الرَّدُّ على مَن أنكر وُجوب التَّشهُّد على المُرتدِّ (3)
الدَّسُّ والأقوال الشَّاذَّة في كُتُب الغزاليِّ
وبيان حال الأجلاف الَّذين وقعوا بالغُلُوِّ في الغزاليِّ وكُتُبه
1
الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله وبعدُ فهذا مقال يتناول الدَّسَّ والأقوال الشَّاذَّة في كُتُب الغزاليِّ المُتوفَّى 505هـ وليس المقصود الطَّعن بالغزاليِّ رحمه الله ولكنَّه على علوِّ قدره في الفقه فقد اشتهر وُقوع الدَّسِّ في كُتُبه فاحتوت على أقوال ونُقول باطلة؛ فما كان منها كُفرًا فلا نُثبتُه عليه وأمَّا الأقوال الشَّاذة فنُنبِّه إلى أنَّها غير مُعتبرة وأنَّه لا يُعمل بها.
اختلاف العُلماء في الغزاليِّ وكُتُبه
2
واختلف العُلماء في الغزاليِّ فمنهُم مَن طعن به كالقاضي عياض المالكيِّ وغيره؛ ومنهُم مَن برَّأه ورأى أنَّ تلك المُخالفات لا تثبُت عنه؛ ومنهُم مَن احتمل عنده أنَّه وضعها أوَّل أمره ثُمَّ رجَع عنها. وأمَّا الشَّيخ عبدالله الهرريُّ المُتوفَّى 1429هـ فلم يكُن يستبعد أنْ يكون مدسوسًا على الغزاليِّ وبهذا أجاب مرَّات بعد أن سُئل عن أُمور في كتاب [إحياء عُلوم الدِّين].
3
ففي بعض كُتُب الغزاليِّ ينقُل عن أبي تُراب التَّخشبيِّ أنَّه قال: (لو رأيتَ أبا يزيد مرَّة واحدة كان أنفعَ لك مِن أنْ ترى الله سبعين مرَّة) إلخ.. وهذا مِن الكُفر الصَّريح الَّذي لا نظُنُّ بالغزاليِّ أنَّه ينقُلُه مُستحسنًا له فضلًا أنْ يعتقده دِينًا، ومُجرَّد شرح الحافظ مُرتضى الزَّبيديِّ المُتوفَّى 1205هـ لكتاب [الإحياء] لا يعني أنَّه لم يقع فيه الدَّسُّ والتَّحريف كما ترى.
4
وقال النَّوويُّ: <مَن صدَّق بقلبه ولم ينطِق بلسانه فهُو كافر مُخلَّد في النَّار بالإجماع> إلخ.. وخالف الغزاليُّ فقال في الكافر الَّذي يُصدِّق بقلبه ولم ينطِق إنَّه مُؤمن عند الله! وقول الغزاليِّ غير مُعتبر لكن لا نُكفِّره به، ولْيُتَنَبَّه أنَّ الغزاليَّ لم يقُله في المُرتدِّ ولا في الكافر الَّذي تُعرض عليه الشَّهادتان فيأبى ومَن زعم أنَّه قاله في هؤُلاء فقد افترى عليه الكُفر والضَّلال.
الدَّسُّ على الغزاليِّ في حياته
5
ووقع الدَّس على الغزاليِّ في حياته ففي [فضائل الأنام مِن رسائل حُجَّة الإسلام] ص/45 أنَّ الغزاليَّ قال: <هاج حسد الحُسَّاد ولم يجدوا أيَّ طعن مقبول غير أنَّهُم لبَّسوا الحقَّ بالباطل وغيَّروا كلمات مِن كتاب [المُنقذ مِن الضَّلال] وكتاب [مشكاة الأنوار] وأدخلوا فيها كلماتِ كُفر وأرسلوا إليَّ حتَّى أكتُب على ظهرهما خطَّ الإجازة ولكنَّ الله سُبحانه وتعالى قد ألهمني بفضله وكرمه حتَّى طالعتُ ووقفتُ على تلبيسهم واطَّلع رئيس خُراسان على هذه الحالة وأمر بحبس ذلك المُزوِّر وأخيرًا نفاه عن نيسابور> إلخ..
