بيان اختلاف العُلماء في مسألة العصمة وأنَّ الله تعالى لا يُعذِّب على ما ليس بذنب حقيقيٍّ وبيان اختلاف أقوال الإمام الماتُريديِّ في العصمة

بيان اختلاف العُلماء في مسألة العصمة

وأنَّ الله تعالى لا يُعذِّب على ما ليس بذنب حقيقيٍّ

وبيان اختلاف أقوال الإمام الماتُريديِّ في العصمة

الحمدلله وصلَّى الله وسلَّم على رسول الله.

1

وبعدُ فإنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام معصومون قبل النُّبُوَّة وبعدها عن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة، واختلف العُلماء في عصمة الأنبياء عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها؛ فقال أكثر العُلماء بجواز وُقوعها مِن الأنبياء.

2

والخلاف في عصمة الأنبياء عليهمُ السَّلام عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها أي عن الصَّغائر غير المُنفِّرة أشهر مِن نار على عَلَم؛ فكُتُب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة مشحونة ولا يُنكره إلَّا مُكابر صاحب دعوى كاذبة.

3

وقال النَّوويُّ فِي كتابه [شرح صحيح مُسلم] نقلًا عن القاضي عياض المالكيِّ: <فَذَهَبَ مُعْظَمُ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ وَحُجَّتُهُمْ ظَوَاهِرُ القُرْآنِ وَالأَخْبَارِ> انتهى

4

وقال ابن بطَّال فِي كتابه [شرح صحيح البُخاريِّ]: <وقالَ أهلُ السُّنَّةِ: جائزٌ وقوعُ الصَّغائرِ مِنَ الأنبياءِ. واحتجُّوا بقولِهِ تعالَى مُخاطبًا لرسولِهِ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فأضافَ إليهِ الذَّنْبَ> انتهى.

5

وأقوال عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في بيان أنَّ الجُمهور يقول بجواز الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة أكثر مِن أنْ يكفيَ مجلسُنا لذكرها فإنكار هذا الخلاف مُكابرة لا تعلُّق لها ببيان مذاهب العُلماء.

6

وقد أوردنا مِن قبل قول الإمام الماتُريديِّ: <وجائز أنْ يكون له ذنب فيأمره بالاستغفار له لكن نحن لا نعلم> إلخ.. فزعم بعض مَن لا علم له ولا تحقيق أنَّنا اقتطعنا مِن كلام الماتُريديِّ ما يُغيِّر معناه! وهذا بُهتان عظيم.

7

نعم قال الماتُريديُّ: <وذنبُهُم ترك الأفضل دون مُباشرة القبيح في نفسه> انتهى ولكن هذا لا يعني أنَّه أراد بالذَّنب تركَ الأَولى دائمًا بل نصَّ في مواضع على أنَّ المُراد بذُنوبهم: الصَّغير الَّذي قد يُعذِّب الله عليه.

8

قال الماتُريديُّ في تفسيره المُسمَّى [تأويلات أهل السُّنَّة]: <ولو لم يكن لله تعالى أنْ يُعذِّب على الصَّغائر أحدًا، لم يكن له على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ موضع الامتنان بما غفر له ما تقدَّم مِن ذنبه وما تأخَّر> انتهى.

9

إذًا الماتُريديُّ يُفسِّر الذَّنب في هذا الموضع بالذَّنب الصَّغير الَّذي قد يُعذِّب الله عليه كما ترى؛ والذَّنب الَّذي قد يُعذِّب الله عليه لا شكَّ هُو ذنبٌ حقيقيٌّ وليس مُجرَّد ترك الأَولى، وهذا معلوم عند كافَّة أهل السُّنَّة والجماعة.

10

ويقول الماتُريديُّ في محلٍّ آخَر: <وفي قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} دلالة أنَّ لله تعالى أنْ يُعذِّب على الصَّغائر> انتهى و الله لا يُعذِّب على ترك الأَولى فتعيَّن أنَّ مُراد الماتُريديِّ الذَّنب الحقيقيُّ.

11

ووجه الدَّليل أنَّ الامتنان هُو على ترك التَّعذيب على الصَّغائر، فظهر بُطلان قول الجَهَلَة لأنَّ الله تعالى لا يُعذِّب على شيء ليس ذنبًا في الحقيقة لا في قول الماتُريديِّ ولا في قول غيره مِن عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة.

12

والماتُريديُّ بقوله: <وجائز أنْ يكون له ذنب فيأمره بالاستغفار له لكن نحن لا نعلم> انتهى لو كان يقصد بالذَّنب ترك الأَولى لَمَا قال: (لكن نحن لا نعلم) لأنَّه ذكر نحو ترك الأَولى في تفسير قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}.

13

قال الماتُريديُّ: <والأنبياء عليهم السَّلام قد جاءهم العتاب مِن الله بتعاطيهم أُمورًا لم يَسبق مِن الله تعالى لهُم الإذن في ذلك> إلى قوله: <فكذلك الوجه في مُعاتبة نبيِّنا مُحمَّد عليه أفضل الصَّلوات وأكمل التَّحيَّات> انتهى.

14

وطالب العلم يعلم أنَّ لفظ الذَّنب إذَا أُطلِق ولم يُقيَّد لا يُراد به المجاز أبدًا ولذلك قال الغزاليُّ في [المُستصفى]: <مَسْأَلَةٌ إذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَاللَّفْظُ لِلْحَقِيقَةِ إلَى أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَجَازَ> انتهى.

15

وقال الآمديُّ في [أبكار الأفكار]: <والأصل في الإطلاق الحقيقة> انتهى وفيه: <ولا يخفى أنَّ ترك الظَّاهر مِن غير دليلٍ ممتنِعٌ> انتهى فتأويل الجَهَلَة للفظ الذَّنب في كلام الماتُريديِّ في كُلِّ موضع: باطل مردود.

16

أمَّا الجاهل بما أجمعت عليه الأُمَّة فيزعُم أنَّ الماتُريديَّ أراد ترك الأَولى دائمًا؛ فيكون الماتُريديُّ عنده مُخالفًا للإجماع قائلًا بأنَّ الله يُعذِّب على ما ليس بذنب حقيقيٍّ ويُعذِّب على مُجرَّد ترك الأَولى وهذا جهل شديد.

17

فمِن هُنا يُعلم أنَّ القول بصُدور معصية حقيقيَّة صغيرة لا خسَّة فيها مِن نبيٍّ لا يَخرج عمَّا قاله أئمَّة أهل السُّنَّة بمَن فيهم الماتُريديُّ مع أنَّه -كذلك- يقول بالقول الثَّاني لأهل السُّنَّة والجماعة وهُو القول بامتناع كُلِّ ذلك.

18

وفي هذا القدر كفاية لمُسترشد يطلُب الحقَّ ولا يسعَى إلى الفتنة النَّائمة الَّتي لعن الله مَن أيقظها؛ ونختم بالصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والرُّسُل سيِّدِنا مُحمَّد وعلى جميع إخوانه النَّبيِّين وآل كُلٍّ وصحب كُلٍّ أجمعين.

نهاية المقال.

Mar 29, 2021, 1:34 AM