَّوْه عن العالِم العامل والانتصارَ لدعاويهمُ الباطلة الكاذبة الَّتي حرَّفوا بها شرع الله فجعلوا المُختلَف فيه إجماعًا والإجماع مُختلَفًا فيه والعياذ بالله تعالى.

16

وأهل الفتنة ليس فيهم تلك الأهليَّة بل يصدُق فيهم قول أبي حيَّان:

يظُنُّ الغَمْرُ أنَّ الكُتْبَ تهدي * أخَا جهلٍ لإدراكِ العُلومِ

وما يدري الجهولُ بأنَّ فيها * غوامضَ حيَّرتْ عقلَ الفهيمِ

إذَا رُمتَ العُلومَ بغيرِ شيخٍ * ضللتَ عن الصِّراطِ المُستقيمِ

وتلتبسُ الأُمورُ عليكَ حتَّى * تصيرَ أضلَّ مِن تُوما الحكيمِ

17

فالشُّروط الَّتي لا بُدَّ منها للنَّقل مِن الكُتُب لا تتوفَّر في أحد مِن الجَهَلَة أهل الفتنة وادِّعاؤُهُمُ الأهليَّة لذلك تدليس مُؤدَّاه الفتوى بغير علم ولا هُدًى وأنْ تلعنهُم الملائكة وأنْ يبُوءُوا بخُسران مُبين وغضب على غضب يوم لا ينفع مال ولا بنون إلَّا مَن أتى الله بقلب سالم مِن الزَّيغ والدَّنس.

انتهى.

Jan 11, 2021, 5:23 AM

لله تعالى صدقة جارية و صدقة عن روح المرحوم بإذن الله فتحي المهذبي