نبذة مِن أقوال العُلماء في كُتُب الغزاليِّ
6
قال مُحمَّد بن الوليد بن مُحمَّد بن خلف القُرشيُّ الفهريُّ الأندلسيُّ أبو بكر الطرطوشيُّ المالكيُّ المُتوفَّى 520هـ: <فلمَّا عمل كتابه سمَّاه [إحياء علوم الدِّين] عمد يتكلَّم في علوم الأحوال ومراقي الصُّوفيَّة وكان غير دَرِيٍّ بها ولا خبير بمعرفتها فسقط على أُمِّ رأسه فلا في عُلماء المُسلمين قرَّ ولا في أحوال الزاهدين استقرَّ؛ شحن كتابه بالكذب على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم> إلى آخره ونقله الونشريسيُّ في [المعيار المُعرب].
7
وقال القاضي عياض المالكيُّ المُتوفَّى 544هـ: <والشَّيخ أبو حامد ذو الأنباء الشَّنيعة والتَّصانيف الفظيعة غلا في طريق التَّصوُّف وتجرَّد لنصر مذهبهم وصار داعية في ذلك وألَّف فيه تواليفه المشهورة أُخِذَ عليه فيها مواضع وساءت به ظُنون أُمَّة والله أعلم بسرِّه ونفذ أمر السُّلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفُقهاء بإحراقها والبُعد عنها فامتُثل ذلك> انتهى نقله الذَّهبيُّ في [سير أعلام النُّبلاء].
8
قال أبو الفرج عبدالرَّحمن ابن الجوزيِّ الفقيه الحنبليُّ المُتوفَّى 597هـ في كتابه [منهاج القاصدين]: <فاعلم أنَّ في كتاب [الإحياء] آفات لا يعلمُها إلَّا العُلماء وأقلُّها الأحاديث الباطلة الموضوعة> وقال في كتابه [تلبيس إبليس]: <وجاء أبو حامد الغزاليُّ فصنَّف لهم كتاب [الإحياء] على طريقة القوم وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بُطلانها> إلخ..
9
وقال أبو علي عمر بن محمد بن خليل السَّكونيُّ المالكيُّ الأشعريُّ الإشبيليُّ نزيل تونس المُتوفَّى 717هـ في [لحن العامَّة والخاصَّة في المُعتقدات]: <وَلْيُحْذَرْ مِن العمل بمواضع في كتاب [الإحياء] للغزاليِّ ومِن كتاب [النَّفخ والتَّسوية] له أيضًا وغير ذلك مِن كُتُب الفقه فإنَّها إمَّا مدسوسة عليه أو وضعها أوَّل أمره ثُمَّ رجَع عنها كما ذكره في كتابه [المُنقذ مِن الضَّلال]> انتهى ونقل عنه الشَّيخ عبد الوهَّاب الشَّعرانيُّ المُتوفَّى 973هـ في كتابه [لطائف المِنن والأخلاق] ووصفَه بأنَّه إمام علَّامة.
10
وقال شِهاب الدِّين الخفاجيُّ المالكيُّ المُتوفَّى 1069هـ في [شرح الشِّفا] له عند قول عياض <وقد نحا الغزاليُّ قريبًا مِن هذا المنحَى في كتاب التَّفرقة> ما نصُّه: <قال ابن حجر: وما نسبه إلى الغزاليِّ صرَّح الغزاليُّ في كتابه [الاقتصاد] بما يرُدُّه وعبارتُه الَّتي أشار إليها القاضي -على تقدير كونها عبارته- وإلَّا فقد دُسَّ عليه في كُتُبه عبارات حسَدًا لا تُفيد ما فهمه القاضي ولا تقرُب ممَّا ذكره> انتهى؛ وابن حَجَر هذا هُو الهيتميُّ المُتوفَّى 974ه.
بيان حال أهل الفتنة الأجلاف المُعاصرين
وكيف أنَّهم ردُّوا قول الغزاليِّ فيما لم يُوافق أهواءهم
11
وقد زاد في الغُلُوِّ بالغزاليِّ وكُتُبه بعض الجَهَلَة الأجلاف المُعاصرين مِن أهل الفتنة حتَّى أنكروا على مَن يكتُب اسم الغزاليِّ بدون كلمة (الإمام) وعلى مَن لا يُثبِت بعده قولَ (رضي الله عنه)! ولم ينتبه الجِلف الجافي أنَّه بهذا مُنكر على أكثر عُلماء الأُمَّة المُحمَّديَّة، ولا نجد حاجة للرَّدِّ على هؤُلاء الأجلاف لوُضوح فساد ما أتَوا به مِن التُّرَّهات والشُّبُهات الواهية.
12
وأمَّا أهل الفتنة هداهُمُ الله فإنَّهم يُعظِّمون الغزاليَّ فيما وجدوه في كُتُبه ممَّا يُوافق أهواءهم فإنْ خالف ما هُم عليه ردُّوا قوله كما في مسألة عصمة الأنبياء عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها فقد قال في [المُستصفى في علم الأُصول]: <فقد دلَّ الدَّليل على وُقوعها منهُم> انتهى وهُم ردُّوا قوله هذا مع أنَّه مُوافق لِمَا عليه جُمهور عُلماء الأُمَّة وأكثر العُلماء المُتقدِّمين.
13
وفي مسألة اتِّجاه القِبلة قدَّم أهل الفتنة العمل بالآلة والحساب على طريقة الشَّرع بينما يقول الغزاليُّ في [الإحياء]: <ولا يُمكن مُقابلة العَين إلَّا بعُلوم هندسيَّة لم يرد الشَّرع بالنَّظر فيها بل رُبَّما يزجُر عن التَّعمُّق في علمها فكيف ينبني أمر الشَّرع عليها! فيجب الاكتفاء بالجهة للضَّرورة> إلخ.. فهلَّا انتهى أهل الفتنة عن زيغهم وضلالهم وتابوا مِن فتاويهم الباطلة!؟
العبرة بالبيِّنة الشَّرعيَّة
14
واعلم أنَّه لا يجوز أنْ نُثبت على العُلماء ما يُخالف الشَّرع لمُجرَّد قراءة ذلك في كتاب فالعبرة بالبيِّنة الشَّرعيَّة وقد اختصر لنا شيخُنا الهرريُّ رحمه الله القاعدة فقال: <إنَّ النُّسَخ الَّتي لم تكُن مُقابَلة بيد ثقة على نُسخة قابلها ثقة وهكذا إلى أصل المُؤلِّف الَّذي كتبه بخطِّه أو كتبه ثقة بإملاء المُؤلِّف فقابله على المُؤلِّف لا تُعتبَر نُسَخًا صحيحة بل هي نُسخ سقيمة> انتهى.
نصيحة منقولة عن لسان الغزاليِّ
15
فإذَا كُنتَ مِن أهل الفتنة الَّذين يطعنون بأهل السُّنَّة بالمُماحكة الباطلة لأجل غُرور لدَيك وبُغية استمالة النَّاس إلَيك فأنا أُوجِّهُك إلى قراءة نصيحة الغزاليِّ لمَن كان مثلك حيث يقول في [بداية الهداية]: <اعلم أيُّها الحريص على اقتباس العلم المُظهر مِن نفسه صدق الرَّغبة وفرط التَّعطُّش إليه أنَّك إنْ كُنتَ تقصد بطلب العلم المُنافسة والمُباهاة والتَّقدُّم على الأقران واستمالة وُجوه النَّاس إليك وجمع حُطام الدُّنيا فأنتَ ساعٍ في هدم دينك وإهلاك نفسك وبيع آخرتك بدُنياك فصفقتُك خاسرة وتجارتُك بائرة ومُعلِّمُك مُعين لك على عصيانك وشريك لك في خُسرانك وهو كبائع سيف لقاطع طريق> إلى قوله: <وإنْ كانت نيَّتُك وقصدُك فيما بينك وبين الله تعالى مِن طلب العلم: الهداية دون مُجرَّد الرِّواية فأبشِر فإنَّ الملائكة تبسُط لك أجنحتها إذَا مشَيتَ وحيتانُ البحر تستغفر لك إذَا سعَيتَ> إلخ..
خاتمة
16
قال الإمام مالك رضي الله عنه: <كُلٌّ يُؤخذ مِن كلامه ويُردُّ إلَّا النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم> انتهى. والعِلم لا يُؤخذ بالمُطالعة مِن كتُب الغزاليِّ لثُبوت التَّحريف فيها؛ فإذَا رأيتَ مَن ينسخ مِن كُتُب الغزاليِّ الكلامَ الغامض أو ما يُخالف الإجماع والأقوال المُعتبرة فتذكَّر قول نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام: <دُعاة على أبواب جهنَّم مَنِ استجاب لهم قذفوه فيها> الحديث..
انتهى
Dec 24, 2020, 10:09 PM
